الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين.
اعلم أخي المسلم أنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى هو أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَقَدْ وَسِعَتْ رَحْمَتُهَ كُلَّ شَىْءٍ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَالمُؤْمِنُ يُرْزَقُ بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالى وَالكافِرُ يُطْعَمُ وَيُكْسَى بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالى، وَالمَرِيضُ يَتَعَافَى بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالى مُؤْمِنًا كانَ أَمْ كَافِرًا، لكِنْ لِيُعْلَمَ أَنَّ هذِهِ الرَّحْمَةَ شَامِلَةٌ لِلْعِبَادِ في الدُّنْيَا فَقَطْ لكِنْ هي خَاصَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ في الآخِرَةِ فَإنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى قَالَ في كِتَابِهِ العَزِيزِ: ﴿وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ فَمَعْنَى هذهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالى يَرْحَمُ الْكُلَّ في الدُّنْيَا لكِنْ في الآخِرَةِ فَإنَّهُ يَخُصُّهَا لِمَنِ اتَّقَى الشّرْكَ وَالكُفْرَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، لأَنَّ الكافِرَ يَوْمَ القيامَةِ مَحْرُومٌ مِنَ الرَّاحَةِ وَالرّزْقِ النَّافِعِ، فَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ وَمَا ذلِكَ إلاّ لأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللهِ الَّذي لا بَدِيلَ لَهُ وهوَ الإيمانُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ.
ثُمَّ إنَّ اللهَ جَعَلَ الدُّخُولَ في الإسلامِ الَّذي هو أَفْضَلُ نِعَمِ اللهِ سَهْلاً، وذلِكَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَجَعَلَ الكُفْرَ سَهْلاً، فَكَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلى الاسْتِخْفَافِ بِاللهِ أَوْ شَرِيعَتِهِ تُخْرِجُ قَائِلَهَا مِنَ الإيمانِ وَتُوقِعُهُ في الكُفْرِ سَوَاءَ تَكَلَّمَ بِهَا جَادًّا أَوْ مَازِحًا أَوْ غَاضِبًا، وَقَدْ ذَكَرَ ذلِكَ العُلَمَاءُ في كُتُبِهِمْ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
وَمِنْ أُمُورِ العَقِيدَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهَا التَّصْدِيقُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ فَإنَّهُ يَوْمٌ عَظِيمٌ يَفْزَعُ فِيهِ مَنْ ظَلَمَ وَفَجَرَ فَزَعًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ في الدُّنْيَا، وَيَفْرَحُ فِيهِ مَنْ ءَامَنَ وَاتَّقَى فَرَحًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ قَطْ، وَالعَبْدُ مُيَسَّرٌ في هذهِ الدُّنْيَا لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْن فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ فَفِي هذهِ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ دِلالَةٌ عَلى أَنَّ مَنْ أَعْطَى حَقَّ اللهِ وَاتَّقَى اللهَ تَعَالى وَصدَّقَ بِلا إله إلا اللهُ فإَنَّ اللهَ تَعَالى يُرْشِدُهُ لأَسْبَابِ الخَيْرِ وَالصَّلاحِ وَيُهَيّئُهُ لِلجَنَّةِ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بِحَقّ اللهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ ثَوَابِهِ فَلَمْ يَرْغَبَ فِيهِ وَكَذَّبَ بِلا إلهَ إلا اللهُ فَإنَّ اللهَ يُهَيّئُهُ لِلنَّارِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: “اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ”.
وَيَوْمُ القيامةِ يَبْدَأُ لَمَّا يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ تُعَادُ الأَجْسَادُ كَمَا كَانَتْ في الدُّنْيَا وَعَوْدِ الرُّوحِ إِلَيْهَا، فَيُحْشَرُونَ لِلحِسَابِ، وَتُوزَنُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ فَمَنْ ثَقُلَتْ حَسَنَاتُهُ دَخَلَ الجَنَّةَ بِلا عَذَابٍ وَمَنْ خَفَّتْ حَسَنَاتُهُ فَهُوَ تَحْتَ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَاتٍ فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيِا فَإِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ”، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾.
وَالحَشْرُ عِبَادَ اللهِ، يَكُونُ عَلى ثَلاثَةِ أَحْوَالٍ: فَقِسْمٌ طَاعِمُونَ كَاسُونَ رَاكِبُونَ عَلى نُوقٍ رَحَائِلُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَهُمُ الأَتْقِيَاءُ، وَقِسْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ وَهُمُ المُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللهُ عَنْهُمْ، وَقِسْمٌ يُحْشَرُونَ وَيُجَرُّونَ عَلى وُجُوهِهِمْ وَهُمُ الكُفَّارُ؛ ثُمَّ بَعْدَ عَرْضِ أَعْمَالِ العِبَادِ عَلَيْهِمْ يُسَاقُ النَّاسُ إِلى الصّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ عَرِيضٌ أَحَدُ طَرَفَيْهِ في الأَرْضِ المُبَدَّلَةِ الَّتِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَيْهَا وَالطَّرَفُ الآخَرُ فِيمَا يَلِي الجَنَّةِ بَعْدَ النَّارِ، فَالنَّاسُ في ذلِكَ اليَوْمِ يَرِدُونَ جَهَنَّمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُهَا وُرُودَ دُخُولٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُهَا وُرُودَ مُرُورٍ في هَوَائِهَا فَوْقَ الصّرَاطِ، وَهذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا﴾.
مِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ أَقَلَّ مَا يَلْزَمُ الإِنْسَانَ لِيَسْلَمَ مِنَ الخُلُودِ الأَبَدِيّ في النَّارِ هُوَ الإيمانُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاجْتِنَابُ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الكُفْرِ، ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ إِنْ أَدَّى الوَاجِبَاتِ وَاجْتَنَبَ المُحَرَّمَاتِ سَلَّمَهُ اللهُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ حَيْثُ النَّعِيمُ المُقِيمُ الخَالِدُ رَزَقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمُ السَّلامَةَ وَحُسْنَ الثَّوَابِ في ذلِكَ اليَوْمِ.
