المقدمة
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَجَعَلَهَا كَالْمِهَادِ، وَرَكَّبَ الْجَوَاهِرَ وَالْأَعْرَاضَ، وَالصُّوَرَ وَالْأَجْسَادَ، وَقَدَّرَ الْمَعَاشَ وَالْمَعَادَ، وَأَعْطَى مَنْ شَاءَ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمُ الْهِدَايَةَ وَالرَّشَادَ، وَبَعَثَ الرُّسُلَ بِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، مُبَشِّرِينَ بِالْجَنَّةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُنْذِرِينَ بِالنَّارِ مَنْ عَصَاهُ، وَخَصَّنَا بِالنَّبِيِّ الْمَكِينِ، الرَّسُولِ الْأَمِينِ، سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَفْضَلِ خَلْقِهِ نَفْسًا، وَأَجْمَعِهِمْ لِكُلِّ خُلُقٍ رَضِيٍّ فِي دِينٍ وَدُنْيَا، وَخَيْرِهِمْ نَسَبًا، وَأَشْرَفِهِمْ دَارًا، فَتَحَ بِهِ رَحْمَتَهُ، وَخَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ، وَاجْتَبَاهُ لِبَيَانِ شَرِيعَتِهِ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُ مَعَ ذِكْرِهِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُ كِتَابًا عَزِيزًا، وَقُرْآنًا كَرِيمًا، مُعْجِزًا بَاهِرًا، فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى النَّصِيحَةَ وَالأَمَانَةَ، وَأَوْضَحَ السَّبِيلَ، وَأَنَارَ الطَّرِيقَ، وَبَيَّنَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَعَبَدَ اللهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ، فَصَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، كُلَّمَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ، وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ، أَفْضَلَ صَلَاةٍ وَأَزْكَاهَا، وَأَطْيَبَهَا وَأَنْمَاهَا، أَمَّا بَعْدُ:
فقد وَصلنَا في شرحِ ألفيَّةِ السِّيرَةِ النبويَّةِ للحافظِ العراقِيِّ إلى قولِهِ رحمَهُ اللهُ:
أَسمَاؤُه الشَّرِيفةُ ﷺ
مُحَمَّدٌ مَعَ الْمُـقَـفِّـي أَحْـمَدَا *** الحَاشِرُ العَاقِبُ وَالْمَاحِيْ الرَّدَى
الرَّسُولُ ﷺ لَهُ أَسْمَاءٌ كَثِيْرَةٌ، ذَكَرَ مِنْهَا الإِمَامُ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ ثَلاثِينَ اسمًا، وَلا يُنَافِيْهِ حَدِيْثُ البُخَارِيِّ: “إِنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ“، لأنَّ مُرَادَهُ ﷺ خَمْسَةٌ اختُصَّت بِي، لَم يَتَسَمَّ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، أَوْ مُعَظَّمَةٌ، أَو مَشْهُورَةٌ في الأُمَمِ الماضِيَةِ أو الكُتُبِ السَّالِفَةِ، فَلَيْسَ المرَادُ الحصرَ فِيهَا. ومِن أسماءِ سَيِّدِنَا محمّدٍ ﷺ: مُحَمَّدٌ، أَحْمَدُ، المُقَفِّي، الحَاشِرُ، العَاقِبُ، الماحِي، نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، نَبِيُّ التَّوْبَةِ، نَبِيُّ المَلْحَمَةِ، طَهَ، يَس، الرَّسُولُ، المُتَوكِّلُ، النَّبِيُّ الأُمِّيُّ، الرَّؤُوفُ الرَّحِيْمُ، الشَّاهِدُ، المُبَشِّرُ، النَّذِيْرُ، السَّرِاجُ المنِيْرُ، المُزَّمِّلُ، المُدَّثِّرُ، الدَّاعِي إِلَى اللهِ، المُذَكِّرُ، نِعْمَةُ اللهِ، الهادي (مُحَمَّدٌ): ﷺ، معناهُ المحمودُ لخِصالِهِ السَّمِيَّةِ، فمُحَمَّدٌ هو الذِي كَثُرَ حمدُ الحامدينَ لهُ مرةً بعدَ مرَّةٍ.
أي الذي حُمِدَ مرةً بعدَ مَرَّةٍ أوِ الذي تكامَلَت فيهِ الخصالُ المحمودَةُ، وقد ابتَدَأَ بهِ العراقيُّ لِكَونِه أشهَرَ أَسمائِهِ ﷺ وأشرَفَها.
وسبَبُ تسميَتِهِ به معَ كَونِهِ لم يُؤْلَفْ قبلَ ذلِكَ بينَ العربِ، إمَّا لكَثرَةِ خِصالِهِ الحَمِيدَةِ، وإمَّا لأنَّهُ تعالى وملائكتَهُ حَمِدُوهُ حمدًا كثيرًا بالِغًا.
وقيلَ إنَّ عبدَ المُطَّلِبِ كانَ قد رأَى في مَنامِهِ كأنَّ سِلسِلَةً مِن فِضّةٍ خرَجَتْ مِن ظَهرِه لها طرَفٌ في السَّماءِ وطرَفٌ في الأرضِ وطرَفٌ في المَشرِقِ وطرَفٌ في المَغرِبِ، ثُمّ عادَتْ كأنَّهَا شجَرةٌ، على كُلِّ ورَقةٍ مِنها نُورٌ، وإذا أهلُ المَشرِقِ والمَغرِبِ كأنّهم يَتعلَّقُونَ بها، فقَصَّها فعُبِّرَتْ له بمَولودٍ يكونُ مِن صُلْبِه يَتْبَعُهُ أهلُ المَشرِقِ والمَغرِبِ ويَحْمَدُهُ أهلُ السَّماءِ والأَرضِ، فسَمَّاهُ مُحمَّدًا لأجلِ هذهِ الرؤيَا، ولأجلِ ما حَدَّثَتْ به أُمُّهُ حِينَ قِيلَ لها: «إنَّكِ حمَلْتِ بِسَيِّدِ هذه الأُمَّةِ، فإذا وَضَعْتِيهِ فسَمِّيهِ مُحمَّدًا».
وقيلَ لعبدِ المطلبِ: لِمَ سمّيتَهُ محمدًا ورَغِبتَ عن أسماءِ آبائِهِ؟ فقالَ: أردتُ أن يحمدَهُ اهل السماءِ، ويحمدَهُ الناسُ في الأرضِ.
ومِن فضائل اسمِ النبيِّ (محمدٍ) ما قال رسولُ اللهِ ﷺ: “مَكتُوبٌ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ“،
وقالَ ﷺ: “كَانَ نَقشُ خَاتَمِ سُلَيمَانَ بنِ دَاوُدَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ“، وَقَد وَرَدَ أن حَجَرَ هذا الخَاتَمِ نَزلَ مِن السماءِ وكان مكتوبًا عليهِ اسم مُحَمَّدٍ ﷺ.اهـ
وقد رُوِيَ أن اسمَ مُحَمَّدٍ مكتُوبٌ على قَوَائِمِ العرشِ وتوَسَّلَ بهِ آدَمُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فغَفَرَ اللهُ لَهُ.
روى البيهَقِيُّ والحَاكِمُ وغيرُهُمَا وصحَّحَهُ الحاكِمُ في المستدرَكِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه أنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غَفَرْتَ لِي (وهذا يدلُّ على جوازِ التوسلِ بالنبيِّ ﷺ حتَّى قبلَ ولادَتِهِ وبيانِ أنَّ لهُ جاهًا ومنزِلَةً عظيمَةً عند اللهِ عز وجل، واستَدَلَّ بهذا الحديثِ السبكِيُّ وغيرُهُ في الردِّ على مَن أنكَرَ التوسُّلَ بذاتِ النبيِّ ﷺ، والتوسُّلُ بالنبيِّ ﷺ مُجمَعٌ على جوازِهِ قبل وِلَادتِهِ وفي حياتِهِ وبعد وفاتِهِ ﷺ لم يختَلِفِ المسلِمونَ في جوازِهِ على مَعنَى السبَبِ، فنَحنُ نتوسَّلُ بالنبيِّ ﷺ بمعنَى أنَّنا نَجعَلُهُ سببًا لإجابَةِ الدعاءِ، فكَم مِنَ الأسبابِ جعلهَا اللهُ عز وجل تُقَوِّي إجابَةَ الدعاءِ كالدعاءِ في آخِرِ الليلِ أو فِي السُّجودِ أو فِي عَرَفَةَ يومَ عرَفَةَ، وكذلِكَ من جملةِ الأسبابِ التي جعلَهَا اللهُ عز وجل لإِجابَةِ الدعاءِ التوسلُ بالنبيِّ ﷺ فقد ثبَتَ وصحَّ في الأحاديثِ أنَّ النبيَّ علَّمَ أصحَابَهُ أنْ يتوسَّلُوا بِهِ عندَ نزولِ البلاءِ، فالتوسلُ بالنبيِّ ﷺ بهذا المعنَى لا خلافَ في جوازِهِ وهذا الحديثُ دليلٌ على ذلِكَ)، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ! وَكَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ (سألَهُ وهو أعلمُ بالإجابَةِ لكن لإِظهَارِ السببِ للناسِ، فربُّنَا عزَّ وجلَّ لا يخفَى عليهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ)؟ قَالَ لِأَنَّكَ يَا رَبِّ لَمَّا خَلَقْتَنِي رَفَعَتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْكَ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَإِذْ سَأَلْتَنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ.اهـ
وروَى ابنُ الجوزيِّ عن مَيسَرَةَ رضي اللهُ تعالى عنه أنَّه قالَ: قلتُ يا رسُولَ اللهِ، متَى كنتَ نَبِيًّا؟ قالَ: “لَمَّا خَلَقَ اللهُ الأَرضَ وَاسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ (أي أَتبَعَ خَلقَ الأرضِ بِخَلقِ السمَاءِ) فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَخَلَقَ العَرشَ كَتَبَ (أَي أَمَرَ أَن يُكتَبَ) عَلَى سَاقِ العَرشِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ خَاتَمُ الأَنبِيَاءِ، وَخَلَقَ اللهُ تَعَالَى الجَنَّةَ الَّتِي أَسكَنَهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَكَتَبَ اسمِي عَلَى الأَورَاقِ وَالأَبوَابِ وَالقِبَابِ وَالخِيَامِ، وَآدَمُ بَينَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ، فَلَمَّا أَحيَاهُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ إِلَى العَرشِ فَرَأَى اسمِي، فَأَخبَرَهُ اللهُ تَعَالَى إِنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِكَ، فَلَمَّا غَرَّهُمَا الشَّيطَانُ تَابَا وَاستَشفَعَا بِاسمِي إِلَيهِ“.
ويُروَى أَنَّ آدمَ عليهِ السلامُ عندَمَا نزلَ مِنَ الجنةِ نزلَ على جبلِ سَرَندِيبَ فِي الهِندِ وكانَ معهُ شيءٌ مِن بعضِ ثمارِ الجنةِ زرَعَهَا هناكَ وعليهَا مكتوبٌ اسمُ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وروَى الحافِظُ ابنُ أبِي الدّنيَا: عن بعضِ الصالِحِينَ قالَ: غزَونَا في صدرِ هذَا الزمانِ الهندَ، فوَقَعتُ فِي غيضَةٍ (أي بِرْكَةٍ) فإذَا فيهَا شَجَرٌ عليهِ وردٌ أحمَرُ مكتوبٌ فيهِ بالبَياضِ: لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ اللهِ.
وروَى ابنُ عساكِرَ في تارِيخِ دِمَشقَ عن بعضِ العلماءِ قالَ: دخلتُ بلادَ الهندِ فرأيتُ في بعضِ قُرَاهَا شجرَ وردٍ أسودَ فَيَفتَحُ عن وَردَةٍ كَبِيرَةٍ طيِّبَةِ الرائِحَةِ سوداءَ مَكتُوبٍ عليهَا بخطٍّ أبيضَ: لا إله إلا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، أبو بكرٍ الصدِّيقُ، عُمَرُ الفاروقُ. فشكَكتُ في ذلكَ وقُلت إنَّه معمولٌ، فعَمَدتُ إلى حبَّةٍ لم تُفتَح فرأيتُ فيها كما رأيتُ في سائِرِ الوردِ، وفي البلدِ منهُ شيءٌ كثيرٌ وأهلُ تلكَ القريَةِ يعبدُونَ الحجارَةَ.
وروَى البيهقيُّ عن عُمَرَ رضيَ اللهُ تعالى عنهُ قال: بلغَنِي في قولِ اللهِ تعالى: ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾ أنَّ الكنزَ كانَ لوحًا من ذهبٍ مكتوبٌ فيهِ: عجبًا لِمَن أَيقَنَ بالموتِ كيفَ يفرَحُ، عجبًا لِمَن أيقَنَ بالحسابِ كيفَ يضحَكُ، عجبًا لِمَن أيقَنَ بالقَدَرِ كيفَ يحزَنُ، عجبًا لِمَن يرى الدنيا وزوَالَهَا وتقلُّبَهَا بأهلِهَا كيفَ يطمَئِنُّ لَهَا، لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ اللهِ، نَسأَلُ اللهَ تعالى أنْ ينفَعَنَا بمحمدٍ ﷺ.
(مَعَ الْمُقَفِّي) أيِ التابعِ لآثَارِ مَن قبلَهُ مِنَ الأنبياءِ عليهِمُ الصّلاةُ والسّلامُ إذ هُوَ ءاخِرُهم.
وَقِيلَ معناهُ الذي لا نَبِيَّ بعدَهُ.
وهذا يدُلُّ على أنَّ دينَهُ ودينَ الأنبياءِ جميعًا هُوَ الإِسلَامُ، فبَطَلَ قولُ من يقولُ إنَّه يوَجدُ أديانٌ سماوِيَّةٌ.
فيجبُ العلمُ بِأَنَّ دينَ جميعِ الأنبياءِ هو الإسلامُ وإنَّما الاختلَافُ بينهُم كانَ في الشرائعِ فكُلُّ الأنبياءِ دعا إلى الإسلامِ وإلى عبادَةِ اللهِ وحدَهُ، فالصوابُ الذي لا حَقَّ إلا هوَ ولَا صوابَ غيرُهُ أنْ لا دينَ سماوِيٌّ نزلَ بهِ سيُّدنَا جِبرِيلُ على أنبياءِ اللهِ كلِّهِم مَن آدمَ إلى سيدِنَا محمدٍ ﷺ سوى دينِ الإسلامِ وشهادَةِ التوحِيدِ وهذا الذي يُثبِتُه القرآنُ الكريمُ، وهي عقيدةُ كلِّ أنبياءِ اللهِ هي عقيدَةُ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، قالَ تعالَى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
ومما يدلُّ مِنَ القرءان على أَنَّ الأنبياءَ عليهِمُ السلامُ كانُوا كلُّهم على الإسلامِ قولُهُ تعالى: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾،
وقولُهُ تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾،
وقولُهُ تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾،
وقولُهُ تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾،
وحديثُ صحيحِ البخاريِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ“، والإخوةُ الَّذين هُم مِن نَفسِ الأُمِّ والأبِ اسمُهُم أَشِقَّاءُ، وإذا كانوا مِن نفسِ الأبِ ولكن أُمَّهَاتُهُم مختلفةٌ يقالُ لهم إخوةٌ لِعَلَّاتٍ أي لِضَرَّاتٍ، والذين هُم مِن نفسِ الأمِّ ومِن آباءٍ مُختَلِفَةٍ يُقَالُ لهم إخوةٌ أَخيَافٌ، فالنبيُّ ﷺ شبَّه الأنبياءَ بالإِخوَةِ لِعَلَّاتٍ بمعنى أنَّ الأنبياءَ كلُّهَم دينُهُم واحدٌ وهو الإسلامُ ولكن شرائِعُهُم مختلفةٌ،
مثلًا كانَ في شرعِ ءادمَ يجوزُ للأخِ أنْ يتَزَوَّجَ أختَهُ مِنَ البطنِ الثانِي، وَأَمَّا في شَرعِ من بعدَهُ مِن شِيثٍ إِلَى مُحَمَّدٍ فحرامٌ، وكانَ فِي شَرعِ أحدِ الأنبياءِ إذَا وقعَت نجاسَةٌ على الثَّوبِ فكانَ حكمُهُ أن يُقَصَّ مكانُ النجاسَةِ أمَّا في شَرعِ نبيِّنَا محمدٍ نزلَ التَّخفِيفُ أي أنْ يُطَهَّرَ بإزالةِ النجاسَةِ وصَبِّ الماءِ عليه وكانَ يجوزُ في شَرعِ أحدِ الأنبياءِ أن يَجمَعَ بينَ الأختَينِ في وقتٍ واحدٍ، أمَّا في شرعِ محمدٍ فلا يجوزُ، وكان يجوزُ في شرعِ ءادَمَ وشرعِ يعقوبَ السجودُ للإِنسَانِ المسلمِ سجودَ تحيةٍ كفعلِ إخوةِ يوسُفَ ليوسُفَ وفِعلِ الملائِكَةِ لآدمَ وأمَّا في شرعِ محمدٍ فحرامٌ.
وفي حديثِ مُوَطَّأِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْم عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ“، فأَتبَاعُ سيّدِنَا عيسى المسلمون قالوا: لا إله إلا اللهُ عيسى رسولُ اللهِ، وأَتباعُ سيّدِنا موسى المسلمون قالوا: لا إله إلا اللهُ موسى رسولُ الله، وأَتبَاعُ سيّدِنا محمّدٍ ﷺ قالوا: لا إله إلا اللهُ محمّدٌ رسولُ الله،
وقولُ الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾، وفي آخرِ السورةِ: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، معناهُ لكم دينُكُمُ الباطِلُ ولِيَ دينِي الحقُّ وهو الاسلامُ دينُ التوحيدِ وكلمَةُ الإِخلَاصِ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له سبحانَهُ محمّدٌ عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ وعلى كلِّ أنبياءِ اللهِ تعالى ومَن اتَّبَعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
(أَحْمَدَا): لِكَونِه أحمَدَ الحامِدِينَ لِرَبِّه عَزَّ وجَلَّ.
قالَ اللهُ تعالى حَاكِيًا عَنِ السيدِ عيسى عليهِ السلامُ: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾، قالَ العلمَاءُ: لم يسمَّ بهِ أحدٌ قبلَ نبيِّنَا ﷺ، وَلَا تسمَّى بهِ أحدٌ فِي حياتِهِ ﷺ وَأَوَّلُ من تَسمَّى بهِ بعدَهُ والدُ الخليلِ بنِ أحمدَ شيخِ سِيبَوَيهِ رضيَ اللهُ عنهمَا.
(الحَاشِرُ): أيِ الذِي يُحشَرُ الناسُ على إِثْرِ زَمَنِ نُبُوَّتِهِ إذ لَا نَبِيَّ بعدَهُ، أو علَى إِثْرِهِ في الحَشْرِ لأنَّهُ أوَّلُ مَن تَنْشَقُّ عَنه الأَرضُ.
والحشرُ هوَ خروجُ الموتَى مِنَ القبُورِ بعدَ إِعَادَةِ الجسَدِ إنْ كانَ مِنَ الأجسَادِ الَّتِي يأكلُهَا التُّرَابُ، فيَخرُجُ كلُّ الخلْقِ من قُبُورِهم بعدَ إحيائِهِم وتَسُوقُهُم الملائكةُ إلى المَحشَرِ الذِي هو بَرُّ الشامِ،
ويكونُ الناسُ فيهِ على ثلاثةِ أحوالٍ: قسمٌ كاسِينَ طاعمِينَ راكبِينَ على نوقٍ رحائِلُهَا مِنَ الذَّهَبِ وهُمُ الصالحُونَ، وقسمٌ يكونونَ حُفاةً عُراةً وهُمُ عصاةُ المسلمِينَ من اهل الكبائر، وقسمٌ يكونُونَ حُفاةً عُراةً يُجَرُّونَ على وجوهِهِم وهُمُ الكفارُ، نسألُ اللهَ السلامةَ.
(العَاقِبُ): أيِ الذِي تَبِعَ أثرَ مَن قَبلهُ في الخيرِ، أوِ الَّذِي لا نَبِيَّ بَعْدَهُ إذِ العاقِبُ هو الآخِرُ، وهو عَقِبُ الأنبيَاءِ أي ءاخِرُهُم.
فَلَا يُصَدَّقُ مَنِ ادَّعَى النبوةَ بعدَهُ، وكلُّ مَنِ ادَّعَى النبوةَ بعدَهُ فهوَ كاذِبٌ دجَّالٌ خارجٌ مِنَ الإِسلَامِ ولوِ ادَّعَى أنَّ نبوتَهُ تحتَ ظلِّ نبوةِ سيدِنَا محمدٍ ﷺ كمَا ادَّعى ذلكَ بعضُ الدجَاجِلَةِ في زمانِنَا وضَحِكَ بذَلِكَ على ضِعَافِ الأفهَامِ، نسألُ اللهَ السلامةَ.
(وَالْمَاحِيْ الرَّدَى) أيِ الَّذِي يَمحُو اللهُ بهِ الكُفْرَ وأهلَهُ، وهذا محمولٌ على الأغلَبِ لأنَّ الكفرَ مَا انمَحَى مِن جَمِيعِ البِلَادِ.
أوِ المعنَى أنّه سَيْنَمحِي أَوَّلًا فأَوَّلًا إِلَى أنْ يَضْمَحِلَّ بَعدَ نُزولِ عِيسَى عليهِ السَّلامُ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، فإنه يَرْفَع الجزيةَ ولا يَقبَلُ إلَّا الإسلامَ أوِ السَّيفَ، أو يكونُ المرادُ كما قالَ بعضُهُم الذِي يمحُو اللهُ بهِ الكفرَ مِن مكَّةَ وبِلَادِ العرَبِ وما اجتَمَعَ لهُ من الأرضِ ووعَدَ أنَّهُ يَبلُغُهُ مُلكُ أمتِهِ، ويكونُ المحوُ بمعنَى الظهورِ والغلبَةِ.
وقد ذَكَرَ العلماءُ أنَّ الكفرَ يُقسَمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: فَمِنْهُ مَا هوَ قوليٌ كَمَنْ يَسُبُّ اللهَ والعياذُ باللهِ أو يَسُبُّ دينَ الإسلامِ أو نبيًّا مِنَ الأنبياءِ أو مَلَكًا مِنَ الملائكةِ الكرامِ أو يستهزئُ بشرعِ اللهِ وبشريعتِهِ وبمعالمِ دينِهِ أو يستخفُّ بعذابِ جهنمَ فإنَّهُ أشدُّ عذابٍ خَلَقَهُ اللهُ تعالى،
والقسمُ الثاني مِنْ أقسامِ الكفرِ هوَ الفعليُّ كالذي يُلْقِيْ المصحفَ في القاذوراتِ أو يسجدُ للشمسِ والقمرِ
والقسمُ الثالثُ هوَ الكفرُ الاعتقاديُّ كالذي يعتقدُ خلافَ عقيدةِ المسلمينَ كالذي يعتقدُ أنَّ للهِ ولدًا أو زوجةً أو شريكًا أو يعتقدُ عقيدةَ اليهودِ أنَّ اللهَ خلقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ثمَّ تعبَ في اليومِ السابعِ واستراحَ جالسًا على العرشِ، فنزلَ فيهمْ قولُهُ تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾، فاللهُ تعالى لَا يُوصَفُ بالتَّعبِ ولا بالجلوسِ ولا بالجِسمِيةِ ولا بالحَدِّ ولا بالمكانِ ولا بالزمانِ فهوَ خالقُ المكانِ والزمانِ كانَ موجودًا قبلَهُمَا بدونِهِمَا وهوَ الآنَ على ما عليهِ كانَ، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، مهمَا تصورتَ ببالكَ فاللهُ بخلافِ ذلكَ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَنْ وقعَ في أيِّ قسمٍ مِنَ الكفرِ فيجبُ عليهِ فورًا الرجوعُ إلى الإسلامِ بالنطقِ بالشهادتينِ وتركِ ما صدرَ منهُ. نَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُجَنِّبَنَا الكفرَ وما يُقَرِّبُ إليه مِن قولٍ أو عملٍ أو اعتقادٍ. الكلام على فيديو العمري
وَهْوَ الْمُسَـمَّى بِنَبِـيِّ الرَّحْـمَةِ *** فِي «مُسْـلِـمٍ» وَبِنَبِيِّ الـتَّـوْبَـةِ
وَفِيهِ أَيْضًـا بِنَبِيِّ الْمَلْـحَـمَـةْ *** وَفِيْ رِوَايَـةٍ نَـبِـيِّ الْمَرْحَـمَةْ
(وَهْوَ الْمُسَمَّى بِنَبِيِّ الرَّحْمَةِ فِي «مُسْلِمٍ»): أيِ التراحُمِ بينَ الأُمَّةِ، أو سُمِّيَ بِه لأنّه مُخْبِرٌ عن رَحمةِ اللهِ، أو لِرَحمةِ دِينِهِ، أو جَعَلَ ذاتَه نَفْسَ الرَّحمةِ، وَقد جاءَت تَسْمِيَتُه بِذَلِكَ فِي صَحِيحِ «مُسْلِمٍ».
يقول الله تعالى عن نبيه محمد ﷺ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، فالنبي ﷺ كما لا يخفى نعمة من أجل النعم وهو رحمة للعالمين، لا أقول رحمة للمؤمنين فقط، بل إن الله عز وجل جعله رحمة للخلائق أجمعين كَانَ النَّاسُ قَبلَ وِلَادَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ يَعبُدُونَ الأَصنَامَ وَالكَوَاكِبَ وَيَعبُدُونَ بَعضَهُم البَعضَ، حَتَّى وَصَلَ الجَهلُ بِبَعضِهِم إِلَى أَن يَصنَعَ صَنَمًا مِن تََمرٍ فَيَعبُدُهُ وَعِندَمَا يَجُوعُ يَأكُلُهُ. أَمَّا بَعدَ بِعثَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ فَقَد صَارَ بَعضُهُم بَعدَ ذَلِكَ دُعَاةً إِلَى التَّوحِيدِ وَإِلَى نُورِ الإِسلَامِ وَإِلَى عِبَادَةِ اللهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ الَّذِي لَيسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ الَّذِي لَيسَ جِسمًا وَلَا يُشبِهُ الأَجسَامَ الَّذِي لَا يَحوِيهِ مَكَانٌ وَلَا يَجرِي عَلَيهِ زَمَانٌ،
فَقَد دَعَاهُم ﷺ إِلَى إِعمَالِ الفِكرِ وَالنَّظَرِ فِي مَخلُوقَاتِ اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الخَالِقَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُشبِهُ الخَلقَ بِوَجهٍ مِنَ الوُجُوهِ وَلَا يُوصَفُ بِصِفَاتِ البَشَرِ، بَعدَ أَن كَانُوا عَلَى التَّقلِيدِ الأَعمَى لِآبَائِهِم فِي شِركِهِم وَأَخلَاقِهِم.
زَرَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي قُلُوبِ المُسلِمِينَ المَبَادِئَ وَالأَخلَاقَ السَّامِيَةَ وَالاعتِدَالَ وَالتَّوَسُّطَ وَالبُعدَ كُلَّ البُعدِ عَنِ الانحِلَالِ وَالقَبَائِحِ وَالرَّذَائِلِ حَتَّى صَارَ هَذَا دَيدَنًا لَهُم، وَلِتَوثِيقِ المَحَبَّةِ وَالعَطفِ عَلَى المُسلِمِينَ نَجِدُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَد عَلَّمَهُم النَّصِيحَةَ فِيمَا بَينَهُم. عَلَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَصحَابَهُ أَن يَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا لَا يَظلِمُ بَعضُهُم البَعضَ وَلَا يَخذُلُ بَعضُهُم البَعضَ، وَعَلَّمَهُم أَن يَكُونُوا كُالبُنيَانِ المَرصُوصِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا.
أَكَّدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى حِفظِ حُقُوقِ المُسلِمِينَ وَحِفظِ أَموَالِهِم وَحِفظِ دِمَائِهِم وَأَعرَاضِهِم.
مِن ءَاثَارِهِ ﷺ الوَاضِحَةِ الجَلِيَّةِ عَلَى العَالَمِينَ أَنَّ المَرأَةَ أُكرِمَت فِي شَرِيعَتِهِ ﷺ بَعدَ أَن كَانَت تُهَانُ وَبَعدَ أَن كَانَتِ البَنَاتُ الرُضَّعُ تُوْأَدْنَ وتُدْفَنَّ وهُنَّ أَحيَاءُ. حَتَّى إِنَّهُ ﷺ أَوصَى بِالنِّسَاءِ خَيرًا، وَحَفِظَ حَقَّ المَرَأَةِ سَوَاءً كَانَت فِي بَيتِ أَبِيهَا أَو زَوجَةً فِي بَيتِ زَوجِهَا أَو أُختًا أَو أُمًّا لِأَولَادٍ أَو عَامِلَةً فِي المُجتَمَعِ.
حتى إنه حَثَّ عَلَى الاعتِنَاءِ بِالطَّيرِ وَالشَّجَرِ وَالبَهَائِمِ. فهو القائل: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ”. وَالمُرَادُ بِذَلِكَ الأَشجَارُ المُثمِرَةُ الَّتِي يَأكُلُ مِنهَا الطَّيرُ وَالإِنسَانُ وَيَستَظِلُّ بِهَا.
وقَد دَعَا إِلَى عَدَمِ إِيذَاءِ بَعضِ البَهَائِمِ بِغَيرِ حَقٍّ، فقد أخبر النبي ﷺ عن عظيم إثم من يؤذي هذه الحيوانات بغير حق. وَحَتَّى عِندَ ذَبحِ بَعضِ البَهَائِمِ لِلأَكلِ، فَإِنَّ الإِسلَامَ أَمَرَ أَن يَكُونَ ذَلِكَ بِإِحسَانٍ وَدُونَ تَعذِيبٍ. ودَعَا كذلك إِلَى إِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَجَعَلَهَا مِن شُعَبِ الإِيمَانِ.
وزيَّن اللهُ محمَّدًا ﷺ بزينَةِ الرحمةِ، فكانَ وجودُهُ رحمةً، وجمِيعُ شمائِلِهِ وصفاتِهِ رحمةً على الخلقِ، وحياتُهُ رحمةً، ومماتُهُ رحمةً، كما قال ﷺ: “حَيَاتِي خَيرٌ لَكُم وَمَمَاتِي خَيرٌ لَكُم“،. فَهُوَ ﷺ الحَرِيُّ بِأَن تَنبَعِثَ مَحَبَّةُ القُلُوبِ وَمَيلُ النُّفُوسِ لَهُ ﷺ فِي كُلِّ لَحظَةٍ وَفِي كُلِّ تَقَلُّبَاتِ حَيَاتِنَا.
(وَبِنَبِيِّ التَّوْبَةِ): أي سُمِّيَ بنَبِيِّ التوبَةِ أي المُخْبِرُ عَنِ اللهِ بِقَبُولِهِ التَّوبَةَ بِشُروطِهَا أو أنَّهُ سُمِّي بِهِ لأنّهُ ءامِرٌ بالتَّوبَةِ أو لأنّهُ كَثِيرُ التَّوبَةِ أيِ الرُّجُوعِ إلى اللهِ تعالَى وإلَّا فقد غَفَرَ اللهُ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ ومَا تأخَّرَ.
تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ فَوْرًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَهِىَ النَّدَمُ وَالإِقْلاعُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ تَرْكَ فَرْضٍ قَضَاهُ، أَوْ تَبِعَةً لِآدمىٍّ قَضَاهُ أَوِ اسْتَرْضَاهُ.
(وَفِيهِ أَيْضًا بِنَبِيِّ الْمَلْحَمَة): أي وجاءَ أيضًا تسميتُهُ بنبيِّ الملحمَةِ في «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، والملحمةُ هِيَ الحَربُ.
سُمِّيَ بهِ ﷺ لحِرْصِهِ على الجهادِ ومُسارعَتِه إليهِ، وليسَ في هذَا شيءٌ مذمُومٌ، بَلِ الجهادُ بِأَصلِهِ شُرِعَ رحمةً بالنَّاسِ، لأَنَّهُ عندَمَا يُقَاتِلُهُمُ المسلمُونَ يدخُلُونَ في دينِ الإسلامِ، وهذا مؤَدَّاهُ أن يدخُلُوا الجنَّةَ، بينمَا لو لم يُقَاتِلهُمُ المسلمُونَ يموتُونَ على الكفرِ فيخلُدُونَ في النَّارِ، فالجهادُ بهذَا مؤدَّاهُ رحمةٌ ورأفةٌ بالنَّاسِ.قالَ السُّيوطيُّ رحمهُ الله عَنِ اسمِهِ نبيِّ الرحمةِ: «ومعناهُ واضِحٌ لأنه أُرسِلَ للرحمةِ». وقال عَنِ اسمِهِ نبيِّ الملحمةِ: «والملاحِمُ جمعُ ملحمةٍ وهو موضِعُ القتالِ والحَربِ لأنَّهُ أُرسِلَ بالجِهَادِ والسَّيفِ، ولقَد نصرَهُ اللهُ وأعلَى مقَامَهُ فكانَ ﷺ أشرَفَ مَن حمَلَت بهِ أمٌّ وخَيرَ مَن مَشَى عَلَى قدمَينِ».
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
اللهم إني أسألكَ بأنَّك انت الله لَا إلهَ إلَّا أنتَ الأحدُ الصمدُ الذي لمْ يلدْ ولم يولد ولم يكنْ لهُ كفوًا أحد، اللهم إني أسألكَ بأنَّ لكَ الحمدَ لا إله إلا أنتَ الحنانُ المنانُ بديعُ السمواتِ والأرضِ ذو الجلالِ والإكرامِ يا حيُّ يا قيومُ. ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. اللَّهُمَّ فكَّ أرض غزة وفلسطين منَ اليهودِ الغاصبينَ. اللَّهُمَّ عليكَ باليهودِ المعتدينَ، اللَّهُمَّ زلزلِ الأرضَ تحتَ أقدامِهم وأرِنَا ذُلَّهُم يا ربَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ شَتِّتْ شَملَ المعتدينَ وبدِّدْ قوَّتَهم وفَرِّقْ جمعَهم، اللَّهُمَّ الطُفْ بالمسلمينَ وانصرْهُم يا أرحمَ الرَّاحمينَ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ عليكَ بأعداءِ الدِّينِ، اللهُم الطُفْ بالمسلمينَ في شتى بقاعِ الأرضِ وَوَحِّدْ كلمتَهم وانصرْهم على أعداءِ الدّينِ، اللهم مَكِّنِ المسلمينَ مِنْ تحريرِ القدسِ الشّريفِ وأرضِ فلسطينَ وأرض غزة.
اللهم اجمَعْنَا بمحمّدٍ واحشُرْنَا تحتَ لواءِ محمّدٍ وثبِّتنا على عقيدةِ محمّدٍ وعطِّف علينَا قلبَ محمّدٍ اللهمّ صلِّ على محمّدٍ صلاةً تَقضِي بها حاجاتِنا وتُفرِّجُ بها كُرُباتِنا وتكفِيْنا بها شرَّ أعدائِنا إنك يا ربَّنا على كلِ شىءٍ قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين وَصَلَّى اللهُ على سيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحبِهِ وَسَلَّم، وَءَاخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.