الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة والسلام على سيّد البشر محمّد البشير النذير وعلى ءاله وصحبه الكرام وعلى جميع إخوانه النّبيّين والمرسلين، وبعد.
فينبغي طلب الازدياد من علم الدين فإنّ فضله عظيم، وإنّ الله تبارك وتعالى أمر نبيّه بطلب الازدياد من علم الدين فقال: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ وما ذلك إلا لعظيم فضله ونفعه.
وإنـّه مما يجب علينا أن نؤمن به ممّا أخبر به نبيّنا عليه الصلاة والسلام سؤال الملكين منكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه، فإن ذلك ثابت بالنصوص الشرعية ثبوتًا قطعيًّا، فقد ذكر الله تبارك وتعالى أمر عذاب القبر في سورة غافر فقال: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ فهذه الآيه فيها بيان أنّ الكافر في قبره يرى مقعده من النّار كلّ يوم مرّتين مرّة أول النّهار ومرة ءاخر النّهار فيمتلىء رعبًا؛ وقد روى البخاريّ ومسلم عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: “إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْنِ”. والمنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام كعبد الله بن أبيّ فإنه قال: (ليُخرِجنّ الأعزُّ الأذلَّ) ومراده بالأعزّ نفسه وبالأذل الرسول، فلمّا سئل: أنت قلت ذلك؟ أنكر قال: لم أقل، فكان الرسول يجري عليه أحكام المسلم لأنه كان يقول الشهادتين ويصلي خلف الرسول فلمّا مات صلّى عليه بناءً على الظاهر لانّه ظنّ به أنه مسلم، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ فعرف الرسول بعد ذلك أنّ عبد الله بن أبيّ مات منافقًا كافرًا بالله تعالى، فلا يجوز الاعتقاد بأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام صلى عليه مع علمه بأنه منافق لأنّ ذلك تلاعب بالدين وذلك لا يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن جملة عذاب القبر ضغطة القبر حتى تختلف الأضلاع وهذا للكفار وبعض أهل الكبائر من المسلمين كمن لا يتحرّز من التلوّث بالبول أو يمشي بالنميمة؛ وعصاة المسلمين من أهل الكبائر الذين ماتوا من غير توبة هم صنفان: صنف يعفيهم الله من عذاب القبر وصنف يعذّبهم ثمّ ينقطع عنهم ويؤخّر لهم بقية العذاب إلى الآخرة.
وأمّا نعيم القبر الذي يكون للمؤمن الكامل الذي يؤدي الفرائض ويجتنب المعاصي فقد ورد في الحديث الذي رواه ابن حبّان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوِ الإِنْسَانُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَهُوَ قَائِلٌ مَا كَانَ يَقُولُ. فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولانِ لَهُ إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ لَتَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، فَيُقَالُ لَهُ نَمْ، فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلا أَحَبُّ أَهْلِهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ”. والمؤمن التقي لمّا يأتيه منكر ونكير لا يرتاع من منظرهما المخيف بل يثبت الله قلبه، ومن جملة ما يكون له من النعيم أنّه يشمّ رائحة الجنّة ويملأ قبره بالخضرة فلا يشعر بالخوف والوحشة لأنّ الله تعالى ءامنه.
ويجب الاعتقاد بأن الروح في ذلك الوقت تعود إلى الجسد فيدرك الميّت ما يجري له في قبره ويسمع من حوله، فعن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فَتَّانَيِّ القبر فقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: أتردّ علينا عقولنا يا رسول الله؟ قال: “نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ” قال: فَبِفِيهِ الْحَجَرُ (أي انْقَطَعَ عَنِ الْكَلامِ). وروى ابن عبد البرّ وعبد الحقّ الإشبيلي عن ابن عبّاس مرفوعًا: “مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ”.
أما قوله تعالى في القرءان: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ فالمراد به تشبيه الكفار بمن في القبور في عدم انتفاعهم بكلام الرسول ونصحه وهم أحياء، وليس المعنى أنه لا يحصل لأهل القبور سماع شىء من كلام الأحياء على الإطلاق.
وليعلم أنه إن بلي الجسد كلّه ولم يبق منه إلا عجب الذنب يكون روح المؤمن التقيّ في الجنّة وتكون أرواح عصاة المسلمين أهل الكبائر الذين ماتوا بلا توبة بعد بلى الجسد فيما بين السماء والأرض وبعضهم في السماء الأولى، وتكون أرواح الكفار بعد بلى الجسد في سجين وهو مكان في الأرض السفلى. وأمّا الشهداء فتصعد أرواحهم فورًا إلى الجنة تتنعّم فيها ويصل أثر النعيم إلى أجسادهم، والله تعالى يحفظ أجسادهم فلا يأكلها التراب وكذلك أجساد الأنبياء لا يأكلها التراب فقد قال عليه الصلاة والسلام: “الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ في قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ” رواه البيهقي وصحّحه، وكذلك بعض الأولياء، الله تعالى يحفظ أجسادهم فلا تبلى.
ويجب العلم أنه يستثنى من سؤال الملكين منكر ونكير الأنبياء، وكذلك شهداء المعركة والطفل الذي مات دون البلوغ هؤلاء لا يسألون في القبر.
إن من الحكمة أن يعمل الإنسان لما يكون ذخرًا له في ءاخرته، ولقد قيل:
وَلَدَتْـكَ أُمـُّكَ يَا ابْنَ ءَادَمَ بَاكِيًا وَالنَّاسُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرُورًا
فَاحْرِصْ عَلَى عَمَلٍ تَكُن إِذَا بَكَوْا فِي يَوْمِ مَوْتِكَ ضَاحِكًا مَسْرُورًا