الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين.
أما بعد فقد روينا في مسلم والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: ومن هم الغرباء يا رسول الله، قال الذين يصلحون من سنتي ما أفسد الناس” وسنة الرسول هي الشريعية، أي العقيدة والأحكام.
في هذا الحديث بشارة لمن يتمسك في هذا الزمن الذي فسدت الأمة فيه بسنة الرسول أي شريعته.
إذا قال المشَبّه إن القرءان والحديث يدلان على أن الله تعالى منحيز في جهة فوق، كيف يرد عليه؟ الرد يكون بالدليل النقلي لأن هذه الفرقة فلاقة التشبيه تقول: نثبت لله ما أثبت لنفسه وننفي عنه ما نفى عن نفسه. معنى كلامهم أنهم يثبتون لله مشابهة الخلق. أما قولهم: وننفي عنه ما نفى تنزيه الله عن التحيز في المكان والجهة وعن الجسمية ونحو ذلك من أوصاف الجسم كالحركة والسكون والانتقال والانفعال إلى غير ذلك من صفات الحجم، القدماء منهم كان قسم منهم يقول: هو حجم لطيف نور يتلألأ، أما هؤلاء الذين في هذا العصر يقولون عن الله: جسم كثيف، بدليل قولهم إنه في الآخرة لما يقال لجهنم هل امتلأت فتقول هل من مزيد إن الله تعالى يضع قدمه فيها ولا يحترق، فهذا دليل على أنهم مجسمة.
إذا أورد أحد المشبهة حديث الجارية يقال لهم: هذا الحديث يخالف الحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر أو ستة عشر صحابيًا.
وهذا الحديث المتواتر الذي يعارض حديث الجارية قوله عليه الصلاة والسلام: “أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله” هذا الحديث معناه أنه لا يحكم بأسلام الشخص إلا بالشهادتين.
وحديث الجارية فيه أن الرسول اكتفى لإسلام الجارية التي جاء بها صاحبها ليمتحنها الرسول ليعتقها إن كانت مؤمنة بأنها قالت في السماء، في هذا الحديث أن الرسول قال لها: أين الله قالت: في السماء قال: من أنا قالت: رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة.
هذا اللفظ رواه مسلم من طريق صحابي واحد، وبين هذا الحديث وبين الحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر صحابيًا تعارض لأن حديث الجارية يوهم أنه يكفي أن يقول الشخص: “الله في السماء” للحكم بالإيمان وهذا خلاف الحق لأن قول: الله في السماء عقيدة اليهود، بهذا يردون.
فإن قال قائل إن هذا الحديث حديث الجارية وافق عليه شرّاح مسلم: النووي والرازي وغيرهما، الجواب أن يقال إن هؤلاء ما حملوه على الظاهر بل أوّلوه، النووي والرازي وغيرهما الذين شرحوا كتاب مسلم ما حملوه على الظاهر كما أنتم حملتموه على الظاهر إنما قالوا: معنى “أين الله” سؤال عن عظمة الله ليس سؤالاً عن التحيز في مكان لأنه يقال في اللغة: “أين فلات” بمعنى ما درجته ما علو قدره، فإذا قال “في السماء” معناه رفيع القدر عالي القدر، على هذا حملها هذان الشارحان النووي والرازي، ما حملاه على الظاهر كما حمله الوهابية على الظاهر.
فإن تركتم حمله على الظاهر وأوّلتموه كما أولوه لم يلزمكم الكفر بالنسبة لهذه المسئلة، كما أن أولئك لما حملوه على خلاف الظاهر وأولوه تأويلاً أي أخرجوه عن الظاهر، ما فسروه على الظاهر، سلموا من الكفر، أما لو حملوه على الظاهر وقالوا: هذا دليل على أن الله متحيز في السماء لكان حكمهم كحكمم هو التكفير، ثم إن كلمة “في السماء” في اللغة تستعمل للتحيز وتستعمل لرفعة القدر أي لعلو الدرجة، الله وصف نفسه بأنه رفيع الدرجات أي أنه أعلم من كل عالم وأقدر من كل قادر ونافذ المشيئة في كل شىء.
كلمة “أين” تأتي للسؤال عن الحيز والمكان وتأتي للسؤال عن القدر والدرجة. أما احتجاج هؤلاء المشبهه بأية ﴿ءأمنتم من في السماء ﴾ فالجواب أن يقال لهم (من في السماء) المراد الملائكة وليس المراد بكلمة “من” الله.
لأن الملائكة لو أمرهم الله أن يخسفوا بالمشركين الأرض لخسفوا بهم، كذلك الآية الأخرى التي تليها، أي ريحًا شديدة، فالملائكة هم يرسلوا الريح فالله تعالى لو أمرهم بأن يرسلوا ريحًا تبيدهم لفعلوا هذا معنى الآيتين ﴿ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ﴾ والآية تليها ﴿أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا﴾ أي ريحًا شديدة. وهذه الآية تفسر بما ورد في الحديث الصحيح: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” ووردت رواية صحيحة أخرى “ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء” هذه الرواية فسرت”من في السماء” المذكورة في الآية أن المراد بمن في السماء الملائكة لأن الله لا يعبر عنه بأهل السماء إنما يعبر بأهل السماء عن الملائكة لأنهم سكانها أي سكان السموات، بهذا يجاب عن تمسك المشبهة بالاحتجاج بهاتين الآيتين، ثم كل آية ظاهرها على أن الله حجم متحيز في جهة فوق وأنه يتحرك ينزل وينتقل إلى تحت إلى السماء الدنيا وأنه يوم القيامة ينزل إلى الأرض مع الملائكة بذاته كما هو ظاهر الآية ﴿وجاء ربك والملك صفًا صفًا﴾ يجاب عن هذا كله بأن الآيات تفسيرها على يؤدي إلى التناقض في القرءان والقرءان منزه عن التناقض، لأن هذه الآيات لو فسرت على الظاهر لعارضتها ءايات أخرى ظاهرها أن الله في جهة الأرض كقوله تعالى: ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ سورة البقرة/ءاية 115
ظاهر هذه الآية أن الله هنا في محيط الأرض بحيث يكون الذي يصلي إلى الجنوب أو إلى الشمال أو إلى المشرق أو إلى المغرب يكون اتجه إلى ذات الله وهذا لا يقولون به.
يقال لهم تلك الآيات قرءان وهذه الآية وأمثالها قرءان وأنتم لا تحملون هذه الآيات على ظواهرها أن الله في جهة تحت وأمثالها كآية ﴿وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين﴾ (سورة الصافات/آية 99) هذه الآية تخبر عن إبراهيم أنه لما ترك قومه الذين لم يقبلوا منه ترك عبادة الأوثان قال: إني ذاهب إلى ربي. ظاهر هذه الآية أن الله متحيز في فلسطين لأن إبراهيم كان قاصدًا أن يذهب إلى فلسطين، وأنتم لا تقولون بظاهر هذه الآية ولا تلك الآية، وكل تلك الآية فسرتموها على الظاهر والتي لم تفسروها على الظاهر قرءان، على هذا يلزمكم التناقض في القرءان.
فلا سبيل للنجاة من لزوم التناقض في القرءان إلا أن تؤول الآيات التي ظواهرها أن الله في جهة فوق متحيز والآيات التي ظواهرها أن الله ف جهة تحت، يجب أن لا تحمل على الظاهر، هذه تؤول وهذه تؤول. ثم التأويل بعض أهل السنة قالوا: بلا كيف، ليس على حسب الشكل والكمية، أو يقال على ما يليق بالله كما في ءاية ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ لنفي التحيز والجلوس على العرش عن الله وفي ءاية ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ يقال: فثم قبلة الله كما قال يعض السلف مجاهد الذي أخذ العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما. أما ءاية ﴿وقال إني ذاهب إلى ربي﴾ معناه أي المكان الذي أعبد فيه ربي بلا إيذاء لأن قومه رموه في النار فلم يحترق ومع هذا لم يسلموا له، لم يتبعوه في الإسلام.
والحمد لله رب العالمين.
