الإيمان والردة

الحمدُ للهِ الذي أعزّنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، وشرح صُدورنا بالقرآن، ورحمنا ببعثةِ محمد عليه الصلاةُ والسلامُ. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له ولا نِدَّ له، مهما تصورت ببالك فاللهُ بخلافِ ذلك. وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيّنا وعظيمنا وقائدنا محمداً عبدُهُ ورسُولُهُ، وصفيُّهُ وخليلُهُ، سيدُ الاولين والآخرين، وإمامُ المجاهدينَ، صلى عليك اللهُ يا عَلَمَ الهُدى ما سَبَّحَ الديّانَ كلُّ موحِّدِ.
يقول اللهُ تبارك وتعالى في القرآن الكريم: ﴿إنما المؤمنونَ الذين آمنوا باللهِ ورسولهِ ثم لم يرتابوا﴾. وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: “الإيمانُ أن تؤمنَ باللهِ وملائكتهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَومِ الآخرِ والقدَرِ خيره وشره”.
اعلموا رحمكمُ اللهُ أنَّ الايمانَ لغةً التصديقُ وشرعاً تصديق مخصُوص، أي هو التصديقُ بالقلب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. والاسلام لُغةً الانقياد وشرعاً انقيادٌ مخصوصٌ أي هو الانقيادُ لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بالنطق بالشهادتين بقولِ أشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ.
والاسلامُ والايمانُ متلازمان لا يُقْبَلُ أحدُهُما بدون الآخر، وإن كانا مختلفين من حيثُ معنياهُما الاصليَّان، فقد قال أبو حنيفة رضي الله عنه في كتاب الفِقْهِ الأكبر: “لا يكونُ ايمانٌ بلا إسلام ولا إسلام بلا إيمان فهما كالظهرِ مَعَ البطنِ” فكما أن الظهر لا ينفصلُ عن البطن مع انهما مختلفان، فكذلك الايمانُ لا ينفصلُ عن الاسلام، والاسلامُ لا ينفصل عن الايمان. فمن ءامن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصَدَّق ذلك بالنطق بالشهادتين فهو مسلم مؤمن إن مات على ذلك لا بُدَّ أ ن يدخل الجنة.
وإنَّ أولَ ما يجب على الانسان معرفةُ اللهِ والايمانُ به ومعرفةُ رسولِهِ والايمانُ بِهِ وبما جاء به، والنطقُ بذلك مرة واحدة، ومن حصل منه ذلك مع الاعتقاد الجازم فهو مسلمٌ مؤمنٌ، ثم لا يكمُلُ ايمانُهُ وإسلامُهُ إلا بأداء الواجبات واجتناب المحرمات.لذلك نقولُ أقل مسمى الايمان والاعتقادُ القلبيُ بمعنى الشهادتين مع النطقِ بذلك باللسان ويحصُلُ أقلُّ مُسَمَّى الاسلام بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وقال الله تعالى: ﴿وإذا تُلِيَتْ عليهم آياتُهُ زادتهُم إيماناً﴾ فالايمانُ يزيدُ وينقُصُ وإذا قَبِلَ الزيادة قَبِلَ النقصان، فلذلك لا يُقالُ فلانٌ مسلمٌ ولكنه ليس بمؤمن ولا يجوز أيضاً أن يقال فلانٌ مؤمنٌ ولكنه ليس بمسلمٍ، بل يُقال فلانٌ كاملُ الإيمان أو ناقصُ الإيمانِ.
فمن ءامن باللهِ ورسوله وأدى الواجباتِ واجتنب المحرماتِ فهذا مسلمٌ مؤمنٌ وايمانُه كاملٌ ومن ترك بعضَ الواجباتِ وأكل الربا أو شرب الخمر فهذا مسلم مؤمن وإيمانه ناقص. وأما قولُ اللهِ عز وجل:َّ ﴿قالتِ الأعرابُ ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسْلَمنا ولما يدخُلِ الايمانُ في قلوبكم﴾ فالمراد بأسلمنا: الإسلام اللغويَ الذي هو الانقيادُ وليس المقصودُ الإسلام الشرعيَّ حيث أن هؤلاءِ الأعرابَ كانوا يَظهرون للناسِ أنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم منقادُون له، خوفاً من القتلِ وفي قلوبهم كُرهٌ للنبي. قال الإمامُ القرطبيُّ في تفسير الآيةِ: “معنى ﴿أسلمنا﴾ أي استسلمنا خوف القتلِ والسبيِ وهذه صِفَةُ المنافقين وكذلك ما جاءَ في الحديثِ: “لا يؤمِنُ أحَدُكُم حتى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ” ونحو هذا من الاحاديثِ، فليسَ المرادُ به نفيَ أصلَ الايمانِ عنهُ بل المرادُ نفْيُ الايمانِ الكاملِ الذي يكونُ به مُتَّبعاً للنبيَّ اتباعاً كاملاً. واسمُ الايمانِ يجمَعُ الطاعاتِ فَرضَها ونَفْلها وأنها على ثلاثةِ أقسامٍ، فقِسْمٌ يكفرُ بتركِه، وقسمٌ يفسقُ بتركِهِ وقِسْمٌ يكونُ بتركِهِ مُخطِئاً للأفضلِ غيرَ فاسِقٍ ولا كافِرٍ. والأمرُ الذي لا يَفْسُقُ ولا يَكْفُرُ الانسانُ بتركِهِ ويكونُ مخطئاً للأفضلِ هو ما يكونُ من العباداتِ كنوافلِ الصلاةِ أي سُنَنِ الصلاةِ أو صيامِ الاثنينِ والخميسِ، فمن ترك هذه الأشياءَ فليسَ عليهِ معصِية. أما ما يَفْسُقٌ الانسانُ بتركِهِ أي يعصي اللهَ بذلكَ، هذا في حال تركَ فَرْضاً مِنَ الفرائِضِ، كالصلاةِ والزكاةِ والصِيامِ والحجِ واجتنابِ المحرماتِ. والأمرُ الاخيرُ فيكْفُرُ الانسانُ بتركِهِ لهذا الأمر ونزول اسمُ الايمانِ عنه، ويكونُ ذلك بتركه مثلاً لتعظيمِ اللهِ أو تعظيمِ أنبياءِ اللهِ ويسمى هذا الامرُ الردةُ. لذلك لا يزولُ اسمُ الايمانِ والاسلامِ عن المؤمنِ إلا بالردة التي هي أفحشُ أنواعِ الكُفرِ ويسمى عندئذٍ كافراً، ولا يجوزُ مناداتُهُ بالمسلم ولا بالمؤمنِ كما فعل الامام الشافعيُّ فإنه قال لِحَفْصٍ الفرْدِ بعدما ناقشهُ في مسئلةِ الكلامِ “لقد كفرتَ باللهِ العظيمِ”. والردةُ ثلاثةُ أقسامٍ كما قسمها النوويُّ وغيره من شافعيةٍ وحنفيةٍ وغيرهم: اعتقاداتٌ وأفعالٌ وأقوالٌ، وكل قسمٍ يتشعَّبُ شُعباً كثيرةً. فقد ذكر النوويُّ الشافعيُّ في كتابه “المنهاج” إنَّ الردةَ هي قَطْعُ الاسلامِ بنيةٍ أو قولِ كُفرٍ أو فعلٍ سواءٌ قاله استهزاءً أو عناداً أو اعتقاداً”. وذَكَرَ مثل ذلك الحَطَّابُ المالكيُّ في كتابهِ مواهِبُ الجليلِ، وابنُ عابدينَ الحنفيُّ في كتابِ ردِّ المُحتارِ على الدُرِّ المختارِ، والبُهوتيّ الحنبليُّ في شرحِ مُنتهى الإراداتِ فلينظرها من شاء. فتبيّنَ أن المذاهِبَ الأربعةَ متفقةٌ على تقسيمِ الكُفرِ الى أنواعِهِ الثلاثةِ وعلى هذا التقسيم كان مفتي بيروتَ الأسبقُ عبدُ الباسطِ الفاخوريُّ، فإنه يقولُ في كتابهِ الكفايةُ لذوي العنايةِ في أحكامِ الردةِ: وهي قَطْعُ مُكلَّفٍ مُخْتَارٍ الاسلامَ ولو امرأة بنية الكفر أو فعلٍ مكفرٍ أو قولٍ مكفرٍ سواءٌ قالهُ استهزاءً أو اعتقاداً أو عناداً. وكلُ قِسمٍ من هؤلاءِ الثلاثةِ يُخرِجُ من الاسلامٍ بمفردِهِ من غيْرِ أن ينضَمَّ اليه قِسمٌ آخرٌ، كالأقوالِ الكفريةِ تُخْرِجُ من الاسلامِ من دونِ أن يقترِنَ بها اعتقادٌ أو فعلٌ. فقد قال الإمامُ مُلاّ علي القاري في شرحِهِ على الفقِهِ الأكبرِ للإمامِ أبي حنيفة ما نصُّهُ: “مَنْ كَفَرَ باللسانِ وقلبُه مطمئنٌ بالايمانِ فهو كافرٌ وليسَ بمؤمنٍ عند اللهِ”. والأقوالُ هي أكثرُ ما تكونُ سَبَباً لخُروجِ الناسِ من الاسلامِ وهي أشدُّ معاصي اللسَانِ وأخطرُها على الاطلاقِ، كسَبِّ اللهِ وسبِّ الأنبياءِ والملائكةِ ودينِ الاسلامِ. فقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسلامُ: “إنَّ العبدَ ليتكلمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعينَ خريفاً” أي أنَّ العَبْدَ قد يتكلمُ بالكلمةِ الفاسدةِ وهُو لا يراها ضارَّةً لجهلهِ بأمورِ دينهِ، فتكونُ هذهِ الكلمةِ سَبَبَاً لنزولِهِ الى قعْرِ جهنمَ إن ماتَ عليها، أما من وَقعَ في الكُفْرِ يجبُ عليهِ العودُ فوراً الى الاسلامِ بقولِ: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله. ونسأَلُكَ اللهمَّ أن تتوفَّانا على الايمان وتحفظنا مِنَ الكُفرِ.

شاهد أيضاً

التسوية بين الزوجات

ننتقل الآن للكلام على القَسْم بين الزوجات. والتسويةُ فى القسم بالنسبة للمبيت واجبةٌ بين الزوجات. …