الدر المصون في شرح جزء عم يتساءلون

الدر المصون في شرح جزء عم يتساءلون
المقدمة

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسِلِينَ، وَعَلَى ءَالِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
الاسْتِعَاذَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْءَانِ إِجْمَاعًا، وَمَعْنَاهَا: أَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ لِيَحْفَظَنِي مِنْ أَذَى الشَّيْطَانِ وَهُوَ الْمُتَمَرِّدُ الطَّاغِي الْكَافِرُ مِنَ الْجِنِّ، وَالرَّجِيمُ بِمَعْنَى الْمَرْجُومِ وَهُوَ الْبَعِيدُ مِنَ الْخَيْرِ الْمَطْرُودُ الْمُهَانُ. وَيُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِهَا قَبْلَ الْبَدْءِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: يَقْرَؤُهَا بَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنَ الْقِرَاءَةِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [سُورَةَ النَّحْلِ/ 98]، قَالَ الْجُمْهُورُ: التَّقْدِيرُ إِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ، وَذَلِكَ كَحَدِيثِ: »إِذَا أَكَلْتَ فَسَمِّ اللَّهَ« رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، أَيْ إِذَا أَرَدْتَ الأَكْلَ.

سورة الفاتحة

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ سَبْعُ ءَايَاتٍ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ (1) الْبَسْمَلَةُ ءَايَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ عِنْدَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَلا تَصِحُّ الصَّلاةُ بِدُونِهَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَتْ ءَايَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ.

وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى تَصْدِيرِ مَكَاتِيبِهِمْ بِالْبَسْمَلَةِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ حَيْثُ إِنَّهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ سِوَى بَرَاءَةَ. وَالابْتِدَاءُ بِهَا سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي كُلِّ أَمْرٍ لَهُ شَرَفٌ شَرْعًا سِوَى مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ ذَلِكَ بَلْ وَرَدَ فِيهِ غَيْرُهَا كَالصَّلاةِ فَإِنَّهَا تُبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ، وَالدُّعَاءِ فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِالْحَمْدَلَةِ.

وَمَا كَانَ غَيْرَ قُرْبَةٍ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ حَرُمَ ابْتِدَاؤُهُ بِالْبَسْمَلَةِ فَلا يَجُوزُ الْبَدْءُ بِهَا عِنْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ بَلْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ بَدْءَ شُرْبِ الْخَمْرِ بِهَا كُفْرٌ، لَكِنَّ الصَّوَابَ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَنْ كَانَ يَقْصِدُ بِهَا التَّبَرُّكَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ كَفَرَ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ السَّلامَةَ مِنْ ضَرَرِهَا فَهُوَ حَرَامٌ وَلَيْسَ كُفْرًا، وَالْبَدْءُ بِالْبَسْمَلَةِ عِنْدَ الْمَكْرُوهِ مَكْرُوهٌ.
وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ »اللَّه« عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)﴾ الْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ لإِنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ وَهُوَ مَالِكُ الْعَالَمِينَ، وَالْعَالَمُ هُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ، سُمِّيَ عَالَمًا لأَنَّهُ عَلامَةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ.

﴿الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ(3)﴾ الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/ 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/ 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَالِكُ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَوْمُ الدِّينِ هُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ، فَاللَّهُ مَالِكٌ لِلدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِنَّمَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِعْظَامًا لِيَوْمِ الْجَزَاءِ لِشِدَّةِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ.

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُتَذَلَّلَ لَهُ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ، وَهُوَ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْهُ الْعَوْنُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَدَوَامِ الْهِدَايَةِ لأَنَّ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتُفِيدُ الآيَةُ أَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِاللَّهِ الاسْتِعَانَةُ الْخَاصَّةُ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ وَمَا يَقُومُ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمَعِيشَةِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لا يُسْتَعَانُ بِغَيْرِ اللَّهِ مُطْلَقَ الاسْتِعَانَةِ، بِدَلِيلِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ : »وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ«.

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)﴾ أَيْ أَكْرِمْنَا بِاسْتِدَامَةِ الْهِدَايَةِ عَلَى الإِسْلامِ.

﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ(7)﴾ أَيْ دِينَ الَّذِينَ أَكْرَمْتَهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمَلائِكَةِ وَهُوَ الإِسْلامُ. ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ(7)﴾.

وَءَامِين لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْءَانِ إِجْمَاعًا، وَمَعْنَاهَا اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ. وَيُسَنُّ قَوْلُهَا عَقِبَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ﴾ فَقُولُوا ءَامِين».

سورة النبإ

سُورَةُ النَّبَإِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ أَرْبَعُونَ ءَايَةً

بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيم
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِّلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِّنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَّبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمٰنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ(1)﴾ أَيْ عَنْ أَيِّ شَىْءٍ يَتَسَاءَلُ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُونَ: مَا الَّذِي أَتَى بِهِ، وَيَتَجَادَلُونَ فِيمَا بُعِثَ بِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَن.

﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ(2)﴾ وَهُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْءَانِ الْعَظِيمِ وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ.

﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ(3)﴾ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُثْبِتُونَهُ.

﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(4)﴾ «كَلا» هِيَ رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي الآيَةِ رَدْعٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَوَعِيدٌ لَهُمْ، وَسَيَعْلَمُونَ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.

﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(5)﴾ التَّكْرَارُ هُنَا تَوْكِيدٌ لِلْوَعِيدِ، وَحُذِفَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْوِيلِ.

﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا(6)﴾ فِي الآيَاتِ الآتِيَةِ دِلالَةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى الْبَعْثِ وَهُوَ الْخَالِقُ، وَقَدْ بَدَأَ بِذِكْرِ مَا هُمْ دَائِمًا يُبَاشِرُونَهُ، فَالأَرْضُ ذَاتُ مِهَادٍ، وَالْمَهْدُ وَالْمِهَادُ: هُوَ الْفِرَاشُ الْمُوَطَّأُ، أَيْ أَنَّهَا لَهُمْ كَالْمَهْدِ لِلصَّبِيِّ يُمَهَّدُ لَهُ فَيُنَوَّمُ عَلَيْهِ، فَاللَّهُ ذَلَّلَهَا لِلْعِبَادِ حَتَّى سَكَنُوهَا.

﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا(7)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ثَبَّتَ الأَرْضَ بِالْجِبَالِ كَيْ لا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا.

﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا(8)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَنْوَاعًا فِي اللَّوْنِ وَالصُّورَةِ وَاللِّسَانِ لِتَخْتَلِفَ أَحْوَالُ الْخَلْقِ فَيَقَعَ الاعْتِبَارُ فَيَشْكُرَ الْفَاضِلُ وَيَصْبِرَ الْمَفْضُولُ.

﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا(9)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّوْمَ سُكُونًا وَرَاحَةً لِيَنْقَطِعَ النَّاسُ عَنْ حَرَكَاتِهِمُ الَّتِي تَعِبُوا بِهَا فِي النَّهَارِ.

﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا(10)﴾ أَيْ سَكَنًا وَغِطَاءً تَسْتَتِرُونَ بِهِ عَنِ الْعُيُونِ فِيمَا لا تُحِبُّونَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ مِنْكُمْ.

﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا(11)﴾ وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ النَّهَارَ وَقْتَ اكْتِسَابٍ تَتَصَرَّفُونَ فِيهِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ وَهُوَ مَعَاشٌ لأَنَّهُ وَقْتُ عَيْشٍ.

﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا(12)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ مُحْكَمَةَ الْخَلْقِ وَثِيقَةَ الْبُنْيَانِ.

﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا(13)﴾ أَيْ وَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّمْسَ مُضِيئَةً كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ حَارَّةٌ مُضْطَرِمَةُ الِاتِّقَادِ.

﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا(14)﴾ وَالْمُعْصِرَاتُ السَّحَابُ وَهِيَ الْغَيْمُ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْهَا الْمَاءَ الْمُنْصَبَّ بِكَثْرَةٍ.

﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا(15)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْحَبَّ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَقَوَّتُ بِهِ.

﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا(16)﴾ وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْبَسَاتِينَ ذَاتَ الزَّرْعِ الْمُجْتَمِعِ بَعْضُهُ إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ، وَإِذَا عَلِمَ الْكُفَّارُ ذَلِكَ فَهَلا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

فَبَعْدَ أَنْ عَدَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بَعْضَ وُجُوهِ إِنْعَامِهِ وَتَمْكِينَهُمْ مِنْ مَنَافِعِهِمْ قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا(17)﴾ أَيْ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ حَدٌّ تُؤَقَّتُ بِهِ الدُّنْيَا وَتَنْتَهِي عِنْدَهُ.

﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا(18)﴾ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَرْنٍ يَنْفُخُ فِيهِ الْمَلَكُ إِسْرَافِيلُ، وَالْمُرَادُ هُنَا النَّفْخَةُ الأَخِيرَةُ الَّتِي يَكُونُ عِنْدَهَا الْحَشْرُ فَيَنْفُخُ فِي الصُّورِ لِلْبَعْثِ فَيَأْتِي النَّاسُ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَوْقِفِ أَفْوَاجًا أَيْ زُمَرًا زُمَرًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ.

﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا(19)﴾ أَيْ تَتَشَقَّقُ السَّمَاءُ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا شُقُوقٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ «وَفُتِّحَت» بِالتَّشْدِيدِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ.

﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا(20)﴾ وَأُزِيلَتِ الْجِبَالُ عَنْ مَوَاضِعِهَا فَنُسِفَتْ.

﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا(21)﴾ وَجَهَنَّمُ تَرْصُدُ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَيَدْخُلُهَا الْكَافِرُ وَيُحْبَسُ فِيهَا أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.

﴿لِّلطَّاغِينَ مَآبًا(22)﴾ أَيْ أَنَّ جَهَنَّمَ مَرْجِعُ وَمُنْقَلَبُ مَنْ طَغَى فِي دِينِهِ بِالْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.

﴿لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا(23)﴾ وَقَرَأَ حَمْزَةُ «لَبِثِينَ» وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ سَيَمْكُثُونَ فِي النَّارِ مَا دَامَتِ الأَحْقَابُ، وَهِيَ لا تَنْقَطِعُ كُلَّمَا مَضَى حُقْبٌ جَاءَ حُقْبٌ وَهَكَذَا إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْحُقْبُ ثَمَانُونَ سَنَةً، قَالَ الإِمَامُ الْقُشَيْرِيُّ: أَيْ دُهُورًا، وَالْمَعْنَى مُؤَبَّدِينَ. وَلَيْسَ فِي الآيَةِ وَلا فِي غَيْرِهَا مُتَعَلَّقٌ لِمَنْ يَقُولُ بِفَنَاءِ النَّارِ كَجَهْمِ بنِ صَفْوَانَ وَهُوَ رَأْسُ الْجَهْمِيَّةِ. وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الإِسْلامِ الْقَوْلَ بِفَنَاءِ جَهَنَّمَ مِنَ الضَّلالِ الْمُبِينِ الْمُخْرِجِ مِنَ الإِسْلامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا «الاعْتِبَارُ بِبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ» رَدَّ فِيهَا عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ ضَلالاتِهِ قَوْلُهُ بِأَزَلِيَّةِ نَوْعِ الْعَالَمِ، وَذَكَرَ عَقِيدَتَهُ هَذِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ إِجْمَاعًا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُمَا كَالْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ الْمَالِكِيِّ، فَلا يَغُرَنَّكَ زُخْرُفُهُ.

﴿لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا(24)﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ فِي جَهَنَّمَ لا يَذُوقُونَ الشَّرَابَ الْبَارِدَ الْمُسْتَلَذَّ.

﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا(25)﴾ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا شَرَابًا﴾ وَالْحَمِيمُ: هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي يُحْرِقُ، وَالْغَسَّاقُ: هُوَ الْقَيْحُ الْغَلِيظُ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ »غَسَاقًا« بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّشْدِيدِ.

﴿جَزَاءً وِفَاقًا(26)﴾ فَوَافَقَ هَذَا الْعَذَابُ الشَّدِيدُ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ وَكُفْرَهُمْ.

﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا(27)﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَخَافُونَهُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَهُمْ كَانُوا لا يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ فَيَخَافُونَ مِنَ الْعِقَابِ.

﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا(28)﴾ وَكَانُوا مُبَالِغِينَ فِي تَكْذِيبِ الْقُرْءَانِ الْكَريِمِ.

﴿وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا(29)﴾ أَيْ أَنَّ كُلَّ شَىْءٍ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مِنَ الأَعْمَالِ مَكْتَوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِيُجَازِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ لِلْقُرْءَانِ، فَالْمَلائِكَةُ يُحْصُونَ زَلاتِ الْعَاصِينَ وَيَكْتُبُونَهَا فِي صَحَائِفِهِمْ.

﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا(30)﴾ فَزِيَادَةُ الْعَذَابِ لَهُمْ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِالآيَاتِ. وَفِي هَذَا الْخِطَابِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَشِدَّةُ غَضَبٍ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَهِ الآيَةَ هِيَ أَشَدُّ ءَايَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ.
وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الأَحِبَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِذَا سَمِعَ الشَّخْصُ عَنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ أَوْ عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يَقُولَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا.

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا(31)﴾ فَالتَّقِيُّ وَهُوَ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَاتِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ يَفُوزُ وَيَنْجُو وَيَظْفَرُ حَيْثُ يُزَحْزَحُ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلُ الْجَنَّةَ.

﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا(32)﴾ وَيَكُونُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ الْبَسَاتِينُ الَّتِي فِيهَا أَنْوَاعُ الأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ.

﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا(33)﴾ أَيْ جَوَارِيَ مُتَسَاوِيَاتٍ فِي السِّنِّ.

﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا(34)﴾ أَيْ كَأْسًا مَمْلُوءَةً بِالشَّرَابِ الصَّافِي.

﴿لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا(35)﴾ فَلا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ بَاطِلا مِنَ الْقَوْلِ وَلا كَذِبًا، وَلا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كِذَابًا» بِالتَّخْفِيفِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يُخَفِّفُ هَذِهِ وَيُشَدِّدُ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ.

﴿جَزَاءً مِّنْ رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا(36)﴾ وَيَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ إِكْرَامًا مِنْهُ الْعَطَاءَ وَالنَّعِيمَ الْكَثِيرَ.

﴿رَّبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمٰنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا(37)﴾ فَاللَّهُ مَالِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ ٱلرَّحْمٰنُ، فَلا يَمْلِكُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الاعْتِرَاضَ عَلَى اللَّهِ فِي ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ لِأَنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ لَهُ عَلَى الإِطْلاقِ فَلا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ اعْتِرَاضًا وَذَلِكَ لا يُنَافِي الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ أَيْ لا يُكَلِّمُونَهُ إِلا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمٰنُ وَقَالَ صَوَابًا(38)﴾ أَيْ يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرُّوحُ وَهُوَ جِبْرِيلُ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ قَدْرًا وَشَرَفًا مُصْطَفِّينَ فَلا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إِجْلالًا لِرَبِّهِمْ وَخُضُوعًا لَهُ، فَلا يَشْفَعُ إِلا مَنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ «وَقَالَ صَوَابًا» أَيْ حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَعِنْدَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ هُوَ بَعِيدٌ وَلَكِنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ قَرِيبٌ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ بِلا شَكٍّ فَيَرَى الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْحَيَوَانَ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ: كُونِي تُرَابًا، فَيَعُودُ جَمِيعُهَا تُرَابًا فَيَتَمَنَّى الْكَافِرُ لِنَفْسِهِ مِثْلَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)﴾ أَيْ بُعِثَتْ لِلْقِصَاصِ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ – وَهِيَ الَّتِي لا قَرْنَ لَهَا – مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»، قَالَ مُجَاهِدٌ: يُبْعَثُ الْحَيَوَانُ فَيُقَادُ لِلْمَنْقُورَةِ مِنَ النَّاقِرَةِ وَلِلْمَنْطُوحَةِ مِنَ النَّاطِحَةِ.
وَفِي الآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ لَهَا أَرْوَاحٌ وَنُمُوٌّ، أَمَّا النَّبَاتُ فَفِيهِ نُمُوٌّ فَقَطْ وَلَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، فَالزَّرْعُ لا يَتَأَلَّمُ حِينَ الْحَصَادِ كَالشَّاةِ الَّتِي تُذْبَحُ فَإِنَّ الشَّاةَ تَتَأَلَّمُ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَهَائِمَ لا أَرْوَاحَ لَهَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ.

﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا(39)﴾ أَيْ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَابِتٌ لَيْسَ فِيهِ تَخَلُّفٌ وَمَنْ أَرَادَ السَّلامَةَ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْلُكُ سَبِيلَ الْخَيْرِ، وَفِي الآيَةِ مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لا التَّخْيِير.

﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا(40)﴾ وَهُوَ عَذَابُ الآخِرَةِ ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أَيْ يَرَى عَمَلَهُ مُثْبَتًا فِي صَحِيفَتِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ تَأْكِيدٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَم.

سورة النازعات

سُورَةُ النَّازِعَاتِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (26) ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الَّتِي يَذْكُرُهَا عَلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا(1)﴾ النَّازِعَاتُ هِيَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِعُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ، وَغَرْقًا أَيْ نَزْعًا بِشِدَّةٍ.

﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا(2)﴾ أَيِ الْمَلائِكَةُ تَنْشِطُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ بِقَبْضِهَا، أَيْ تَسُلُّهَا بِرِفْقٍ.

﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا(3)﴾ هِيَ الْمَلائِكَةُ تَتَصَرَّفُ فِي الآفَاقِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَجِيءُ وَتَذْهَبُ.

﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا(4)﴾ هِيَ الْمَلائِكَةُ تَسْبِقُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ.

﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا(5)﴾ هُمُ الْمَلائِكَةُ يُدَبِّرُونَ أُمُورَ الْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ عَنِ التَّأْنِيثِ وَعَابَ قَوْلَ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمٰنِ إِنَاثًا﴾ [سُورَةَ الزُّخْرُف/ ءَايَة 19]. وَالْمُرَادُ الأَشْيَاءُ ذَاتُ النَّزْعِ وَالأَشْيَاءُ ذَاتُ النَّشْطِ وَالسَّبْحُ وَالتَّدْبِيرُ وَهَذَا الْقَدْرُ لا يَقْتَضِي التَّأْنِيث. وَمِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَوَابُ مَا عُقِدَ لَهُ الْقَسَمُ مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ لَوْ أُظْهِرَ: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُحَاسَبُنَّ، فَاسْتَغْنَى- أَيِ اللَّهُ تَعَالَى- بِفَحْوَى الْكَلامِ وَفَهْمِ السَّامِعِ عَنْ إِظْهَارِهِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْخَالِقُ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْمَخْلُوقُ لا يُقْسِمُ إِلا بِالْخَالِقِ، وَاللَّهُ أَقْسَمَ بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ لِيُعَرِّفَهُمْ قُدْرَتَهُ لِعُظْمِ شَأْنِهَا عِنْدَهُمْ وَلِدِلالَتِهَا عَلَى خَالِقِهَا وَلَتَنْبِيهِ عِبَادِهِ عَلَى أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ لَهُمْ كَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي : »قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مَعْصِيَةً – وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً-، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْكَرَاهَةِ، وَجَزَمَ غَيْرُهُ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنِ اعْتَقَدَ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي اللَّهِ حَرُمَ الْحَلِفُ بِهِ وَكَانَ بِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ كَافِرًا وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ- يُرِيدُ حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ: »مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ« وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ بِغَيْر اللَّهِ لاعْتِقَادِهِ تَعْظِيمَ الْمَحْلُوفِ بِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ فَلا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَلا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ«.

﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ(6)﴾ الرَّاجِفَةُ: هِيَ النَّفْخَةُ الأُولَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَبِهَا تَتَزَلْزَلُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ.

﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ(7)﴾ الرَّادِفَةُ: هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّفْخَتَانِ هُمَا الصَّيْحَتَانِ أَمَّا الأُولَى فَتُمِيتُ كُلَّ شَىْءٍ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَّةُ فَتَتْبَعُ الأُولَى وَتُحْيِي كُلَّ شَىْءٍ بِإِذْنِ اللَّهِ.

﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ(8)﴾ هِيَ قُلُوبُ الْكُفَّارِ تَكُونُ شَدِيدَةَ الْخَوْفِ وَالاضْطِرَابِ مِنَ الْفَزَعِ.

﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ(9)﴾ أَيْ أَبْصَارُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْقُلُوبِ ذَلِيلَةٌ مِنْ هَوْلِ مَا تَرَى.

﴿يَقُولُونَ(10)﴾ أَيْ أَصْحَابُ الْقُلُوبِ وَالأَبْصَارِ اسْتِهْزَاءً وَإِنْكَارًا لِلْبَعْثِ.
﴿أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ(10)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ أَنُرَدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ، أَيْ فِي الْقُبُورِ، قَالُوهُ عَلَى جِهَةِ الاسْتِبْعَادِ لِحُصُولِهِ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: »أَئِنَّا« بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ عَلَى الاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الأُولَى وَتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ.

﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً(11)﴾ أَيْ عِظَامًا بَالِيَةً مُتَفَتِّتَةً، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَمُرَادُ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ هُوَ: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا مُتَفَتِّتَةً بَالِيَةً نُحْيَا؟ إِنْكَارًا وَتَكْذِيبًا بِالْبَعْثِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: »نَاخِرَةً« قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ.

﴿قَالُوا تِلْكَ(12)﴾ أَيْ قَالَ الْكُفَّارُ: تِلْكَ، أَيْ رَجْعَتُنَا إِلَى الْحَيَاةِ. ﴿إِذًا﴾ أَيْ إِنْ رُدِدْنَا.
﴿كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾ أَيْ نَحْنُ خَاسِرُونَ لِتَكْذِيبِنَا بِهَا، قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَتَكْذِيبًا بِالْبَعْثِ، أَيْ- عَلَى زَعْمِهِمْ-، لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا لَكَانَتْ رَدَّتُنَا خَاسِرَةً إِذْ هِيَ إِلَى النَّارِ.

﴿فَإِنَّمَا هِيَ(13)﴾ أَيِ الرَّادِفَةُ وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَعْقُبُهَا الْبَعْثُ.
﴿زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ أَيْ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ يَحْيَا بِهَا الْجَمِيعُ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بنُ أَنَسٍ. وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ سُهُولَةَ الْبَعْثِ عَلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا صَعْبًا عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: ﴿أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾ يَتَضَمَّنُ اسْتِبْعَادَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ وَاسْتِصْعَابَ أَمْرِهَا فَرَدَّ اللَّهُ قَوْلَهُمْ.

﴿فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ(14)﴾ أَيْ فَإِذَا الْخَلائِقُ أَجْمَعُونَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي بَطْنِهَا أَمْوَاتًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «تُبَدَّلُ الأَرْضُ أَرْضًا كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ حَرَامٌ وَلَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ»، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ : »أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ«.

﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(15)﴾ قاَلَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: قَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ وَبَلَغَكَ قِصَّةُ مُوسَى وَتَمَرُّدُ فِرْعَوْنَ وَمَا ءَالَ إِلَيْهِ حَالُ مُوسَى مِنَ النَّجَاةِ وَحَالُ فِرْعَوْنَ مِنَ الْهَلاكِ وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْشِيرٌ بِنَجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَهَلاكِهِمْ.

﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى(16)﴾ قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ وَادٍ بِفِلَسْطِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاسْمُهُ طُوَى، وَالْمُقَدَّسُ أَيِ الْمُبَارَكُ الْمُطَهَّرُ.

﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17)﴾ أَيْ أَنَّ فِرْعَوْنَ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَفِرْعَوْنُ هُوَ لَقَبُ الْوَلِيدِ بنِ مُصْعَبٍ مَلِكِ مِصْرَ، وَكُلُّ عَاتٍ فِرْعَوْن قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَالْفَرْعَنَةُ: الدَّهَاءُ وَالتَّكَبُّرُ.

﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى(18)﴾ أَيْ أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُسْلِمَ وَتَعْمَلَ خَيْرًا وَتَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ وَتَتَطَهَّرَ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ: »تَزَّكَّى« بِتَشْدِيدِ الزَّايِ.

﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19)﴾ أَيْ أُرْشِدَكَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبُرْهَانِ فَتَخَافَهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتُؤَدِّيَ الْوَاجِبَاتِ وَتَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفِي الآيَةِ دِلالَةٌ عَلَى أَنَّ الإِيـمَانَ بِاللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمَلِ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ لأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْهِدَايَةَ أَوَّلا وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ مُؤَخَّرَةً عَنْهَا وَمُفَرَّعَةً عَلَيْهَا.

﴿فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى(20)﴾ أَيْ فَذَهَبَ مُوسَى وَبَلَّغَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ فَطَلَبَ فِرْعَوْنُ ءَايَةً فَأَرَاهُ – أَيْ مُوسَى- الآيَةَ الْكُبْرَى أَيِ الْعَلامَةَ الْعُظْمَى، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَعَالِيقِهِ: قَالَ مُجَاهِدٌ: »الآيَةُ الْكُبْرَى عَصَاهُ وَيَدُهُ«.

﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى(21)﴾ أَيْ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى وَعَصَى اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِيمَا أَتَى بِهِ.

﴿ثُمَّ أَدْبَرَ(22)﴾ أَيْ فِرْعَوْنُ وَلَّى مُدْبِرًا مُعْرِضًا عَنِ الإِيـمَانِ ﴿يَسْعَى(22)﴾ أَيْ يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ وَيَجْتَهِدُ فِي نِكَايَةِ أَمْرِ مُوسَى.

﴿فَحَشَرَ فَنَادَى(23)﴾ أَيْ جَمَعَ السَّحَرَةَ لِلْمُعَارَضَةِ وَجُنُودَهُ وَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا وَقَالَ لَهُمْ بِصَوْتٍ عَالٍ.

﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى(24)﴾ يُرِيدُ فِرْعَوْنُ لا رَبَّ لَكُمْ فَوْقِي، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.

﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى(25)﴾ أَيْ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذًا هُوَ عِبْرَةٌ لِمَنْ رَءَاهُ أَوْ سَمِعَهُ، وَعَاقَبَهُ عَلَى كَلِمَتِهِ الأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ وَكَلِمَتِهِ الآخِرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾، وَكَانَ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُ بِالْغَرَقِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الآخِرَةِ يُعَذَّبُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَنْ يَخْشَى(26)﴾ أَيْ أَنَّ الَّذِي جَرَى لِفِرْعَوْنَ فِيهِ عِظَةٌ لِمَنْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.

﴿ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا(27)﴾ يُرِيدُ اللَّهُ بِهَذَا الْخِطَابِ أَهْلَ مَكَّةَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَالْكَلامُ يَجْرِي مَجْرَى التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالاسْتِدْلالِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ مَعَ ضَعْفِ الإِنْسَانِ أَشَدُّ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ فِي تَقْدِيرِكُمْ مَعَ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ دَيْمُومِيَّةِ بَقَائِهَا وَعَدَمِ تَأَثُّرِهَا إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَنِسْبَةُ الأَمْرَيْنِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ لأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَامَّةٌ لا يَلْحَقُهَا عَجْزٌ وَلا نَقْصٌ. ثُمَّ يَصِفُ اللَّهُ السَّمَاءَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا فَوْقَنَا كَالْبِنَاءِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا(28)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مِقْدَارَ ذَهَابِهَا فِي الْعُلُوِّ مَدِيدًا رَفِيعًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَكَذَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ إِلَى سَبْعِ سَمَوَاتٍ. وَالسَّمْكُ: هُوَ الارْتِفَاعُ الَّذِي بَيْنَ سَطْحِ السَّمَاءِ الَّذِي يَلِينَا وَسَطْحِهَا الَّذِي يَلِي مَا فَوْقَهَا، قَالَهُ الْمُفَسِّرُ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ النَّهْرِ الْمَادِّ. وَمَعْنَى »فَسَوَّاهَا« أَيْ جَعَلَهَا مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً بِلا عَيْبٍ لَيْسَ فِيهَا مُرْتَفَعٌ وَلا مُنْخَفَضٌ مُحْكَمَةَ الصُّنْعَةِ مُتْقَنَةَ الإِنْشَاءِ.

﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا(29)﴾ أَغْطَشَ لَيْلَهَا: أَيْ أَظْلَمَ لَيْلَهَا، وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا: أَيْ أَبْرَزَ نَهَارَهَا وَضَوْءَ شَمْسِهَا، وَأَضَافَ الضُّحَى إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ فِي السَّمَاءِ سَبَبَ الظَّلامِ وَالضِّيَاءِ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَطُلُوعُهَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا(30)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ثُمَّ دَحَا اللَّهُ الأَرْضَ أَيْ بَسَطَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا(31)﴾ أَيْ أَخْرَجَ مِنَ الأَرْضِ الْعُيُونَ الْمُتَفَجِّرَةَ بِالْمَاءِ وَالنَّبَاتَ الَّذِي يُرْعَى.

﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا(32)﴾ أَيْ أَثْبَتَهَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ لِتَسْكُنَ.

﴿مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(33)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ذَلِكَ لِمَنْفَعَتِكُمْ وَمَوَاشِيكُمْ، وَالأَنْعَامُ وَالنَّعَمُ الإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي تَحْرِيرِ أَلْفَاظِ التَّنْبِيهِ.

﴿فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى(34)﴾ قَدْ مَرَّ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لِيُسْتَدَلَ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى النَّشْرِ وَالْحَشْرِ، فَلَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ إِمْكَانَ الْحَشْرِ عَقْلا أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾ قَالَ الْمُبَرِّدُ: الطَّامَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي لا تُسْتَطَاعُ، وَالْمُرَادُ بِالطَّامَّةِ الْكُبْرَى: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، عَظَّمَهُ اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى(35)﴾ أَيْ ذَاكَ الْيَوْم يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا عَمِلَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ يَرَاهُ مُدَوَّنًا فِي صَحِيفَتِهِ وَكَانَ قَدْ نَسِيَهُ مِنْ فَرْطِ الْغَفْلَةِ أَوْ طُولِ الْمُدَّةِ.

﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى(36)﴾ أَيْ أُظْهِرَتْ جَهَنَّمُ يَرَاهَا تَتَلَظَّى كُلُّ ذِي بَصَرٍ فَيَشْكُرُ الْمُؤْمِنُ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذ: »لِمَنْ رَأَى« بِهَمْزَةٍ بَيْنَ الرَّاءِ وَالأَلِفِ.

﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37)﴾أَيْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْعِصْيَانِ وَالْكُفْرِ.

﴿وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(38)﴾ أَيِ انْهَمَكَ فِيهَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا وَتَرْكِ الاسْتِعْدَادِ لِلآخِرَةِ.

﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39)﴾ أَيْ أَنَّ جَهَنَّمَ هِيَ مَأْوَى مَنْ طَغَى وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ(40)﴾ أَيْ حَذِرَ مَقَامَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ. ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40)﴾ أَيْ زَجَرَهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ.

﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)﴾ أَيْ أَنَّ مَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ مَنْزِلَهُ الْجَنَّةُ.

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا(42)﴾ أَيْ يَسْأَلُكَ كُفَّارُ مَكَّةَ مَتَى وُقُوعُ السَّاعَةِ وَزَمَانُهَا اسْتِهْزَاءً.

﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا(43)﴾ أَيْ فِيمَ يَسْأَلُكَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا وَلَسْتَ مِمَّنْ يَعْلَمُهَا حَتَّى تَذْكُرَهَا لَهُمْ، وَفِيهِ إِنْكَارٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي مَسْأَلَتِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ.

﴿إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا(44)﴾ أَيْ إِلَى اللَّهِ مُنْتَهَى عِلْمِ السَّاعَةِ فَلا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ عِلْمُ وَقْتِهَا وَزَمَنِهَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [سُورَةَ لُقْمَان/ 34].

﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا(45)﴾ أَيْ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِإِنْذَارِكَ يَا مُحَمَّدُ وَتَخْوِيفِكَ مَنْ يَخَافُ هَوْلَهَا فَيَمْتَنِعُ عَنِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مُنْذِرًا لِكُلِّ مُكَلَّفٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: »مُنْذِرٌ« بِالتَّنْوِينِ.

﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً(46)﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ يَرَوْنَ الآخِرَةَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِي الدُّنْيَا إِلا قَدْرَ عَشِيَّةٍ، وَالْعَشِيَّةُ مَنْ صَلاةِ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَتَمَةِ، قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي مُخْتَارِ الصَّحَاحِ. ﴿أَوْ ضُحَاهَا(46)﴾ وَهُوَ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ، قَالَهُ الْحَافِظُ اللُّغَوِيُّ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الدُّنْيَا ذَاكَ الْوَقْتَ تَتَصَاغَرُ عِنْدَ الْكُفَّارِ وَتَقِلُّ فِي أَعْيُنِهِمْ.

سورة عبس

سُورَةُ عَبَسَ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ ءَايَةً

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى واسْمُهُ عَمْرُو بنُ قَيْسٍ وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ قَيْسٍ وَهُوَ ابْنُ خَالِ خَديِجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)﴾ عَبَسَ أَيْ قَطَبَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، قَالَهُ الزَّبِيدِيُّ. وَتَوَلَّى: أَيْ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ الْكَريِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ.

﴿أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى(2)﴾ قَالَ الْقَسْطَلانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرُهُ: لأَجْلِ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْغُولٌ بِذَلِكَ، أَيْ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِسْلامِ وَقَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي إِسْلامِهِمْ، وَكَانَ فِي إِسْلامِهِمْ إِسْلامُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ قَطْعَهُ لِكَلامِهِ فَعَبَسَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنَاجِيهِمْ فِي أَمْرِ الإِسْلامِ هُمْ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بنُ هِشَامٍ، وَأُبَيُّ وَأُمَيَّةُ ابْنَا خَلَفٍ عَلَى خِلافٍ فِي بَعْضِهِمْ. وَجَاءَ لَفْظُ الأَعْمَى إِشْعَارًا بِعُذْرِهِ فِي الإِقْدَامِ عَلَى قَطْعِ كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ لِلْقَوْمِ وَلِلدِّلالَةِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مِنَ الرِّفْقِ بِهِ وَالصَّغْوِ لِمَا يَقْصِدُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا رَأَى ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَبْسُطُ لَهُ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ: »مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي« وَيَقُولُ لَهُ: «هَلْ مِنْ حَاجَةٍ»، وَاسْتَخْلَفَهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى صَلاةِ النَّاسِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فِي غَزْوَتَيْنِ مِنْ غَزَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُؤَذِّنُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ بِلالٍ وَغَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)﴾ أَيْ مَا الَّذِي يَجْعَلُكَ دَارِيًا بِحَالِهِ لَعَلَّهُ يَتَطَهَّرُ مِنَ الآثَامِ بِمَا يَتَلَقَّفُ مِنْكَ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَفِيهِ إيِمَاءٌ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لِتَزْكِيَةِ غَيْرِهِ.

﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)﴾ أَيْ أَوْ يَتَّعِظُ بِمَا يَتَعَلَّمُهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ مَوْعِظَتِكَ فَيَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: «فَتَنْفَعَهُ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا.

﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى(5)﴾ قَالَ بَعْضٌ: الْمُرَادُ مَنْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى، قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: « وَهُوَ فَاسِدٌ هَهُنَا لأَنَّ إِقْبَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِثَرْوَتِهِمْ وَمَالِهِمْ حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَمَّا مَنْ أَثْرَى فَأَنْتَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ»، ثُمَّ قَالَ: الْمَعْنَى مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الإِيـمَانِ وَالْقُرْءَانِ بِمَا لَهُ مِنَ الْمَالِ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِيهِمْ فِي شَأْنِ الإِسْلامِ ثُمَّ قُتِلُوا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ عَلَى الْكُفْرِ، قُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بنُ هِشَامٍ وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ يَوْمَ بَدْرٍ، أَمَّا أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ فَقَدْ رَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَرْبَةٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَتَلَهُ.

﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6)﴾ أَيْ تَتَعَرَّضُ لَهُ بِالإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ.

﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى(7)﴾ أَيِ الْكَافِرُ وَهَذَا تَحْقِيرٌ لِشَأْنِ الْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ فِي أَنْ لا يَتَزَكَّى بِالإِسْلامِ مَنْ تَدْعُوهُ إِلَيْهِ، إِذِ الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ؛ وَبَعْدَ ذَلِكَ نَزَلَ الأَمْرُ بِالْقِتَالِ.

﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى(8)﴾ أَيْ يَأْتِيكَ مُسْرِعًا طَالِبًا لِلْخَيْرِ وَالْعِلْمِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

﴿وَهُوَ يَخْشَى(9)﴾ أَيْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.

﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10)﴾ أَيْ تَتَشَاغَلُ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَطَلْحَةُ: «تَتَلَهَّى» بِتَاءَيْنِ.

﴿كَلَّا(11)﴾ أَيْ لا تَفْعَلْ بَعْدَهَا مِثْلَهَا، عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً وَلا صَغِيرَةً، وَمَنْ قَالَ هُوَ صَغِيرَةٌ فَقَدْ أَخْطَأَ. ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11)﴾ أَيْ أَنَّ ءَايَاتِ الْقُرْءَانِ مَوْعِظَةٌ وَتَبْصِرَةٌ لِلْخَلْقِ.

﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(12)﴾ أَيْ فَمَنْ شَاءَ حَفِظَ الْقُرْءَانَ وَاتَّعَظَ بِهِ.

﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ(13)﴾ أَيْ أَنَّ تِلْكَ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ فِي هَذِهِ الصُّحُفِ الْمُكَرَّمَةِ، وَالصُّحُفُ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ، قَالَ الرَّازِيُّ وَالنَّسَفِيُّ: إِنَّهَا صُحُفٌ مُنْتَسَخَةٌ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ.

﴿مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ(14)﴾ أَيْ مَرْفُوعَةُ الْقَدْرِ مَحْفُوظَةٌ مِنَ الدَّنَسِ لا يَمَسُّهَا إِلا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلائِكَةُ.

﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15)﴾ أَيْ هَذِهِ الصُّحُفُ الْمُكَرَّمَةُ الْمَرْفُوعَةُ الْمُطَهَّرَةُ بِأَيْدِي الْكَتَبَةِ مِنَ الْمَلائِكَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.

﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ(16)﴾ أَيْ هُمْ كِرَامٌ أَعِزَّاءُ عَلَى رَبِّهِمْ بَرَرَةٌ مُطِيعُونَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ.

﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)﴾ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بنِ أَبِي لَهَبٍ حِينَ قَالَ: كَفَرْتُ بِرَبِّ النَّجْمِ، وَمَعْنَى الآيَةِ لُعِنَ الْكَافِرُ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُتِلَ﴾ الدُّعَاءُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الذَّمُّ الْبَلِيغُ لأَنَّ اللَّهَ لا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الدُّعَاءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ ظَاهِرُهُ التَّعَجُّبُ وَهُوَ لا يَكُونُ مِنَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى الْمُرَادُ هُوَ تَعْجِيبُ كُلِّ سَامِعٍ لأَنَّ مُبَالَغَةَ الْكُفَّارِ فِي الْكُفْرَانِ يَتَعَجَّبُ مِنْهَا كُلُّ وَاقِفٍ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ: لُعِنَ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ؛ وَاللَّعْنُ مَعْنَاهُ: الطَّرْدُ وَالإِبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ، وَالْعَجَبُ وَالتَّعَجُّبُ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلإِنْسَانِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِسَبَبِ الشَّىْءِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءُ: الْعَجَبُ مَا لا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَلِهَذَا قِيلَ: لا يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ التَّعَجُّبُ إِذْ هُوَ عَلامُ الْغُيُوبِ لا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، قَالَهُ الرَّاغِبُ الأَصْبَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

﴿مِنْ أَيِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ(18)﴾ أَيْ لِمَ يَتَكَبَّرُ هَذَا الْكَافِرُ؟ أَلَمْ يَرَ مِنْ أَيِّ شَىْءٍ خُلِقَ؟! وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيرِ عَلَى حَقَارَةِ مَا خُلِقَ مِنْهُ.

﴿مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَعَملِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ»، هَذَا طَرَفُ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالنُّطْفَةُ: الْمَنِيُّ الْمَخْلُوقُ مِنْهُ الْبَشَرُ، وَالْعَلَقَةُ: الْمَنِيُّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ طَوْرِهِ فَيَصِيرُ دَمًا غَلِيظًا مُتَجَمِّدًا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ طَوْرًا ءَاخَرَ فَيَصِيرُ لَحْمًا وَهُوَ الْمُضْغَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنَّهَا مِقْدَارُ مَا يُمْضَغُ، قَالَهُ الْفَيُّومِيُّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّكَبُّرَ وَالتَّجَبُّرَ لا يَلِيقَانِ بِمَنْ كَانَ أَصْلُهُ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً. وَمَعْنَى فَقَدَّرَهُ: أَيْ فَقَدَّرَهُ أَطْوَارًا إِلَى أَنْ أَتَمَّ خِلْقَتَهُ، قَدَّرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَسَائِرَ أَعْضَائِهِ، وَحَسَنًا أَوْ دَمِيمًا، وَقَصِيرًا أَوْ طَوِيلا، وَشَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا .

﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)﴾ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سَهَّلَ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِأَنْ جَعَلَ فُوَّهَةً لِلرَّحِمِ، وَأَلْهَمَهُ إِذَا قَرُبَ وَقْتُ خُرُوجِهِ أَنْ يَتَنَكَّسَ فَيَصِيرَ رَأْسُهُ مِنْ جِهَةِ الأَسْفَلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الأَعْلَى. فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ، وَقِيلَ: سَهَّلَ لَهُ الْعِلْمَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ.

﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)﴾ أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا يُوَارَى فِيهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّا يُلْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَتَأْكُلَهُ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ.

﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22)﴾ أَيْ أَحْيَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلْبَعْثِ، وَوَقْتُ النُّشُورِ عِلْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)﴾ كَلِمَةُ «كَلا» هِيَ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِلْكَافِرِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فَالْكَافِرُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالإِيـمَانِ.

﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)﴾ أَيْ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ طَعَامَهُ وَلْيَنْظُرْ إِلَى مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ، وَالْمُرَادُ نَظَرُ اعْتِبَارٍ وَهُوَ نَظَرُ الْقَلْبِ مُتَدَبِّرًا مُتَفَكِّرًا فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)﴾ أَيِ الْغَيْثَ وَالْمَطَرَ يَنْسَكِبُ مِنَ السَّحَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: «إِنَّا» بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «أَنَّا صَبَبْنَا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي الْوَصْلِ وَفِي الِابْتِدَاءِ.

﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26)﴾ أَيْ بِالنَّبَاتِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ الأَرْضَ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا.

﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27)﴾ ««فِيهَا أَيْ فِي الأَرْضِ يُنْبِتُ اللَّهُ جَمِيعَ الْحُبُوبِ الَّتِي يُتَغَذَّى بِهَا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ.

﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28)﴾ الْعِنَبُ مَعْرُوفٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَضْبُ: هُوَ الرُّطَبُ لأَنَّهُ يُقْضَبُ مِنَ النَّخْلِ أَيْ يُقْطَعُ.

﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا(29)﴾ الزَّيْتُونُ وَالنَّخْلُ مَعْرُوفَانِ.

﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30)﴾ أَيْ بَسَاتِينُ كَثِيرَةُ الأَشْجَارِ، وَالْحَدِيقَةُ: الْبُسْتَانُ يَكُونُ عَلَيْهِ حَائِطٌ، وَالْغُلْبُ: الْغِلاظُ الأَعْنَاقِ، وَقَالَ الزَّجَاجُ: هِيَ الْمُتَكَاثِفَةُ الْعِظَامُ، وَالْمُرَادُ عِظَمُ أَشْجَارِهَا وَكَثْرَتُهَا.

﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31)﴾ أَيْ أَلْوَانُ الْفَاكِهَةِ، وَالأَبُّ: هُوَ مَا تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

﴿مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(32)﴾ أَيْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَبِّ وَمَا بَعْدَهُ خُلِقَ لِمَنْفَعَةِ الإِنْسَانِ وَكَذَلِكَ الأَنْعَام وَهِيَ الإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ تَنْتَفِعُ بِهِ.

﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ(33)﴾ وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ صَيْحَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ الْخَلِيلُ بنُ أَحْمَدَ: الصَّاخَّةُ صَيْحَةٌ تَصُخُّ الآذَانَ صَخًّا، أَيْ تُصِمُّهَا بِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا. وَجَوَابُ ﴿فَإِذَا﴾ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: اشْتَغَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ.

﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36)﴾ أَيْ لا يَلْتَفِتُ الإِنْسَانُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ لِعِظَمِ مَا هُوَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبَةِ الزَّوْجَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْفِرَارِ هُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ يَفِرُّ مِنَ الآخَرِ إِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ أَمَّا إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَّقِينَ فَلا يَفِرُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنَ الآخَرِ.

﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37)﴾ أَيْ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَالا يَشْغَلُهُ عَنِ النَّظَرِ فِي حَالِ غَيْرِهِ.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ(38)﴾ أَيْ أَنَّ وُجُوهَ الصَّالِحِينَ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُشْرِقَةً مُضِيئَةً قَدْ عَلِمَتْ مَا لَهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّعِيمِ.

﴿ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ(39)﴾ أَيْ مَسْرُورَةٌ فَرِحَةٌ بِمَا نَالَهَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40)﴾ أَيْ غُبَارٌ وَكَمَدٌ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ وَهِيَ وُجُوهُ الْكُفَّارِ كَمَا سَيَأْتِي.

﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41)﴾ أَيْ تَغْشَاهَا ظُلْمَةٌ.

﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)﴾ وَالْكَفَرَةُ: جَمْعُ كَافِرٍ، وَالْفَجَرَةُ: جَمْعُ فَاجِرٍ.
وَعَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [سُورَةَ الْحَاقَّة/ 14] قَالَ: يَصِيرَان غَبَرَةً عَلَى وُجُوهِ الْكُفَّارِ لا عَلَى وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [سُورَةَ عَبَسَ] رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

سورة التكوير

سُورَةُ التَّكْوِيرِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ءَايَةً

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيَقْرَأْ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾” صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَهَبَ نُورُهَا وَأَظْلَمَتْ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تُجْمَعُ الشَّمْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تُلَفُّ وَيُرْمَى بِهَا.

﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ(2)﴾ أَيْ تَنَاثَرَتْ وَتَسَاقَطَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا ضَوْءٌ.

﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(3)﴾ أَيْ قُلِعَتْ مِنَ الأَرْضِ ثُمَّ سُوِّيَتْ بِهَا كَمَا خُلِقَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَيْسَ عَلَيْهَا جَبَلٌ وَلا فِيهَا وَادٍ.

﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)﴾ الْعِشَارُ: جَمْعُ عُشَرَاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا مِنْ وَقْتِ الْحَمْلِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ اسْمُهَا إِلَى أَنْ تَضَعَ لِتَمَامِ السَّنَةِ، وَهِيَ أَنْفَسُ مَا يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَعَزُّهَا عَلَيْهِمْ، فَيَتْرُكُونَهَا مُهْمَلَةً بِلا رَاعٍ وَلا حَالِبٍ لِمَا دَاهَاهُمْ مِنَ الأُمُورِ، وَهَذَا قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ حَيْثُ لا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ إِلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ. وَمَعْنَى »عُطِّلَتْ« سُيِّبَتْ وَأُهْمِلَتْ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْهَا بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ.

﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5)﴾ أَيْ جُمِعَتْ بَعْدَ الْبَعْثِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُحْشَرُ الْوُحُوشُ غَدًا، أَيْ تُجْمَعُ حَتَّى يُقْتَصَّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ تُرَدُّ تُرَابًا، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لإِظْهَارِ الْعَدْلِ وَإلا فَلا تَكْلِيفَ عَلَى الْبَهَائِمِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ لَهَا أَرْوَاحٌ.

﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ(6)﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَذْهَبُ مَاؤُهَا فَلا يَبْقَى قَطْرَةٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ مُعَلَّقًا، وَقَالَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ﴿سُجِّرَتْ﴾ أَيْ أُوقِدَتْ فَاشْتَعَلَتْ نَارًا، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْهُمَا.

﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7)﴾ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَعَالِيقِهِ عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: »وَهَذَا إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ«.

﴿وَإِذَا الْمَوْءُودةُ سُئِلَتْ(8)﴾ وَهِيَ الْجَارِيَةُ تُدْفَنُ وَهِيَ حَيَّةٌ وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ بِنْتًا دَفَنَهَا حَيَّةً إِمَّا خَوْفًا مِنَ السَّبِيِّ وَالاسْتِرْقَاقِ، وَإِمَّا خَشْيَةَ الْفَقْرِ وَالإِمْلاقِ، وَكَانَ ذَوُو الشَّرَفِ مِنْهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ هَذَا وَيَمْنَعُونَ مِنْهُ، وَكَانَ صَعْصَعَةُ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ يَشْتَرِيهِنَّ مِنْ ءَابَائِهِنَّ، فَجَاءَ الإِسْلامُ وَقَدْ أَحْيَا سَبْعِينَ مَوْءُودَةً. وَسُؤَالُهَا إِنَّمَا هُوَ لِتَبْكِيتِ وَائِدِهَا وَتَوْبِيخِهِ. وَالتَّبْكِيتُ هو التَّقْرِيعُ وَالتَّعْنِيفُ.

﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9)﴾ هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا تُخَاطَبُ بِهِ وَجَوَابُهَا أَنْ تَقُولَ: بِلا ذَنْبٍ، فَيَكُونَ أَعْظَمَ فِي الْبَلِيَّةِ وَظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَى قَاتِلِهَا.

﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ(10)﴾ يَعْنِي صُحُفَ الأَعْمَالِ الَّتِي كَتَبَتْ فِيهَا الْمَلائِكَةُ مَا فَعَلَ أَهْلُهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ تُطْوَى بِالْمَوْتِ وَتُنْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى صَحِيفَتِهِ فَيَعْلَمُ مَا فِيهَا فَيَقُولُ: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إلا أَحْصَاهَا﴾ [سُورَةَ الْكَهْف/49]، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ.

﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ(11)﴾ قَالَ الزَّجَاجُ: قُلِعَتْ كَمَا يُقْلَعُ سَقْفُ الْبَيْتِ، وَالْكَشْطُ الْقَلْعُ عَنْ شِدَّةِ الْتِزَاقٍ.

﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ(12)﴾ أَيْ أُوقِدَتِ النَّارُ إِيقَادًا شَدِيدًا، وَالسَّعَرُ: الْتِهَابُ النَّارِ وَشِدَّةُ إِضْرَامِهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : »أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ«. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ(13)﴾ أَيْ قُرِّبَتْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَتَأْوِيلُهُ أَيْ قَرُبَ دُخُولُهُمْ فِيهَا وَنَظَرُهُمْ إِلَيْهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُقَرَّبُونَ مِنْهَا وَلا تَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا، وَالآيَاتُ الَّتِي سَتَأْتِي هِيَ جَوَابُ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا.

﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ(14)﴾ أَيْ عَلِمَتْ كُلُّ نَفْسٍ فَكَلِمَةُ »نَفْسٍ« نَكِرَةٌ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ، مَا أَحْضَرَتْهُ فِي صَحَائِفِهَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ تَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ أَوْ عَمَلٍ سَيِّءٍ قَبِيحٍ تَسْتَحِقُّ بِهِ دُخُولَ النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.

﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)﴾ قَالَ النَّسَفِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ »لا« زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، وَالْخُنَّسُ: جَمْعُ خَانِسٍ وَخَانِسَةٍ، وَخَنَسَ عَنْهُ: تَأَخَّرَ، قَالَ الْحَافِظُ: »قَوْلُهُ – أَيِ الْبُخَارِيّ – (وَالْخُنَّسُ تَخْنِسُ فِي مَجْرَاهَا تَرْجِعُ وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ فِي بُيُوتِهَا كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ)، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ وَهِيَ النُّجُومُ الْخَمْسَةُ تَخْنُسُ فِي مَجْرَاهَا تَرْجِعُ، وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ فِي بُيُوتِهَا كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ فِي الْمَغَايِرِ وَهِيَ الْكِنَاسُ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالنُّجُومِ الْخَمْسَةِ: بَهْرَام – وَهُوَ الْمَرِّيخُ – وَزُحَلُ، وعُطَارِدُ، والزُّهْرَةُ، وَالْمُشْتَرِي« اهـ، ثُمَّ قَالَ : »وَرَوَى سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُنَّ الْكَوَاكِبُ تَكْنِسُ بِاللَّيْلِ وَتَخْنُسُ بِالنَّهَارِ فَلا تُرَى« اهـ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: »وَخُنُوسُهَا اسْتِخْفَاؤُهَا بِالنَّهَارِ« اهـ، وَقَالَ: »وَالْخُنُوسُ: الانْقِبَاضُ وَالاسْتِخْفَاءُ« اهـ.

﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)﴾ الكُنَّسُ: جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ، وَالْكَانِسُ مِنَ الْوَحْشِ مَا دَخَلَ فِي كِنَاسِهِ وَهُوَ الْغُصْنُ مِنْ أَغْصَانِ الشَّجَرِ كَالظَّبْيِّ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَوَارِي النُّجُومُ، وَالكُنَّسُ الَّتِي تَغِيبُ.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17)﴾ قَالَ الْخَلِيلُ: أَقْسَمَ بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ، وَ﴿عَسْعَسَ﴾ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَهُوَ مِنَ الأَضْدَادِ.

﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18)﴾ الصُّبْحُ: الْفَجْرُ وَهُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَ﴿إِذَا تَنَفَّسَ﴾ إِذَا امْتَدَّ ضَوْؤُهُ، وَهَذَا قَسَمٌ وَجَوَابُهُ هُوَ

﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَريِمٍ(19)﴾ . ﴿إنَّهُ﴾ أَيِ الْقُرْءَان وَ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَريِمٍ﴾ إِلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وَهُوَ عَزِيزٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ جِبْرِيلُ أُضِيفَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْقُرْءَانِ لِنُزُولِهِ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)﴾ أَيْ شَدِيدِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا يُكَلَّفُ بِهِ لا يَعْجِزُ عَنْهُ وَلا يَضْعُفُ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ قُوَّتِهِ أَنَّهُ قَلَعَ قُرَى ءَالِ لُوطٍ وَقَلَبَهَا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ذُو مَرْتَبَةٍ رَفِيعَةٍ وَشَرَفٍ عَظِيمٍ.

﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21)﴾ أَيْ أَنَّ جِبْرِيلَ مُطَاعٌ تُطِيعُهُ الْمَلائِكَةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿ثَمَّ﴾ أَيْ فِي السَّمَوَاتِ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَ»ثَمَّ« بِالْفَتْحِ اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَهُوَ أَمِينٌ بِمَعْنَى مَأْمُون كَمَا يُقَالُ: قَتِيلٌ بِمَعْنَى مَقْتُول، أَيْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: »ثُمَّ« بِضَمِّ الثَّاءِ.

﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ(22)﴾ هَذَا عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ وَالْمُرَادُ بِصَاحِبُكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَلَيْسَ مُحَمَّدٌ مَجْنُونًا حَتَّى يُتَّهَمَ فِي قَوْلِهِ كَمَا يَزْعُمُ الْكَفَرَةُ بُهْتَانًا بَلْ هُوَ صَادِقٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِهِ خَيْرًا، وَالْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي أَلَمَّتْ بِهِ الْجِنُّ أَوْ أَصَابَهُ نَقْصٌ أَوْ عِلَّةٌ فِي دِمَاغِهِ فَسُتِرَ عَقْلُهُ، وَسُمِّيَ الْمَجْنُونُ مَجْنُونًا لِاسْتِتَارِ عَقْلِهِ.

﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ(23)﴾ أَيْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَالْمُرَادُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ نَاحِيَةُ مَشْرِقِ الشَّمْسِ.

﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24)﴾ أَيْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَبْخَلُ بِتَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.

﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ(25)﴾ أَيْ وَمَا الْقُرْءَانُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ تُرْجَمُ بِالشُّهُبِ يُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا زَعَمَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَرَجِيمٌ بِمَعْنَى مَرْجُومٍ نَحْوُ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ وَمَجْرُوحٍ.

﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26)﴾ هُوَ اسْتِضْلالٌ لِلْكُفَّارِ حَيْثُ نَسَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً إِلَى الْجُنُونِ وَمَرَّةً إِلَى الْكَهَانَةِ وَمَرَّةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ لِتَارِكِ الْجَادَّةِ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ فَالْمَعْنَى فَأَيُّ طَرِيقٍ أَهْدَى لَكُمْ وَأَرْشَدُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟!

﴿إِنْ هُوَ إلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ(27)﴾ قَالَ النَّسَفِيُّ: أَيْ مَا الْقُرْءَانُ إلا عِظَةٌ لِلْخَلْقِ.

﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28)﴾ أَيْ أَنَّ الْقُرْءَانُ ذِكْرٌ وَعِظَةٌ لِمَنْ شَاءَ الاسْتِقَامَةَ بِالدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ فَيَنْتَفِعُ بِالْذِكْرِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَقِمْ عَلَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذَا الذِّكْرِ.

ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ لِلِاسْتِقَامَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)﴾ أَيْ وَمَا تَشَاءُونَ الاسْتِقَامَةَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي التَّوْفِيقِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَصَّصَ تَعَالَى مَنْ شَاءَ الاسْتِقَامَةَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا وَتَنْبِيهًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: »إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ لا يَعْمَلُ الْعَبْدُ خَيْرًا إلا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلا شَرًّا إلا بِخِذْلانِهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/ 111]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ يُونُس/ 100]، وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الْقَصَص/ 55] وَالآيُ فِي هَذَا كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ الأَخْبَارُ، وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بِالإِسْلامِ وَأَضَلَّ بِالْكُفْرِ« اهـ. وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَيْ مَالِكُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ فَهُوَ مَالِكٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَخَالِقٌ لَهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/ 96]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : »إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانِعُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ«، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/ 110] فَتَقْلِيبُ اللَّهِ أَفْئِدَةَ الْعِبَادِ فِيهِ دِلالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَتَقْلِيبُ اللَّهِ أَبْصَارَ الْعِبَادِ فِيهِ دِلالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَدْلًا؛ فَمَنْ جَعَلَ الْمَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ لا لِرَبِّ الْعِبَادِ فَقَدْ كَفَرَ وَضَلَّ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَاءُوا يُجَادِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سُورَةَ الْقَمَر].
وَعَلَى تَكْفِيرِهِمْ لِقَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ نَصَّ الْقُرْءَانُ الْكَريِمُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الَّذِينَ لا يُعْتَبَرُ مُخَالِفُهُمْ وَذَلِكَ لِثُبُوتِ حَدِيثِ »الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ« رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ تَكْفِيرَهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، فَمِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ عَمَّنْ لا يُحْصَى مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَعَلَى تَكْفِيرِهِمْ نَصَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالأَشْعَرِيُّ وَالْمَاتِرِيدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلا يَجُوزُ الشَكُّ فِي تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/ 16] وَقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/ 96].
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿لِمَنْ شَآءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: ذَاكَ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَسْتَقِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/ 29]. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق وَأَبُو الْمُتَوَكِّل وَأَبُو عِمْرَان »وَمَا يَشَاءُونَ« بِالْيَاءِ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة الانفطار

سُورَةُ الانْفِطَارِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ تِسْعَ عَشْرَةَ ءَايَةً

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَريِمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

﴿إِذَا السَّمَآءُ انْفَطَرَتْ(1)﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: انْفِطَارُهَا انْشِقَاقُهَا.

﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ(2)﴾ أَيْ تَسَاقَطَتْ مِنْ مَوَاضِعِهَا.

﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ(3)﴾ قَالَ الرَّبِيعُ بنُ خَثْيَمَ: فُجِّرَتْ فَاضَتْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا.

﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ(4)﴾ أَيْ أُثِيرَتْ وَقُلِبَ أَسْفَلُهَا أَعْلاهَا وَبَاطِنُهَا ظَاهِرَهَا فَتَنْشَقُّ وَيُبْعَثُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى أَحْيَاءً، وَجَوَابُ ﴿وَإِذَا﴾ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ(5)﴾ أَيْ مَا قَدَّمَتْ مِنْ طَاعَةٍ وَأَخَّرَتْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَريِمِ(6)﴾ وَالْمُرَادُ بِالإِنْسَانِ هُنَا الإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَقِيلَ: أُنْزِلَتْ فِي أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ أَيْ: مَا الَّذِي غَرَّكَ وَخَدَعَكَ حَتَّى كَفَرْتَ بِرَبِّكَ الْكَريِمِ الَّذِي تَفَضَّلَ عَلَيْكَ بِأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ، وَالْغَرُورُ كُلُّ مَا يَغُرُّ الإِنْسَانَ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ وَشَهْوَةٍ وَشَيْطَانٍ، وَقِيلَ: الدُّنْيَا تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ، وَالْمُرَادُ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِمَّا لا خَيْرَ فِيهِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَجَوَابُ السُّؤَالِ غَرَّهُ شَيْطَانُهُ، وَمِنْ مَعَانِي اسْمِهِ تَعَالَى الْكَريِمِ أَنَّهُ الصَّفُوحُ الَّذِي لا يُعَاجِلُ بِالذَّنْبِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ عَنِ إلاغْتِرَارِ فَإِنَّ مَحْضَ الْكَرَمِ لا يَقْتَضِي إِهْمَالَ الظَّالِمِ وَتَسْوِيَةَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ لَهُ صِفَةُ الْقَهْرِ وَإلانْتِقَامِ، وَكَذَا لِلإِشْعَارِ بِالَّذِي بِهِ يَغُرُّهُ الشَّيْطَانُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ مَا شِئْتَ فَرَبُّكَ الْكَريِمُ لا يُعَذِّبُ أَحَدًا، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بنُ صُبَيْحِ بنِ السَّمَّاكُ الزَّاهِدُ الْقُدْوَةُ:
يَا كَاتِمَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِي **** وَاللَّهُ فِي الْخَلْوَةِ رَائِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ **** وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا
وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : «كَمْ مِنْ مَغْرُورٍ تَحْتَ السَّتْرِ وَهُوَ لا يَشْعُر اهـ.» نَسْأَلُ اللَّهَ الْمُسَامَحَةَ وَالسَّتْرَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. ُ

﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7)﴾ قَوْلُهُ ﴿الَّذِي خَلَقَكَ﴾ أَيِ: الَّذِي قَدَّرَ خَلْقَكَ مِنْ نُطْفَةٍ، ﴿فَسَوَّاكَ﴾ أَيْ: جَعَلَ أَعْضَاءَكَ سَلِيمَةً مُسَوَّاةً مُعَدَّةً لِمَنَافِعِهَا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَلَمْ يَجْعَلْ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَطْوَلَ وَلا إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوْسَعَ وَلا بَعْضَ الأَعْضَاءِ أَبْيَضَ وَبَعْضَهَا أَسْوَد. قَالَ الْبُخَارِيُّ : «وَقَرَأَ الأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ ﴿فَعَدَلَكَ﴾ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِالتَّشْدِيدِ وَأَرَادَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ، وَمَنْ خَفَّفَ يَعْنِي فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا قَبِيحٌ أَوْ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ» اهـ.

﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ(8)﴾ فَقَوْلُهُ ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ ﴿بِرَبِّكَ﴾ أَيْ أَنَّ رَبَّكَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكَ عَلَى أَيِّ صُورَةٍ اقْتَضَتْهَا مَشِيئَتُهُ تَعَالَى مِنَ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْحُسْنِ وَالقُبْحِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالذُّكُورَةِ وَالأُنُوثَةِ وَالشَّبَهِ بِبِعَضِ الأَقَارِبِ دُونَ بَعْضٍ.

﴿كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدّينِ(9)﴾ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلائِلِ الْعَقْلِيَّةِ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَرَّعَ عَلَيْهَا شَرْحَ بَعْضِ تَفَاصِيلِ الأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلا﴾ فِيهَا مَعْنَى الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ عَنِ إلاغْتِرَارِ بِكَرَمِ اللَّهِ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ أَيْ تُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: «بَلْ يُكَذِّبُونَ» بِالْيَاءِ.

ثُمَّ أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مَحْفُوظَةٌ فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10)﴾ أَيْ مِنَ الْمَلائِكَةِ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَأَقْوَالَكُمْ.

﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ(11)﴾ فَهُمْ كِرَامٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يَكْتُبُونَ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ بَلْ وَأَفْعَالَ قُلُوبِهِمْ يَكْتُبُونَهَا بِإِطْلاعِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَيْهَا لِيُجَازَوْا عَلَيْهَا، وَفِي تَعْظِيمِ الْكَتَبَةِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الْجَزَاءِ.

﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)﴾ أَيْ لا يَخْفَى عَلَيْهِمْ شَىْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ مِنْ خَيْرِ أَوْ شَرٍّ فَيَكْتُبُونَهُ عَلَيْكُمْ.

﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)﴾ البِرُّ: بِالْكَسْرِ هُوَ الْخَيْرُ وَالْفَضْلُ، وَالأَبْرَارُ: جَمْعُ الْبَارِّ. قَالَ الرَّاغِبُ: فَيُقَالُ بَرَّ الْعَبْدُ رَبَّهُ أَيْ تَوَسَّعَ فِي طَاعَتِهِ فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى الثَّوَابُ وَمِنَ الْعَبْدِ الطَّاعَةُ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ فِي إلاعْتِقَادِ وَضَرْبٌ فِي الأَعْمَالِ، وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/ 177] فَإِنَّ الآيَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلاعْتِقَادِ وَالأَعْمَالِ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، فَالْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ الْمُتَّقُونَ يَكُونُ تَنَعُّمُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَنَاعَةِ وَفِي الآخِرَةِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ.

﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ(14)﴾ الْفُجَّارُ: جَمْعُ فَاجِرٍ، وَالْمَصْدَرُ الْفُجُورُ، وَهُوَ شَقُّ سِتْرِ الدِّيَانَةِ، قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ جَحِيمُهُمْ فِي النَّارِ الْمُحْرِقَةِ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.

﴿يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ(15)﴾ أَيْ يَدْخُلُونَ الْجَحِيمَ فَيُقَاسُونَ شِدَّةَ حَرِّهَا وَلَهِيبِهَا يَوْمَ الدِّينِ أَيْ يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ.

﴿وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ(16)﴾ وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْكُفَّارَ لا يَغِيبُونَ عَنِ النَّارِ فَيَتَحَقَّقُ الْوَعِيدُ وَيَخْلُدُونَ فِي جَهَنَّمَ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: يَدْخُلُونَهَا فَلا يَخْرُجُونَ مِنْهَا.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ(17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ(18)﴾ قَالَ الرَّازِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ لَهُ، وَقَالَ الأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ. وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَكُرِّرَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَعْجِيبًا، أَيْ بِمَا هُوَ كُنْهُ أَمْرِهِ بِحَيْثُ لا تُدْرِكُهُ دِرَايَةُ دَارٍ، قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ.

﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ(19)﴾ أَيْ يَوْمَ لا يَمْلِكُ مَخْلُوقٌ لِمَخْلُوقٍ نَفْعًا إِلا الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلا تَمْلِكُ نَفْسٌ كَافِرَةٌ لِنَفْسٍ كَافِرَةٍ شَيْئًا مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ لا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِالْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ وَصِفَاتُهُ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ بِأَزَلِيَّةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ وَأَبَدِيَّتِهِ، فَاللَّهُ مُتَنَزِّهٌ عَنِ التَّغَيُّرِ لأَنَّ التَّغَيُّرَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ فَالتَّفَاوُتُ عَائِدٌ إِلَى أَحْوَالِ النَّاظِرِ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ أَيْ لا يُشْبِهُ ذَلِكَ، قَالَهُ الإِمَامُ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: «يَوْمُ» بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ رَفَعَ «يَوْم» فَعَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ بِإِضْمَارِ «هُوَ»، وَنَصْبُهُ عَلَى مَعْنَى: «هَذِهِ الأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ تَكُونُ».

سورة المطففين

سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ وَءَايَاتُهَا سِتٌّ وَثَلاثُونَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم
وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13) كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: »أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1)﴾ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ« اهـ.

﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1)﴾ قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: »قَالَ الأَصْمَعِيُّ: ﴿وَيْلٌ(1)﴾ قُبْحٌ، وَمَنْ قَالَ: وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ وَيْلا فِي اللُّغَةِ هُوَ مَوْضُوعٌ لِهَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِيهِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ مَقَرًّا مِنَ النَّارِ وَثَبَتَ ذَلِكَ لَهُ« اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ: »الْوَيْلُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ«. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمُطَفِّفُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّفِيفِ وَهُوَ الْقَلِيلُ، فَالْمُطَفِّفُ هُوَ الْمُقِلُّ حَقَّ صَاحِبِهِ بِنُقْصَانِهِ عَنِ الْحَقِّ، فَالْمُطَفِّفُونَ هُمُ الَّذِينَ يَبْخَسُونَ حُقُوقَ النَّاسِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.

﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2)﴾ أَيْ أَنَّ هَؤُلاءِ الْمُطَفِّفِينَ إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ يَأْخُذُونَهَا وَافِيَةً.

﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)﴾ أَيْ أَنَّ هَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُطَفِّفِينَ أَنَّهُمْ إِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ يُنْقِصُونَ لَهُمْ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ.

﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ(4)﴾ قَالَ النَّسَفِيُّ: أَدْخَلَ هَمْزَةَ الاسْتِفْهَامِ عَلَى »لا« النَّافِيَةِ تَوْبِيخًا، وَفِيهِ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ عَظِيمٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي الاجْتِرَاءِ عَلَى التَّطْفِيفِ كَأَنَّهُمْ لا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ وَمُحَاسَبُونَ عَلَى مَا يُنْقِصُونَهُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالظَّنُّ هَا هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ.

﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)﴾ شَأَنُهُ، أَلا وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)﴾ فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لأمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَزَائِهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْمُسَامَحَةَ وَالسَّتْرَ فَضْلا مِنْهُ تَعَالَى وَكَرَمًا، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)﴾ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» اهـ. وَالرَّشْحُ: الْعَرَقُ.

﴿كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ(7)﴾ فَكَلِمَةُ ﴿كَلا(7)﴾ فِي هَذِهِ الآيَةِ كَلِمَةُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ لَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى حَقًّا، وَكِتَابُ الْفُجَّارِ أَيْ صَحَائِفُ أَعْمَالِهِمْ فِي سِجِّينٍ، قَالَ الزَّبِيدِيُّ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ مَعَ الأَصْلِ : «وَسِجِّينٌ فِيهِ كِتَابُ الْفُجَّارِ»، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: وَدَوَاوِينُهُمْ كَمَا فِي الصَّحَاحِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَهُوَ فِعِّيلٌ مِنَ «السِّجْن» كَالفِسِّيقِ مِنَ «الْفِسْقِ»، وَقِيلَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ(8)﴾ هَذَا تَعْظِيمٌ لأمْرِ سِجِّينٍ تَخْوِيفًا مِنْهَا.

﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ(9)﴾ أَيْ مَكْتُوبٌ، وَقِيلَ: مَخْتُومٌ، قَالَ النَّسَفِيُّ: هُوَ كِتَابٌ جَامِعٌ هُوَ دِيوَانُ الشَّرِّ كُتِبَتْ فِيهِ أَعْمَالُ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَفِي ذَلِكَ دِلالَةٌ عَلَى خَسَاسَةِ مَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ وَخُبْثِ أَعْمَالِهِمْ وَتَحْقِيرِ اللَّهِ إِيَّاهَا لأنَّ هَذَا الْكِتَابَ فِي حَبْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ الرَّازِيُّ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كِتَابِ الْفُجَّارِ بِأَنَّهُ فِي سِجِّينٍ ثُمَّ فَسَرَّ سِجِّينًا بِكِتَابٍ مَرْقُومٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ كِتَابَهُمْ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ فَمَا مَعْنَاهُ؟ أَجَابَ الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ الْقَفَّالُ الْكَبِيرُ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: «قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ(9)﴾ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِسِجِّينٍ بَلِ التَّقْدِيرُ: كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَإِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، فَيَكُونُ هَذَا وَصْفًا لِكِتَابِ الْفُجَّارِ بِوَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي سِجِّينٍ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَرْقُومٌ، وَوَقَعَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ(8)﴾ فِيمَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مُعْتَرِضًا وَاللَّهُ أَعْلَم» اهـ.

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ(10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(11)﴾ أَيْ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ سَيَلْقَوْنَ فِيهِ شِدَّةَ الْعَذَابِ.

﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ(12)﴾ أَيْ أَنَّهُ لا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَيْ مُتَجَاوِزٍ لِلْحَدِّ، أَثِيمٍ أَيْ كَثِيرِ الإِثْمِ بِكُفْرِهِ، وَهَذِهِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ.

﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(13)﴾ أَيْ قَالَ هَذَا الْمُكَذِّبُ: هَذِهِ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ أَيْ أَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَسَاطِيرُ: أَبَاطِيل.

﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ(14)﴾ أَيْ لَيْسَ هُوَ أَسَاطِيرَ الأَوَّلِينَ، ﴿بَلْ رَانَ(14)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «قَالَ مُجَاهِدٌ: رَانَ: ثَبْتُ الْخَطَايَا»، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: «وَرَوْينَا فِي فَوَائِدِ الدِّيبَاجِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم(14)﴾ قَالَ: ثَبَتَتْ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْخَطَايَا حَتَّى غَمَرَتْهَا، انْتَهَى. وَالرَّانُ وَالرَّيْنُ: الْغِشَاوَةُ، وَهُوَ كَالصَّدَىءِ عَلَى الشَّىْءِ الصَّقِيلِ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْقَاعِ بنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَتْ، فَإِنْ هُوَ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم(14)﴾» »انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُسْنَدًا قَالَ: «كَانُوا يَرَوْنَ الرَّيْنَ هُوَ الطَّبْعُ» اهـ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ(14)﴾ أَيْ مِنَ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا كَثُرَتْ مَعَاصِيهِمْ وَذُنُوبُهُمْ أَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَرِينَ عَلَى الْقَلْبِ فَيَسْوَدَّ».
فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ: قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ صَدَأً كَصَدَإِ النُّحَاسِ وَجَلاؤُهَا الاسْتِغْفَارُ»، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
فَائِدَةٌ: حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَسْكُتُ عَلَى اللامِ مِنْ ﴿بَلْ(14)﴾ سَكْتَةً لَطِيفَةً مِنْ دُونِ تَنَفُّسٍ مَعَ مُرَادِ الْوَصْلِ ثُمَّ يَقُولُ ﴿رَانَ(14)﴾ أَيْ بِإِظْهَارِ اللامِ وَفَتْحِ الرَّاءِ.

﴿كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ(15)﴾ ، ﴿كَلا(15)﴾ هُنَا فِيهَا مَعْنَى الرَّدْعِ عَنِ الْكَسْبِ الرَّائِنِ عَلَى الْقَلْبِ أَلا وَهُوَ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي ﴿إنَّهُم(15)﴾ أَيِ الْكُفَّار ﴿عَنْ رَّبِّهِمْ(15)﴾ أَيْ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا قَالَ عِزُّ الدِّينِ بنُ عَبْدُ السَّلامِ فِي كِتَابِ الإِشَارَةِ إِلَى الإِيجَازِ، وَقَوْلُهُ ﴿يَوْمَئِذٍ(15)﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ ﴿لَّمَحْجُوبُونَ(15)﴾ مَعْنَاهُ لَمَمْنُوعُونَ، وَالْحَجْبُ الْمَنْعُ، قَالَهُ النَّسَفِيُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِهَانَةُ الْكُفَّارِ وَإِظْهَارُ سَخَطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الإِمَامِ الْمُطَّلِبِيِّ مُحَمَّدِ بنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ ﴿كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ(15)﴾: «فَلَمَّا حَجَبَهُمْ فِي السُّخْطِ كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَا» اهـ، وَهُوَ كَلامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لأنَّهُ اسْتِدْلالٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الآيَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَنْطُوقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [سُورَةَ الْقِيَامَةِ]، وَفِي السِّيَرِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ(15)﴾ فَإِذَا احْتَجَبَ عَنِ الأَوْلِيَاءِ وَالأَعْدَاءِ فَأَيُّ فَضْلٍ لِلأَوْلِيَاءِ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَفِيهِ أَنَّ شَخْصًا قَالَ لِلإِمَامِ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [سُورَةَ الْقِيَامَة] يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ بِأَعْيُنِهِمْ هَاتَيْنِ قُلْتُ: فَإِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ نَاظِرَةً بِمَعْنَى مُنْتَظِرَةٍ إِلَى الثَّوَابِ، قَالَ مَالِكٌ: بَلْ تَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ مُوسَى ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف] أَتَرَاهُ سَأَلَ مُحَالا؟ قَالَ اللَّهُ: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ فِي الدُّنْيَا لأنَّهَا دَارُ فَنَاءٍ فَإِذَا صَارُوا إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ نَظَرُوا بِمَا يَبْقَى إِلَى مَا يَبْقَى، قَالَ تَعَالَى: ﴿كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ(15)﴾ اهـ.
فَائِدَةٌ: اعْلَمْ أَرْشَدَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّهُ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى الإِيـمَانِ بِالرُّؤْيَةِ للهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِي الآخِرَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِلا كَيْفٍ وَلا تَشْبِيهٍ وَلا جِهَةٍ، قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَلِقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لأهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ بِلا كَيْفِيَّةٍ وَلا تَشْبِيهٍ وَلا جِهَةٍ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُءُوسِهِمْ وَلا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ، وَلَيْسَ قُرْبُ اللَّهِ تَعَالَى وَلا بُعْدُهُ مِنْ طَرِيقِ طُولِ الْمَسَافَةِ وَقِصَرِهَا وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالْهَوَانِ، وَالْمُطِيعُ قَرِيبٌ مِنْهُ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ، وَالْعَاصِي بَعِيدٌ مِنْهُ بِلا كَيْفٍ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ فِي الآخِرَةِ بِلا كَيْفٍ» اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَكُونُ فِي جِهَةٍ وَلا مَكَانٍ إِنَّمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَكَانِهِمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ تَعَالَى رُؤْيَةً لا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهَا اشْتِبَاهٌ فَلا يَشُكُّونَ هَلِ الَّذِي رَأَوْهُ هُوَ اللَّهُ أَمْ غَيْرُهُ كَمَا لا يَشُكُّ مُبْصِرُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ أَنَّ الَّذِي رَءَاهُ هُوَ الْقَمَرُ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ رُؤْيَةَ الْمُؤْمِنِينَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ وَلَمْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِالْقَمَرِ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجُهَّالِ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَنَا قَدْ أَطَلْنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ الرَّسُولُ بِأَنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَ رُؤْيَةَ الْمُؤْمِنِينَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلا يَفُوتُنَا أَنْ نُحَذِّرَ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ الْمُتَضَمِّنِ سُوءَ الأَدَبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ذَكَرَهُ الإِمَامُ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ حَيْثُ يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَفِيهِ يَقُولُ أَبُو حَيَّانَ الإِمَامُ الْعَلَمُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّمْلِ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ ضِمْنَ أَبْيَاتٍ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ:
فَيُثْبِتُ مَوْضُوعَ الأَحَادِيثِ جَاهِلا ***** وَيَعْزُو إِلَى الْمَعْصُومِ مَا لَيْسَ لائِقًا
وَيَحْتَالُ لِلأَلْفَاظِ حَتَّى يُدِيرَهَا ***** لِمَذْهَبِ سُوءٍ فِيهِ أَصْبَحَ مَارِقًا
لَئِنْ لَمْ تَدَارَكْهُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ ***** لَسَوْفَ يُرَى لِلْكَافِرِينَ مُرَافِقًا
وَيَعْنِي أَبُو حَيَّانَ بِمَذْهَبِ السُّوءِ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا يُبَاهِي بِبِدْعَتِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهَا.
نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلامَةَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمَوْتَ عَلَى السُّنَّةِ، وَالْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ يَشْتَغِلُونَ بِتَفْسِيرِهِ مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ وُجُوبِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ.

وَنَعُودُ إِلَى مَا كُنَّا بِصَدَدِهِ إِذْ أَطَلْنَا لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ، فَنَقُولُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ(16)﴾ أَيْ أَنَّهُمْ بَعْدَ حَجْبِهِمْ عَنِ اللَّهِ يَدْخُلُونَ النَّارَ الْمُحْرِقَةَ.

﴿ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(17)﴾ فَقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ(17)﴾ أَيْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ هَذَا أَيِ الْعَذَابُ ﴿الَّذِي كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(17)﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا.

﴿كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ(18)﴾ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: »اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْفُجَّارِ الْمُطَفِّفِينَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حَالِ الأَبْرَارِ الَّذِينَ لا يُطَفِّفُونَ فَقَالَ ﴿كَلا(18)﴾ أَيْ لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمَهُ أُولَئِكَ الْفُجَّارُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمِنْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ« اهـ. ثُمَّ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْنَ مَحَلُّ كِتَابِ الأَبْرَارِ فَقَالَ ﴿إنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ(18)﴾ أَيْ مَا كُتِبَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ﴿لَفِي عِلّيِّينَ(18)﴾ لَفِي عِلّيِّينَ أَيْ فِي الْجَنَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ(19)﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «أَيْ مَا الَّذِي أَعْلَمَكَ يَا مُحَمَّدُ أَيُّ شَىْءٍ عِلِّيُّونَ؟ عَلَى جِهَةِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ» اهـ.

﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ(20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ(21)﴾ أَيْ مَخْتُومٌ، فَكِتَابُ الأَبْرَارِ لا يُنْسَى وَلا يُمْحَى، وَقَوْلُهُ ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ(21)﴾ أَيْ أَنَّ الْمَلائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ يَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِذَا صُعِدَ بِهِ إِلَى عِلِّيِّينَ كَرَامَةً لِلْمُؤْمِنِ.

﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(22)﴾ أَيْ أَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ وَالصِّدْقِ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ.

﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ(23)﴾ قَالَ السَّمِينُ الْحَلَبِيُّ: «قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿عَلَى الأَرَائِكِ(23)﴾ هُوَ جَمْعُ أَرِيكَةٍ وَالأَرِيكَةُ كُلُّ مَا اتُّكِئَ عَلَيْهِ» اهـ. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا أُعْطُوا مِنَ النَّعِيمِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: «أَثْبَتَ النَّظَرَ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ لأخْتِلافِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ.»

﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24)﴾ قاَلَ الْفَرَّاءُ: «النَّضْرَةُ بَرِيقُ النَّعِيمِ وَنَدَاهُ»، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ لِمَا تَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُسْنِ وَالنُّورِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: «تُعْرَفُ» بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، «نَضْرَة»ُ بِالرَّفْعِ.

﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ(25)﴾ أَيْ أَنَّ أَهْلَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ، أَيْ خَمْرٍ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهِيَ مِنَ الْخَمْرِ أَصْفَاهُ وَأَجْوَدُهُ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: »الرَّحِيقُ« عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ مَشُوبَةٌ بِالْمِسْكِ، وَقِيلَ: الشَّرَابُ الَّذِي لا غَشَّ فِيهِ، ﴿مَّخْتُومٍ(25)﴾ أَيْ عَلَى إِنَائِهِ ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ(26)﴾ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: »خَاتَمُهُ« بِخَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَبَعْدَهَا تَاءٌ مَفْتُوحَةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْخَتْمَ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ الإِنَاءُ مِسْكٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَعُرْوَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: »خَتَمُهُ« بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالتَّاءِ وَبِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ.

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ(26)﴾ أَيْ فِيمَا وُصِفَ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّعِيمِ فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ.

﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ(27)﴾ أَيْ أَنَّ مَا يُمْزَجُ بِهِ ذَلِكَ الرَّحِيقُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَهُوَ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ رَفِيعَةُ الْقَدْرِ وَقِيلَ: التَّسْنِيمُ: الْمَاءُ، وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى﴿ ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ(28)﴾ وَ ﴿عَيْنًا(28)﴾ مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ أَمْدَحُ مُقَدَّرًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: «يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَيُمْزَجُ لِلأَبْرَارِ»، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: «الأَبْرَارُ» هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَالْمُقَرَّبُونَ هُمُ السَّابِقُونَ، وَقِيلَ: يَشْرَبُ بِهَا – أَيْ يَتَلَذَّذُ بِهَا ـ الْمُقَرَّبُونَ وَهُمْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ(29)﴾ قَوْلُهُ ﴿أَجْرَمُوا(29)﴾ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ: أَشْرَكُوا، ﴿كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا(29)﴾ يَعْنِي أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ مِثْلَ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ الطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ وَبِلالٍ وَخَبَّاب وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ﴿يَضْحَكُونَ(29)﴾ أَيْ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ وَالاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ.

﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30)﴾ أَيْ إِذَا مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ أَيِ بِالْكُفَّارِ يَتَغَامَزُونَ أَيْ يُشِيرُونَ أَيِ الْكُفَّارُ بِالْجَفْنِ وَالْحَاجِبِ اسْتِهْزَاءً بِالْمُؤْمِنِينَ.

﴿وَإِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُواْ فَكِهِينَ(31)﴾ يَعْنِي إِذَا رَجَعَ الْكُفَّارُ إِلَى أَهْلِهِمْ رَجَعُوا يَتَفَكَّهُونَ مُتَلَذِّذِينَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالضَّحِكِ مِنْهُمْ. وَفِي قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ «فَكِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ.

﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ(32)﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ إِذَا رَأَوِا الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَّالُونَ لإِيـمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ(33)﴾ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُوَكَّلُوا بِحِفْظِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ.

﴿فَالْيَوْمَ(34)﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)﴾ أَيْ أَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الْكُفَّارِ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَمَا ضَحِكَ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا.

﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ(35)﴾ أَيْ فِي الْجَنَّةِ ﴿يَنْظُرُونَ(35)﴾ إِلَى عَذَابِ الْكُفَّارِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَالنَّعِيمِ.

﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36)﴾ أَيْ هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ وَأُثِيبُوا عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا؟ وَيَكُونُ الْجَوَابُ: أَنْ نَعَمْ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا الاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ.

سورة الانشقاق

سُورَةُ الانْشِقَاقِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَءَايَاتُهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَّن يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إلا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ(1)﴾ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: ﴿إِذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ(1)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: انْشَقَّتْ أَيْ تَتَصَدَّعُ بِالْغَمَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ(1)﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا: تَتَشَقَّقُ السَّمَاءُ عَنِ الْغَمَامِ وَهُوَ الْغَيْمُ الأَبْيَضُ وَتَنْزِلُ الْمَلائِكَةُ فِي الْغَمَامِ.

﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2)﴾ أَيِ اسْتَمَعَتْ وَانْقَادَتْ لِتَأْثِيرِ قُدْرَةِ اللَّهِ انْقِيَادَ الْمِطْوَاعِ الَّذِي يُذْعِنُ لِلأَمْرِ إِذَا أُمِرَ بِهِ، وَقَوْلُهُ ﴿وَحُقَّتْ(2)﴾ أَيْ حُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ رَبَّهَا الَّذِي خَلَقَهَا، وَمَعْنَاهُ جُعِلَتْ حَقِيقَةً بِالاسْتِمَاعِ وَالِانْقِيَادِ أَيْ جَدِيرَةً بِذَلِكَ.

﴿وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ(3)﴾ أَيْ أَرْضُ الْقِيَامَةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُمَدُّ مَدَّ الأَديِمِ وَيُزَادُ فِي سَعَتِهَا، قَالَ الإِمَامُ الْقُشَيْرِيُّ: “بُسِطَتْ بِانْدِكَاكِ ءَاكَامِهَا وَجِبَالِهَا حَتَّى صَارَتْ مَلْسَاء”.

﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ(4)﴾ رَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ فِي بَاطِنِهَا شَىْءٌ”.

﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(5)﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا أَطَاعَتْ فِي إِلْقَاءِ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْمَوْتَى وَتَخَلِّيهَا عَنْهُمْ.

﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6)﴾ قاَلَ النَّسَفِيُّ: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ(6)﴾ خِطَابٌ لِلْجِنْسِ، أَيْ يَا ابْنَ ءَادَمَ إِنَّكَ كَادِحٌ أَيْ جَاهِدٌ فِي عَمَلِكَ سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ أَيْ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ قَالَهُ الْعِزُّ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ، وَقَوْلُهُ ﴿كَدْحًا(6)﴾ قَالَ الرَّاغِبُ: “الْكَدْحُ: السَّعْيُّ وَالْعَنَاء”، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: “الْعَمَلُ وَالْكَسْبُ”، وَقَوْلُهُ ﴿فَمُلاقِيهِ(6)﴾ أَيْ فَمُلاقٍ جَزَاءَ عَمَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْخَيْرِ خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شَرًّا، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ.

﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)﴾ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: “وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُحْسِنُ يُعْطَى كِتَابَ عَمَلِهِ بِيَمِينِهِ”، قَالَ الْحَافِظُ: “وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمِ: “مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَذَاكَ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَذَاكَ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ يُدْخَلُ الْجَنَّة، وَمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَذَاكَ الَّذِي أَوْبَقَ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا الشَّفَاعَةُ فِي مِثْلِهِ”.

﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8)﴾ وَالْحِسَابُ الْيَسِيرُ هُوَ الْحِسَابُ السَّهْلُ الْهَيِّنُ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ فَقَالَ: “أَنْ يَنْظُرَ فِي سَيِّئَاتِهِ وَيَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهَا”، قَالَ الْحَاكِمُ: “صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ”. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: “إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلا هَلَكَ” فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8)﴾ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلا عُذِّبَ” اهـ. قَالَ الْحَافِظُ: “قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: “إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ” أَنَّ الْحِسَابَ الْمَذْكُورَ فِي الآيَةِ إِنَّمَا هُوَ أَنْ تُعْرَضَ أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي سَتْرِهَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي عَفْوِهِ عَنْهَا فِي الآخِرَةِ” اهـ.

﴿وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9)﴾ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالآدَمِيَّاتِ ﴿مَسْرُورًا(9)﴾ مُغْتَبِطًا بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْكَرَامَةِ.

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ(10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11)﴾ قَوْلُهُ ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)﴾ الْمُرَادُ الْكَافِرُ تُغَلُّ يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ وَتُجْعَلُ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَقَوْلُهُ ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11)﴾ أَيْ أَنَّهُ حِينَ يَرَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ يُنَادِي بِالثُّبُورِ وَهُوَ الْهَلاكُ فَيَقُولَ يَا وَيْلاهُ يَا ثُبُورَاهُ.

﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا(12)﴾ أَيْ يَدْخُلُ النَّارَ الشَّدِيدَةَ فَيَصْلَى بِحَرِّهَا أَيْ يَحْتَرِقُ بِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: “وَيُصَلَّى”، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللامِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ “وَيَصْلَى” بِفَتْحِ الْيَاءِ خَفِيفَةً، إلا أَنَّ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ يُمِيلانِهَا.

﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13)﴾ أَيْ أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ كَانَ فِي عَشِيرَتِهِ فِي الدُّنْيَا مَسْرُورًا بَطِرًا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ فَارِغًا عَنِ الآخِرَةِ.

﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَّنْ يَحُورَ(14)﴾ أَيْ أَنَّ الْكَافِرَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ لأَنَّهُ مُكَذِّبٌ بِالْبَعْثِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ.

﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا(15)﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: “بَلَى لَيَحُورَنَّ”، ﴿إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا(15)﴾ أَيْ عَالِمًا بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِ وَبَصِيرًا بِهِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ.

﴿فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ(16)﴾ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: “لا” زَائِدَةٌ، وَالْمُرَادُ: فَأُقْسِمُ، وَالشَّفَقُ: هُوَ الْحُمْرَةُ فِي الأُفُقِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ فَيَدْخُلَ الْعِشَاءُ فِي قَوْلِ الأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْبَيَاضُ بَعْدَ الْغُرُوبِ.

﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ(17)﴾ قَالَ الْحَافِظُ: “أَخْرَجَ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ(17)﴾ قَالَ: وَمَا دَخَلَ فِيهِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ” اهـ، وَالْمُرَادُ بِمَا جَنَّ اللَّيْلُ أَيْ سَتَرَ كَالْجِبَالِ وَالأَشْجَارِ وَالْبِحَارِ وَالأَرْضِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَمَا وَسَقَ(17)﴾ “أَيْ وَمَا جَمَعَ، أَيْ مِمَّا كَانَ بِالنَّهَارِ مُنْتَشِرًا فِي تَصَرُّفِهِ إِلَى مَأْوَاهُ”، قَالَ عِكْرِمَةُ: “لأَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ تَسُوقُ كُلَّ شَىْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ”.

﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ(18)﴾ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: “إِذَا تَمَّ وَاسْتَوَى وَاجْتَمَعَ”، قَالَ الْفَرَّاءُ: “اتِّسَاقُهُ اجْتِمَاعُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيْلَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ إِلَى سِتَّ عَشْرَةَ”.
فَائِدَةٌ: قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ “صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ، أَيَّامُ الْبِيضِ صَبِيحَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ”.

﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ(19)﴾ قَوْلُهُ ﴿لَتَرْكَبُنَّ(19)﴾ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَنَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ عَامِرٍ، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَقَوْلُهُ ﴿طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ(19)﴾ رَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “حَالا بَعْدَ حَالٍ”، وَالْمُرَادُ: الشَّدَائِدُ وَالأَهْوَالُ، الْمَوْتُ ثُمَّ الْبَعْثُ ثُمَّ العَرْضُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: “مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ”، قَوْمٌ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَّضِعِينَ فَارْتَفَعُوا فِي الآخِرَةِ وَقَوْمٌ كَانُوا مُرْتَفِعِينَ فِي الدُّنْيَا فَاتَّضَعُوا فِي الآخِرَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: “لَتَرْكَبَنَّ” بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الإِشَارَةَ إِلَى السَّمَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ ضُرُوبًا مِنَ التَّغْيِيرِ فَتَارَةً كَالْمُهْلِ وَتَارَةً كاَلدِّهَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو الأَشْهَبِ: “لَيَرْكَبَنَّ” بِالْيَاءِ وَنَصْبِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ وَأَبُو عِمْرَانَ وَابْنُ يَعْمُر: “لَيَرْكَبُنَّ” بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ. وَ”عَنْ” بِمَعْنَى: “بَعْدَ”.

﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(20)﴾ فَمَا لَهُمْ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ لا يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْءَانِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ كَمَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ، وَالْمُرَادُ: أَيُّ حُجَّةٍ لِلْكُفَّارِ فِي تَرْكِ الإِيـمَانِ مَعَ وُجُودِ بَرَاهِينِهِ؟!

﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ(21)﴾ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: “أَيْ لا يَتَوَاضَعُونَ وَيَخْضَعُونَ”.

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ(22)﴾ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْءَانِ وَالْبَعْثِ.

﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ(23)﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ : “أَيْ مَا يَجْمَعُونَ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالإِثْمِ”.

﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(24)﴾ قَالَ الزَّجَّاجُ: “أَيِ اجْعَلْ لِلْكُفَّارِ بَدَلَ الْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةِ الْعَذَابَ الأَلِيمَ”.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إلا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(25)﴾ : اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَأَنَّهُ قَالَ لَكِنِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَيْ أَدَّوِا الْفَرَائِضَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ، ﴿لَهُمْ أَجْرٌ(25) ﴾ أَيْ ثَوَابٌ،﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ(25)﴾ أَيْ غَيْرُ مَنْقُوصٍ وَلا مَقْطُوعٍ”، ثُمَّ قَالَ: “وَذَكَرَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿إلا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ(25)﴾ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا”.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم.

سورة البروج

سُورَةُ الْبُرُوجِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِجْمَاعًا وَهِيَ ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)﴾ هَذَا قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَقَالَ الإِمَامُ يَحْيَى بنُ سَلامٍ الْبِصْرِيُّ: ﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)﴾ أَيْ ذَاتِ الْمَنَازِلِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، وَهِيَ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، يَسِيرُ الْقَمَرُ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا يَوْمَيْنِ وَثُلُثَ يَوْمٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرِونَ يَوْمًا ثُمَّ يَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ، وَتَسِيرُ الشَّمْسُ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا شَهْرًا وَهِيَ: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ. وَالْبُرُوجُ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: الْقُصُورُ، قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/ 78]. وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلا وَهِيَ: الشَّرَطَانُ، وَالبُطَيْنُ، وَالثُّرَيَّا، وَالدَّبَرَانُ، وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنَّثْرَةُ، وَالطَّرْفُ، وَالْجَبْهَةُ، وَالزُّبْرَةُ، وَالصَّرْفَةُ، وَالْعَوَّاءُ، وَالسَّمَاكُ، وَالْغَفْرُ، وَالْزُّبَانَى، وَالإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالْشَّوْلَةُ، وَالنَّعَائِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدُ الذَّابِحِ، وَسَعْدُ بُلَعَ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الأَخْبِيَةِ، وَالْفَرْعُ الْمُقَدَّمُ، وَالْفَرْعُ الْمُؤَخَّرُ، وَبَطْنُ الْحُوتِ.

﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ(2)﴾ أَيِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَهُوَ قَسَمٌ ءَاخَرُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةُ إِجْمَاعًا.

﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ(3)﴾ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، فَعَلَى هَذَا سُمِّيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ شَاهِدًا لانَّهُ يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ فِيهِ، وَسُمِّيَ يَوْمُ عَرَفَةَ مَشْهُودًا لانَّ النَّاسَ يَشْهَدُونَ فِيهِ مَوْسِمَ الْحَجِّ وَتَشْهَدُهُ الْمَلائِكَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ: الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ: وَجَوَابُ الْقَسَمِ ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾ وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ مُؤَكِّدٌ لِلْقَسَمِ.

﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ(4)﴾ أَيْ لُعِنُوا، وَالأُخْدُودُ شَقٌّ يُشَقُّ فِي الأَرْضِ وَالْجَمْعُ أَخَادِيد، وَهَؤُلاءِ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ خَدُّوا أُخْدُودًا فِي الأَرْضِ وَسَجَّرُوهُ نَارًا وَعَرَضُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا فَمَنْ رَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ تَرَكُوهُ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الإِيـمَانِ أَحْرَقُوهُ، وَأَصْحَابُ الأُخْدُودِ هُمُ الْمُحْرِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ مَلِكٌ خَدَّ لِقَوْمٍ أَخَادِيدَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ جَمَعَ فِيهَا الْحَطَبَ وَأَلْهَبَ فِيهَا النِّيرَانَ فَأَحْرَقَ بِهَا قَوْمَهُ، وَقَعَدَ الَّذِينَ حَفَرُوهَا حَوْلَهَا فَرَفَعَ اللَّهُ النَّارَ إِلَى الْكَفَرَةِ الَّذِينَ حَفَرُوهَا فَأَحْرَقَتْهُمْ وَنَجَا مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ(10)﴾ أَيْ فِي الآخِرَةِ ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَحْرَقَتْ مَنْ فِيهَا وَنَجَا الَّذِينَ فَوْقَهَا، وَقَرِيبًا مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَصْحَابِ الأُخْدُودِ أَقْوَالا فَوْقَ الْعَشَرَةِ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَالَ: “رَوَى الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ: كَانَ الْمَجُوسُ أَهْلَ كِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ وَعِلْمٍ يَدْرُسُونَهُ فَشَرِبَ أَمِيرُهُمُ الْخَمْرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا أَهْلَ الطَّمَعِ فَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّ ءَادَمَ كَانَ يُنْكِحُ أَوْلادَهُ بَنَاتَهُ فَأَطَاعُوهُ وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ”. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: “رَوَى عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ أَبْزَى: “لَمَّا هَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ فَارِس قَالَ عُمَرُ: اجْتَمِعُوا، فَقَالَ: إِنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَنَضَعَ عَلَيْهِمْ، وَلا مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ فَنُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ” فَذَكَرَ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ وَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ”، وَقَالَ فِي ءَاخِرِهِ: “فَوَضَعَ الأُخْدُودَ لِمَنْ خَالَفَهُ”.

﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ(5)﴾ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا بَدَلٌ مِنَ الأُخْدُودِ كَأَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ أَصْحَابُ النَّارِ، قَالَ الرَّاغِبُ: “الْوَقُودُ يُقَالُ لِلْحَطَبِ الْمَجْعُولِ لِلْوُقُودِ وَلِمَا حَصَلَ مِنَ اللَّهَبِ”.

﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6)﴾ أَيْ عِنْدَ النَّارِ وَكَانَ الْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ جُلُوسًا عَلَى الْكَرَاسِيِّ عِنْدَ الأُخْدُودِ يَعْرِضُونَ الْكُفْرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ أَبَى أَلْقَوْهُ.

﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ(7)﴾ أَيْ حُضُورٌ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الآيَاتِ بِقِصَّةِ قَوْمٍ بَلَغَ مِنْ إِيـمَانِهِمْ وَيَقِينِهِمْ أَنْ صَبَرُوا عَلَى التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ.

﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(8)﴾ أَيْ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ إلا لإِيـمَانِهِمْ بِاللَّهِ، ﴿الْعَزِيزِ(8)﴾ الْغَالِب و ﴿الْحَمِيدِ(8)﴾ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ(9)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ واَلأَرْضَ وَهُوَ الْمَالِكُ لَهُمَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا صَنَعُوا، فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى مَا فَعَلُوا.

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا(10) ﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ(10)﴾ أَيْ أَحْرَقُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)﴾، ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا(10)﴾ مِنْ شِرْكِهِمْ وَفِعْلِهِمْ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ(10)﴾ أَيْ بِكُفْرِهِمْ ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)﴾ بِمَا أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَكِلا الْعَذَابَيْنِ فِي جَهَنَّمَ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ، وَقَالَ الْبَعْضُ: عَذَابُ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ خَرَجَتِ النَّارُ فَأَحْرَقَتْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ(11)﴾ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الآيَةِ الْعُمُومُ وَالْمُرَادُ بِالْفَوْزِ الْكَبِيرِ الْجَنَّةُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَازُوا مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَعَذَابِ الآخِرَةِ فَأَكْبِرْ بِهِ فَوْزًا، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ النَّارَ لَمْ تُحْرِقْهُمْ إِنَّمَا أَحْرَقَتِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ حَضَرُوا، أَيْ الْمَلِكَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ.

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ إِذَا أَخَذَ الظَّلَمَةَ وَالْجَبَابِرَةَ لِشَدِيدٌ.

﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ(13)﴾ أَيْ هُوَ خَلَقَهُمْ ابْتِدَاءً ثُمَّ يُعِيدُهُمْ بَعْدَ أَنْ صَيَّرَهُمْ تُرَابًا.

﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ(14)﴾ وَلَمَّا ذَكَرَ شِدَّةَ بَطْشِهِ ذَكَرَ كَوْنَهُ غَفُورًا سَاتِرًا لِذُنُوبِ عِبَادِهِ وَدُودًا لَطِيفًا بِهِمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ.

﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ(15)﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ﴿الْمَجِيدِ(15)﴾ بِالْخَفْضِ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ الْعَرْشِ، وَغَيْرُهُمْ بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَظِيمٌ تَامُّ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَقَدْ خَصَّصَ اللَّهُ الْعَرْشَ بِأَنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيْثُ الْحَجْمُ وَاللَّهُ مَالِكُهُ وَقَاهِرُهُ وَحَافِظُهُ وَهُوَ تَعَالَى قَاهِرٌ لِمَا دُونَ الْعَرْشِ بِالأَوْلَى كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/ 129] وَلا يَجُوزُ أَنَّ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ لِلْعَرْشِ بِالذِّكْرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/ 5] بَلْ إِنَّ اعْتِقَادَ السَّلَفِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ أَخْذًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/ 11].
وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ الْحَافِظُ الشَّهِيرُ فِي كِتَابِهِ الاعْتِقَادِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: “يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ بِاسْتِوَاءِ اعْتِدَالٍ عَنِ اعْوِجَاجٍ وَلا اسْتِقْرَارٍ فِي مَكَانٍ وَلا مُمَاسَّةٍ لِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، لَكِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ بِلا كَيْفٍ بِلا أَيْنٍ، بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَأَنَّ إِتْيَانَهُ لَيْسَ بِإِتْيَانٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَأَنَّ مَجِيئَهُ لَيْسَ بِحَرَكَةٍ، وَأَنَّ نُزُولَهُ لَيْسَ بِنُقْلَةٍ، وَأَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَأَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِصُورَةٍ، وَأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ، وَأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَتْ بِحَدَقَةٍ، وَإِنَّمَا هَذِهِ أَوْصَافٌ جَاءَ بِهَا التَّوْقِيفُ فَقُلْنَا بِهَا وَنَفَيْنَا عَنْهَا التَّكْيِيفَ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/ 11]، وَقَالَ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سُورَةَ الإِخْلاص/ 4]، وَقَالَ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/ 65] “اهـ.
ثُمَّ رَوَى رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ الأَوْزَاعِيَّ وَمَالِكًا وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بنَ سَعْدٍ سُئِلُوا عَنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ النُّزُولِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَقَالُوا: “أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ”، وَقَالَ: “إِنَّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِالْكَيْفِ اقْتَضَى ذَلِكَ تَشْبِيهَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ فِي أَوْصَافِ الْحَدَثِ”. انْتَهَى كَلامُ الْبَيْهَقِيِّ وَهُوَ نَفِيسٌ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ الاسْتِوَاءَ بِالاسْتِيلاءِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.

﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(16)﴾ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ.

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ(17)﴾ أَيْ قَدْ أَتَاكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ الْجُمُوعِ الطَّاغِيَةِ فِي الأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ فَكَذَلِكَ يَحِلُّ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَذَابِ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْجُنُودِ، وَهُمُ الْجُمُوعُ الَّذِينَ أَعَدُّوا لِقِتَالِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ.

ثُمَّ بَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ هُمْ فَقَالَ ﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ(18)﴾ فَهَذَا بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ.

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ(19)﴾ أَيْ مُشْرِكُو مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَلِلْقُرْءَانِ فَهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ.

﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ(20)﴾ أَيْ أَنَّهُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ شَىْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.

﴿بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ(21)﴾ أَيْ كَريِمٌ لانَّهُ كَلامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِشِعْرٍ وَلا كَهَانَةٍ وَلا سِحْرٍ.

﴿فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ(22)﴾ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مِنْهُ نُسِخَ الْقُرْءَانُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ، فَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: “مَحْفُوظٌ” رَفْعًا عَلَى نَعْتِ ﴿قُرْءَان(21)﴾، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَيِ الْقُرْءَانَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَوْحٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ هَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم.

سورة الطارق

سُورَةُ الطَّارِقِ
مَكِّيَّةٌ إِجْمَاعًا وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَةَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ(1)﴾ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ هُمَا قَسَمَانِ: ﴿وَالسَّمَاءِ(1)﴾ قَسَمٌ، ﴿وَالطَّارِقِ(1)﴾ قَسَمٌ. وَالسَّمَاءُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ، وَالطَّارِقُ هُوَ النَّجْمُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لانَّهُ يَطْرُقُ أَيْ يَطْلُعُ لَيْلا وَمَا أَتَاكَ لَيْلا فَهُوَ طَارِقٌ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمِنْهُ حَدِيثُ التَّعَوُّذِ وَفِيهِ: «وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ» رَوَاهُ مَالِكٌ.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ(2)﴾ أَيْ مَا أَعْلَمَكَ مَا الطَّارِقُ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ مِنْهُ تَفْخِيمُ شَأْنِ هَذَا النَّجْمِ، قَالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْءَانِ: “وَمَا أَدْرَاكَ” فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَكُلُ شَىْءٍ قَالَ فِيهِ: “وَمَا يُدْرِيكَ” فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِهِ.

﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ(3)﴾ أَيْ الْمُضِيءُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فَقَالَ الْحَسَنُ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لانَّهَا كُلَّهَا ثَوَاقِبُ أَيْ ظَاهِرَةُ الضَّوْءِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْمُعْظَمُ عَلَيْهِ.

﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(4)﴾ أَيْ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ عَلَيْهَا حَافِظٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: يَحْفَظُونَ عَلَى الإِنْسَانِ عَمَلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(4)﴾ إلا عَلَيْهَا حَافِظٌ، قَالَ الْحَافِظُ: “رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ” اهـ.

﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)﴾ أَيْ مِنْ أَيِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى فَلْيَنْظُرْ نَظَرَ التَّفَكُّرِ وَالاسْتِدْلالِ لِيَعْرِفَ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَهُ مِنْ نُطْفَةٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [سُورَةَ الرُّوم/27] أَيْ وَهُوَ هَيِّنٌ عَلَيْهِ.

﴿خُلِقَ مِنْ مَّاءٍ دَافِقٍ(6)﴾ أَيْ ذِي انْدِفَاقٍ، وَهُوَ عَلَى النِسْبَةِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، وَالدَّفْقُ الصَّبُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَائِلٌ بِسُرْعَةٍ قَالَهُ الرَّاغِبُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ الدَّافِقِ مَنِّيُّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لَمَّا امْتَزَجَا فِي الرَّحِمِ وَاتَّحَدَا عَبَّرَ عَنْهُمَا بِمَاءٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الأَعْمَشِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يُخْلَقُ الْعَظْمُ وَالْعَصَبُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَيُخْلَقُ الدَّمُ وَاللَّحْمُ مِنْ مَاءِ الْمَرْأَةِ. وَقِيلَ: دَافِقٌ بِمَعْنَى مَدْفُوقٍ، عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْحِجَازِ مِنْ جَعْلِ الْمَفْعُولِ فَاعِلا إِذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ نَعْتٍ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ وَالْمُرَادُ مَرْضِيَّةٌ.

﴿يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(7)﴾ أَيْ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ الدَّافِقَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ أَيِ الظَّهْرِ لِلرَّجُلِ وَالتَّرَائِبِ لِلْمَرْأَةِ قَالَهُ الثَّوْرِيُّ، وَهِيَ عِظَامُ صَدْرِهَا.

﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ(8)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الإِنْسَانَ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقِيلَ مِنْ حَالِ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الصِّبَا وَمِنَ الصِّبَا إِلَى النُّطْفَةِ.

﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ(9)﴾ أَيْ تُخْتَبَرُ وَتُكْشَفُ السَّرَائِرُ أَيْ ضَمَائِرُ الْقُلُوبِ وَهِيَ مَا أَكَنَّتْهُ الْقُلُوبُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالنِّيَّاتِ وَمَا أَخْفَتْهُ الْجَوَارِحُ مِنَ الأَعْمَالِ.

﴿فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ(10)﴾ أَيْ فَمَا لِهَذَا الإِنْسَانِ الْكَافِرِ لِتَكْذِيبِهِ بِالْبَعْثِ مِنْ قُوَّةٍ يَمْتَنِعُ بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلا نَاصِرٍ يَنْصُرُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْعَذَابَ.

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ(11)﴾ أَيْ الْمَطَرِ بَعْدَ الْمَطَرِ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿ذَاتِ الرَّجْعِ(11)﴾: سَحَابٌ يَرْجِعُ بِالْمَطَرِ.

﴿وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ(12)﴾ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿ذَاتِ الصَّدْعِ(12)﴾ الأَرْضُ تَتَصَّدَعُ بِالنَّبَاتِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالشَّجَرِ وَالثِّمَارِ وَالأَنْهَارِ.

﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ(13)﴾ أَيْ لَحَقُّ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْءَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

﴿وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ(14)﴾ أَيْ بِاللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ جِدٌّ وَلَمْ يَنْزِلْ بِاللَّعِبِ.

﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15)﴾ يَعْنِي اللَّهُ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ يَحْتَالُونَ وَهَذَا الاحْتِيَالُ هُوَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ عَلَى الْمَكْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا(16)﴾ أَيْ أُجَازِيهِمْ عَلَى كَيْدِهِمْ بِأَنْ أَسْتَدْرِجَهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونْ فَأَنْتَقِمَ مِنْهُمْ، وَسُّمِّيَ هَذَا الْجَزَاءُ كَيْدًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/54] وَقَوْلِهِ ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [سُورَةَ البَقَرَة/15] قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ، أَيْ يُجَازِيهِمْ عَلَى مَكْرِهِمْ وَالآيَةُ الأُخْرَى مَعْنَاهَا يُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ وَلا يُسَمَّى اللَّهُ مَاكِرًا وَلا مُسْتَهْزِئًا.

﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(17)﴾ أَيِ انْتَظِرْ يَا مُحَمَّدُ عُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ وَلا تَسْتَعْجِلْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(17)﴾ أَيْ قَلِيلا، وَقَدْ أَخَذَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِبَدْرٍ وَنُسِخَ الإِمْهَالُ بِآيَةِ السَّيْفِ ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/5] أَيِ الأَمْرُ بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ قَالَهُ ابْنُ الْبَارِزِيِّ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَإِذْ قُلْنَا إِنَّهُ وَعِيدٌ فَلا نَسْخَ.

سورة الأعلى

سُورَةُ الأَعْلَى
مَكِّيَّةٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إِجْمَاعًا وَهِيَ تِسْعَ عَشْرَةَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ “هَلا صَلَّيْتَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى”.

﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1)﴾ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ الْجُمْهُورُ مَعْنَاهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، وَقَالَ الْبَعْضُ: نَزِّهْ رَبَّكَ عَمَّا لا يَلِيقُ بِهِ، وَالأَعْلَى صِفَةٌ لِرَبِّكَ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ فِي اشْتِقَاقِ أَسْمَاءِ اللَّهِ: الْعَلاءُ: الرِّفْعَةُ وَالسَّنَاءُ وَالْجَلالُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بنُ أَحْمَدَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْعَلِيُّ الأَعْلَى الْمُتَعَالِي ذُو الْعَلاءِ وَالْعُلُوِّ، فَأَمَّا الْعَلاءُ: فَالرِّفْعَةُ، وَالْعُلُوُّ: الْعَظَمَةُ، ثُمَّ قَالَ الزَّجَاجِيُّ: وَالْعَلِيُّ وَالْعَالِي أَيْضًا الْقَاهِرُ الْغَالِبُ لِلأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ مَعْنَى الأَعْلَى نِسْبَةَ عُلُوِّ الْمَكَانِ لِلَّهِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فيِ الْفَتْحِ: «وَقَدْ تَقَرَرَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى مَكَانٍ يَسْتَقِّرُ فِيهِ فَقَدْ كَانَ وَلا مَكَانَ» اهـ.
وَاعْلَمْ أَرْشَدَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ الشَّأْنَ إِنَّمَا هُوَ فِي عُلُوِّ الْقَدْرِ لا عُلُوِّ الْمَكَانِ أَلا تَرَى أَنَّ الأَنْبِيَاءَ عَاشُوا عَلَى الأَرْضِ وَدُفِنُوا فِيهَا سِوَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَإِنَّهُ حَيُّ وَهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتِ بَلْ أَفْضَلُ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ.

﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَسَوَّاهُ بِأَنْ جَعَلَ مَخْلُوقَاتِهِ مُتَنَاسِبَةَ الأَجْزَاءِ غَيْرَ مُتَفَاوِتَةٍ.

﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: قَدَّرَ لِلإِنْسَانِ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ وَهَدَى الأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى(4)﴾ أَيْ أَنْبَتَ الْعُشْبَ وَمَا تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ.

﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى(5)﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا صَارَ النَّبْتُ يَبِيسًا فَهُوَ غُثَاءٌ، وَالأَحْوَى: الَّذِي قَدِ اسْوَدَّ مِنَ الْعِتْقِ.

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى(6) إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(7)﴾ أَيْ نَحْنُ نَضْمَنُ لَكَ أَنْ تَحْفَظَ الْقُرْءَانَ فَلا تَنْسَى مِنَ الْقُرْءَانِ إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: ﴿إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ [سُورَةَ هُود/107] أَيْ مِمَّا قَضَى اللَّهُ نَسْخَهُ وَأَنْ تَرْتَفِعَ تِلاوَتُهُ وَحُكْمُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(7)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَمَا يَخْفَى مِنْهُمَا.

﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى(8)﴾ أَيْ نُسَهِّلُ عَلَيْكَ أَفْعَالَ الْخَيْرِ وَأَقْوَالَهُ وَنَشْرَعُ لَكَ شَرْعًا سَهْلا سَمْحًا مُسْتَقِيمًا عَدْلا لا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلا حَرَجَ وَلا عُسْرَ.

﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَّفَعَتِ الذِّكْرَى(9)﴾ أَيْ عِظْ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْقُرْءَانِ إِنْ قُبِلَتِ الْمَوْعِظَةُ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَعَلَّ هَذِهِ الشَّرْطِّيَة لِلإِشْعَارِ بِأَنَّ التَّذْكِيرَ إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا ظُنَّ نَفْعُهُ.

﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10)﴾ أَيْ سَيَتَّعِظُ بِالْقُرْءَانِ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ.

﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى(11)﴾ أَيْ أَنَّ الشَّقِيَّ الْكَافِرَ سَيَتَجَنَّبُ الذِّكْرَى وَيَبْعُدُ عَنْهَا.

﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12)﴾ أَيْ الْعَظِيمَةَ الْفَظِيعَةَ لانَّهَا أَشَدُّ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا، وَهَذَا وَصْفٌ لِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الْكَافِرِ فِي الآخِرَةِ، وَنَارُ الدُّنْيَا هِيَ الصُّغْرَى.

﴿ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى(13)﴾ أَيْ لا يَمُوتُ الْكَافِرُ فَيَسْتَرِيحُ مِنَ الْعَذَابِ وَلا يَحْيَى حَيَاةً طَيِّبَةً هَنِيئَةً.

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14)﴾ أَيْ فَازَ مَنْ تَطَهَّرَ مِنَ الشِّرْكِ بِالإِيـمَانِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15)﴾ أَيْ ذَكَرَ اللَّهَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ.

﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(16)﴾ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ يُفَضِّلُونَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ لانَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.

﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)﴾ أَيْ أَنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُؤْمِنينَ خَيْرٌ وَأَبْقَى مِنَ الدُّنْيَا لِطُلابِهَا.

﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى(18)﴾ أَيْ أَنَّ الْفَلاحَ لِمَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِهِ فَصَلَّى فِي الصُّحُفِ الأُولَى كَمَا هُوَ فِي القُرْءَانِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ هَذَا الْوَعْظَ لَفِي الصُّحُفِ الْمُتَقَدِّمَةِ لانَّ التَّوْحِيدَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ لا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الشَّرَائِعِ.

﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(19)﴾ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ عَشْرُ صُحُفٍ نَزَلَتْ عَلَى ِإبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَفِيهِ أَنَّ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ: عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ، وَمَنْ حَسَبَ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامُهُ إِلا فِيمَا يَعْنِيهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

سورة الغاشية

سُورَةُ الْغَاشِيَةِ
مَكِّيَّةٌ إِجْمَاعًا وَهِيَ سِتٌّ وَعِشْرُونَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إلا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)﴾ أَيْ قَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وَ﴿هَلْ(1)﴾ بِمَعْنَى »قَدْ« قَالَهُ قُطْرُب، وَالْغَاشِيَةُ هِيَ الْقِيَامَةُ تَغْشَى النَّاسَ بِالأَهْوَالِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاس، وَقَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: هِيَ النَّارُ تَغْشَى وُجُوهَ الْكُفَّارِ.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)﴾ أَيْ تَكُونُ وُجُوهُ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَلِيلَةً بِالْعَذَابِ.

﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3)﴾ قَالَ القرْطُبِيُّ: وَهَذَا فِي الدُّنْيَا لانَّ الآخِرَةَ لَيْسَتْ دَارَ عَمَلٍ، وَ﴿نَّاصِبَةٌ(3)﴾ أَيْ تَعِبَةٌ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْكُفْرِ وَمَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ كُلُّ الْكُفَّارِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ﴿خَاشِعَةٌ(2)﴾ فِي النَّارِ ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3)﴾ فِي النَّارِ وَذَلِكَ بِمُعَالَجَةِ السَّلاسِلِ وَالأَغْلالِ وَخَوْضِهَا فِي النَّارِ كَمَا تَخُوضُ الإِبِلُ فِي الْوَحْلِ.

﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ يُقَاسُونَ حَرَّ النَّارِ، قَالَهُ الْخَلِيلُ. وَيُقَالُ: صَلَيْتُ الشَّاةَ: شَوَيْتُهَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَوْقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أَوْقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أَوْقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ” رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. اللَّهُمَ أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ.

﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ(5)﴾ قَالَ الْحَسَنُ: مِنْ عَيْنٍ قَدْ ءَانَ حَرُّهَا.

﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إلا مِنْ ضَرِيعٍ(6)﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: الضَّرِيعُ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ لاصِقٍ بِالأَرْضِ تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ الشِّبْرِق إِذَا كَانَ رَطْبًا، فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ الضَّرِيعُ لا تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ لِخُبْثِهِ، قَالَ الْمُفَّسِرُونَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ إِبِلَنَا لَتَسْمَنُ عَلَى الضَّرِيعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ(7)﴾ وَهَذَا فِيهِ تَكْذِيبٌ لِلْمُشْرِكِينَ.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ(8)﴾ أَيْ مُتَنَعِّمَةٌ ذَاتُ نِعْمَةٍ وَنَضَارَةٍ.

﴿لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9)﴾ أَيْ رَضِيَتْ لِعَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ جَزَاؤُهُ الْجَنَّةَ.

﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(10)﴾ أَيْ مَكَانًا وَمَكَانَةً، قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: أَنْشَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الشِّعْرَ فَأَعْجَبَهُ:
بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَسَنَاؤُنَا *** وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِلَى أَيْنَ الْمَظْهَرُ يَا أَبَا لَيْلَى؟” قُلْتُ: إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: “أَجَلْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى”.

﴿لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً(11)﴾ قَالَ قَتَادَةُ: لا يُسْمَعُ فِيهَا بَاطِلٌ وَلا مَأْثَمٌ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(12)﴾ أَيْ بِالْمَاءِ، وَأَرَادَ عُيُونًا لانَّ الْعَيْنَ اسْمُ جِنْسٍ وَالْعُيُونُ الْجَارِيَةُ هُنَاكَ كَثِيرَةٌ.

﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ(13)﴾ أَيْ عَالِيَةٌ فِي الْهَوَاءِ وَذَلِكَ لاجْلِ أَنْ يَرَى الْمُؤْمِنُ إِذَا جَلَسَ عَلَيْهَا جَمِيعَ مَا أَعْطَاهُ رَبُّهُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ سُرُرٌ أَلْوَاحُهَا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِ وَالْيَاقُوتِ مُرْتَفِعَةٌ فِي السَّمَاءِ، والسُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ.

﴿وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ(14)﴾ الْكُوبُ: كُوزٌ مُسْتَدِيرُ الرَّأْسِ لا أُذُنَ لَهُ، وَجَمْعُهَا أَكْوَابٌ، وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى حَافَّاتِ الْعُيُونِ مُعَدَّةٌ لِشُرْبِهِمْ.

﴿وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15)﴾ فِي الْقَامُوسِ: النُّمْرُقُ وَالنُّمْرُقَةُ: الْوِسَادَةُ الصَّغِيرَةُ، وَجَمْعُهَا نَمَارِقُ أَيْ وَسَائِدُ صُفَّ بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ لِلاسْتِنَادِ إِلَيْهَا وَالاتِّكَاءِ عَلَيْهَا.

﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ(16)﴾ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالزَّرَابِيُّ: النَّمَارِقُ وَالْبُسُطُ، أَوْ كُلُّ مَا بُسِطَ وَاتُّكِئَ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ زِرْبِيّ بِالْكَسْرِ وَيُضَمُّ، وَهَذِهِ الْبُسُطُ عِرَاضٌ فَاخِرَةٌ كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ هُنَا وَهُنَاكَ فِي الْمَجَالِسِ. اللَّهُمَّ أَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ.

﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ(17)﴾ أَيْ نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَالْمُرَادُ بِهِ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)﴾ الْمُرَادُ بِهَا الْجِمَالُ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الإِبِلَ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا لانَّ الْعَرَبَ لَمْ يَرَوْا بَهِيمَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلانَّهَا كَانَتْ أَنْفَسَ أَمْوَالِهِمْ وَلانَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا مَا تَفَرَّقَ مِنَ الْمَنَافِعِ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَكْلِ لَحْمِهَا، وَشُرْبِ لَبَنِهَا، وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا، وَالتَّنَقُّلِ عَلَيْهَا إِلَى الْبِلادِ الشَّاسِعَةِ، وَعَيْشِهَا بِأَيِّ نَبَاتٍ أَكَلَتْهُ، وَتَحْتَمِلُ الْعَطَشَ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَطَوَاعِيَّتِهَا لِمَنْ يَقُودُهَا وَلَوْ لِلصَّبِيِّ الصَّغِيرِ مَعَ كَوْنِهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَنْهَضُ بَعْدَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا الأَحْمَالُ الثِّقَالُ وَهِيَ جَالِسَةٌ، وَتَتَأَثَّرُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ، وَكَثِيرٌ حَنِينُهَا وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ أَنَّهُ سَمِعَ بِحَنِينِ الْجَمَلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُكَائِهِ بِحَضْرَتِهِ فَجَرَّبَ ذَلِكَ بِأَنْ مَدَحَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبَهَا فَصَارَتِ الدُّمُوعُ الْغِلاظُ تَنْهَمِرُ مِنْ عُيُونِهَا، وَلَقَدْ صَدَقَ الْحَسَنُ البِصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَوَى عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِيثَ حَنِينِ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِلَيْهِ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ عَنِ الْجِذْعِ إِلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الِجذْعُ، فَأَتَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَدَهُ الشَّرِيفَةَ عَلَيْهِ فَصَارَ يَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ، فَإِنَّ الْحَسَنَ كَانَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)﴾ أَيْ رَفْعًا بَعِيدَ الْمَدَى بِلا عَمَدٍ.

﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19)﴾ عَلَى الأَرْضِ نَصْبًا ثَابِتَةً فَهِيَ رَاسِخَةٌ لا تَمِيلُ مَعَ طُولِهَا.

﴿وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)﴾ أَيْ بُسِطَتْ وَوُسِّعَتْ.

﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَذَكِّرْ(21)﴾ أَيْ عِظْ وَقَوْلُهُ ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21)﴾ أَيْ وَاعِظٌ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ أَمْرٌ بِغَيْرِ التَّذْكِيرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ(22)﴾ أَيْ بِمُسَلَّطٍ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، فَتُقَاتِلَهُمْ، قَالَ ابْنُ الْبَارِزِيِّ: ثُمَّ نَسَخَتْهَا ءَايَةُ السَّيْفِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ ءَايَاتُ الْقِتَالِ أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ بَلْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ عَنْ جُبْنٍ حِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُ بِالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ يَنْتَظِرُ الإِذْنَ بِالْقِتَالِ، وَقَبْلَهُ قَدْ قَاتَلَ الأَنْبِيَاءُ كُفَّارًا كَثِيرِينَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَاهَا: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَلَّطٍ فَتُكْرِهَهُمْ عَلَى الإِيـمَانِ فَعَلَى هَذَا لا نَسْخَ وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحُلْوَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِمُصَيْطِرٍ بِالسِّينِ.

﴿إلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ(23)﴾ مَعْنَاهُ وَلَكِنْ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الإِيـمَانِ وَكَفَرَ بِاللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ قَاهِرُهُ، فَهُنَا إلا لا يَصِحُّ كَوْنُهَا بِمَعْنَى الاسْتِثْنَاءِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ لانَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَيْطِرٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مُصَيْطِرًا عَلَيْهِمْ لَكِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ لِكُفْرِهِمْ.

﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ(24)﴾ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا لا يَخْرُجُ مِنْهَا لا يَحْيَا حَيَاةً هَنِيئَةً وَلا يَمُوتُ فَيَرْتَاحُ، وَهُوَ الأَكْبَرُ لأِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا.

﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِيَابَهُمْ مَرْجِعَهُمْ، أَيْ مَصِيرَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِيَّابَهُمْ.

﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾ أَيْ جَزَاءَهُمْ.

سورة الفجر

سُورَةُ الْفَجْرِ
مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَهِيَ ثَلاثُونَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

﴿وَالْفَجْرِ(1)﴾ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ انْفِجَارُ الصُّبْحِ مِنْ أُفُقِ الْمَشْرِقِ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى بِهِ كَمَا أَقْسَمَ بِالصُّبْحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/18]، وَيُرَادُ بِالْفَجْرِ هُنَا الْجِنْسُ، أَيْ فَجْرِ كُلِّ يَوْمٍ.

﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)﴾ وَهذَا قَسَمٌ ثَانٍ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْلَيَالِ الْعَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ لانَّ فِي الْغَالِبِ فِيهَا اللَّيْلَةَ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)﴾ عَشْرِ الأَضْحَى، وَهِيَ الْعَشْرُ الأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي صَّحِيحَيْ أَبِي عُوَانَةَ وَابْنِ حِبَّانَ: “مَا مِنْ أَيَامٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ”.

﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ(3)﴾ رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئَلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ: “هِيَ الصَّلاةُ مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ”. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَالْوِتْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ(4)﴾ قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا سَارَ أَيْ مُقْبِلا ومُدْبِرًا، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَيْلَةً مَخْصُوصَةً بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ.

﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ(5)﴾ أَيْ لِذِي حِجًى يَعْنِي الْعَقْلَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَوْلُهُ ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ(5)﴾ اسْتِفْهَامٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا لُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فِيهِ عَجَائِبُ وَدَلائِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقْسَمَ بِهِ لِدِلالَتِهِ عَلَى خَالِقِهِ.

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)﴾ أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، وَالْمُرَادُ أَوْلادُ عَادٍ وَهُمْ عَادٌ الأُولَى أَشَارَ اللَّهُ إِلَى مَصَارعِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ تَوَعُّدُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَنَصْبُ الْمَثَلِ لَهاَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَةً مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ يَعْمَر بِعَادِ إِرَمَ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الإِضَافَةِ.

﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: “قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)﴾ يَعْنِي الْقَدِيمَةَ، وَالْعِمَادُ أَهْلُ عَمُودٍ لا يُقِيمُونَ” اهـ. أَيْ كَانُوا أَهْلَ خِيَامٍ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَيَعْنِي بِالْقَدِيمَةِ عَادًا الأُولَى، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: “وَأَصَّحُ هَذِهِ الأَقْوَالِ الأَوَّلُ أَنَّ إِرَمَ اسْمُ الْقَبِيلَةِ وَهُمْ إِرَمُ بنُ سَامِ بنِ نُوحٍ، وَعَادٌ هُمْ بَنُو عَادِ بنِ عَوْصِ بنِ إِرَمَ، وَمُيِّزَتْ عَادٌ بِالإِضَافَةِ لإِرَمَ عَنْ عَادٍ الأَخِيرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الأَحْقَافِ أَنَّ عَادًا قَبِيلَتَانِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم/50]” اهـ.

﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ(8)﴾ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ فِي الطُّولِ وَالْقُوَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو عِمْرَانَ لَمْ تَخْلُقْ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَفْعِ اللامِ وَمِثْلَهَا بِنَصْبِ اللامِ.

﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9)﴾ ثَمُودُ هُمْ قَوْمُ نَّبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَدْ سُمُّو بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ بنِ عَابِرِ بنِ إِرَمَ ابْنِ سَامِ بنِ نُوحٍ، وَمَعْنَى ﴿جَابُوا الصَّخْرَ(9)﴾ خَرَقُوهُ وَنَحَتُوهُ فَاتَّخَذُوا فِي الصَّخْرِ الْبُيُوتَ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف]. وَكَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاقَةِ الَّتِي شَرَّفَهَا اللَّهُ بِأَنْ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهَا ءَايَةً مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء/155] قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: “فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا شَرِبَتْ مَاءَهُمْ كُلَّهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَتَسْقِيهِمُ اللَّبَنَ ءَاخِرَ النَّهَارِ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِمْ كَانَ لانْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَرْضِهِمْ، لَيْسَ لَهُمْ فِي يَوْمِ وُرُودِهَا أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ شِرْبِهَا شَيْئًا وَلا لَهَا أَنْ تَشْرَبَ فِي يَوْمِهِمْ مِنْ مَائِهِمْ شَيْئًا”، وَالْمُرَادُ بِالْوَادِ هُنَا وَادِي الْقُرَى وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَكَانَتْ قَدِيمًا مَنَازِلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَبِهَا أَهْلَكُهُمُ اللَّهُ.

﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ(10)﴾ كَانَ فِرْعَوْنُ يَتِدُ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ يَشُدُّ إِلَيْهَا يَدَيْ وَرِجْلَيْ مَنْ يُعَذِبُهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَتَدَ فِرْعَوْنُ لامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًى عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَامْرَأَتُهُ اسْمُهَا ءَاسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلا ءَاسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ”.

﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ(11)﴾ يَعْنِي عَادًا وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ طَغَوْا أَيْ تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا وَكَفَرُوا بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَتَجَبَّرُوا عَلَيْهِمْ.

﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12)﴾ أَيْ أَكْثَرُوا فِيهَا مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَالأَذَى مِنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صُروفِ الْعُدْوَانِ.

﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13)﴾ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ إِيقَاعِ الْعَذَابِ بِهِمْ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ، إِذِ الصَّبُ يُشْعِرُ بِالدَّوَامِ وَالسَّوْطُ بِزِيَادَةِ الإِيلامِ، أَيْ أَنَّهُمْ عُذِّبُوا عَذَابًا مُؤْلِمًا دَائِمًا، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ السَّوْطَ لانَّهُ كَانَ فِيهِ عِنْدَ الْعَرَبِ غَايَةُ الْعَذَابِ.

﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ: “﴿لَبِالْمِرْصَادِ(14)﴾ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ”، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: “الْمِرْصَادُ: مِفْعَالٌ مِنَ الْمَرْصَدِ وَهُوَ مَكَانُ الرَّصَدِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ وَاضِحٌ فَلا حَاجَةَ لِلتَّكَلُّفِ” اهـ إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِمِرْصَادِ أَعْمَالِ بَنِي ءَادَمَ كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، فَلا يَفُوتُهُ تَعَالَى مِنْهَا شَىْءٌ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا.
وَفِي الآيَةِ رَدٌّ عَلَى مَانِعِي التَّأْوِيلِ لانَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا كَمَا هِيَ قَاعِدَتُهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَحْصُورًا وَهُوَ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ وَالآيَةُ مُتَأَوَّلَةٌ بِالإِجْمَاعِ، وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: “اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ” رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلا يَمْنَعُ مِنَ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا إلا الْمُجَسِّمَةُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ، وَيَكْفِي لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ(22)﴾ أَنَّهُ جَاءَ ثَوَابُهُ، فَهَذَا يُظْهِرُ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ زُورٍ لِيُرَوِّجُوا كُفْرَهُمْ وَضَلالَهُمْ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَقَدْ أَلَّفَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْمَشْهُورُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابَ “دَفْعِ شُبَهِ التَّشْبِيهِ” لِدَفْعِ شَرِّ هَذِهِ الْفِئَةِ الَّتِي انْتَشَرَ ضَرَرُهَا.

رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: “مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ”، وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ السَّلَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 321هـ فِي عَقِيدَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: “تَعَالَى – يَعْنِي اللَّه – عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ، لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ” اهـ. مَعْنَاهُ اللَّهُ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ لانَّهُ لَيْسَ حَجْمًا إِذِ الْحَجْمُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ لِلْمَكَانِ واللَّهُ لا يُوصَفُ بِالْجِهَاتِ وَلا يُوصَفُ بِالأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ.
وَلا شَكَّ أَنَّ الإِجْمَاعَ قَائِمٌ عَلَى تَنَزُّهِ اللَّهِ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَاصِفًا نَفْسَهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ”. فَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ الْمَكَانُ وَمَا عَدَاهُ مَخْلُوقٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ قَبْلَهُ مَوْجُودًا، فَكَمَا صَحَّ فِي الْعَقْلِ وُجُودُ اللَّهِ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ صَحَّ وُجُودُهُ تَعَالَى بَعْدَ خَلْقِ الْمَكَانَ بِلا مَكَانٍ، وَهَذَا لا يُعَدُّ نَفْيًا لِوُجُودِ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُ الْمُشَبِّهَةُ واللَّهُ تَعَالَى لا يَحْتَاجُ إِلَى شَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ قَالَ: “يَكْفُرُ بِإِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ”، وَهُوَ حَقٌّ لا مِرْيَةَ فِيهِ ولا شَكَّ لانَّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا لَهُ مَكَانٌ فَقَدْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَلا يَكُونُ الْمُشْرِكُ الْعَابِدُ غَيْرَ اللَّهِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا، فَلا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إلا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ.

﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ(15)﴾ يَعْنِي الْكَافِرَ ﴿إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ(15)﴾ أَيِ امْتَحَنَهُ وَاخْتَبَرَهُ ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ(15)﴾ أَيْ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَبِمَا وَسَّعَ عَلَيْهِ مِنَ الإِحْسَانِ وَالإِفْضَالِ ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)﴾ أَيْ فَضَّلَنِي بِمَا أَعْطَانِي مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَيَظُنُ الْكَافِرُ لِشِدَّةِ غُرُورِهِ أَنَّ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِكَرَامَتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ يَدْرِ الْجَاهِلُ الْمَغْرُورُ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَناَحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ” رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ(16)﴾ أَيْ إِذَا مَا ابْتَلَى اللَّهُ الْكَافِرَ ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ(16)﴾ أَيْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ بِالْفَقْرِ وَالتَّقْتِيرِ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ الدِّمَشْقِيُّ ﴿فَقَدَّرَ(16)﴾ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ ضَيَّقَ، وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)﴾ أَيْ يَقُولُ الْكَافِرُ: اللَّهُ أَذَلَّنِي بِالْفَقْرِ، فَالْكَرَامَةُ عِنْدَ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ زِيَادَةُ الدُّنْيَا وَالْهَوَانُ قِلَّتُهَا، وَمَا ذَاكَ إلا لِقُصُورِ نَظَرِهِ وَسُوءِ فِكْرِهِ فَإِنَّ التَّقْتِيرَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، فَقَدْ بَلَغَ الْفَقْرُ بِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَشَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ فِي عَصْرِهِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَبْلَغَهُ حَتَّى كَانَ لا يَجِدُ قُوتًا وَلا مَلْبَسًا وَكَانَ يَقُومُ لِمَنْ يَزُورُهُ نِصْفَ قَوْمَةٍ لَيْسَ يَعْتَدِلُ قَائِمًا لِئَلا يَظْهَرَ مِنْهُ شَىْءٌ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ *** فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ
وَقَدْ تُفْضِي التَّوْسِعَةُ إِلَى قَصْدِ الأَعْدَاءِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِمْ وَالانْهِمَاكِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَالْمَلَذَّاتِ، وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “حُلْوَةُ الدُّنْيَا مُرَّةُ الآخِرَةِ وَمُرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الآخِرَةِ” رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: “مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ” الْمَعْنَى يَبْتَلِيهِ.

﴿كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَلا(17)﴾ رَدْعٌ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الإِكْرَامُ بِالْغِنَى وَلا الإِهَانَةُ بِالْفَقْرِ بَلِ الإِكْرَامُ فِي التَّوْفِيقِ لِلطَّاعَاتِ وَالإِهَانَةُ فِي الْخِذْلانِ وَفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)﴾ أَيْ لا يُحْسِنُونَ إِلَيْهِ مَعَ غِنَاهُمْ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: لا يُعْطُونَ الْيَتِيمَ حَقَّهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْيَتِيمُ هُوَ الصَّغِيرُ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ، وَإِنْ مَاتَ الأَبَوَانِ فَهُوَ لَطِيمٌ، وَإِنْ مَاتَتِ الأُمُ فَقَطْ فَهُوَ عَجِيٌّ، قَالَهُ فِي الْمِصْبَاحِ.

﴿وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18)﴾ أَيْ لا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ.

﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا(19)﴾ قَالَ اللَّيْثُ بنُ نَصْرٍ الْخُرَاسَانِيُّ تِلْمِيذُ الْخَلِيلِ بنِ أَحْمَدَ: اللَّمُّ: الْجَمْعُ الشَّدِيدُ، وَالتُّرَاثُ: الْمِيرَاثُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لا يُورِثُونَ النِّسَاءَ وَلا الصِّبْيَانَ بَلْ يَأْكُلُونَ مِيرَاثَهُمْ مَعَ مِيرَاثِهِمْ.

﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20)﴾ أَيْ كَثِيرًا حَلالُهُ وَحَرَامُهُ مَعَ الْحِرصِ وَالشُّحِ وَالْبُخْلِ، وَالبُخْلُ وَالبَخْلُ وَالبَخَلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَمَّا الْحِرصُ فَهُوَ شِدَّةُ تَعَلُقِ النَّفْسِ لاحْتِوَاءِ الْمَالِ وَجَمْعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْمُومِ كَالتَّوَصُلِ بِهِ إِلَى التَّرَفُعِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّفَاخُرِ وَعَدَمِ بَذْلِهِ إلا فِي هَوَى النَّفْسِ، وَالشُّحُ يُرَادِفُ الْبُخْلَ إلا أَنَّهُ يُخَصُّ بِالْبُخْلِ الشَّدِيدِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: “وَالْبُخْلُ فِي الشَّرْعِ مَنْعُ الْوَاجِبِ” اهـ. وَذَلِكَ كَالْبُخْلِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ وَسَدِّ ضَرُورَةِ أَهْلِ الضَّرُورَاتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

﴿كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلا(21)﴾ رَدْعٌ يَتَضَّمَنُ مَعْنَى الإِنْكَارِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَتَوَعُّدِهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21)﴾ أَيْ زُلْزِلَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَانْهَدَمَ كُلُّ بِنَاءٍ عَلَيْهَا وَانْعَدَمَ.

﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ(22)﴾ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ مَا نَصُّهُ: “وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي عَمْرِو بنِ السَّمَّاكِ عَنْ حَنْبِلٍ أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ(22)﴾ أَنَّهُ جَاءَ ثَوَابُهُ”، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: “وَهَذَا إِسْنَادٌ لا غُبَارَ عَلَيْهِ”. وَأَقَرَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَلا يَخْفَى أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ مِنْ أَجَلِّ السَّلَفِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِبُّي فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الآيَةِ: “قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ(22)﴾ أَيْ أَمْرُهُ وَقَضَاؤُهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبِصْرِيُّ التَّابِعِيُّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ”، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَا نَصُّهُ: “وَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لا يُوصَفُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَأَنَّى لَهُ التَّحَوُّلُ وَالانْتِقَالُ وَلا مَكَانَ لَهُ وَلا أَوَانَ وَلا يَجْرِي عَلَيْهِ وَقْتٌ وَلا زَمَانٌ” انْتَهَى كَلامُهُ.

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ “زَادُ الْمَسِيرِ” عِنْدَ ذِكْرِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/210] إِنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ، قَالَ وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/33]، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَجِيءَ إِنَّمَا هُوَ بِالذَّاتِ وَقَالُوا يَجِيءُ بِذَاتِهِ وَيَنْزِلُ بِذَاتِهِ، وَبَيَّنَ بَرَاءَةَ الإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ “دَفْعُ شُبَهِ التَّشْبِيهِ”.

وَالْخُلاصَةُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالنُّقْلَةُ، وَإِنَّمَا نَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللائِقِ بِهِ تَعَالَى مَعَ التَّنْزِيهِ وَتَرْكِ التَّشْبِيهِ، وَالأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ الإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ قَالَ: “وَاللَّهُ تَعَالَى لا مَكَانَ لَهُ”، ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: “إِنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَالاسْتِقْرَارَ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَحَدٌ صَمَدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهَذَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/26] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إِتْيَانًا مِنْ حَيْثُ النُّقْلَةُ وَإِنَّمَا أَرَادَ إِحْدَاثَ الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ خَرِبَ بُنْيَانُهُمُ” اهـ، وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.

وَالْخُلاصَةُ أَنَّ مَنْ نَفَى عَنِ السَّلَفِ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمَا ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّذِي يَدَّعُونَ الانْتِسَابَ إِلَيْهِ زُورًا وَبُهْتَانًا، وَقَدْ ثَبَتَ التَّأْوِيلُ كَذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/47] قَالَ بِقُوَّةٍ، وَقَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ [سُورَةَ الْقَلَم/42] قَالَ عَنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ، وَلَوْ أَرَدْنَا الاسْتِقْصَاءَ لَطَالَ الْبَحْثُ، وَلَمْ نَزِدْ فِي الْبَيَانِ إلا مِنْ ضَرُورَةِ الرَّدِ عَلَى أَتْبَاعِ ابْنِ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِيِّ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّ مَنْ لَمْ يُجْرِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَهُوَ ضَالٌّ فَكَفَّرُوا أَهْلَ الإِسْلامِ وَضَلَّلُوهُمْ وَهُمْ أَوْلَى بِمَا وَصَفُوا بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، حَيْثُ شَمَلَ تَضْلِيلُهُمْ وَتَكْفِيرُهُمُ الصَّحَابَةَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعْيَانِ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ الَّذِينَ ثَبَتَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ كَالإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا مِنَ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)﴾ أَيْ يَنْزِلُ مَلائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحْدِقِينَ بِالإِنْسِ وَالْجِنِ.

﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ(23)﴾ يُفَسِّرُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يُؤْتَى بَجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا” وَلَيْسَ كُلُّ النَّارِ يَأْتِي بَلْ جُزْءٌ مِنْهَا يُقَرِّبُهَا الْمَلائِكَةُ لِلنَّاسِ فَيَرَاهَا الْعِبَادُ، فَالأَتْقِيَاءُ لا يَفْزَعُونَ أَمَّا الْكُفَّارُ فَيَكَادُونَ يَمُوتُونَ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا. لَكِنْ هُنَاكَ لا مَوْت.
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ(23)﴾ أَيْ أَنَّهُ يَوْمَ يُجَاءُ بِجَهَنَّمَ يَتَذَكَّرُ الْكَافِرُ مَعَاصِيَهُ وَمَا فَرَّطَ فِيهِ.
﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23)﴾ هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَذَكُّرَهُ ذَلِكَ لا يَنْفَعُهُ.

﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)﴾ أَيْ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ لِحَيَاتِي الْبَاقِيَةِ.

﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)﴾ أَيْ لا يُعَذِّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ لا يُعَذَّبُ بِفَتْحِ الذَّالِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا.

﴿وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(26)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُوثِقُ الْكُفَّارَ بِالسَّلاسِلِ وَالأَغْلالِ لا كَوَثَاقِ أَحَدٍ أَحَدًا.

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ﴿الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ، وَقِيلَ ﴿الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ أَيِ الآمِنَةُ وَهِيَ الْمُؤْمِنَةُ الرَّاضِيَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ.

﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ(28)﴾ قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ إِلَى ثَوَابِ رَبِّكِ ﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً(28)﴾ أَيْ رَاضِيَةً بِالثَّوَابِ مَّرْضِيَّةً عِنْدَ اللَّهِ.

﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)﴾ أَيِ ادْخُلِي فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِي.

﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)﴾ أَيْ مَعَ عِبَادِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ اهـ.

حِكَايَةٌ عَجِيبَةٌ: رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ: “مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَشَهِدْتُ جِنَازَتَهُ فَجَاءَ طَائِرٌ لَمْ يُرَ عَلَى خِلْقَتِهِ وَدَخَلَ فِي نَعْشِهِ فَنَظَرْنَا وَتَأَمَّلْنَاهُ هَلْ يَخْرُجُ، فَلَمْ يُرَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نَعْشِهِ، فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ لا يُدْرَى مَنْ تَلاهَا: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً(28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29) وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)﴾”، قَالَ الذَّهَبِيُّ: “فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ عِلْمُهُ أَيِ الطَّائِرَ الأَبْيَضَ”.

سورة البلد

سُورَةَ الْبَلَدِ
مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ وَهِيَ عِشْرُونَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَّنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20)

﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ(1)﴾ مَعْنَاهُ عَلَى أَصَحِّ الْوُجُوهِ: أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «والْبَلَدُ هِيَ مَكَّةُ، أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، أَيْ: أُقْسِمُ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ لِكَرَامَتِكَ عَلَيَّ وَحُبِّي لَكَ» اهـ.

﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2)﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: «لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ»، وَفِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ فِيهِ مُعَظِّمٌ لَهُ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ فِيهِ مَا يَحْرُمُ مَعْرِفَةً مِنْهُ بِحَقِّ هَذَا الْبَيْتِ لا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الْكُفْرَ بِاللَّهِ فِيهِ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ وَذَمٌّ لِلْمُشْرِكِينَ.

﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3)﴾ هُوَ إِقْسَامٌ بِآدَمَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَفِيهِمُ الأَنْبِيَاءُ وَالدُّعَاةُ إِلَى اللَّهِ وَقِيلَ أَوْلادُ إِبْرَاهِيمَ وَمَا وَلَدَ.

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ(4)﴾ إِلَى هُنَا انْتَهَى الْقَسَمُ وَهَذَا جَوَابُهُ، وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِتَعْظِيمِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالإِنْسَانُ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ أَيْ ءَادَمُ وَمَا وَلَدَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: ﴿فِي كَبَدٍ(4)﴾: فِي شِدَّةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿فِي كَبَدٍ(4)﴾ أَيْ فِي نَصَبٍ، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يُكَابِدُ مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الآخِرَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَوَّلُ مَا يُكَابِدُ قَطْعُ سُرَّتِهِ، ثُمَّ إِذَا قُمِطَ قِمَاطًا وَشُدَّ رِبَاطًا يُكَابِدُ الضِّيقَ وَالتَّعَبَ، ثُمَّ يُكَابِدُ الارْتِضَاعَ وَلَوْ فَاتَهُ لَضَاعَ، ثُمَّ يُكَابِدُ نَبْتَ أَسْنَانِهِ وَتَحَرُّكَ لِسَانِهِ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْفِطَامَ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنَ اللِّطَامِ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْخِتَانَ وَالأَوْجَاعَ وَالأَحْزَانَ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْمُعَلِّمَ وَصَوْلَتَهُ وَالْمُؤَدِّبَ وَسِيَاسَتَهُ وَالأُسْتَاذَ وَهَيْبَتَهُ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْلَ التَّزْوِيجِ وَالتَّعْجِيلَ فِيهِ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْلَ الأَوْلادِ وَالْخَدَمِ وَالأَجْنَادِ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْلَ الدُّورِ وَبِنَاءَ الْقُصُورِ، ثُمَّ الْكِبَرَ وَالْهَرَمَ وَضَعْفَ الرُّكْبَةِ وَالْقَدَمِ، فِي مَصَائِبَ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا وَنَوَائِبَ يَطُولُ إِيرَادُهَا مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ وَوَجَعِ الأَضْرَاسِ وَرَمَدِ الْعَيْنِ وَغَمِّ الدَّيْنِ وَوَجَعِ السِّنِ وَأَلَمِ الأُذُنِ، وَيُكَابِدُ مِحَنًا فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ مِثْلَ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَلا يَمْضِي عَلَيْهِ يَوْمٌ إلا وَيُقَاسِي فِيهِ شِدَّةً وَيُكَابِدُ فِيهِ مَشَقَّةً، ثُمَّ الْمَوْتُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ثُمَّ مُسَاءَلَةُ الْمَلَكِ وَضَغْطَةُ الْقَبْرِ وَظُلْمَتُهُ ثُمَّ الْبَعْثُ وَالْعَرْضُ عَلَى اللَّهِ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ الْقَرَارُ إِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا فِي النَّارِ فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ إِلَيْهِ لَمَا اخْتَارَ هَذِهِ الشَّدَائِدَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلإِنْسَانِ خَالِقًا دَبَّرَهُ وَقَضَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الأَحْوَالِ فَلْيَمْتَثِلْ أَمْرَهُ» اهـ.

﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَّنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5)﴾ قَالَ الرَّازِيُّ: قَوْلُهُ ﴿أَيَحْسَبُ(5)﴾ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى أَيَظُنُّ الإِنْسَانُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنَّهُ لِشِدَّتِهِ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى بَعْثِهِ وَمُعَاقَبَتِهِ.

﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا(6)﴾ أَيْ يَقُولُ أَنْفَقْتُ مَالا كَثِيرًا مُجْتَمِعًا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ(7)﴾ أَيْ أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَرَهُ، بَلْ عَلَيْهِ حَفَظَةٌ يَكْتُبُونَ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ فِي حَيَاتِهِ وَيُحْصُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ مَا حَكَى عَنْ أَقْوِيَاءِ قُرَيْشٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَرَدَّهَا أَقَامَ الدِّلالَةَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ مُعَدِّدًا بَعْضَ نِعَمِهِ عَلَى الإِنْسَانِ فَقَالَ: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ(8)﴾ هَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ أَيْ جَعَلْنَا لَهُ عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا.

﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9)﴾ أَيْ جَعَلْنَا لَهُ لِسَانًا يَنْطِقُ بِهِ وَشَفَتَيْنِ يُطْبِقُهُمَا عَلَى فِيهِ، وَيَسْتَعِينُ بِاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى الأَكْلِ وَالشُرْبِ وَالنَّفْخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَاجَاتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ لَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ لِلإِنْسَانِ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ، قَالَهُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ﴿النَّجْدَيْنِ(10)﴾ سَبِيلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: النَّجْدُ الْمَكَانُ الْغَلِيظُ الرَّفِيعُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)﴾ فَذَلِكَ مَثَلٌ لِطَرِيقَيِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي الاعْتِقَادِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْمَقَالِ وَالْجَمِيلِ وَالْقَبِيحِ فِي الْفِعَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَرَّفَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ [سُورَةَ الإِنْسَان/3].

﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)﴾ أَيْ فَهَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أَيِ اجْتَازَهَا، وَالْعَقَبَةُ الأَمْرُ الشَّاقُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ تَحَمُّلِ عِظَامِ الأُمُورِ مِنَ الإِيـمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إِنْفَاقِ نَفَائِسِ الأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: «فَلَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا».

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12)﴾ أَيْ وَمَا أَعْلَمَكَ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا وَهَذَا تَعْظِيمٌ لالْتِزَامِ أَمْرِ الدِّينِ.

﴿فَكُّ رَقَبَةٍ(13)﴾ أَيْ تَحْرِيرُهَا مِنَ الرِّقِّ بِأَنْ يُعْتِقَهَا.

﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(14)﴾ أَيْ مَجَاعَةٍ، وَالسَّغَبُ: الْجُوعُ، فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ فَضِيلَةٌ وَهُوَ مَعَ السَّغَبِ الَّذِي هُوَ الْجُوعُ أَفْضَلُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ فَكَّ بِفَتْحِ الْكَافِ وَرَقَبَةَ بِالنَّصْبِ أَوْ أَطْعَمَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَسُكُونِ الطَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ.

﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15)﴾ أَيْ ذَا قَرَابَةٍ فَيَكُونَ لَهُ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ صِلَةِ الرَّحِمِ.

﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ(16)﴾ وَهُوَ الْمَطْرُوحُ عَلَى التُّرَابِ لِشِدَّةِ فَقْرِهِ.

﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا(17)﴾ مَعْنَاهُ وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا، أَيْ عِنْدَ فَكِّ الرَّقَبَةِ وَعِنْدَ الإِطْعَامِ إِذْ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الطَّاعَاتِ هُوَ الإِيـمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَأْخِيرَ الإِيـمَانِ عَنِ الإِطْعَامِ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ *** ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ: «وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ سِيَادَةُ أَبِيهِ وَسِيَادَةُ جَدِّهِ فِي الذِّكْرِ».
وَالْمَعْلُومُ أَنَّ سِيَادَةَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ قَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَى سِيَادَتِهِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(17)﴾ أَيْ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17)﴾ أَيْ بِالتَّعَاطُفِ وَالتَّرَاحُمِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ تُفَسَّرُ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ: «ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» كَمَا قَالَ شَيْخُ الْحُفَّاظِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَمَالِيِّهِ: وَأَهْلُ السَّمَاءِ هُمُ الْمَلائِكَةُ.

﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(18)﴾ أَيْ أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيـمَانِهِمِ.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(19)﴾ أَيْ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْقُرْءَانِ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ.

﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ(20)﴾ أَيْ أَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ وَمُغْلَقَةٌ لا يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُوصَدَةٌ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

سورة الشمس

سُورَةَ الشَّمْسِ
مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ وَهِيَ خَمْسَ عَشْرَةَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)﴾ هُمَا قَسَمَانِ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِمَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: «قَالَ مُجَاهِدٌ: ضُحَاهَا ضَوْءُهَا».

﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا(2)﴾ أَيْ إذَا تَبِعَهَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا سَقَطَتْ ظَهَرَ الْهِلالُ. وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ.

﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا(3)﴾ أَيْ كَشَفَهَا فَإِنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ انْبِسَاطِ النَّهَارِ تَنْجَلِي تَمَامَ الانْجِلاءِ.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا(4)﴾ أَيْ يَغْشَى الشَّمْسَ فَيَذْهَبَ بِضَوْئِهَا عِنْدَ سُقُوطِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّيْلَ يُغَطِّي الشَّمْسَ بِظُلْمَتِهِ.

﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا(5)﴾ أَيْ وَمَنْ بَنَاهَا، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهَا وَرَفَعَهَا.

﴿وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا(6)﴾ أَيْ وَمَنْ طَحَاهَا، أَيْ بَسَطَهَا مِثْلُ دَحَاهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: «طَحَاهَا دَحَاهَا».

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)﴾ وَالْمُرَادُ: كُلُّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، وَقِيلَ: ءَادَمُ، ﴿وَمَا سَوَّاهَا(7)﴾ بِمَعْنَى وَمَنْ سَوَّاهَا وَذَلِكَ فِي الْخِلْقَةِ بِأَنْ سَوَّى أَجْزَاءَهَا وَأَعْضَاءَهَا، قَالَ الأَصْبَهَانِيُّ فِي الْمُفْرَدَاتِ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ خِلْقَةَ الإِنْسَانِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ. وَقَرَأَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَمَنْ بَنَاهَا وَمَنْ طَحَاهَا وَمَنْ سَوَّاهَا كُلَّهُ بِالنُّونِ.

﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)﴾ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: «الإِلْهَامُ: إِيقَاعُ الشَّىْءِ فِي النَّفْسِ، وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَ الْمُؤْمِنَ الْمُتَّقِيَ تَقْوَاهُ وَأَلْهَمَ الِكَافِرَ فُجُورَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: أَلْهَمَهَا أَيْ أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الْمُؤْمِنِ تَقْوَاهُ وَفِي الْكَافِرِ فُجُورَهُ.

وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الْدُئَلِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ مَا سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ شَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَقَالَ: أَفَلا يَكُونُ ظُلْمًا؟ قَالَ: فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْتُ: كُلُّ شَىْءٍ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ فَلا يُسأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فَقَالَ لِي: يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إلا لاحْزِرَ عَقْلَكَ – أَيْ لاخْتَبِرَ فَهْمَكَ – إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالا: يَا رَسُولِ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا، بَلْ شَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)﴾» اهـ.فَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ يَفَسِّرُ هَذِهِ الآيَةَ الشَّرِيفَةَ بِمَا لا رَيْبَ فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ. وَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ ءَاتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)﴾ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي زَادِ الْمَسِيرِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَصَالِحِ الأَعْمَالِ أَيْ طَهَّرَهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾ قاَلَ الْقُرْطُبِيُّ: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَابَتْ نَفْسٌ أَضَلَّهَا – أَيِ اللَّهُ – وَأَغْوَاهَا» اهـ، وَقَالَ قَتَادَةُ: «خَابَ مَنْ ءَاثَمَ نَفْسَهُ وَأَفْجَرَهَا» رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: «كُلُّ شَىْءٍ أَخْفَيْتَهُ فَقَدْ دَسَسْتَهُ» اهـ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْفَاجِرَ أَخْفَى نَفسَهُ وَغَمَسَهَا فِي الْمَعَاصِي فَأَفْسَدَهَا.

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا(11)﴾ أَيْ كَذَّبَتْ ثَمُودُ نَبِيَّ اللَّهِ تَعَالَى صَالِحًا وَثَمُودُ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ وَكَانُوا عَرَبًا يَسْكُنُونَ الْحِجْرَةَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَتَبُوك وَكَانُوا بَعْدَ قَوْمِ عَادٍ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ كَأُولَئِكَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿بِطَغْوَاهَا(11)﴾ بِمَعَاصِيهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الطُّغْيَانَ حَمَلَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ، قاَلَ الْقُرْطُبِيُّ: «﴿بِطَغْوَاهَا(11)﴾: أَيْ بِطُغْيَانِهَا وَهُوَ خُرُوجُهَا عَنِ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ» اهـ.

﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا(12)﴾ أَيْ أَسْرَعَ، وَأَشْقَاهَا هُوَ عَاقِرُ النَّاقَةِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ وَذَكَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا(12)﴾:«انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمَعَةَ»، وَفِي كِتَابِ الأَنْبِيَاءِ مِنْهُ: «انْتَدَبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو عِزٍّ ومَنَعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَأَبِي زَمَعَةَ»، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «وَعَاقِرُ النَّاقَةِ اسْمُهُ قُدَارُ بنُ سَالِف قِيلَ كَانَ أَحْمَرَ أَزْرَقَ أَصْهَبَ» اهـ. وَالْمَنَعَةُ: الْعِزُّ، وَأَبُو زَمَعَةَ: هُوَ الأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا(13)﴾ رَسُولُ اللَّهِ صَالِحٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: احْذَرُوا عَقْرَ نَاقَةِ اللَّهِ، قَالَ النَّسَفِيُّ فِي ﴿نَاقَةَ اللَّهِ(13)﴾: نُصِبَ عَلَى التَّحْذِيرِ، أَيِ احْذَرُوا عَقْرَهَا كَقَوْلِكَ: الأَسَدَ الأَسَدَ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ، ﴿وَسُقْيَاهَا(13)﴾ أَيْ شِرْبَهَا فِي يَوْمِهَا وَكَانَ لَهَا يَومٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ.

﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا(14)﴾ أَيْ كَذَّبُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلامُ فَعَقَرُوهَا، أَيْ قَتَلَهَا الأَشْقَى، وَأُضِيفَ الْفِعْلُ إِلَى الْكُلِّ لانَّهُم رَضُوا بِفِعْلِهِ وَتَابَعُوهُ عَلَيْهِ، وَعَقْرُ الْبَعِيرِ أَيْ نَحْرُهُ، ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ(14)﴾ أَيْ أَهْلَكَهُمْ وَأَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ بِذَنْبِهِمِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ وَالْعَقْرُ، ﴿فَسَوَّاهَا(14)﴾ قَالَ يَحْيَى بنُ سَلامٍ: سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْهَلاكِ كَبِيرِهِمْ وَصَغِيرِهِمْ وَاللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يُؤْلِمَ الأَطْفَالَ وَيَضُرَّهُمْ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ مِنْهُمْ، وَقَالَ بَعْضٌ: سَوَّى الأَرْضَ عَلَيْهِمْ.

﴿وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا(15)﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ ﴿فَلا يَخَافُ(15)﴾ بِالْفَاءِ بَدَلا مِنَ الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ خَائِفٍ أَنْ تَلْحَقَهُ تَبِعَةُ الدَّمْدَمَةِ مِنْ أَحَدٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَفِي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَضُرَّهُ أَحَدٌ.

سورة الليل

سُورَةَ اللَّيْلِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ إِحْدَى وَعِشْرُونَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إلا الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لاحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1)﴾ أَيْ يُغَطِّي كُلَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَيَسْتُرُهُ بِظُلْمَتِهِ ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2)﴾ أَيِ انْكَشَفَ وَظَهَرَ وَبَانَ بِضَوْئِهِ عَنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ.

﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(3)﴾ أَيْ وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذَّكَرِ ءَادَمُ وَبِالأُنْثَى حَوَّاءُ. وَقِيلَ إِنَّهُ عَامٌّ.

﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4)﴾ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالسَّعْيُ: الْعَمَلُ، أَيْ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مُخْتَلِفَةٌ فَسَاعٍ فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ وَسَاعٍ فِي عَطَبِهَا أَيْ هَلاكِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «النَّاسُ غَادِيَانِ فَغَادٍ فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ فَمُعْتِقُهَا وَغَادٍ فَمُوبِقُهَا». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)﴾ أَيْ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى حَقَّ اللَّهِ وَاتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ الْجُمْهُورُ: يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَبُو الدَّحْدَاحِ الأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)﴾ أَيْ بِلا إِلَهَ إلا اللَّهُ ، وَقِيلَ: بِالْجَنَّةِ.

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾ أَيْ نُرْشِدُهُ لاسْبَابِ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ وَنُهَيِّئُهُ لِلْجَنَّةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي مَعَانِي الْقُرْءَانِ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ(7)﴾ سَنُهَيِّئُهُ، وَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ أَيْ يَخْلُقُ فِيهِ الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ لانَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلَّ شَىْءٍ.

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8)﴾ أَيْ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ وَلَمْ يَرْغَبْ فِي ثَوَابِ اللَّهِ.

﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9)﴾ أَيْ كَذَّبَ بِلا إِلَهَ إلا اللَّهُ أَوْ كَذَّبَ بِالْجَنَّةِ.

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)﴾ أَيْ نُهَيِّئُهُ لِلنَّارِ وَفِيهَا وَفِي قَوْلِ اللَّهِ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾ دِلالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ مُعِينُ الْمُؤْمِنِ عَلَى إِيـمَانِهِ وَالْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ كَمَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي الإِرْشَادِ وَغَيْرُهُ، وَالإِعَانَةُ عَلَى الإِيـمَانِ مَعْنَاهَا خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا الإِعَانَةُ عَلَى الْكُفْرِ مَعْنَاهَا خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالإِعَانَةِ هُنَا الرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ وَإِنَّمَا مَعْنَى الإِعَانَةِ هُنَا التَّمْكِينُ وَالإِقْدَارُ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ الْعَبْدَ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَعَمَلِ الشَّرِّ لانَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لِسَانَ وَفُؤَادَ وَجَوَارِحَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلَوْلا أَنَّهُ أَعْطَى الْمُؤْمِنَ الْقُدْرَةَ عَلَى الإِيـمَانِ لَمْ يُؤْمِنْ، وَلَوْلا أَنَّهُ أَعْطَى الْكَافِرَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكُفْرِ لَمْ يَكْفُرْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/15] قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيهَا: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ أَيْ يُمَكِّنُ لَهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَزِيدُهُمْ، وَطُغْيَانُهُمْ كُفْرُهُمْ، وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: «ربِّ أَعِنِّي وَلا تُعِنْ عَلَيَّ»، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ – أَيْ يَضْرِبُهَا بِطَرَفِهِ – فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)﴾ وَضَمَّ أَبُو جَعْفَرٍ سِينَ الْيُسْرَى وَسِينَ الْعُسْرَى.

﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11)﴾ أَيْ أَنَّ مَالَهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ لا يَنْفَعُهُ إِذَا تَرَدَّى فِي جَهَنَّمَ وَسَقَطَ فِيهَا.

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلالَةِ.

﴿وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى(13)﴾ أَيْ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/134] أَيْ فَمَنْ طَلَبَهُمَا مِنْ غَيْرِ مَالِكِهِمَا فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ.

﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى(14)﴾ أَيْ حَذَّرْتُكُمْ وَخَوَّفْتُكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ نَارًا تَتَوَقَدُ وَتَتَوَهَّجُ.

﴿لا يَصْلاهَا إلا الأَشْقَى(15)﴾ أَيْ لا يَدْخُلُهَا إلا الشَّقِيُّ، وَالْمُرَادُ الصَّلْيُّ الْمُؤَبَّدُ.

﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16)﴾ أَيْ كَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَوَلَّى أَيْ أَعْرَضَ عَنِ الإِيـمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى(17)﴾ أَيْ يُبْعَدُ عَنْهَا التَّقِيُّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُزَحْزَحُ عَنِ دُخُولِ النَّارِ.

﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18)﴾ أَيْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ عِنْدَ اللَّهِ زَاكِيًا، أَيْ نَامِيًا يَتَصَدَّقُ بِهِ مُبْتَغِيًا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَلا يَطْلُبُ الرِّيَاءَ وَلا السُّمْعَةَ، وَهَذَا نَزَلَ فِي الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اشْتَرَى بِلالا الْمُعَذَّبَ عَلَى إِيـمَانِهِ وَأَعْتَقَهُ، فَقَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَدٍ كَانَتْ لِبِلالٍ عِنْدَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا لاحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِّعْمَةٍ تُجْزَى(19)﴾ أَيْ لَمْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مُجَازَاةً لِيَدٍ أُسْدِيَتْ إِلَيْهِ ﴿إلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى(20)﴾ أَيْ لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَإلا بِمَعْنَى لَكِنْ ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21)﴾ أَيْ بِمَا يُعْطَاهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ.

سورة الضحى

سُورَةُ الضُّحَى
مَكِّيَّةٌ إِجْمَاعًا وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ مُدَّةً، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جُنْدُبِ بنِ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَيْ مَرِضَ- فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لأَرْجُو أَنَّ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3)﴾ اهـ. وَالْقَائِلَةُ هِيَ أُمُّ جَمِيلٍ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي.

﴿وَالضُّحَى(1)﴾ وَهُوَ قَسَمٌ بِالضُّحَى وَهُوَ ضَوْءُ النَّهَارِ.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)﴾ وَهُوَ قَسَمٌ بَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿إِذَا سَجَى(2)﴾: اسْتَوَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَجَى: أَظْلَمَ وَسَكَنَ، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «قاَلَ الْفَرَّاءُ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)﴾: إِذَا أَظْلَمَ وَرَكَدَ فِي طُولِهِ».

﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3)﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ وَمَا كَرِهَكَ، قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: عُبِّرَ عَنِ التَّرْكِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ(3)﴾ كَقَوْلِكَ: وَدَّعْتُ فُلانًا، نَحْوُ خَلَّيْتُهُ، وَالْقِلَى: شِدَّةُ الْبُغْضِ.

﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى(4)﴾ أَيْ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا لانَّ الَّذِي أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِمَّا أَعْطَاهُ مِنْ كَرَامَةِ الدُّنْيَا.

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5)﴾ أَيْ سَيُعْطِيكَ اللَّهُ في الآخِرَةِ مِنَ الْخَيْرَاتِ عَطَاءً جَزِيلا فَتَرْضَى بِمَا تُعْطَاهُ، قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي أُمَّتِهِ حَتَّى يَرْضَى.

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى(6)﴾ أَيْ أَلَمْ يَعْلَمِ اللَّهُ مِنْ حَالِكَ أَنَّكَ صِرْتَ يَتِيمًا بِفَقْدِ أَبِيكَ قَبْلَ أُمِّكَ فآوَاكَ بِأَنْ جَعَلَ لَكَ مَأْوًى إِذْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ فَكَفَاكَ الْمَؤُنَةَ.

﴿وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى(7)﴾ أَيْ لَمْ تَكُنْ تَدْرِي الْقُرْءَانَ وَتَفَاصِيلَ الشَّرَائِعِ فَهَدَاكَ اللَّهُ أَيْ أَرْشَدَكَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْقُرْءَانِ وَشَرَائِعِ الإِسْلامِ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيـمَانُ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/52] مَعْنَاهُ مَا كُنْتَ تَعْلَمُ الْقُرْءَانَ وَلا تَفَاصِيلَ الإِيـمَانِ، فَالرَّسُولُ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ كَانَ مُؤْمِنًا بِرَبِّهِ مُعْتَقِدًا تَوْحِيدَهُ تَعَالَى بِمَا أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ إِنَّهُ ضَلَّ وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ فِي شِعَابِ مَكَّةَ فَرَدَّهُ اللَّهُ إِلَى جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

﴿وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى(8)﴾ أَيْ ذَا فَقْرٍ فَأَرْضَاكَ بِمَا أَعْطَاكَ مِنَ الرِّزْقِ، وَمَعْنَى فَأَغْنَى صَارَ عِنْدَكَ الْكِفَايَةُ.

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ(9)﴾ أَيْ فَلا تَحْتَقِرْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَدَلَّتِ الآيَةُ عَلَى اللُّطْفِ بِالْيَتِيمِ وَبِرِّهِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إلا لِلَّهِ كَانَ لَهُ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٍ».

﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ(10)﴾ أَيْ لا تَزْجُرِ الْمُسْتَعْطِي لَكِنْ أَعْطِهِ أَوْ رُدَّهُ رَدًّا جَمِيلا، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: السَّائِلُ هُنَا السَّائِلُ عَنِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لا سَائِلُ الْمَالِ.

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيِ انْشُرْ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ، فَإِنَّ التَّحَدُّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ وَالاعْتِرَافَ بَهَا شُكْرٌ، وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ الأُسْتَاذَ أَبَا سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ الْمُرْتَعِشَ يَقُولُ سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ: كُنْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيِّ أَلْعَبُ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ وَبَيْنَ يَدَيَّ جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الشُّكْرِ فَقَالَ لِي: يَا غُلامُ مَا الشُّكْرُ؟ فَقُلْتُ: أَنْ لا تَعْصِيَ اللَّهَ بِنِعْمَةٍ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ عَنْ ثَمَرَةِ الشُّكْرِ فَقَالَ: الْحُبُّ لِلَّهِ وَالْخَوْفُ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي سَعْدَانَ الْبَغْدَادِيُّ: الشُّكْرُ أَنْ يَشْكُرَ عَلَى الْبَلاءِ شُكْرَهُ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنِّعْمَةِ النُّبُوَّةُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّحَدُّثِ بِهَا تَبْلِيغُهَا.

سورة الشرح

سُورَةُ الشَّرْحِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانِ ءَايَات

بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)﴾ أَيْ قَدْ شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ بِتَنْوِيرِهِ بِالْحِكْمَةِ وَتَوْسِيعِهِ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ، وَمَعْنَى الاسْتِفْهَامِ إِنْكَارُ نَفْيِ الانْشِرَاحِ مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِهِ.

﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2)﴾ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي النَّهْرِ الْمَادِ: «هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الذُّنُوبِ وَتَطْهِيرِهِ مِنَ الأَدْنَاسِ». وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمَعْنَى: ضَمِنَّا لَكَ أَنْ تَكُونَ بِحَالَةِ الْعِصْمَةِ وَهِيَ الْحِفْظُ، وَذَلِكَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ.

﴿الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ(3)﴾ أَيْ أَثْقَلَ ظَهْرَكَ، وَالْمُرَادُ بِمَا ذُكِرَ تَخْفِيفُ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ الَّتِي يُثْقِلُ الْقِيَامُ بِهَا الظَّهْرَ، فَسَهَّلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَيَسَّرَ لَهُ الأَمْرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حِمْلا يُحْمَلُ لَسُمِعَ نَقِيضُ الظَّهْرِ مِنْهُ، أَيْ صَوْتُ الظَّهْرِ وَهُوَ صَرِيرُهُ لَمَّا يُحْمَلُ الشَّىْءُ الثَّقِيلُ.

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾ قَالَ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ *** مِنَ اللَّهِ مَشْهُورٌ يَلُوحُ وَيُشْهَدُ
وَضَمَّ الإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ *** إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ
فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ بِأَنْ قَرَنَ اللَّهُ ذِكْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِهِ تَعَالَى فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَفِي الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَغَيْرِهَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْءَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾: بِالنُّبُوَّةِ ، وَقِيلَ ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾: عِنْدَ الْمَلائِكَةِ فِي السَّمَاءِ، وَقِيلَ: بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ لَكَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَإِلْزَامِهِمُ الإِيـمَانَ بِكَ وَالإِقْرَارَ بِفَضْلِكَ. كَانَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ أَسْلَمَ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ: مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنْتَ، فَقَالَ: لا، أَعْظَمُ النَّاسِ هَذَا الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُؤَذِّنُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ.

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6)﴾ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «أَخْرَجَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ – أَسْلَمَ الْعَدَوِيُّ مَوْلَى عُمَرَ- عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ عَامِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَهْمَا يَنْزِلْ بِامْرِئٍ مِنْ شِدَّةٍ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ بَعْدَهَا فَرَجًا، وَأَنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ» اهـ من فَتْحِ الْبَارِي. وَمَعْنَى الآيَةِ أَيْ أَنَّ مَعَ الضِّيقِ وَالشِدَّةِ فَرَجًا وَسُهُولَةً، ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي حُصُولِ الْيُسْرِ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسَى مِنَ الْكُفَّارِ شِدَّةً ثُمَّ حَصَلَ لَهُ الْيُسْرُ بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَضَمَّ أَبُو جَعْفَرٍ سِينَ الْعُسْرِ وَسِينَ الْيُسْرِ.

﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ(7)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مُجَاهِدٌ: فَانْصَبْ فِي حَاجَتِكَ إِلَى رَبِّكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ صَلاتِكَ فَانْصَبْ أَيْ بَالِغْ فِي الدُّعَاءِ وَسَلْهُ حَاجَتَكَ. وقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ.

﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: اجْعَلْ نِيَّتَكَ وَرَغْبَتَكَ إِلَى رَبِّكَ، ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَك فِي الزُّهْدِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْهُ أَيْ عَنْ مُجَاهِدٍ.

سورة التين

سُورَةُ التِّينِ
مَكِّيَّةٌ وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانِ ءَايَات

بسم الله الرحمن الرحيم
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ(1)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ التِّينُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي يَأْكُلُ النَّاسُ». فَاللَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ كَمَا أَقْسَمَ بِالضُّحَى وَمَكَّةَ وَالشَّمْسِ وَالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي فَيهَا نَفْعٌ، لانَّهُ تَعَالَى يُقْسِمُ بِنَفْسِهِ وَبِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا لَهُ شَأْنٌ، وَنَهَانَا أَنْ نُقْسِمَ بِغَيْرِهِ تَعَالَى.

﴿وَطُورِ سِينِينَ(2)﴾ قَالَ فِي الْفَتْحِ: قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿وَطُورِ(2)﴾: الْجَبَلُ، وَ﴿سِينِينَ(2)﴾ الْمُبَارَكُ وَهُوَ سِينَاءُ وَيُقَالُ سَيْنَاءُ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ طُورُ سِينَاءَ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ فَسَمِعَ سَيِّدُنَا مُوسَى كَلامَ اللَّهِ الذَّاتِيَّ الأَزَلِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَطُورِ سَيْنَاءَ مَمْدُودَةً مَهْمُوزَةً مَفْتُوحَةَ السِّينِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَطُورِ سِينَاءَ بِكَسْرِ السِّينِ.

﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ(3)﴾ أَيْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ وَهُوَ بَلَدٌ ءَامِنٌ مَنْ فِيهِ وَمَنْ دَخَلَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوَانٍ.

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4)﴾ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ وَالْمُرَادُ هُنَا عُمُومُ النَّاسِ، وَمَعْنَى فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أَيْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ. وَفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَعْضُ مِنَ النَّظَريَّةِ الْمُسَمَّاةِ الارْتِقَاءَ وَالنُّشُوءَ. فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَصْلَ الإِنْسَانِ قِرْدٌ.

﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ(5)﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَيِ الإِنْسَانَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ(5)﴾ أَيْ إِلَى النَّارِ، وَقِيلَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَهُوَ الْهَرَمُ بَعْدَ الشَّبَابِ وَالضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ.

﴿إلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(6)﴾ أَيْ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا يُرَدُّونَ إِلَى النَّارِ.
﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(6)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مَنْقُوصٍ، وَقِيلَ: فَلَهُمْ ثَوَابٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى الابْتِلاءِ بِالْشَيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ.

﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ(7)﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ، أَيْ إِذَا عَرَفْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَأَنَّهُ يَرُدُّكَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَيَنْقُلُكَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تُكَذِّبَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ(8)﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ أَتْقَنَ الْحَاكِمِينَ صُنْعًا فِي كُلِّ مَا خَلَقَ، وَقِيلَ: أَقْضَى الْقَاضِينَ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ(8)﴾ فَلْيَقُلْ بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ».

سورة العلق

سُورَةُ الْعَلَق
مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَهِيَ تِسْعَ عَشْرَةَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَّءَاهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلا لَئِنْ لَّمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَهُوَ قَوْلُ مُعْظَمِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)﴾، اهـ. وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾ وَبَقِيَّةُ السُّورَةِ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)﴾ أَيِ اذْكُرِ اسْمَهُ تَعَالَى مُسْتَفْتِحًا بِهِ قِرَاءَتَكَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلائِقَ.

﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)﴾ أَيْ خَلَقَ اللَّهُ ابْنَ ءَادَمَ مِنْ عَلَقٍ، جَمْعُ عَلَقَةٍ، وَالْعَلَقَةُ: الدَّمُ الْجامِدُ الَّذِي لَمْ يَيْبَسْ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدُّ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَالنُّطْفَةُ: الْمَنِيُّ، وَالْعَلَقَةُ: الْقِطْعَةُ الْيَسِيرَةُ مِنَ الدَّمِ الْغَلِيظِ، وَالْمُضْغَةُ: قِطْعَةُ لَحْمٍ قَدْرُ مَا يُمْضَغُ.

﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)﴾ هَذَا تَأْكِيدٌ لِلأَوَّلِ وَهُوَ تَعَالَى الْكَرِيمُ الأَكْرَمُ الَّذِي لا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ، وَالأَكْرَمُ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَرَمِ.

﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)﴾ أَيْ عَلَّمَ الإِنْسَانَ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

﴿عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾ أَيْ مِنَ الْخَطِّ وَالصَّنَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالإِنْسَانِ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾.

﴿كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6) أَنْ رَّءَاهُ اسْتَغْنَى(7)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَلا(6)﴾ هُوَ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِمَنْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ بِطُغْيَانِهِ وَقَوْلُهُ ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6)﴾ يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ، وَهُوَ عَمْرُو بنُ هِشَامٍ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ مِنْ قَتْلاهَا السَّنَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، أخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿أَنْ رَّءَاهُ اسْتَغْنَى(7)﴾ أَيْ لَئِنْ رَأَى نَفْسَهُ اسْتَغْنَى أَيْ صَارَ ذَا مَالٍ وَثَرْوَةٍ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ.

﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى(8)﴾ وَالرُّجْعَى: الرُّجُوعُ وَالْمَرْجِعُ، وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلطَّاغِي الْمُسْتَغْنِي وَتَحْقِيرٌ لِمَا هُوَ فِيهِ حَيْثُ إِنَّ مَآلَهُ إِلَى الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ فَيُجَازَى عَلَى طُغْيَانِهِ.

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)﴾ وَالْمُرَادُ بِالَّذِي يَنْهَى أَبُو جَهْلٍ حَيْثُ إِنَّهُ نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ فِي الْمَسْجِدِ. أَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى(11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى(12)﴾ أَيْ أَرَأَيْتَ يَا أَبَا جَهْلٍ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَلَيْسَ نَاهِيهِ عَنِ التَّقْوَى وَالصَّلاةِ هَالِكًا.

﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى(14)﴾ يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ حَيْثُ كَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعْرَضَ عَنِ الإِيـمَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَرَاهُ وَيَعْلَمُ فِعْلَهُ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ لابِي جَهْلٍ.

﴿كَلا لَئِنْ لَّمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ(15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)﴾ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لاطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَوْ فَعَلَهُ لاخَذَتْهُ الْمَلائِكَةُ» اهـ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلا(15)﴾ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لابِي جَهْلٍ وَمَنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهِ عَنْ نَهْيِ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَوْلُهُ ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ(15)﴾ أَيْ لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ أَخْذَ إِذْلالٍ، وَالنَّاصِيَةُ: شَعْرُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَسَفَعْتُ بِالشَّىْءِ: إِذَا قَبَضْتُ عَلَيْهِ وَجَذَبْتُهُ جَذْبًا شَدِيدًا، وَخَصَّ النَّاصِيَةَ بِالذِّكْرِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِيمَنْ أَرَادُوا إِذْلالَهُ وَإِهَانَتَهُ أَخَذُوا بِنَاصِيَتِهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّاصِيَةِ عَنْ جُمْلَةِ الإِنْسَانِ.

وَقَوْلُهُ ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)﴾ أَيْ إِنَّ صَاحِبَهَا كَاذِبٌ خَاطِئٌ.

﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ(17)﴾ أَيْ فَلْيَدْعُ أَهْلَ مَجْلِسِهِ وَعَشِيرَتَهُ فَلْيَسْتَنْصِرْ بِهِمْ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا بِهَا نَادٍ أَكْثَرَ مِنِّي فَنَزَلَتِ الآيَةُ.

﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18)﴾ أَيْ الْمَلائِكَةَ الْغِلاظَ الشِّدَادَ.

﴿كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(19)﴾ ﴿كَلا(19)﴾ أَيْ لَيْسَ الأَمْرُ عَلَى مَا يَظُنُّهُ أَبُو جَهْلٍ فَلا تُطِعْهُ، أَيْ فِيمَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الصَّلاةِ ﴿وَاسْجُدْ(19)﴾ أَيْ صَلِّ لِلَّهِ تَعَالَى ﴿وَاقْتَرِبْ(19)﴾ أَيْ تَقَرَّبْ إلِىَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ.
فَائِدَةٌ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الأَكْبَرِ: «وَلَيْسَ قُرْبُ اللَّهِ تَعَالَى وَلا بُعْدُهُ مِنْ طَرِيقِ طُولِ الْمَسَافَةِ وَقِصَرِهَا وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالْهَوَانِ، وَالْمُطِيعُ قَرِيبٌ مِنْهُ بِلا كَيْفٍ وَالْعَاصِي بَعِيدٌ عَنْهُ بِلا كَيْفٍ، وَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ وَالإِقْبَالُ يَقَعُ عَلَى الْمُنَاجِي وَكَذَلِكَ جِوَارُهُ فِي الْجَنَّةِ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِلا كَيْفٍ» اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم نَفَوُا الْكَيْفَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: «إِنَّ الَّذِي عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الْكَيْفِيَّةَ وَالْكَيْفِيَّةُ مَنْفِيَّةٌ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ».

سورة القدر

سُورَةُ الْقَدْرِ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الأَكْثَرِينَ وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ
وَهَيَ خَمْسُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِّنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ ﴿أَنزَلْنَاهُ(1)﴾: الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُرْءَانِ، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ(1)﴾ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَمِيعِ، وَالْمُنْزِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعَرَبُ تُؤَكِّدُ فِعْلَ الْوَاحِدِ فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِيَكُونَ أَثْبَتَ وَأَوْكَدَ، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «قَالَ ابْنُ التِّينِ: النُّحَاةُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ يَقُولُهُ الْمُعَظِّمُ عَنْ نَفْسِهِ وَيُقَالُ عَنْهُ» اهـ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: «وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا جَمْعُ التَّعْظِيمِ» اهـ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً»، قَالَ الْحَاكِمُ: «صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ». وَكَانَ نُزُولُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُجُومًا نُجُومًا، أَيْ مُتَفَرِّقًا، وَسُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِعِظَمِهَا وَشَرَفِهَا وَقَدْرِهَا.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2)﴾ ، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ(2)﴾ أَيْ وَمَا أَعْلَمَكَ يَا مُحَمَّدُ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَالتَّشَوُّقِ إِلَى خَيْرِهَا وَهَذَا لِتَعْظِيمِ شَأْنِهَا،

﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)﴾ الظَّاهِرُ أَنَّ أَلْفَ شَهْرٍ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ وَهِيَ ثَلاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَثُلُثُ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، فَالْعَمَلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الشُّهُورِ.

﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِّنْ كُلِّ أَمْرٍ(4)﴾ أَيْ تَهْبِطُ الْمَلائِكَةُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى الأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بالرُّوحِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ أَشْرَفُ الْمَلائِكَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِيهَا(4)﴾ أَيْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَوْلُهُ ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ(4)﴾ أَيْ بِأَمْرِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿مِّنْ كُلِّ أَمْرٍ(4)﴾ أَيْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَقَضَاهُ يَتَنَزَّلُونَ بِكُلِّ أَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِلٍ.

﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5)﴾ أَيْ إِنَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ سَلامَةٌ وَخَيْرٌ كُلُّهَا لا شَرَّ فِيهَا بَلْ فِيهَا خَيْرٌ وَبَرَكَةٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ لا يَحْدُثُ فِيهَا دَاءٌ وَلا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ وَحَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أَيْ إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ.

فَائِدَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَعلامَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانِ»، الْحَدِيثَ وَقَالَ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ: هِيَ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَقَالَ بَعْضٌ: أَخْفَاهَا فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِيَجْتَهِدَ الْمَرْءُ فِي الْعَمَلِ وَالطَّاعَاتِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ الْمُكَرَّم.

سورة البينة

سُورَةُ الْبَيِّنَةِ
وَهِيَ سُورَةُ ﴿لَمْ يَكُنْ﴾ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ
وَقِيلَ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانِ ءَايَات

بسم الله الرحمن الرحيم

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابَيّ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ(1)﴾»، قَالَ – أَيْ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ – وَسَمَّانِي؟، قَالَ: «نَعْمْ»، فَبَكَى، قَالَ الْحَافِظُ: «بَكَى إِمَّا فَرَحًا وَسُرُورًا بِذَلِكَ وَإِمَّا خُشُوعًا وَخَوْفًا مِنَ التَّقْصِيرِ فِي شُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ» اهـ، ثُمَّ قَالَ: «قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْعَرْضِ عَلَى أُبَيّ لِيَتَعَلَّمَ أُبَيُّ مِنْهُ الْقِرَاءَةَ وَيَتَثَبَّتَ فِيهَا، وَلِيَكُونَ عَرْضُ الْقُرْءَانِ سُنَّةً ولِلتَّنْبِيهِ عَلَى فَضِيلَةِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ وَتَقَدُّمِهِ فِي حِفْظِ الْقُرْءَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَسْتَذْكِرَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا بِذَلِكَ الْعَرْضِ» اهـ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: «وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ قِرَاءَةُ الْعَالِمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُبَيّ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ التَّوَاضُعَ لِئَلا يَأْنَفَ أَحَدٌ مِنَ التَّعَلُّمِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ» اهـ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ(1)﴾ يَعْنِي الْيَهُودَ، وَقَوْلُهُ ﴿وَالْمُشْرِكِينَ(1)﴾ أَيْ عَبَدَةُ الأَوْثَانِ أَيِ الأَصْنَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿مُنْفَكِّينَ(1)﴾ أَيْ مُنْتَهِينَ عَنِ الْكُفْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ(1)﴾ أَيْ حَتَّى أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَالْمُرَادُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لَهُمْ ضَلالَهُمْ وَجَهْلَهُمْ فَآمَنَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَفِي الآيَةِ بَيَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ ءَامَنَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذْ أَنْقَذَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْكُفْرِ بِبِعْثَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً(2)﴾ قَوْلُهُ ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ(2)﴾ أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً(2)﴾ أَيْ يَقْرَؤُهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ لا مِنْ كِتَابٍ، وَالصُّحُفُ الْمُطَهَّرَةُ الْقُرْءَانُ وَهُوَ مُطَهَّرٌ مِنَ الزُّورِ وَالشَّكِ.

﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ(3)﴾ أَيْ فِي الصُّحُفِ مَكْتُوبَاتٌ قَيِّمَةٌ، أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ لا اعْوِجَاجَ فِيهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ وَهِيَ الآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ.

﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ(4)﴾ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ(4)﴾ أَيْ أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ الْوَاضِحَةُ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَتَفَرَّقُوا فَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بَغْيًا وَحَسَدًا وَمِنْهُمْ مَنْ ءَامَنَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

﴿وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(5)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا(5)﴾ أَيْ فِي كِتَابَيْهِمُ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ، وَقَوْلُهُ ﴿إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ(5)﴾ أَيْ إلا أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ(5)﴾ أَيْ مِنَ الشِّرْكِ لا يَعْبُدُونَ سِوَاهُ، وَالدِّينُ الْعِبَادَةُ وَقَوْلُهُ ﴿حُنَفَاءَ(5)﴾ أَيْ مُسْتَقِيمِينَ عَلَى دِينِ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ وَنَبِيِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: “حُنَفَاءَ: أَيْ مَائِلِينَ عَنِ الأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الإِسْلامِ« اهـ، وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: “الْحَنَفُ: هُوَ مَيْلٌ عَنِ الضَّلالِ إِلَى الاسْتِقَامَةِ، وَالْحَنِيفُ: هُوَ الْمَائِلُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَحَنَّفَ فُلانٌ: أَيْ تَحَرَّى طَرِيقَ الاسْتِقَامَةِ، وَسَمَّتِ الْعَرَبُ كُلَّ مَنْ حَجَّ أَوْ اخْتَتَنَ حَنِيفًا” اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ(5)﴾ أَيِ الْمَكْتُوبَةَ فِي أَوْقَاتِهَا، وَقَوْلُهُ ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ(5)﴾ أَيْ عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَقَوْلُهُ ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(5)﴾ أَيْ وَذَلِكَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ هُوَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: “أَيْ ذَلِكَ دِينُ الْمِلَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ”، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: “أَوْ يُقَالُ دِينُ الأُمَّةِ الْقَيِّمَةِ بِالْحَقِّ”.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ(6)﴾ أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْكُفَّارِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَذَلِكَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ وَعَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي أَلَّفَهَا لِبَيَانِ عَقِيدَةِ السَّلَفِ وَالَّتِي بَدَأَهَا بِقَوْلِهِ: “هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ”. وَفِيهَا قَوْلُهُ: “وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ لا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ”.
وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ بُطْلانُ قَوْلِ ابْنِ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِيِّ الَّذِي قَالَ بِفَنَاءِ النَّارِ كَمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّة فِي كِتَابِهِ حَادِي الأَرْوَاحِ إِلَى بِلادِ الأَفْرَاحِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ مَرَاتِبِ الإِجْمَاعِ مَا نَصُّهُ: “بَابُ الإِجْمَاعِ فِي الاعْتِقَادَاتِ يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَهُ بِإِجْمَاعٍ: وَاتَّفَقُوا – أَيْ أَهْلُ الْحَقِّ – أَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّهَا دَارُ عَذَابٍ أَبَدًا، لا تَفْنَى وَلا يَفْنَى أَهْلُهَا أَبَدًا بِلا نِهَايَةٍ” اهـ.
وَاللَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لانَّهُمْ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِنَايَتُهُمْ أَعْظَمُ لانَّهُمْ أَنْكَرُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ(6)﴾ أَيْ شَرُّ الْخَلِيقَةِ وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أَيْ مِنَ الَّذِينَ عَاصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي كُفَّارِ الأُمَمِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلاءِ كَفِرْعَوْنَ وَعَاقِرِ نَاقَةِ صَالِحٍ.

﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7)﴾ أَيْ خَيْرُ الْخَلِيقَةِ.

﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ(8)﴾ أَيْ ثَوَابُهُمْ عِنْدَ خَالِقِهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ يُقِيمُونَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ(8)﴾ أَيْ رَضِيَ أَعْمَالَهُمْ وَقَبِلَهَا وَأَثَابَهُمْ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَرَضُوا عَنْهُ(8)﴾ أَيْ رَضُوا هُمْ بِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ(8)﴾ أَيْ أَنَّ هَذَا الْخَيْرَ الْكَبِيرَ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الأَوْصَافِ الْكَرِيمَةِ وَوَعَدَ بِهِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَافَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا فِي سِرِّهِ وَعَلانِيَتِهِ بِأَدَاءِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ.

سورة الزلزلة

سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ
مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَءَايَاتُهَا ثَمَان

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

رَوَى النَّسَائِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْءَانِ وَالْحَاكِمُ وَأَحْمَدُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرِأْنِي سُورَةً جَامِعَةً قَالَ فَاقْرَأْ ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)﴾ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَزِيدُ عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ الرُّوَيْجِل أَفْلَحَ الرُّوَيْجِل.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)﴾ أَيْ إِذَا حُرِّكَتِ الأَرْضُ حَرَكَةً شَدِيدَةً وَقَالَ مُقَاتِل: تَتَزَلْزَلُ مِنْ شِدَّةِ صَوْتِ إِسْرَافِيلَ حَتَّى يَنْكَسِرَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنْ شِدَّةِ الزَّلْزَلَةِ وَلا تَسْكُنُ حَتَّى تُلْقِيَ مَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ ثُمَّ تَتَحَرَّكُ وَتَضْطَرِبُ فَتُخْرِجُ مَا فِي جَوْفِهَا، وَفِي وَقْتِ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ قَوْلانِ أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ قَالَهُ الأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: إِنَّهَا زَلْزَلَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَهُ خَارِجَةُ بنُ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ.

﴿وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: لَفَظَتْ مَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مَيِّتٍ.

﴿وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا(3)﴾ فِيهِ قَوْلانِ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْكَافِرُ خَاصَّةً قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي نُزْهَةِ الأَعْيُنِ النَّوَاظِرِ، وَالْفَرَّاءُ فِي مَعَانِي الْقُرْءَانِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا زَلْزَلَةَ الْقِيَامَةِ لانَّ الْمُؤْمِنَ عَارِفٌ بِهَا فَلا يَسْأَلُ عَنْهَا وَالْكَافِرَ جَاحِدٌ لَهَا لانَّهُ لا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ فَلِذَلِكَ يَسْأَلُ.

﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُحَدِّثُ الأَرْضُ أَيْ تُخْبِرُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، اللَّهُ يُنْطِقُهَا فَتَشَهَدُ عَلَى الْعِبَادِ نُطْقًا بِمَا عَمِلُوا عَلَيْهَا، فَالْمُؤْمِنُونَ الأَتْقِيَاءُ لا تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ إلا بِالْحَسَنَاتِ لانَّ سَيِّئَاتِهِمْ مُحِيَتْ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا عَمِلَ مِنَ الْفُجُورِ وَالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ تَشْهَدُ الأَرْضُ لَهُ بِهَا، أَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ فَهَؤُلاءِ قِسْمَانِ قِسْمٌ مِنْهُمْ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوا مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ يَسْتُرُهُمُ اللَّهُ فَلا يُشْهِدُ الأَرْضَ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوا عَلَى ظَهْرِهَا، هَذِهِ هِيَ أَخْبَارُ الأَرْضِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارَهَا؟« قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: “فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا”.

﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)﴾ أَيْ أَنَّ الأَرْضَ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِوَحْيِّ اللَّهِ وَإِذْنِهِ لَهَا أَنْ تُخْبِرَ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: يُقَالُ: أَوْحَى لَهَا، وَأَوْحَى إِلَيْهَا، وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ الأَرْضَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إِدْرَاكًا فَيُعْلِمُهَا بِمَا كَانَ يُعْمَلُ عَلَى ظَهْرِهَا.

﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)﴾ أَيْ أَنَّ النَّاسَ يَنْصَرِفُونَ مِنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ أَشْتَاتًا أَيْ فِرَقًا فَرِيقٌ يَأْخُذُ جِهَةَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ جِهَةَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)﴾ أَيْ لِيُرَوْا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْمَوْقِفِ فِرَقًا لِيَنْزِلُوا مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَائِشَةُ لِيَرَوْا بِفَتْحِ الْيَاءِ.

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)﴾ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ: هِيَ أَحْكَمُ ءَايَةٍ فِي الْقُرْءَانِ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَّاهَا الآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الْحَافِظُ: سَمَّاهَا الْجَامِعَةَ لِشُمُولِهَا لِجَمِيعِ الأَنْوَاعِ مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَسَمَّاهَا فَاذَّةَ لانْفِرَادِهَا فِي مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ السُّعَدَاءِ زِنَةَ نَمْلَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الْخَيْرِ يَرَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ أَوْ يَرَى جَزَاءَهُ لانَّ الْكَافِرَ لا يَرَى خَيْرًا فِي الآخِرَةِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)﴾ أَيْ يَرَى جَزَاءَهُ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ(8)﴾ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ يَرَاهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَفِي الْمُوَطَإِ أَنَّ مَالِكَ بنَ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مِسْكِينًا اسْتَطْعَمَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ يَدَيْهَا عِنَبٌ فَقَالَتْ لإِنْسَانٍ: خُذْ حَبَّةً فَأَعْطِهِ إِيَّاهَا فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَعْجَبُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَتَعْجَبْ؟! كَمْ تَرَى فِي هَذِهِ الْحَبَّةِ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ؟! وَقَرَأَ أَبَّانُ عَنْ عَاصِمٍ يُرَه بِضَمِّ الْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْن.

سورة العاديات

سُورَةُ الْعَادِيَاتِ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا
وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا
وَءَايَاتُهَا إِحْدَى عَشْرَةَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا(1)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ: الْمُرَادُ بِالْعَادِيَاتِ: الْخَيْلُ تَعْدُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَضْبَح، وقال عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ إِنَّهَا الإِبِلُ فِي الْحَجِّ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالضَّبْحُ: صَوْتُ أَنْفَاسِ الْخَيْلِ إِذَا عَدَوْنَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ شَىْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ يَضْبَحُ غَيْرَ الْفَرَسِ وَالْكَلْبِ وَالْثَعْلَبِ.

﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا(2)﴾ فَالْخَيْلُ مِنْ شِدَّةِ عَدْوِهَا تَقْدَحُ النَّارَ بِحَوَافِرِهَا فَتُورِيهِ.

﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا(3)﴾ أَيِ الْخَيْلِ الَّتِي تُغِيرُ صَبَاحًا لِلْقِتَالِ لانَّ النَّاسَ يَكُونُونَ فِيهِ فِي الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الاسْتِعْدَادِ قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ.

﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا(4)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَفَعْنَ بِهِ غُبَارًا. وَالنَّقْعُ الْغُبَارُ وَيُقَالُ التُّرَابُ

﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا(5)﴾ أَيْ صَارَتِ الْخَيْلُ بِمَنْ رَكِبَهَا وَسَطَ الْجَمْعِ الَّذِي أَغَارُوا عَلَيْهِ.

﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(6)﴾ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالإِنْسَانِ الْكَافِرُ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَالْكَنُودُ الْكَفُورُ.

﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ(7)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى كُفْرِهِ لَشَهِيدٌ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: ﴿وَإِنَّهُ(7)﴾ أَيِ الإِنْسَانُ لَشَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَصْنَعُ.

﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ(8)﴾ أَيْ شَدِيدُ الْحُبِّ لِلْمَالِ وَالْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ، قَالَهُ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ، وَ﴿لَشَدِيدٌ(8)﴾ أَيْ لَقَوِيٌّ فِي حُبِّ الْمَالِ.

﴿أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ(9)﴾ أَيْ أَفَلا يَعْلَمُ الإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ إِذَا أُثِيرَ وَأُخْرِجَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَذَلِكَ لَمَّا تَنْشَقُّ الْقُبُورُ وَيَخْرُجُ الأَمْوَاتُ وَقَدْ أَعَادَهُمُ اللَّهُ أَحْيَاءً، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ(10)﴾ أَيْ مُيِّزَ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُبْرِزَ مَا فِيهَا، قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: لَوْ عَلِمَ الإِنْسَانُ الْكَافِرُ مَا لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَزَهِدَ فِي الْكُفْرِ وَدَخَلَ فِي الإِسْلامِ.

﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ(11)﴾ أَيْ عَالِمٌ بِهِمْ لا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَفِي غَيْرِهِ، وَخَصَّ هَذَا الْيَوْمَ لانَّهُ يَوْمَئِذٍ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ.

سورة القارعة

سُورَةُ الْقَارِعَةِ
مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَءَايَاتُهَا إِحْدَى عَشْرَةَ ءَايَةً

بسم الله الرحمن الرحيم

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْقَارِعَةُ(1)﴾ أَيِ الْقِيَامَةُ وَالسَّاعَةُ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَقْرَعُ قُلُوبَ الْخَلائِقِ بِأَهْوَالِهَا وَأَفْزَاعِهَا، وَالْقَرْعُ: الضَّرْبُ بِشِدَّةِ.

﴿مَا الْقَارِعَةُ(2)﴾ هَذَا اسْتِفْهَامٌ الْمُرَادُ بِهِ التَّهْوِيلُ.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ(3)﴾ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا لِلتَّخْوِيفِ.؟؟؟؟؟؟

﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ(4)﴾ أَيْ تَكُونُ الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: «﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ(4)﴾ كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَذَلِكَ النَّاسُ يَجُولُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ» اهـ. وَغَوْغَاءُ الْجَرَادِ صِغَارُهُ قَالَ عِزُّ الدِّينِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ: شَبَّهَ تَهَافُتَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ بِتَهَافُتِ الْفَرَاشِ فِيهَا، وَالْمَبْثُوثُ: الْمُتَفَرِّقُ الْمُنْتَشِرُ.

﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ(5)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ ﴿كَالْعِهْنِ(5)﴾: كَأَلْوَانِ الْعِهْنِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْعِهْنُ: الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ، أَيْ أَنَّ الْجِبَالَ تَصِيرُ كَالصُّوفِ الَّذِي يُنْفَشُ بِالْيَدِ أَيْ تَصِيرُ هَبَاءً وَتَزُولُ.

﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6)﴾ بِأَنْ رَجَحَتْ كَفَّةُ حَسَنَاتِهِ عَلَى كَفَّةِ سَيِّئَاتِهِ.

﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ(7)﴾ أَيْ مَرْضِيَّةٍ، وَالْمُرَادُ فِي الْجَنَّةِ.

﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8)﴾ بِأَنْ رَجَحَتْ كَفَّةُ السَيِّئَاتِ عَلَى كَفَّةِ الْحَسَنَاتِ. أَمَا الْكَافِرُ فَلا حَسَنَاتِ لَهُ فِي الآخِرَةِ، فَلَيْسَ لَهُ إلا كَفَّةُ السَيِّئَاتِ.

﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9)﴾ قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ فَهُوَ يَهْوِي فِي جَهَنَّمَ مَعَ بُعْدِ قَعْرِهَا، وَأُمُّهُ: مُسْتَقَرُّهُ وَمَسْكَنُهُ إِذْ لا مَأْوَى وَلا مَسْكَنَ لَهُ غَيْرُهَا، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لانَّ الأَصْلَ السُّكُونُ إِلَى الأُمَّهَاتِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أُمُّ رَأْسِهِ هَاوِيَةٌ يَعْنِي أَنَّهُ يَهْوِي فِي النَّارِ عَلَى رَأْسِهِ.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10)﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ الْهَاوِيَةَ وَالأَصْلُ: مَا هِيَ، وَأُدْخِلَتِ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ مَا هِيَ بِحَذْفِ الْهَاءِ الأَخِيرَةِ فِي الْوَصْلِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ وَقَرَأَ الْبَاقُون َبِإِثْبَاتِهَا فِي الْحَالَيْنِ قَالَ الزَّجَاجُ الْهَاءُ فِي هِيَهْ دَخَلَتْ فِي الْوَقْفِ لِتَبْيينِ فَتْحَةِ الْيَاءِ فَالْوَقْفُ هِيَهْ وَالْوَصْلُ هِيَ نَارٌ.

﴿نَارٌ حَامِيَةٌ(11)﴾ أَيْ نَارٌ شَدِيدَةُ الْحَرارَةِ بَلَغَتِ النِّهَايَةَ.

سورة التكاثر

سُورَةُ التَّكَاثُرِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانِ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ (8)

قِيلَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلانٍ وَبَنُوا فُلانٍ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلانٍ فَأَلْهَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا ضَلالا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيهِمْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ(1)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «التَّكَاثُرُ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا، أَيْ شَغَلَكُمُ الْمُبَاهَاةُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ وَالتَّفَاخُرُ بِالْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَالتَّشَاغُلُ بِالْمَعَاشِ وَالتِّجَارَةِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو عِمْرَانَ أَأَلْهَاكُم بِهَمْزَتَيْنِ مَقْصُورَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ ءَالْهَاكُمُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَمْدُودَةٍ اسْتِفْهَامًا أَيْضًا.

﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ(2)﴾ أَيْ مُفْتَخِرِينَ بِالأَمْوَاتِ تَزُورُونَ الْمَقَابِرَ وَتَعُدُّوُنَ مَنْ فِيهَا مِنْ مَوْتَاكُمْ تَكَاثُرًا وَتَفَاخُرًا، وَقِيلَ حَتَّى أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ وَأَنْتُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ حَضَرْتُمْ فِي الْمَقَابِرِ زُوَّارًا تَرْجِعُونَ مِنْهَا إِلَى مَنَازِلِكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَوْ فِي النَّارِ كَرُجُوعِ الزَّائِرِ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ ءاَدَمَ مَالِي مَالِي» قَالَ «وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ ءاَدَمَ مِنْ مَالِكَ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ».

﴿كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)﴾ : ﴿كَلَّا(3)﴾ أَيْ لَيْسَ الأَمْرُ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ، ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)﴾ أَيْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ هَذَا إِذَا نَزَلَ بِكُمُ الْمَوْتُ.

﴿ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)﴾ هَذَا وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ وَتَكْرَارُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ.

﴿كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)﴾ أَعَادَ ﴿كَلا(5)﴾ وَهُوَ زَجْرٌ وَتَنْبِيهٌ، وَالْمَعْنَى: لَوْ تَعْلَمُونَ الأَمْرَ عِلْمًا يَقِينًا لَشَغَلَكُمْ مَا تَعْلَمُونَ عَنِ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ.

﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(6)﴾ أَيِ النَّارَ، وَهَذَا وَعِيدٌ ءَاخَرُ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَسَمِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَالْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ وَجَبَتْ لَهُمُ النَّارُ».

﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)﴾ أَيْ مُشَاهَدَةً فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ(7)﴾ نَفْسُ الْيَقِينِ لأَنَّ عَيْنَ الشَّىْءِ ذَاتُهُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ فِيهِ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاهُ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».

﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾ الظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي النَّعِيمِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُتَلَذَّذُ بِهِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَمَفْرَشٍ وَمَرْكَبٍ، وَالأَمْنُ وَالْمَاءُ الْبَارِدُ الْعَذْبُ وَصِحَّةُ الأَبْدَانِ وَالْفَرَاغُ وَكُلُّ شَىْءٍ مِنْ لَذَّةِ الدُّنْيَا فَالْكَافِرُ يُسْأَلُ تَوْبِيخًا إِذْ لَمْ يَشْكِرِ الْمُنْعِمَ وَلَمْ يُوَحِّدْهُ، وَالْمُؤْمِنُ يُسْأَلُ عَنْ شُكْرِهَا وَالشُّكْرُ أَنْ لا يَعْصِيَهُ بِنِعَمِهِ.

سورة العصر

سُورَةُ الْعَصْرِ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ ثَلاثُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْعَصْرِ(1)﴾ أَيِ الدَّهْرِ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لاشْتِمَالِهِ عَلَى أَصْنَافِ الْعَجَائِبِ وَتَبَدُّلِ الأَحْوَالِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدِّلالَةِ عَلَى الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلا، وَقِيلَ هُوَ قَسَمٌ بِصَلاةِ الْعَصْرِ وَهِيَ الصَّلاةُ الْوُسْطَى فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ وَابْنِ مَاجَه: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى صَلاةِ الْعَصْرِ».

﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)﴾ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ وَلِذَلِكَ صَحَّ الاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَفِي خُسْرٍ(2)﴾ أَيْ لَفِي خُسْرَانٍ، أَيْ هَلَكَةٍ وَعُقُوبَةٍ.

﴿إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(3)﴾ أَيْ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَمِلُوا بِالطَّاعَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ(3)﴾ أَيْ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالأَمْرِ الثَّابِتِ الَّذِي لا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ وَهُوَ الْخَيرُ كُلُّهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾ أَيْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعَنِ الْمَعَاصِي وَعَلَى الْبَلاءِ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاَل: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا عُمِّرَ فِي الدُّنْيَا لَفِي نَقْصٍ وَضَعْفٍ إِلا الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ أُجُورُ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي شَبَابِهِمْ وَصِحَّتِهِمْ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَرَاتِبِ الَّتِي بِاسْتِكْمَالِهَا يَحْصُلُ لِلشَّخْصِ غَايَةُ كَمَالِهِ إِحْدَاهَا: مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، وَالثَّانِيَةُ: عَمَلُهُ بِهِ، وَالثَّالِثَةُ: تَعْلِيمُهُ مَنْ لا يُحْسِنُهُ، وَالرَّابِعَةُ: صَبْرُهُ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَتَعْلِيمِهِ» اهـ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا الْتَقَيَالَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ ﴿وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)﴾ – أَيْ إِلَى ءَاخِرِهَا – قَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِيُّ: «رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اسْتَحْسَنُوا أَشْيَاءَ مِنَ الْخَيْرِ وَعَمِلُوا بِهَا وَإِنْ لَمْ تَرِدْ نَصًّا فِي الْقُرْءَانِ أَوِ الْحَدِيثِ بَلْ وَجَدُوا أَنَّهَا تَنْدَرِجُ تَحْتَ أَصْلٍ عَامٍّ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَلِهَذَا قَالَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الأُمُورِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثرًا أَوْ إِجْمَاعًا فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلالَةُ، وَالثَّانِيَةُ: مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ لا خِلافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا، وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ، انْتَهَى قَوْلُهُ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَهَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعَدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيِهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ». قَالَ النَّوَوِيُّ: «وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُحْدَثَاتُ الْبَاطِلَةُ وَالْبِدَعُ الْمَذْمُومَةُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ صَلاةِ الْجُمُعَةِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْبِدَعَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: وَاجِبَةٌ، وَمَنْدُوبَةٌ، وَمُحَرَّمَةٌ، وَمَكْرُوهَةٌ، وَمُبَاحَةٌ» انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ النَّوَوِيِّ بِنَصِّهِ.

سورة الهمزة

سُورَةُ الْهُمَزَةِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ تِسْعُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُّوصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)

أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَن ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ كَانَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ إِذَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَزَهُ وَلَمَزَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ السُّورَةَ كُلَّهَا وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ(1)﴾ الْوَيْلُ مَعْنَاهُ الْخِزْيُّ وَالْعَذَابُ وَالْهَلَكَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ(1)﴾ فَالْهُمَزَةُ الْمَشَّاءُ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الإِخْوَانِ، رَوَاهُ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ الرَّاغِبُ: اللَّمْزُ: الِاغْتِيَابُ وَتَتَبُّعُ الْمَعَابِ، ثُمَّ قَالَ وَرَجُلٌ لَمَّازٌ وَلُمَزَةٌ كَثِيرُ اللَّمْزِ.

﴿الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ(2)﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفُ وَرَوْح ﴿جَمَّعَ(2)﴾ بِالتَّشْدِيدِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَعَدَّدَهُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمٰنِ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمَرَ وَعَدَدَهُ بِتَخْفِيفِهَا فَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ فَمَعْنَاهُ أَعَدَّهُ لِمَا يَكْفِيهِمْ فِي السِّنِين وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَالْمُرَادُ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ وَأَحْصَى عَدَدَهُ وَفَاخَرَ بِكَثْرَتِهِ، وَالْمَقْصُودُ الذَّمُّ عَلَى إِمْسَاكِ الْمَالِ عَنْ سَبِيلِ الطَّاعَةِ.

﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ(3)﴾ أَيْ يَظُنُّ مِنْ جَهْلِهِ أَنَّ مَالَهُ مَانِعٌ لَهُ مِنَ الْمَوْتِ فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ مَنْ لا يَظُنُّ أَنَّهُ يَمُوتُ.

﴿كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ(4)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَلا(4)﴾ فِيهَا رَدٌّ لِمَا تَوَهَّمَهُ الْكَافِرُ وَرَدْعٌ لَهُ عَنْ حُسْبَانِهِ فَإِنَّهُ لا يُخَلِّدُهُ مَالُهُ بَلْ وَلا يَبْقَى لَهُ فَقَدْ يَرِثُهُ مَنْ يُحِبُّهُ وَقَدْ يَرِثُهُ مَنْ يَكْرَهُهُ. وَقَوْلُهُ ﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ(4)﴾ أَيْ لَيُطْرَحَنَّ وَلَيُلْقَيَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُحَطِّمُ مَا يُلْقَى فِيهَا أَيْ تَكْسِرُهُ فَهِيَ تُهَشِّمُ الْعَظْمَ بَعْدَ أَنْ تَأْكُلَ اللَّحْمَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمٰنِ وَالْحَسَنُ وابْنُ أَبِي عَبْلَةَ لَيُنْبَذَانّ بِأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ وَبِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا أَيْ هُوَ وَمَالُهُ

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ(5)﴾ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِشَأْنِهَا وَالتَّفْخِيمِ لِأَمْرِهَا.

﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ(6)﴾ أَيِ الْمُسَعَّرَةُ.

﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ(7)﴾ يَعْنِي أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي أَجْوَافِهِمْ فَتَأْكُلُ اللَّحْمَ وَالْجُلُودَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى صُدُورِهِمْ وَتَبْلُغَ إِلىَ أَفْئِدَتِهِمْ وَهِيَ أَوْسَاطُ الْقُلُوبِ فَتُحْرِقَهَا وَلا شَىْءَ فِي بَدَنِ الإِنْسَانِ أَلْطَفُ مِنَ الْفُؤَادِ وَلا أَشَدُّ تَأَلُمًا مِنْهُ بِأَدْنَى أَذَى يَمَسُّهُ فَكَيْفَ إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ نَارُ جَهَنَّمَ.

﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُّوصَدَةٌ(8)﴾ أَيْ مُطْبِقَةٌ فَالْكُفَّارُ يَائِسُونَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ.

﴿فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ(9)﴾ أَيْ مُوصَدَةٍ بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ، أَيْ أُحْكِمَ إِيصَادُهَا وَإِغْلاقُهَا بِهَذِهِ الْعَمَدِ وَهِيَ أَوْتَادُ الأَطْبَاقِ الَّتِي تُطْبَقُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ فَتُشَدُّ تِلْكَ الأَطْبَاقُ بِالأَوْتَادِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: «وَالْعَمَدُ: جَمْعُ عَمُود». وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: «وَالْعَمُودُ كُلُّ مُسْتَطِيلٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ»، فَتُوصَدُ أَبْوَابُ النَّارِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ تُشَدُّ بِأَوْتَادٍ مِنْ حَدِيدٍ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ غَمُّهَا وَحَرُّهَا، نَسْأَلُ اللَّهَ النَّجَاةَ مِنْهَا ءَامِين. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ إلا حَفْصًا عُمُدٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ.

سورة الفيل

سُورَةُ الْفِيلِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ خَمْسُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِّنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ(1)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «قَالَ مُجَاهِدٌ: أَلَمْ تَرَ أَلَمْ تَعْلَم». وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَلَمْ تُخْبَر».
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)﴾ وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّتِهِمْ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ أَبْرَهَةَ بنَ الصَّبَّاحِ الأَشْرَم مَلِكَ الْيَمَنِ مِنْ قِبَلِ أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ لَمَّا سَارَ بِجُنُودِهِ إِلَى الْكَعْبَةِ لِيَهْدِمَهَا خَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْغَارَةِ عَلَى نَعَمِ النَّاسِ فَأَصَابُوا إِبِلا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاسْمُهُ شَيْبِةُ الْحَمْدِ، وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ بَعْضَ جُنُودِهِ قَالَ لَهُ: سَلْ عَنْ شَرِيفِ مَكَّةَ وَأَخْبِرْهُ إِنِّي لَمْ ءَاتِ لِقِتَالٍ وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأَهْدِمَ هَذَا الْبَيْتَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ فَلَقِيَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بنَ هَاشِمٍ فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ أَرْسَلَنِي لأُخْبِرَكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ إِلا أَنْ تُقَاتِلُوهُ وَإِنَّمَا جَاءَ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ ثَمَّ يَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: مَا لَهُ عِنْدَنَا قِتَالٌ وَمَا لَنَا بِهِ يَدٌ، إِنَّا سَنُخْلِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرامُ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإِنْ يَمْنَعْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ مَا لَنَا بِهِ قُوَّة، قَالَ: فَانْطَلَقَ مَعِي إِلَى الْمَلِكِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى أَبْرَهَةَ أَعْظَمَهُ وَكَرَّمَهُ ثُمَّ قَالَ لِتُرْجِمَانِهِ قُلْ لَهُ: مَا حَاجَتُكَ إِلَى الْمَلِكِ؟ فَقَالَ لَهُ التُّرجُمَانُ، فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا، فَقَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجِمَانِهِ قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ وَلَقَدْ زَهِدْتُ الآنَ فِيكَ، جِئْتُ إِلَى بَيْتٍ هُوَ دِينُكَ لأَهْدِمَهُ فَلَمْ تُكَلِّمْنِي فِيهِ وَكَلَّمْتَنِي فِي إِبِلٍ أَصَبْتُهَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَنَا رَبُّ هَذِهِ الإِبِلِ – أَيْ مَالِكُهَا – وَلِهَذَا الْبَيْتِ رَبٌّ سَيَمْنَعُهُ، فَأَمَرَ بِإِبِلِهِ فَرُدَّتْ عَلَيْهِ فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ قُرَيْشًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ خَوْفًا مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ إِذَا دَخَلَ فَفَعَلُوا، فَأَتَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ وَجَعَلَ يَقُولُ:
يَا رَبِّ لا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا *** يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا *** إِمْنَعُهُمُ أَنْ يُخْرِبُوا قُرَاكَا
ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ أَصْبَحَ مُتَهَيِّئًا لِلدُّخُولِ فَبَرَكَ الْفِيلُ وَقَعَدَ فَبَعَثُوهُ فَأَبَى فَضَرَبُوهُ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ إِلَى الْيَمَنِ رَاجِعًا فَقَامَ يُهَرْوِلُ وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَإِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَوَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ فَأَبَى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ وَكَانَ مَعَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلاثَةَ أَحْجَارٍ حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَكَانَ كُلُّ حَجَرٍ فَوْقَ حَبَّةِ الْعَدَسِ وَدُونَ حَبَّةِ الْحِمَّصِ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَرْمِيِّهِ يَنْزِلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَخْرِقُهُ وَيَقَعُ فِي دِمَاغِهِ، فَهَلَكُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَكَانَ أَصْحَابُ الْفِيلِ سِتِّينَ أَلْفًا». وَمِرِضَ أَبْرَهَةُ بْنُ الصَّبَّاحِ فَتَقَطَّعَ أَنْمُلَةً أَنْمُلَةَ وَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ. وَانْفَلَتَ أَبُو يَكْسُومَ الْكِنْدِيُّ وَزِيرُ أَبْرَهَةَ وَطَائِرٌ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى النَّجَاشِيِّ وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى لِلْقَوْمِ فَرَمَاهُ الطَّائِرُ بِحَجَرٍ فَمَاتَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ فَأَرَاهُ اللَّهُ كَيْفَ كَانَ هَلاكُ أَصْحَابِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَتْ قِصَّةُ الْفِيلِ تَوْكِيدًا لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمْهِيدًا لِشَأْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَ التَّحَدِّي، وَقَدْ وُلِدَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَامَ الْفِيلِ عَلَى الأَصَحِّ لِثَمَانِ لَيَالٍ خَلَتْ مِنِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَقِيلَ: لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْهُ، وَقِيلَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهَ الْقِصَّةِ أَرْبَعُونَ عَامًا فَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ.

﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ(2)﴾ فَكَيْدُهُمْ هُوَ مَا أَرَادُوا مِنْ تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ وَهَدْمِهَا، وَ﴿فِي تَضْلِيلٍ(2)﴾ أَيْ فِي إِبْطَالٍ وَتَضِييعٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كَيْدَهُمْ ضَلَّ عَمَّا قَصَدُوا لَهُ فَلَمْ يَصِلُوا إِلَى مُرَادِهِمْ.

﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ(3)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «أَبَابِيل مُتَتَابِعَة مُجْتَمِعَة» وَقِيلَ الْكَثِيرَة وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لا وَاحِدَ لَهَا» وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِّنْ سِجِّيلٍ(4)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ سِجِّيلٍ هِيَ سَنْكِ وَكِلْ» أَيْ طِينٍ وَحِجَارَةٍ، وسِجِّيلٍ مُعَرَّب، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: «قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿مِّنْ سِجِّيلٍ(4)﴾ أَيْ مِنْ سِجِّلٍ، أَيْ مِمَّا كُتِبَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ وَالسِّجِّيلُ بِمَعْنَى السِّجِّينِ، قَالَ الأَزْهَرِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ مَا مَرَّ فِيهَا عِنْدِي وَأَثْبَتُهَا» اهـ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمٰنِ السُّلَمِيُّ يَرْمِيهِمْ بِالْيَاءِ.

﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ(5)﴾ أَيْ كَوَرَقِ الزَّرْعِ إِذَا أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ فَرَمَتْ بِهِ مِنْ أَسْفَل، شَبَّهَ تَقَطُّعَ أَوْصَالِهِمْ بِتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ.

سورة قريش

سُورَةُ قُرَيْشٍ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهِيَ أَرْبَعُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِّنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُمْ مِّنْ خَوْفٍ (4)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لإِيلافِ قُرَيْشٍ(1)﴾، قَالَ الْبُخَارِيُّ: «قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لإِيلافِ لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ». وَاللامُ لِلتَّعَجُّبِ، أَيِ اعْجَبُوا لإِيْلافِ قُرَيْشٍ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالأَخْفَشُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿لإِيلافِ(1)﴾ أَلِفُوا ذَلِكَ فَلا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ». وَكَأَنَّ الْمَعْنَى اعْجَبُوا لإِيلافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَتَرْكِهِمْ عِبَادَةَ رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، وَقِيلَ: الَّلامُ مَوْصُولَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ لإِيلافِ قُرَيْشٍ أَيْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ وَمَا قَدْ أَلِفُوا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهَا وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ لإِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الرِّحْلَتَيْنِ ءَامِنِينَ فَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ عَارِضٌ قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ فَلا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ. وَالرِّحْلَتَانِ كَانَتَا لِلتِّجَارَةِ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ إِلَى الشَّامِ فِي الصَّيْفِ وَإِلَى الْيَمَنِ فِي الشِّتَاءِ لِشِدَّةِ بَرْدِ الشَّامِ.
وَفِي قُرَيْشٍ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا الزَّبِيدِيُّ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ فَقَالَ مَمْزُوجًا بِالْمَتْنِ: «وَقَرَشَهُ يَقْرِشُهُ قَرْشًا مِنْ حَدِّ ضَرَبَ، وَيَقْرُشُهُ أَيْضًا مِنْ حَدِّ نَصَرَ، قَطَعَهُ وَقَرَشَهُ وَجَمَعَهُ مِنْ هَهُنَا وَهَهُنَا وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِنْهُ قُرَيْشٌ الْقَبِيلَةُ وَأَبُوهُمُ النَّضْرُ ابْنُ كِنَانَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ إِلْيَاسَ بنِ مُضَرَ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ دُونَ وَلَدِ كِنَانَةَ وَمَنْ فَوْقَهُ» اهـ.

﴿إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ(2)﴾ الْمَعْنَى أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ بِالْحَرَمِ ءَامِنَةً مِنَ الأَعْدَاءِ، وَالْحَرَمُ وَادٍ جَدِيبٌ لا زَرْعَ فِيهِ وَلا شَجَرَ وَإِنَّمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَعِيشُ فِيهِ بِالتِّجَارَةِ، وَكَانَتْ لَهُمْ رِحْلَتَانِ كُلَّ سَنَةٍ رِحْلَةٌ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَرِحْلَةٌ فِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، وَلَوْلا هَاتَانِ الرِّحْلَتَانِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُقَامٌ، فَلا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَا قَدْ أَلِفُوا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ مِنَّةً مِنْهُ تَعَالَى عَلَى قُرَيْشٍ.

﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3)﴾ تَذْكِيرٌ لِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذَا الْبَيْتِ.

﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِّنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُمْ مِّنْ خَوْفٍ(4)﴾ أَيِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ بَعْدَ جُوعٍ وَءَامَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عَظِيمٍ وَهُوَ خَوْفُ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَالَّلفْظُ يَعُمُّ».

سورة الماعون

سُورَةُ الْمَاعُونِ
مَكِّيَّةٌ وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ سَبْعُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)﴾ أَيْ بِالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ فِي الآخِرَةِ.

﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿يَدُعُّ(2)﴾: يَدْفَعُ عَنْ حَقِّهِ» أَيْ يَظْلِمُهُ وَيَقْهَرُهُ، بِأَنْ يَدْفَعَ الْيَتِيمَ عَنْ حَقِّهِ دَفْعًا عَنِيفًا لِيَأْخُذَ مَالَهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَكَانُوا لا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلا الصِّغَارَ وَيَقُولُونَ إِنَّمَا يَحُوزُ الْمَالَ مَنْ يَطْعَنُ بِالسِّنَانِ وَيَضْرِبُ بِالْحُسَامِ».

﴿وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(3)﴾ أَيْ لا يَأْمُرُ بِإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ لِتِكْذِيبِهِ بِالْجَزَاءِ فَلا يَفْعَلُونَهُ إِنْ قَدَرُوا وَلا يَأْمُرُونَ بِهِ إِنْ عَسِرُوا، فَلا يَأْمُرُونَ بِالإِطْعَامِ بَلْ يَقُولُونَ: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِمْ وَتَوَجَّهَ الذَّمُّ إِلَيْهِمْ.

﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ(4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ(5)﴾ الْوَيْلُ شِدَّةُ الْعَذَابِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: « وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿سَاهُونَ(5)﴾: لاهُونَ»، قَالَ الْحَافِظُ: «وَهُوَ الَّذِي يُصَلِّيهَا لِغَيْرِ وَقْتِهَا»، أَيْ بِلا عُذْرٍ كَسَفَرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: «نَزَلَ هَذَا فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِصَلاتِهِمْ ثَوَابًا وَلا يَخَافُونَ عَلَى تَرْكِهَا عِقَابًا، فَإِنْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّوْا رِيَاءً وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَعَهُ لَمْ يُصَلُّوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ(6)﴾ » اهـ.
وَالرِّيَاءُ مِنْ مَعَاصِي الْقَلْبِ وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ كَالصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ مَدْحَ النَّاسِ وَإِجْلالَهُمْ، وَالرِّيَاءُ يُحْبِطُ ثَوَابَ الْعَمَلِ الَّذِي قَارَنَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ رِيَائِهِ وَتَابَ أَثْنَاءَ الْعَمَلِ فَمَا فَعَلَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْهُ لَهُ ثَوَابُهُ، وَأَيُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ دَخَلَهُ الرِّيَاءُ فَلا ثَوَابَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ جَرَّدَ الرَّجُلُ قَصْدَهُ لِلرِّيَاءِ أَوْ قَرَنَ بِهِ قَصْدَ طَلَبِ الأَجْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلا يَجْتَمِعُ الثَّوَابُ وَالرِّيَاءُ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ بِالإِسْنَادِ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلا غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ قَالَ: «لا شَىْءَ لَهُ» فَأَعَادَهَا ثَلاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لا شَىْءَ لَهُ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ وَمَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ».

﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْمَاعُونُ الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: الْمَاعُونُ: الْمَاءُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَعْلاهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَأَدْنَاهَا عَارِيَّةُ الْمَتَاعِ» اهـ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ» أَيْ مِثْلَ قَوْلِ عِكْرِمَةَ.

سورة الكوثر

سُورَةُ الْكَوْثَرِ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ
وَهِيَ ثَلاثُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)

أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ مَكَّةَ فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ أَنْتَ سَيِّدُهُمْ أَلا تَرَى إِلَى هَذَا الْمُنْصَبِرِ الْمُنْبَتِرِ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ وَأَهْلُ السِّدَانَةِ قَالَ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ فَنَزَلَتْ ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(3)﴾.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1)﴾ رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ الدُّرِ الْمُجَوَّف قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِيبُهُ أَوْ طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ»، شَكَّ هَدَبَةُ بنُ خَالِدٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1)﴾: «هُوَ نَهْرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ ءَانِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ مَنْ جَهِلَ قَدْرَهُ هَتَكَ سِتْرَهُ». فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِالْحَوْضِ وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ قَبْلَ دُخُولِهَا لَكِنْ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ وَإِنَّمَا يَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا، ويُصَبُّ فِي الْحَوْضِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا وَالَّلفْظُ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأُنَاوِلَهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَصْحَابِي، يَقُولُ: لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ». وَرَوَاهُ مَاِلكٌ بِزِيادَةِ: «فَأَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا». وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا فَقُلْنَا لِمَا ضَحِكْتَ فَقَالَ «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ ءَانِفًا سُورَةً» فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ حَتَّى خَتَمَهَا وَقَالَ «هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ» فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ «هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ءَانِيَتُهُ عَدَدُ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ يُخْتَلَجُوا الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ يَا رَبِّي إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ لِي إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» وَفِي الْحَدِيثِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ وَإِنْ قَالُوا بِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ عُدُولُ الرِّوَايَةِ لأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لا يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَتْقِيَاءُ صَالِحُونَ إِذْ لَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَقَعُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي فِي ذَنْبٍ وَلا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي قَبْرِهِ بَلْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ خِلافُ هَذَا، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خَادِمٍ لَهُ كَانَ مَوْكُولا إِلَيْهِ ثَقَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ مَتَاعُهُ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ: «إِنَّهُ فِي النَّارِ»، وَكَانَ قَدْ غَلَّ شَمْلَةً وَهِيَ كِسَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْتَزَرُ بِهِ أَخَذَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ أَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ.

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)﴾ فَصَلِّ لِرَبِّكَ أَيْ صَلاةَ الْعِيدِ، وَقِيلَ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَقِيلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْس وَانْحَرْ أَيِ اذْبَحْ يَوْمَ النَّحْرِ الذَّبَائِحَ وَهِيَ البُدْنُ جَمْعُ بَدَن وَهِيَ الإِبِلُ وَهِيَ خِيَارُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ، وَتَصَدَّقْ عَلَى الْمَحَاوِيجِ خِلافًا لِمَنْ يَدُعُّهُمْ وَيَمْنَعُ عَنْهُمُ الْمَاعُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(3)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَانِئَكَ عَدُوَّكَ، وَالأَبْتَرُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ».

سورة الكافرون

سُورَةُ الْكَافِرُونَ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَهِيَ سِتُّ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ فَرْوَةَ بنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «اقْرَأْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ».

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)﴾ أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ، وَالْكَافِرُونَ هُمْ أُنَاسٌ مَخْصُوصُونَ وَهُمُ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْبُدَ أَوْثَانَهُمْ سَنَةً وَيَعْبُدُوا إِلَهَهُ سَنَةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ إِخْبَارًا أَنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَهُ فِي الْفَتْحِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ(1)﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَخِطَابُهُ لَهُمْ بِكَلِمَةِ «يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ» فِي نَادِيهِمْ وَمَكَانِ بَسْطَةِ أَيْدِيهِمْ مَعَ مَا فِي هَذَا الْوَصْفِ مِنَ الِازْدِرَاءِ بِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُبَالِي بِهِمْ فَاللَّهُ يَحْمِيهِ وَيَحْفَظُهُ.

﴿لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «الآنَ وَلا أُجِيبُكُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي» أَيْ فِيمَا تَعْبُدُونَ مِنَ الأَصْنَامِ.

﴿وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3)﴾ أَيْ لا تَعْبُدُونَ اللَّهَ فِي الْحَالِ وَلا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إِذْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.

﴿وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ(4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)﴾ وَهَذَا التَّوْكِيدُ فَائِدَتُهُ قَطْعُ أَطْمَاعِ الْكُفَّارِ وَتَحْقِيقُ الإِخْبَارِ بِوَفَاتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَأَنَّهُمْ لا يُسْلِمُونَ أَبَدًا وَلا يُؤْمِنُونَ.

﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)﴾ فِي الآيَةِ مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [سُورَةَ القِصَصِ/55]، فَقَوْلُهُ ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ(6)﴾ أَيِ الْبَاطِلُ وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي تَعْتَقِدُونَهُ وَتَتَوَلَوْنَهُ ﴿وَلِيَ دِينِ(6)﴾ الَّذِي هُوَ دِينُ الْحَقِّ وَهُوَ الإِسْلامُ، أَيْ لَكُمْ شِرْكُكُمْ وَلِيَ تَوْحِيدِي وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّبَرِّي مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي إِفَادَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سَورَةِ الْكَهْفِ: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، فَلَيْسَ مَعْنَى الآيَةِ أَنَّ مَنِ اخْتَارَ الإِيـمَانَ كَمَنِ اخْتَارَ الْكُفْرَ، بَلْ مَنِ اخْتَارَ الْكُفْرَ مُؤَاخَذٌ وَمَنِ اخْتَارَ الإِيـمَانَ مُثَابٌ، وَيَدُّلُ عَلَى أَنَّهَا تُفِيدُ التَّهْدِيدَ بَقِيَّةُ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ [سُورَةَ الْكَهْف/29]، وَهُنَا يَجْدُرُ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: مَنْ قَالَ فِي الآيَتَيْنِ إِنَّهُمَا تُفِيدَانِ أَنْ لا مُؤَاخَذَةَ عَلَى مَنِ اخْتَارَ دِينًا غَيْرَ الإِسْلامِ إِنَّهُ يَكْفُرُ لِتَكْذِيبِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/85].

فَائِدَةٌ أَفَادَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَنَّ مَا سِوَى دِينِ الإِسْلامِ مِنَ الأَدْيَانِ يُسَمَّى دِينًا مَعَ كَوْنِهِ بَاطِلا فَاسِدًا، فَالآيَةُ مَعْنَاهَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَكُمْ دِيْنُكُمُ الْفَاسِدُ الْبَاطِلُ وَلِيَ دِينُ الْحَقِّ وَهُوَ الإِسْلامُ.

سورة النصر

سُورَةُ النَّصْرِ
مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ وَهِيَ ثَلاثُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَتُسَمَّى سُورَةَ التَّوْدِيعِ وَهِيَ ءَاخِرُ سَورَةٍ نَزَلَتْ جَمِيعًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَءَاخِرُ ءَايَةٍ نَزَلَتْ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)﴾ النَّصْرُ: الْعَوْنُ، وَأَمَّا الْفَتْحُ فَهُوَ فَتْحُ مَكَّةَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَنَقَلَ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَالَتِ الْعَرَبُ: أَمَّا إِذَا ظَفَرَ مُحَمَّدٌ بِأَهْلِ الْحَرَمِ وَقَدْ أَجَارَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ فَلَيْسَ لَكُمْ بِهِ يَدَانِ – أَيْ طَاقَة – فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا» فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2)﴾ أَيْ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةً فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ بَعْدَمَا كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الإِسْلامِ وَاحِدًا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)﴾ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإِيـمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا».
فَائِدَةٌ قاَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: «قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَأَتْبَاعُ أَبِي الْحَسَنِ مِنْ قَوْمِهِ لأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ أُضِيفَ فِيهِ قَوْمٌ إِلَى نَبِيٍّ أُرِيدَ بِهِ الأَتْبَاعُ» انْتَهَى كَلامُهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ – أَيْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا» -: «وَمَعْلُومٌ بِأَدِلَّةِ الْعُقُولِ وَبَرَاهِينِ الأُصُولِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَوْلادِ أَبِي مُوسَى لَمْ يَرُدَّ عَلَى أَصْحَابِ الأَبَاطِيلِ وَلَمْ يُبْطِلْ شُبَهِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالأَضَالِيلِ بِحُجَجٍ قَاهِرَةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَدَلائِلَ بَاهِرَةٍ مِنَ الإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ إِلا الإِمَامَ أَبَا الْحَسَنِ الأَشْعَرِيَّ، وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى فَضِيلَةِ الإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاهَدَ أَعْدَاءَ الْحَقِّ وَقَمَعَهُمْ وَفَرَّقَ كَلِمَتَهُمْ وَبَدَّدَ جَمْعَهُمْ بِالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالأَدِلَّةِ الْبَاهِرَةِ السَّمْعِيَّةِ» اهـ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْفَائِدَةَ الْجَلِيلَةَ لِمُنَاسَبَتِهَا هَذِهِ الآيَاتِ الشَّرِيفَة إِظْهَارًا وَإِشْهَارًا لِمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ وَالْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ وَالْحَافِظِ مُحَمَّدِ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيِّ شَارِحِ الْقَامُوسِ وَصَاحِبِ الإِتْحَافِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ مَا نَصُّهُ: «الْفَصْلُ الثَّانِي: إِذَا أُطْلِقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ الأَشْعَرِيَّةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ» اهـ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ(3)﴾ فِيهِ قَوْلانِ أَحَدُهُمَا: الصَّلاةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالآخَرُ: التَّسْبِيحُ الْمَعْرُوفُ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)﴾ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)﴾ إِلَّا يَقُولُ فِيهَا «سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْءَانَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يُذَمُّ كُلُّ تَأْوِيلٍ لِلْقُرْءَانِ لِمُجَرَّدِ لَفْظِ تَأْوِيلٍ، إِنَّمَا يُذَمُّ مَا كَانَ مِنْ تَأْوِيلاتِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ أَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [سُورَةَ الْقِيَامَة] قَالُوا مُنْتَظِرَةٌ ثَوَابَ رَبِّهَا، فَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَذْمُومُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ حَيْثُ إِنَّ التَّأْوِيلَ غَيْرُ جَائِزٍ إِلا بِدَلِيلٍ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي «الْبُرْهَانِ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ» وَهُوَ كَذَلِكَ قَوْلُ الإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ حَيْثُ نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ «الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ» وَأَقَرَّهُ، وَقَالَ عَقِبَهُ: «وَحَسْبُكَ بِهَذَا الْكَلامِ مِنَ الإِمَامِ» هَذَا وَقَدْ عَقَدَ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ هَذَا فَصْلًا يَنْقُلُ فِيهِ بَعْضَ التَّأْوِيلاتِ لِبَعْضِ الْمُتَشَابِهَاتِ مِنَ الآيَاتِ مَعَ ذِكْرِ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ حَقِيقَتِهَا كَتَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ [سُورَةَ الْقَلَم/42] قَالَ: هَذَا يَوْمُ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ صِفَةُ الْفَوْقِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/18]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/50] وَالْمُرَادُ بِهَا الْعُلُوُّ مِنْ غَيْرِ جِهَةٍ وَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/127] وَلا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْعُلُوَّ الْمَكَانِيَّ» انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ فِي كِتَابِهِ الإِتْقَان.
وَيَدُلُّ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لا يُذَمُّ التَّأْوِيلُ لِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ فَهَذَا أَثَرُ بَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ»، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» قَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: «رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِأَسَانِيدَ وَلَهُ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ تَأْوِيلَ الْقُرْءَانِ» وَلِأَحْمَدَ طَرِيقَانِ رِجَالُهُمَا رِجَالُ الصَّحِيحِ». قَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي: «وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ مِمَّا تَحَقَّقَ إِجَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لِمَا عُلِمَ مِنْ حَالِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْرِفَةِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ» اهـ. وَيَظْهَرُ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي تَأَوُّلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/47] قَالَ ﴿بِأَيْدٍ﴾: أَيْ بِقُوَّةٍ، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَرَوَاهُ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَلْحَةَ فِي صَحِيفَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ قَوْلِهِ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)﴾ [سُورَةَ النَّصْر/3] مَا نَصُّهُ: «تَوَّابٌ عَلَى الْعِبَادِ وَالتَّوَّابُ مِنَ الْعِبَادِ التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ»، ثُمَّ رَوَى عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ، فَدَعَا ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلا لِيُرِيَهُمْ قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)﴾ وَذَلِكَ عَلامَةُ أَجَلِكَ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)﴾ [سُورَةَ النَّصْر/3] فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلا مَا تَقُولُ». قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «وَفِيهِ – أَيِ الْحَدِيثِ – فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَتَأْثِيرٌ لإِجَابَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ وَيُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ جَوَازُ تَأْوِيلِ الْقُرْءَانِ بِمَا يُفْهَمُ مِنَ الإِشَارَاتِ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمُهُ فِي الْعِلْمِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَوْ فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ رَجُلا فِي الْقُرْءَانِ». انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ فِي الْفَتْحِ.

سورة المسد

سُورَةُ الْمَسَد
سُورَةُ تَبَّتْ وَيُقَالُ سُورَةُ الْمَسَد
مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَهِيَ خَمْسُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّنْ مَّسَدٍ (5)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «تَبَابٌ: خُسْرَانٌ وَتَتْبِيبٌ: تَدْمِيرٌ»، قَالَ السَّمِينُ فِي عُمْدَةِ الْحُفَّاظِ: «وَمَعْنَى ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)﴾ أَيْ خَسِرَتْ وَاسْتَمَرَّتْ فِي الْخُسْرَانِ وَالْمُرَادُ جُمْلَتُهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْيَدَيْنِ بِالذِّكْرِ لأَنَّهُمَا مَحَلُّ الْمُزَاوَلَةِ قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [سُورَةَ الْحَجّ/10] وَقَدْ قَدَّمَتْ رِجْلاهُ وَلِسَانُهُ». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ – لِبُطُونِ قُرَيْشِ – حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِقِيّ» قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلا صِدْقًا، قَالَ: «فَإِنِي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)﴾». وَأَبُو لَهَبٍ هُوَ عَبْدُ العُزَّى بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَامْرَأَتُهُ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَهَبُ بنُ أَبِي لَهَبٍ يَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ» فَخَرَجَ فِي قَافِلَةٍ يُرِيدُ الشَّامَ فَنَزَلَ مَنْزِلا فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ، قَالُوا لَهُ: كَلا، فَحَطُّوا أَمْتَاعَهُمْ حَوْلَهُ وَقَعَدُوا يَحْرُسُونَهُ، فَجَاءَ سَبُعٌ فَانْتَزَعَهُ فَذَهَبَ بِهِ. قَالَ الْحَافِظُ: «وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْءَانِ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ لِكَوْنِهِ بِهَا أَشْهَرُ وَلأَنَّ فِي اسْمِهِ إِضَافَةً إِلَى صَنَمٍ»، ثُمَّ قَالَ: «مَاتَ أَبُو لَهَبٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يَحْضُرْهَا بَلْ أَرْسَلَ عَنْهُ بَدِيلا فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا جَرَى لِقُرَيْشٍ مَاتَ غَمًّا» اهـ.

﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)﴾ أَيْ مَا دَفَعَ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ مَا جَمَعَ مِنَ الْمَالِ وَلا مَا كَسَبَ مِنَ الْجَاهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْوَلَدِ وَوَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ.

﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3)﴾ أَيْ ذَاتَ تَلَهُّبٍ وَاشْتِعَالٍ.

﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4)﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا أُمُّ جَمِيلٍ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ وَالِدِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4)﴾: تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»، قَالَ الْحَافِظُ: «وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ تَنُمُّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كانَتْ تَنُمُّ فَتُحَرِّشُ فَتُوقِدُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِحَمْلِهَا الْحَطَب»، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّنْ مَّسَدٍ(5)﴾ قَالَ العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجِيدُهَا أَيْ فِي عُنُقِهَا ﴿حَبْلٌ مِّنْ مَّسَدٍ(5)﴾ أَيْ سِلْسِلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا سُمِّيَتْ مَسَدًا لأَنَّهَا مَمْسُودَةٌ أَيْ مَفْتُولَةٌ.
قاَلَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَالْحُكْمُ بِبَقَاءِ أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتِهِ فِي النَّارِ مَشْرُوطٌ بِبَقَائِهِمَا عَلَى الْكُفْرِ إِلَى الْوَفَاةِ فَلَمَّا مَاتَا عَلَى الْكُفْرِ صَدَقَ الإِخْبَارُ عَنْهُمَا فَفِيهِ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».

سورة الإخلاص

سُورَةُ الإِخْلاصِ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ غَيْرُهُ وَهِيَ أَرْبَعُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)

رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَقَرَأَ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)﴾ السُّورَةَ يُرَدِّدُهَا لا يَزِيدُ عَلَيْهَا فَاُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْءَانِ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2)﴾ قَالَ: الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ لأَنَّهُ لَيْسَ شَىْءٌ يُولَدُ إِلا يَمُوتُ وَلَيْسَ شَىْءٌ سَيَمُوتُ إِلا سَيُورَثُ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يَمُوتُ وَلا يُورَثُ ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)﴾ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلا عَدْلٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)﴾ إِلَى ءَاخِرِهَا، فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «هَذِهِ صِفَةُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ».

﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)﴾ قُلْ أَيْ يَا مُحَمَّدُ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «أَحَدٌ أَيْ وَاحِدٌ»، فَاللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ وَلا شَبِيهَ لَهُ وَلا وَزِيرَ لَهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، وَفِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَقُولُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: «وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَفَسَّرُوا التَّوْحِيدَ بِنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ»، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْجُنَيْدُ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: «التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْقَدِيمِ مِنَ الْمُحْدَثِ»، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِ الْحُجَّة: التَّوْحِيدُ مَصْدَرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ، وَمَعْنَى وَحَّدْتُ اللَّهَ اعْتَقَدْتُهُ مُنْفَرِدًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لا نَظِيرَ لَهُ وَلا شَبِيهَ، وَقِيلَ: مَعْنَى وَحَّدْتُهُ عَلِمْتُهُ وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ تُضَمَّنَتْ تَرْجَمَةُ الْبَابِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ لأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَشْيَاءَ مُؤَلَّفةٍ: وَقَدِ افْتَتَحَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ بِقَوْلِهِ: «بَابُ مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»، وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: «وَالتَّوْحِيدُ الإِيـمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ» اهـ.
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَيُعَلِّمُهُمُ الإِيـمَانَ وَشَرَائِعَ الدِّينِ مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ جُنْدُبِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمْنَا الإِيـمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْءَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْءَانَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيـمَانًا»، وَإِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ الْبُوصِيرِيُّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ. وَالْحَزَاوِرَةُ: الأَشِدَّاءُ.
وَفِي كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ: «أَنَّ الإِمَامَ مَالِكَ بنَ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَسَمِعْتُ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَدْ قَرَأَ الْقُرْءَانَ رِجَالٌ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنِ افْرِضْ لَهُمْ وَأَعْطِهِمْ وَزِدْهُمْ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ: أَنَّهُ لَمَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي الْقِرَاءَةِ حَتَّى قَرَأَ سَبْعُمِائَةٍ، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ: أَنْ دَعِ النَّاسَ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْرَأَ النَّاسُ الْقُرْءَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ. قَالَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بنُ رُشْدٍ: هَذَا بَيِّنٌ عَلَى مَا قَالَهُ لأَنَّ التَّفَقُّهَ فِي الْقُرْءَانِ بِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ وَحُدُودِهِ وَمُفَصَّلِهِ وَمُجْمَلِهِ وَخَاصِّهِ وَعَامِّهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ ءَاكَدُ مِنْ حِفْظِ سَوَادِهِ فَيَكُونُ مَنْ حَفِظَ سَوَادَهُ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فِيهِ وَلا عَرَفَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِيهِ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَقَدْ أَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا لأَنَّهُ كَانَ يَتَعَلَّمُهَا بِفِقْهِهَا وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عِنْدَ شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فِي بَابِ جِمَاعِ أَبْوَابِ ذِكْرِ الأَسْمَاءِ الَّتِي تَتْبَعُ نَفْيَ التَّشْبِيهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى جَدُّهُ: أَيْ عَظَمَتُهُ «مِنْهَا الأَحَدُ، قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَهُوَ الَّذِي لا شَبِيهَ لَهُ وَلا نَظِيرَ، كَمَا أَنَّ الْوَاحِدَ هُوَ الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ وَلا عَدِيدَ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ بِهَذَا الاسْمِ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)﴾ فَكَأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلا: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)﴾ مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ﴿أَحَد(4)﴾، وَالْمَعْنَى لَمْ يَتَفَرَّعْ عَنْهُ شَىْءٌ وَلَمْ يَتَفَرَّعْ هُوَ عَنْ شَىْءٍ» اهـ.
وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي أَعْلامِ الْحَدِيثِ شَرْحِ الْبُخَارِيّ: «فَإِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الْكَيْفِيَّةَ وَهِيَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ» اهـ. وَقَالَ فِي كِتَابِ «شَأْنِ الدُّعَاءِ» مِنْ تَصْنِيفِهِ: «وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالأَحَدِ أَنَّ الْوَاحِدَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالذَّاتِ لا يُضَاهِيهِ ءَاخَرُ، وَالأَحَدُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْمَعْنَى لا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ».
قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَاللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لا مِنْ طَرِيقِ الْعَدَدِ وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقِ أَنَّهُ لا شَرِيكَ لَهُ»، فَلا شَرِيكَ لِلَّهِ فِي الذَّاتِ وَلا فِي الصِّفَاتِ فَلَيْسَ لأَحَدٍ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ، مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ، قَالَهَا ثَوْبَانُ بنُ إِبْرَاهِيمَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ مِنْ كِبَارِ مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ الطَّحَاوِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ الَّتِي حَكَى فِيهَا عَقِيدَةَ السَّلَفِ: «تَعَالَى – يَعْنِي اللَّه – عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ»، وَقَالَ: «وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ»، وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ كَانَ لَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ. وَقُرِأَتْ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ بِتَنْوِينِ أَحَد وَقُرِأَتْ أَحَدُ اللَّه بِتَرْكِ التَّنْوِينِ وَقُرِأَتْ بِإِسْكَانِ الدَّالِ أَحَد اللَّه قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَأَجْوَدُهَا الرَّفْعُ بِإِثْبَاتِ التَّنْوِينِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ(2)﴾ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: «قَالَ الْحَلِيمِيُّ: مَعْنَاهُ الْمَصْمُودُ بِالْحَوَائِجِ، أَيِ الْمَقْصُودُ بِهَا»، فَهُوَ الَّذِي تَفْتَقِرُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ كُلِّ شَىْءٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «قَالَ أَبُو وَائِلٍ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدَدُهُ». وَأَبُو وَائِلٍ هُوَ شَقِيقُ ابْنِ سَلَمَةَ رَوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَغَيْرِهِمْ وَعَنْهُ الأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «﴿الصَّمَدُ(2)﴾ الَّذِي لا جَوْفَ لَهُ، وَرَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ». وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهُ لَيْسَ كَالإِنْسَانِ بَلْ لَيْسَ كَأَحَدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ سُبْحَانَهُ.

﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)﴾ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «كَذَّبَنِي ابْنُ ءَادَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي لَنْ أُعِيدَهُ كَمَا بَدَأْتُهُ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ».
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْح الْبَارِي: «وَلَمَّا كَانَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ قَدِيمًا مَوْجُودًا قَبْلَ وُجُودِ الأَشْيَاءِ وَكَانَ كُلُّ مَوْلُودٍ مُحْدَثًا انْتَفَتْ عَنْهُ الْوَالِدِيَّةُ، وَلَمَّا كَانَ لا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلا يُجَانِسُهُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ صَاحِبَةٌ فَتَتَوَالَدُ انْتَفَتْ عَنْهُ الْوَلَدِيَّةُ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام]»، انْتَهَى كَلامُ ابْنِ حَجَرٍ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)﴾ نَفْيٌ لِلْمَادِّيَّةِ وَالانْحِلالِ وَهُوَ أَنْ يَنْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ أَوْ أَنْ يَحُلَّ هُوَ فِي شَىْءٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)﴾ قَالَ الْحَافِظُ: «وَمَعْنَى الآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يُمَاثِلْهُ أَحَدٌ»، فَاللَّهُ تَعَالَى لا نَظِيرَ لَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْكُفْءُ: الْمَثِيلُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: «كُفْؤًا» بِسُكُونِ الْفَاءِ وَبِهَمْزٍ فِي الْوَصْلِ وَيُبْدِلُهَا وَاوًا فِي الْوَقْفِ مَفْتُوحَةً.
فَائِدَةٌ: رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)﴾ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْءَانِ». قَالَ الْحَافِظُ: «يَتَقَالُّهَا بِتَشْدِيدِ اللامِ وَأَصْلُهُ يَتَقَالَلْهَا أَيْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا قَلِيلَةٌ وَالْمُرَادُ اسْتِقْلالُ الْعَمَلِ لا التَّنْقِيصُ»، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الأَذَانِ فِي بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ فِي حَدِيثِ أَنَّ رَجُلا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُحِبُّهَا – يَعْنِي ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)﴾ السُّورَةَ – فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ»، وَفِي مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْءَانِ» قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْءَانِ؟ قَالَ: «﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)﴾ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْءَانِ»، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ خُبَيْبٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ لَنَا فَأَدْرَكْنَاهُ فَقَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ «قُلْ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)﴾ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ».
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الطِّبِّ فِي بَابِ النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، قَالَتْ: فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا ذَكَرَهَا فِي بَابِ الرَّقَى بِالْقُرْءَانِ وَالْمُعَوِّذَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ [بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ أَمْسَحُ جَسَدَهُ بِيَدِهِ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى الْبَدَلِ] فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا».
فَتَأَمَّلْ أَيُّهَا الْمُطَالِعُ رَحِمَكَ اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِ قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا» تَسْتَفِدْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا عَلَى اعْتِقَادِ الْبَرَكَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ضِدُّ مَا عَلَيْهِ نُفَاةُ التَّوَسُّلِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.

سورة الفلق

سُورةُ الْفَلَقِ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا
وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ خَمْسُ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ ءَايَاتٌ لَمْ أَرَى مِثْلَهُنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ».

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَلَقُ: الصُّبْحُ»، وَ﴿قُلْ(1)﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ وَ﴿أَعُوذُ(1)﴾ أَسْتَجِيرُ.

﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)﴾ فِي الْقُرْطُبِيِّ: «هُوَ عَامٌّ، أَيْ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)﴾ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ صَحِيحِهِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: «يُشِيرُ – أَيِ الْبُخَارِيُّ – بِذِكْرِ الآيَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ السُّوءُ الْمَأْمُورُ بِالاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنْهُ مُخْتَرَعًا لِفَاعِلِهِ لَمَا كَانَ لِلاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنْهُ مَعْنًى، لأَنَّهُ لا يَصِحُّ التَّعَوُّذُ إِلا بِمَنْ قَدَرَ عَلَى إِزَالَةِ مَا اسْتُعِيذَ بِهِ مِنْهُ».
وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَر خُلِقَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِ اللامِ.

﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(3)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَاسِقٌ اللَّيْلُ إِذَا وَقَبَ غُرُوبُ الشَّمْسِ». قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: «وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّائِبَةِ بِاللَّيْلِ كَالطَّارِقِ»، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «فِي اللَّيْلِ تَخْرُجُ السِّبَاعُ مِنْ ءَاجَامِهَا وَالْهَوَامُّ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَيَنْبَعِثُ أَهْلُ الشَّرِّ عَلَى الْعَبَثِ وَالْفَسَادِ».
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ لِعَائِشَةَ «اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)﴾ هُنَّ السَّوَاحِرُ، وَالنَّفَّاثَاتُ جَمْعُ نَفَّاثَةٍ مِثَالُ مُبَالَغَةٍ، قَالَهُ السَّمِينُ الْحَلَبِيُّ، وَفِي الْمُفْرَدَاتِ: «النَّفْثُ قَذْفُ الرِّيقِ الْقَلِيلِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التَّفْلِ». وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)﴾ أَيِ السَّاحِرَاتِ اللاتِي يَنْفُثْنَ فِي عُقَدِ الْخَيْطِ حِينَ يَقْرَأْنَ عَلَيْهَا.

﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(5)﴾ يَعْنِي الْحَاسِدَ إِذَا أَظْهَرَ حَسَدَهُ وَهُوَ كَرَاهِيَةُ النِّعْمَةِ لِلْمُسْلِمِ وَتَمَنِّي زَوَالِهَا وَاسْتِثْقَالُهَا لَهُ وَعَمَلٌ بِمُقْتَضَاهَا، دِينِيَّةً كَانَتِ النِّعْمَةُ أَوْ دُنْيَوِيَّةً، فَالْحَاسِدُ لا يُؤَثِّرُ حَسَدُهُ إِلا إِذَا أَظْهَرَهُ بِأَنْ يَحْتَالَ لِلْمَحْسُودِ فِيمَا يُؤْذِيهِ أَمَّا إِذَا لَمْ يُظْهِرِ الْحَسَدَ فَمَا يَتَأَذَى بِهِ إِلا الْحَاسِدُ لاغْتِمَامِهِ بِنِعْمَةِ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْحَسَدُ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ بِهَا اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ أَيْ حَسَدُ إِبْلِيسَ لِنَبِيِّ اللَّهِ ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَأَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ بِهَا فِي الأَرْضِ أَيْ حَسَدُ قَابِيلَ هَابِيلَ ثُمَّ قَتْلُ قَابِيلَ لِهَابِيلَ.

سورة الناس

سُورَةُ النَّاسِ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ سِتُّ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)﴾ ﴿قُلْ(1)﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ وَ﴿أَعُوذُ(1)﴾ أَسْتَجِيرُ بِرَبِّ النَّاسِ أَيْ مَالِكِهِمْ وَخَالِقِهِمْ، قَالَ الْعِزُّ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ: «لَمَّا أَمَرَ بِالاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِمْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِيذُ مِنْهُمْ».

وَلَمَّا كَانَ فِي النَّاسِ مُلُوكٌ قَالَ تَعَالَى ﴿مَلِكِ النَّاسِ(2)﴾ وَلَمَّا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى ﴿إِلَهِ النَّاسِ(3)﴾ أَيْ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ، فَهُوَ مَالِكُ الْمُلْكِ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ لا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلا هُوَ، وَالْعِبَادَةُ: هِيَ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ، وَقَالَ اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ الْمُفَسِّرُ الإِمَامُ الْحُجَّةُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الْكَافِي السُّبْكِيُّ فِي الْفَتَاوَى: «الْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ».

﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)﴾ أَيْ مِنْ شَرِّ ذِي الْوَسْوَاسِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَالْوَسْوَسَةُ: حَدِيثُ النَّفْسِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَسْوَاسُ إِذَا وُلِدَ يَعْنِي الْمَوْلُودُ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَهَبَ وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ اللَّهُ ثَبَتَ عَلَى قَلْبِهِ»، قَالَ الرَّاغِبُ: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)﴾ أَيِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَخْنُسُ أَيْ يَنْقَبِضُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى.

﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5)﴾ الْمُرَادُ بِالصُّدُورِ هُنَا الْقُلُوبُ، قَالَ الْعِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ: ﴿يُوَسْوِسُ(5)﴾ أَيْ يَدْعُو إِلَى طَاعَتِهِ بِمَا يُوصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، وَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ مِنْ حِدِيثِ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ» قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ إِلا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِخَيْرٍ».
تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ: لا يَجُوزُ اعْتِقَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِي نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَفَرَ.

﴿مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6)﴾ الْجِنَّةُ هُمُ الْجِنُّ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: «وَفِي مَعْنَى الآيَةِ قَوْلانِ، أَحَدُهُمَا: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ جِنَّتِهِمْ وَنَاسِهِمْ، فَسَمَّى الْجِنَّ هَهُنَا نَاسًا كَمَا سَمَّاهُمْ رِجَالا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ﴾ [سُورَةَ الْجِنّ/6]، وَسَمَّاهُمْ نَفَرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ [سُورَةَ الْجِن/1]، هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْوَسْوَاسُ مُوَسْوِسًا لِلْجِنِّ كَمَا يُوَسْوِسُ لِلإِنْسِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَسْوَاسَ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ هُوَ مِنَ الْجِنَّةِ وَهُمْ مِنَ الْجِنِّ، وَالْمَعْنَى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْجِنِّ، ثُمَّ عَطَفَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَالنَّاسِ(6)﴾ عَلَى ﴿الْوَسْوَاسِ(4)﴾ وَالْمَعْنَى مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ كَأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ».
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: «فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكِفَايَتِهِ مِنْهُ، لا فِي جِسْمِهِ بِأَنْوَاعِ الأَذَى وَلا عَلَى خَاطِرِه بِالْوَسَاوِسِ»، ثُمَّ قَالَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ: «وَأَمَّا أَقْوَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَامَتِ الدَّلائِلُ الْوَاضِحَةُ بِصِحَّةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِهِ وَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الْبَلاغَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ مِنَ الإِخْبَارِ عَنْ شَىْءٍ مِنْهَا بِخِلافِ مَا هُوَ بِهِ لا قَصْدًا وَلا عَمْدًا وَلا سَهْوًا وَلا غَلَطًا».

انْتَهَى تَفْسِيرُ جُزْءِ عَمَّ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوَّلا وَءَاخِرًا، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحَابَتِهِ الأَخْيَارِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

شاهد أيضاً

صحيح مسلم – الجزء الأول – القسم2

الجزء الأول – القسم2 أبواب مختلفة بَابٌ فِي الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ قُرْبَ الْقِيَامَةِ، تَقْبِضُ مَنْ …