شرح ألفية السيرة النبوية للحافظ زين الدين العراقي (5)

المقدمة

الحَمدُ للهِ مُبَلِّغِ الرَّاجِي فَوقَ مَأمُولِهِ، ومُعْطِي السَّائِلِ زِيَادَةً عَلَى مَسؤُولِهِ، أَحمَدُهُ عَلَى نَيلِ الهُدَى وَحُصُولِهِ، وَأُقِرُّ بِوَحدَانِيَّتِهِ إِقرَارَ عَارِفٍ بِالدَّلِيلِ وَأُصُولِهِ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عَبدِهِ وَرَسُولِهِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ المُلَازِمِ لَهُ فِي تَرحَالِهِ وَحُلُولِهِ، وَعَلَى عُمَرَ حَامِي الإِسْلَامِ بِعَزْمٍ لَا يُخَافُ مِن فُلُولِهِ، وَعَلَى عُثمَانَ الصَّابِرِ عَلَى البَلَاءِ حِينَ نُزُولِهِ، وَعَلَى عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي أَرهَبَ الأَعدَاءَ بِشَجَاعَتِهِ قَبلَ نُضُولِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ، أَمَّا بَعدُ: نكمل من حيث وصلنا

ذِكرُ مَولِدِه وإرضاعِه ﷺ
وبَـعْـدَهــا حَـلِـيـمةُ السَّــعْدِيَّهْ *** فَـظَـفِـرَتْ بالـدُّرَّةِ السَّـنِـيَّهْ
نَـالَـتْ بـهِ خَـيْـرًا وأَيَّ خَـيْـرِ *** مِـنْ سَــعَـةٍ ورَغَـدٍ وَمَـيْـرِ
أَقَامَ في سَـعْدِ بْـنِ بَكْـرٍ عِنْدَها *** أَرْبَعةً سِـنِيـنَ تَـجْنِيْ سَـعْدَها
وقد أرضَعَت حليمةُ المصطَفَى ﷺ بِلَبَنِ زَوجِهَا الحارِثِ بنِ عبدِ العُزَّى السَّعدِيِّ المعروفِ بِأَبِي كَبشةَ، وقال بعضُ أهلِ السِّيَرِ: لم تُرضِعِ المصطفَى ﷺ مُرضعَةٌ إلَّا أَسْلَمَت. وَمِمَّا يُذكَرُ في قِصَّةِ رضَاعِهِ ﷺ أَنَّهُ لمَّا جاءَت الْمَراِضعُ إلى مكَّةَ وبينَهُنَّ حليمَةُ السَّعْدِيّةُ، أَبَيْنَ أن يَأْخُذْنَ نبيَّنَا محمدًا ﷺ لأَجْلِ يُتْمِهِ لِقِلَّةِ حَظِّهِنَّ، فلَمَّا رأتهُنَّ حَلِيمةُ قد أخَذْنَ جميعًا أطفالًا ولم يَبْقَ إلَّا اليَتِيمَ الطاهرَ مُحَمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ ﷺ أخَذَتْهُ فكانَ السعدُ والفوزُ برسولِ اللهِ ﷺ لَهَا.

ويُروَى أنَّ عبدَ المطلبِ سَمِعَ وقتَ دخولِ حليمَةَ مكةَ هاتِفًا يقولُ:

إِنَّ ابنَ آمِنَةَ الأَمِينِ مُحَمَّدًا *** خَيرُ الأَنَامِ وَخِيرَةُ الأَخيَارِ

مَا إِنْ لَهُ غَيرُ الحَلِيمَةِ مُرضِعٌ *** نِعمَ الأَمِينَةُ هِيْ عَلَى الأَبرَارِ

مَأمُونَةٌ مِن كُلِّ عَيبٍ فَاحِشٍ *** وَنَقِيَّةُ الأَثوَابِ وَالأَزرَارِ

لَا تُسلِمَنهُ إِلَى سِوَاهَا إِنَّهُ *** أَمرٌ وَحُكمٌ جَا مِنَ الجَبَّارِ

قالت حليمةُ: استقبلَنِي عبدُ المطلِبِ فقالَ: مَن أنتِ؟ فقُلت: أنا امرأَةٌ مِن بَنِي سعدٍ قال: ما اسمُكِ؟ قلت حليمَةُ السعديَّةُ، فتَبَسَّمَ عبدُ المطلبِ وقال: بَخٍ بَخٍ، سَعدٌ وحِلمٌ، خصلتَانَ فيهمَا خَيرُ الدهرِ وعِزُّ الأَبَدِ،

يا حليمَةُ إن عندِي غُلَامًا يتيمًا، وقد عَرَضتُهُ على نساءِ بنِي سعدٍ فَأَبَينَ أَن يَقبَلنَ وَقُلنَ: مَا عِندَ اليَتِيمِ مِنَ الخَيرِ؟ إنما نلتَمِسُ الكرامَةَ مِنَ الآباءِ (أي أخبَرنَهُ أنهُنَّ يأخُذنَ الأولادَ لِأَجلِ المَالِ، وَلَم يعرفْنَ مَن ضَيَّعنَ عَلَى أنفُسِهِنَّ)، فهل لكِ أن ترضِعِيهِ، فعسَى أن تسعَدِي بهِ؟ فقلت: ألَا تَذَرُنِي حتَّى أشاوِرَ زوجِي؟، فانصَرَفتُ إلى زوجِي فأخبرتُهُ، فكأنَّ اللهَ قذفَ في قلبِهِ فرحًا وسرورًا، فقال لي: يا حليمةُ خذيهِ، فرجَعتُ إلى عبدِ المطلبِ فوجدتُهُ قاعدًا ينتَظِرُنِي، فقلت: أعطِنِي الصَّبِيَّ، فاستَهَلَّ وجهُهُ فرحًا، فأخذَنِي وأدخَلَنِي بيتَ آمنَةَ، فقالت لي أهلًا وسهلًا، وأدخلتْنِي في البيتِ الذي فيهِ محمدٌ، فإذا هو مُدرَجٌ في ثوبِ صوفٍ أبيضَ مِنَ اللبنِ، وتحتَهُ حريرَةٌ خضراءُ، يفوحُ منهُ رائحةُ المسكِ، فخِفتُ أن أوقِظَهُ من نومِهِ لحُسنِهِ وجمالِهِ، فوضَعتُ يدي على صدرِهِ فتبسَّمَ ضاحكًا وفتحَ عينَيهِ إِلَيَّ، فخرجَ من عينَيهِ نورٌ حتى دَخَلَ حيال السماءِ وأَنَا أنظُرُ، فقَبَّلتُهُ بينَ عينَيهِ وأخذتُهُ،

وقالت آمنةُ: يا حليمَةُ قيل لي ثلاثَ ليالٍ: استرضِعِي ابنَكِ في بنِي سعدِ بنِ بكرٍ ثم في آل أبِي ذُؤَيبٍ.

قالت حليمة: فلمَّا أخذتُهُ رجعَت به إلى رحلِي، فلمَّا وضعتُهُ في حِجرِي أقبل ثديَايَ بما شاءَ اللهُ مِن لَبَنٍ فشَرِبَ حتَّى رَوِيَ مِنَ الثديِ الأيمَنِ، وعرضتُ عليهِ الأيسَرَ فأبَاهُ، قالت حليمة: وكانت تلكَ حالَتُهُ بعدَ ذلكَ، لا يقبَلُ إلا ثديًا وَاحِدًا وَهُوَ الأيمَنُ، وقد كانَ أحدُ ثديَي لا يَدُرُّ اللبنَ منهُ، فلمَّا وضعَتهُ فِي فَمِ رسولِ اللهِ ﷺ درَّ اللَّبَنَ منهُ، قالت: وشرِبَ معه أخوهُ حتى رَوِيَ ثم نَامَ، وما كان ينَامُ مِنَ الجوعِ، وقَامَ زوجِي إلى شاتِنَا فإذا هي ممتَلِئَةُ الضرعِ مِنَ اللبنِ، فحلبَ منهَا ما شَرِبَ وشَرِبتُ حتَّى انتهينَا رِيًّا وشِبَعًا، فبِتنَا بخَيرِ ليلَةٍ، يقولُ زوجِي حينَ أصبَحنَا: تعلَمِينَ، واللهِ يا حليمَةُ لقد أخَذتِ نسمَةً مبارَكَةً، قلت: واللهِ إني لأرجُو ذلكَ.

ثم خرَجنَا مِن مكةَ وركِبتُ أتانِي وحمَلتُ النبيَّ ﷺ معِي عليهَا، فواللهِ قد أسرَعَت وقطَعَت بالرَّكبِ وصيَّرَتْهُ خلفَهَا ما يَقدِرُ شيءٌ من حُمُرِهِنَّ على مرافَقَتِهَا ومصاحَبَتِهَا، حتَّى إنَّ صواحِبِي يقُلنَ لي: يا بِنتَ أَبِي ذُؤَيبٍ، ويحَكِ، اعطِفِي علينَا بالرِّفقِ وعدَمِ الشِّدَّةِ في السَّيرِ، أليسَت هذِهِ أتانُكِ الَّتِي كنتِ خرَجتِ عليهَا لا تستَطِيعُ المشيَ؟ فأقولُ لهنَّ: بَلَى واللهِ إنها لَهِيَ، فيقُلنَ: واللهِ إنَّ لهَا لشأنًا، قالت حليمة: فكُنتُ أسمَعُ أتانِي تَنطِقُ وتقولُ: (وَاللهِ إنَّ لِي لشأنًا ثُمَّ شأنًا، ردَّ اللهُ لي سِمَنِي بعد هُزالِي، ويحَكُنَّ يا نِسَاءَ بني سعدٍ، إنكُنَّ لَفِي غفلَةٍ، وهل تدرِينَ مَن على ظهرِي؟ على ظهرِي خيرُ النبيِّينَ، وسيِّدُ المرسلِينَ، وخيرُ الأولِينَ والآخرِينَ، وحبيبُ ربِّ العالَمِينَ).

قالت: ثُمَّ قدِمنَا منازِلَ بنِي سعدٍ، ولمَّا دخلتُ به إلى منزِلِي لم يبقَ منزلٌ مِن منازلِ بنِي سعدٍ إلا شممنَا منهُ ريحَ المِسكِ، وأُلقِيَت محبَّتُهُ ﷺ في قلوبِ الناسِ، حتَّى إنَّ أحدَهُم كانَ إذا نزلَ بهِ أذًى في جسَدِهِ أخذَ كفَّهُ ﷺ فيضَعُهَا على موضِعِ الأذى فيبرَأُ سريعًا بإذن اللهِ تعالى، وكانُوا إذَا اعتَلَّ لهُم بعيرٌ أو شَاةٌ فعلُوا ذلِكَ.

قالت حليمةُ: وكنتُ لا أعلمُ أرضًا مِن أراضِي اللهِ أجدَبَ من أرضِ بنِي سعدٍ، فلمَّا جاءَ رسولُ اللهِ ﷺ كانَت غَنَمِي ترجِعُ مِنَ المرعَى منذُ جاءَ رسولُ اللهِ ﷺ شِبَاعًا غَزِيرَاتِ اللَّبَنِ، فنَحلِبُ ونشرَبُ ما شئنَا، واللهِ ما يَحلِبُ إنسانٌ قطرةَ لبنٍ ولا يجدُهَا في ضَرعٍ، حتى كانَ المقيمُ في المنازِلِ من قومنَا يَقُولُ لرعاتِهِم: ويلكُم، اسرَحُوا حيثُ يسرَحُ راعِي بنتِ أبِي ذؤَيبٍ، يعنُونَنِي، فتَرُوحُ أغنامُهُم جِيَاعًا مَا تَنزِلُ منهَا قَطرَةُ لبنٍ، وترُوحُ غنمِي بطانًا غزيراتِ اللَّبَنِ،

وروى أبو نُعَيمٍ عن بعضِ مَن كان يَرعَى غنَمَ حليمةَ أنَّهُم كانُوا يَرَونَ غنمَهَا تُرفَعُ رؤوسُهَا فترَى الأَخضَرَ فِي أفوَاهِهَا وَهِيَ تَأكُلُ، وإذا نظَرتَ لا تَجِدُ على الأرضِ عُودًا تأكُلُهُ.

قالت حليمةُ: فلم نَزَلْ نعرِفُ مِنَ اللهِ تعالى الزيادَةَ والخيرَ حتَّى مضت سنتَاهُ وفصلَتَهُ، وكان يَشِبُّ شبًّا لَا يشِبُّهُ الغِلمَانُ، فلَم يقطَع سنَتَيهِ حتَّى كانَ غلامًا شديدًا.

ويُروَى أنَّ اليهُودَ مَرُّوا على حليمَةَ، فقالت: أَلَا تُحَدِّثُونِي عَنِ ابنِيَ هذَا فإِنِّي رأيتُ منهُ كَذَا وكَذَا، وحدَّثتُهُم ببعضِ عجائِبِهِ، فقالَ بعضُهُم لبعضٍ: اقتُلُوهُ، فقالُوا: أيتِيمٌ هو؟ قالت: لَا هذَا أبُوهُ وأَنَا أمُّهُ، فقالُوا: لَو كانَ يَتِيمًا قَتَلنَاهُ.

وهذا يروى ولم يثبت كَانَتْ حَلِيمَةُ تُحَدِّثُ أَنَّهَا لَمَّا فَطَمَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَكَلَّمَ، قَالَتْ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَلَامًا عَجِيبًا، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وكانَ أولَ كلامٍ نطقَ بهِ ﷺ،

واختُلِفَ في عددِ مُرضِعاتِهِ ﷺ، فذهَبَ كثيرٌ إلى أنّهُنَّ أربعةٌ: أُمُّهُ ءامِنةُ، وحليمةُ السَّعدِيّةُ، وثُوَيبةُ عتِيقةُ أبي لهَبٍ، وأُمُّ أيمنَ برَكةُ بنتُ ثعلبةَ الحبَشِيّةُ حاضنتُهُ ﷺ ومُرَبِّيَتُهُ في صِغَرِهِ، وهي زوجةُ الصّحَابِيِّ زَيدِ بنِ حارِثةَ وأُمُّ أسامةَ بنِ زَيدٍ وقد بَقِيَت مُلازِمةً لهُ ﷺ في حياتِهِ وماتَتْ بعدَهُ ﷺ.

وحِـيـنَ شَـقَّ صَـدْرَهُ جِـبـرِيلُ *** خَـافَـتْ عـلَـيـهِ حَـدَثًا يَـؤُولُ
رَدَّتْـهُ سَـالِـمًا إِلَـى ءَامِـنَـةِ *** …………………………………………
(وحِينَ شَقَّ صَدْرَهُ جِبرِيلُ): أي وحينَ كانَ النَّبِيُّ ﷺ لا يَزالُ في بادِيةِ بني سَعْدٍ عِندَ حلِيمةَ جاءَه جِبريلُ ومِيكائيلُ عَلَيهِمَا السَّلامُ وَمَلَكٌ ثَالِثٌ وعلَيهِم ثِيابٌ بِيضٌ، فأَخَذاهُ وأَضْجعاهُ وشقَّ صدرَهُ الشَّرِيفَ جبريلُ ومِيكائيلُ علَيهِما السّلامُ فكانَت حادِثَةُ شقِّ صدرِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ.

(خَافَتْ علَيهِ حَدَثًا يَؤُولُ): أي وَلَمَّا عَلِمَت حَلِيمةُ مِن ابنِها رُؤيتَهُ رجالًا أَتَيا محمَّدًا فأضجَعاهُ وشَقَّا بَطنَهُ وجَعَلُوا يُدْخلُون أيدِيَهُم فيهِ خافَت أنْ يؤدِّي ذلك إلى مَكروهٍ يُصابُ بِه.

(رَدَّتْهُ سَالِمًا إِلَى ءَامِنَة): أي عندَ ذلكَ ردَّتهُ إلى أمِّهِ سالِمًا إلى مكةَ، معَ أنَّهَا كانَت تُحِبُّ أن يَبقَى عندَهَا.

وممَّا جاءَ في قصةِ شقِّ الصدرِ أنَّ حليمةَ قالت: لَمَّا تَرَعْرَعَ رسولُ اللهِ ﷺ كَانَ يَخْرُجُ فَيَنْظُرُ إِلَى الصِّبْيَانِ يَلْعَبُونَ فَيَجْتَنِبُهُمْ، فَقَالَ لِي يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ: يَا أُمَّاهُ مَا لِي لَا أَرَى إِخْوَتِي بِالنَّهَارِ؟ قُلْتُ: فَدَتْكَ نَفْسِي، يَرْعَوْنَ غَنَمًا لَنَا فَيَرُوحُونَ مِنْ لَيْلٍ إِلَى لَيْلٍ، فَأَسْبَلَ عَيْنَيْهِ، فَبَكَى، فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، فَمَا أَصْنَعُ هَهُنَا وَحْدِي؟ ابْعَثِينِيَ مَعَهُمْ، قُلْتُ: أَوَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَلَمَّا أَصْبَحَ دَهَنْتُهُ، وَكَحَّلْتُهُ، وَقَمَّصْتُهُ، وَأَخَذَ عَصًا، وَخَرَجَ مَعَ إِخْوَتِهِ، فَكَانَ يَخْرُجُ مَسْرُورًا وَيَرْجِعُ مَسْرُورًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمًا مِنْ ذَلِكَ خَرَجُوا يَرْعَوْنَ حَوْلَ بُيُوتِنَا، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ إِذَا أَنَا بِابْنِي ضَمْرَةَ يَعْدُو فَزِعًا، وَجَبِينُهُ يَرْشَحُ عرقًا، بَاكِيًا يُنَادِي: يَا أَبَتِ، وَيَا أُمَّهْ، الْحَقَا أَخِي مُحَمَّدًا فَمَا تَلْحَقَاهُ إِلَّا مَيِّتًا، قُلْتُ: وَمَا قِصَّتُهُ؟ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ قِيَامٌ نَتَرَامَى، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَأخذَه مِنْ أَوْسَاطِنَا، وَعَلَا بِهِ ذِرْوَةَ الْجَبَلِ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى شَقَّ مِنْ صَدْرِهِ ، وَلَا أَدْرِي مَا فَعَلَ بِهِ، وَلَا أَظُنُّكُمَا تَلْحَقَانهِ أَبَدًا إِلَّا مَيِّتًا، قَالَتْ: فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأَبُوهُ، تَعْنِي زَوْجَهَا، نَسْعَى سَعْيًا، فَإِذَا نَحْنُ بِهِ قَاعِدًا عَلَى ذِرْوَةِ الْجَبَلِ، شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَتَبَسَّمُ وَيَضْحَكُ، فَأَكْبَبْتُ عَلَيْهِ، وَقَبَّلْتُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقُلْتُ: فَدَتْكَ نَفْسِي، مَا الَّذِي دَهَاكَ؟، قَالَ: خَيْرًا يَا أُمَّاهُ، بَيْنَا أَنَا السَّاعَةَ قَائِمٌ عَلَى إِخْوَتِي، إِذْ أَتَانِيَ رَهْطٌ ثَلَاثَةٌ، بِيَدِ أَحَدِهِمْ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ، وَفِي يَدِ الثَّانِي طَسْتٌ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ مِلْؤُهَا ثَلْجٌ، فَأَخَذُونِي، فَانْطَلَقُوا بِي إِلَى ذِرْوَةِ الْجَبَلِ، فَأَضْجَعُونِي عَلَى الْجَبَلِ إِضْجَاعًا لَطِيفًا، ثُمَّ شَقَّ صَدْرِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ حِسًّا وَلَا أَلَمًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَوْفِي، فَأَخْرَجَ أَحْشَاءَ بَطْنِي، فَغَسَلَهَا بِذَلِكَ الثَّلْجِ فَأَنْعَمَ غَسْلَهَا، ثُمَّ أَعَادَهَا،

وَقَامَ الثَّانِي فَقَالَ لِلْأَوَّلِ: تَنَحَّ، فَقَدْ أَنْجَزْتَ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ، فَدَنَا مِنِّي، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَوْفِي، فَانْتَزَعَ قَلْبِي وَشَقَّهُ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ نُكْتَةً سَوْدَاءَ مَمْلُوءَةً بِالدَّمِ، فَرَمَى بِهَا، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ يَا حَبِيبَ اللهِ، (أي هذَا الشيءُ الذي بواسطَتِهِ في العادةِ يوسوِسُ الشيطانُ لابنِ ءادمَ، وهذا فيهِ زيادةٌ في بيانِ شرفِهِ، والعَلَقةُ الّتي في القَلْبِ هي حَظُّ الشَّيطانِ مِن ابنِ ءادَمَ أي المَكانُ القابِلُ لوَسوَسَتِه، أمّا الأنبِياءُ عليهِمُ السَّلامُ فقُرَناؤُهم لم يَكُونوا داخِلَ أجسامِهِم بل كَانُوا خارِجَها ولذلكَ لَم يَكُن لَهُم سُلْطانٌ على الأنبياءِ ولا غلَبَةٌ، وأمّا قَرِينُ النَّبِيّ ﷺ فقد أَسلَم كما ثَبَت ذلك في الَحِديثِ الصَّحِيح) ثُمَّ حَشَاهُ بِشَيْءٍ كَانَ مَعَهُ، وَرَدَّهُ مَكَانَهُ، ثُمَّ خَتْمَهُ بِخَاتَمٍ مِنْ نُورٍ، فَأَنَا السَّاعَةَ أَجِدُ بَرْدَ الْخَاتَمِ فِي عُرُوقِي وَمَفَاصِلِي، وَقَامَ الثَّالِثُ فَقَالَ: تَنَحَّيَا، فَقَدْ أَنْجَزْتُمَا مَا أَمَرَ اللهُ بهِ، ثُمَّ دَنَا الثَّالِثُ مِنِّي، فَأَمَرَّ يَدَهُ على صَدْرِي، وقَالَ الْمَلَكُ: زِنُوهُ بِعَشَرَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنُونِي فَرَجَحْتُهُمْ، وهكذَا حتَّى وزَنَهُ بآلافٍ فرجَحَهُم، ثُمَّ قَالَ: دَعُوهُ، فَلَوْ وَزَنْتُمُوهُ بِأُمَّتِهِ كُلِّهَا لَرَجَحَ بِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَنْهَضَنِي إِنْهَاضًا لَطِيفًا، فَأَكَبُّوا عَلَيَّ، وَقَبَّلُوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ، وَقَالُوا: يَا حَبِيبَ اللهِ، إِنَّكَ لَنْ تُرَاعَ، وَلَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ لَقَرَّتْ عَيْنَاكَ، وَتَرَكُونِي قَاعِدًا فِي مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ جَعَلُوا يَطِيرُونَ حَتَّى دَخَلُوا حِيَالَ السَّمَاءِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا، وَلَوْ شِئْتُ لَأَرَيْتُكِ مَوْضِعَ دُخُولِهِمَا.

قالت حليمةُ: فأتَيتُ به منازِلَ بنِي سعدٍ فقالَ الناسُ: اذهَبُوا بهِ إِلَى الكاهِنِ حتَّى ينظُرَ إليهِ ويدَاوِيَهُ، فقالَ: ما بِي شيءٌ ممَّا تذكُرُونَ، إني أرَى نفسِي سليمَةً وفؤَادِي صحيحًا، فقالَ الناسُ أصابَهُ لَمَمٌ أو طائِفٌ مِنَ الجِنِّ، قالَت حليمَةُ: فغلبُونِي على أمرِي فانطلقتُ به إلى الكاهنِ فقصَصتُ عليهِ القصَّةَ فقال: دعينِي أنَا أسمَعُ منهُ فإنَّ الغلامَ أبصَرُ بأمرِهِ منكُم، تكلَّم يا غلامُ، فقصَّ قصتَهُ عليهِ، فوثبَ الكاهِنُ قائمًا على قدمَيهِ ونادَى بأعلَى صوتِهِ: يا لَلعرَبِ من شرٍّ قدِ اقترَب، اقتلُوا هذَا الغلامَ واقتلونِي معهُ، فإنكم إِن تركتُمُوهُ وأدرَكَ مدارِكَ الرجالِ، ليُسَفِّهَنَّ أحلامَكُم، وليكذِّبَنَّ أربابَكُم، وليَدعُوَنَّكُم إلى رَبٍّ لَا تعرفُونَه، ودينٍ تنكرونَه، قالت: فلمَّا سمعتُ مقالتَهُ انتزعتُهُ من يدِهِ، وقلتُ: لو علِمتُ هذَا من قولِكَ مَا أتيتُكَ بهِ، اطلُب لنفسِكَ من يقتُلُك فإِنَّا لا نقتُلُ محمَّدًا.

قَالَتْ: فَاحْتَمَلْتُهُ، فَمَا أَتَيْتُ مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ إِلَّا وَقَدْ شَمَمْنَا مِنْهُ رِيحَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ، أي مِن أثرِ ما حصلَ لهُ معَ الملائكَةِ من قِصَّةِ شقِّ الصدرِ، فَقَالَ النَّاسُ: رُدِّيهِ يَا حَلِيمَةُ عَلَى جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَخْرِجِيهِ مِنْ أَمَانَتِكِ، قَالَتْ: فَعَزَمْتُ عَلَى ذَلِكَ، فَسَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي: هَنِيئًا لَكِ يَا بَطْحَاءَ مَكَّةَ، الْيَوْمَ يُرَدُّ عَلَيْكِ النُّورُ وَالدِّينُ، وَالْبَهَاءُ وَالْكَمَالُ، فَقَدْ أَمِنْتِ أَنْ تُخْذَلِينَ أَوْ تَحْزَنِينَ، أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، قَالَتْ: فَرَكِبْتُ أَتَانِيَ، وَحَمَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ بَيْنَ يَدَيَّ، أَسِيرُ حَتَّى أَتَيْتُ الْبَابَ الْأَعْظَمَ مِنْ أَبْوَابِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَوَضَعْتُهُ لِأَقْضِيَ حَاجَةً، وَأُصْلِحَ شَأْنِي، فَسَمِعْتُ هَدَّةً شَدِيدَةً، فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ: مَعَاشِرَ النَّاسِ، أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ قَالُوا: أَيُّ الصِّبْيَانِ؟ قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، الَّذِي نَضَّرَ اللهُ بِهِ وَجْهِي، وَأَغْنَى عَيْلَتِي، وَأَشْبَعَ جَوْعَتِي، رَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكْتُ بِهِ سُرُورِي وَأَمَلِي، أَتَيْتُ بِهِ أَرُدُّهُ وَأَخْرُجُ مِنْ أَمَانَتِي، فَاخْتُلِسَ مِنْ يَدَيَّ، قَالُوا: مَا رَأَيْنَا شَيْئًا، فَلَمَّا آيَسُونِي وَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى رَأْسِي، فَقُلْتُ: وَامُحَمَّدَاهُ وَاوَلَدَاهُ، حتَّى أَبْكَيْتُ الْجَوَارِيَ الْأَبْكَارَ لِبُكَائِي، وَضَجَّ النَّاسُ مَعِي بِالْبُكَاءِ حُرْقَهً لِي، فَإِذَا أَنَا بِشَيْخٍ كَالْفَانِي مُتَوَكِّئًا عَلَى عُكَّازٍ لَهُ، قَالَتْ: فَقَالَ لِي: مَا لِي أَرَاكِ أَيَّتُهَا السَّعْدِيَّةُ تَبْكِينَ وَتَضِجِّينَ؟ فَقُلْتُ: فَقَدْتُ ابْنِي مُحَمَّدًا، قَالَ: لَا تَبْكِي، أَنَا أَدُلُّكِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ عِلْمَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْكِ فَعَلَ؟ قُلْتُ: دُلَّنِي عَلَيْهِ، قَالَ: الصَّنَمُ الْأَعْظَمُ، قَالَتْ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، كَأَنَّكَ لَمْ تَرَ مَا نَزَلَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا مُحَمَّدٌ ﷺ، قَالَ: إِنَّكِ لَتَهْذِينَ وَلَا تَدْرِينَ مَا تَقُولِينَ، أَنَا أَدْخُلُ عَلَيْهِ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْكِ، قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَدَخَلَ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَطَافَ بِهُبَلَ سبعًا وَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَنَادَى: يَا سَيِّدَاهُ، لَمْ تَزَلْ مُنْعِمًا عَلَى قُرَيْشٍ، وَهَذِهِ السَّعْدِيَّةُ تَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ ضَلَّ، قَالَ: فَانْكَبَّ هُبَلُ عَلَى وَجْهِهِ، وَتَسَاقَطَتِ الْأَصْنَامُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَنَطَقَتْ وَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الشَّيْخُ، إِنَّمَا هَلَاكُنَا عَلَى يَدَيْ مُحَمَّدٍ، قَالَتْ: فَأَقْبَلَ الشَّيْخُ لِأَسْنَانِهِ اصْتِكَاكٌ، وَلِرُكْبَتَيْهِ ارْتِعَادٌ، وَقَدْ أَلْقَى عُكَّازَهُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا حَلِيمَةُ لَا تَبْكِي، فَإِنَّ لِابْنِكِ رَبًّا لَا يُضَيِّعُهُ، فَاطْلُبِيهِ عَلَى مَهَلٍ، قَالَتْ: فَخِفْتُ أَنْ يَبْلُغَ الْخَبَرُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَبْلِي، فَقَصَدْتُ قَصْدَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ، قَالَ: أَسَعْدٌ نَزَلَ بِكِ أَمْ نُحُوسٌ؟ قُلْتُ: بَلْ نَحْسُ الْأَكْبَرِ، فَفَهِمَهَا مِنِّي، وَقَالَ: لَعَلَّ ابْنَكِ قَدْ ضَلَّ مِنْكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَسَلَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ سَيْفَهُ وَغَضِبَ، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا يَسِيلُ، وَكَانَتْ دَعْوَتَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَابَتْهُ قُرَيْشٌ بِأَجْمَعِهَا، فَقَالَتْ: مَا قِصَّتُكَ يَا أَبَا الْحَارِثِ؟ فَقَالَ: فُقِدَ ابْنِي مُحَمَّدٌ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: ارْكَبْ نَرْكَبْ مَعَكَ، وَإِنْ خُضْتَ بَحْرًا خُضْنَا مَعَكَ، قَالَ: فَرَكِبَ، وَرَكِبَتْ مَعَهُ قُرَيْشٌ، فَأَخَذَ عَلَى أَعْلَى مَكَّةَ وَانْحَدَرَ عَلَى أَسْفَلِهَا، فَلَمَّا أَنْ لَمْ يَرَ شَيْئًا تَرَكَ النَّاسَ وَاتَّشَحَ بِثَوْبٍ، وَارْتَدَى بِآخَرَ، وَأَقْبَلَ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَطَافَ سبعًا، فَسَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي مِنْ جَوِّ الْهَوَاءِ: مَعَاشِرَ الْقَوْمِ لَا تَصِيِحُوا، فَإِنَّ لِمُحَمَّدٍ رَبًّا لَا يَخْذُلُهُ وَلَا يُضَيِّعُهُ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: يَا أَيُّهَا الْهَاتِفُ، مَنْ لَنَا بِهِ؟ قَالُوا: بِوَادِي تِهَامَةَ عِنْدَ شَجَرَةِ الْيُمْنَى، فَأَقْبَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وإِذَا النَّبِيُّ ﷺ قَائِمٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ يَجْذِبُ أَغْصَانَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: مَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: فَدَتْكَ نَفْسِي، وَأَنَا جَدُّكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ وَعَانَقَهُ، وَلَثَمَهُ وَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ، وَجَعَلَ يَبْكِي، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَى سَرْجِهِ، وَرَدَّهُ إِلَى مَكَّةَ، فَاطْمَأَنَّتْ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّ النَّاسُ نَحَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عِشْرِينَ جَزُورًا، وَذَبَحَ الشَّاءَ وَالْبَقَرَ، وَجَعَلَ طَعَامًا، وَأَطْعَمَ أَهْلَ مَكَّةَ، قَالَتْ حَلِيمَةُ: وَحَدَّثْتُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بِحَدِيثِهِ كُلِّهِ، فَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ وَبَكَى، وَقَالَ: يَا حَلِيمَةُ، إِنَّ لِابْنِي شَأْنًا، وَدِدْتُ أَنِّي أُدْرِكُ ذَلِكَ الزَّمَانَ، وفي هذِهِ القصَّةِ نزلَ قولُهُ تعالَى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىْ﴾، حيثُ فسَّرَها بعضُ العلماءِ كالرازِيِّ وابنِ جُزَيٍّ وغيرِهم بأنَّ اللهَ هدَى سيدَنَا محمَّدًا وألهَمَهُ الطريقَ فوجَدَهُ عبدُ المطلبِ، ولا يجوزُ تفسيرُهَا بأنهُ وجدَهُ ضالًّا حقيقَةَ الضلَالِ فهدَاهُ إلى التوحِيدِ، فهذَا لا يلِيقُ بنَبِيٍّ وهو خلافُ العِصمَةِ، فالأنبياءُ معصُومُونَ مِنَ الكفرِ قبلَ النبوَّةِ وبعدَهَا، ولو كانَ ضالًّا في التوحيدِ كما يزعُمُ البعضُ لعيَّرَهُ المُكَذِّبُونَ له من صنادِيدِ قريشٍ حينَ كذَّبُوهُ، ولكن لم يذكُر أحدٌ منهُم ذلك، لأنَّهُم يعرفُونَ أنه مَا كانَ يحبُّ الأصنامَ ولا عبدَهَا قبلَ ذلكَ.

ومما يدل على أن عبد المطلب كان يعرف ما لمحمد من شأن وفضل قصته مع سيف بن ذي يزن

سيف بن ذي يزن من ملوك اليمن ملكه واسع وذهب عبد المطلب ورهط من قريش لأجل أن يهنئوه فلما وصلوا إلى هذا الملك أرسل سيف بن ذي يزن إلى عبد المطلب وهو جد النبي فقد روى البيهقي وابن عساكر: قال: أَرْسَلَ سيفُ بنُ ذي يزن إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَدْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ إِنِّي مُفْضٍ إِلَيْكَ مِنْ سِرِّ عِلْمِي أَمْرًا لَوْ غَيْرُكَ يَكُونُ لَمْ أَبُحْ لَهُ بِهِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكَ مَعْدِنَهُ فَأَطْلَعْتُكَ طَلْعَهُ، “يعني رأيت ان الذي يخبر بمثل هذا السر هو أنت يا عبد المطلب” فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَخْبِيًّا (مخبأً) “معناه لا تخبربه احد حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ (غير ظاهر بين الناس)، وَالْعِلْمِ الْمَخْزُونِ الَّذِي ادَّخَرْنَاهُ لِأَنْفُسِنَا واحْتَجَبْنَاهُ دُونَ غَيْرِنَا خَبَرًا عَظِيمًا وَخَطَرًا جَسِيمًا (أمر ذو خطر أي ذو مرتبة عالية وشرف ورفعة) فِيهِ شَرَفُ الْحَيَاةِ (عزها)، وَفَضِيلَةُ الْوَفَاةِ لِلنَّاسِ عَامَّةً، وَلِرَهْطِكَ كَافَّةً، وَلَكَ خَاصَّةً فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: مَثَلُكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ سَرٌّ (يُسِرُّ فَيُحْفَظُ سِرُّهُ) وَبَرٌّ (يُبَرُّ فَيُطَاعُ)، فَمَا هُوَ فِدَاكَ أَهْلُ الْوَبَرِ زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ (جماعة بعد جماعة)؟ قَالَ: ” إِذَا وُلِدَ بِتِهَامَةَ “مكة” “لذلك يقال عن سيدنا محمد التهامي أي المكي” غُلَامٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ كَانَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ وَلَكُمْ بِهِ الزَّعَامَةُ (أي السيادة) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ “معناه تصيرون أصحاب سيادة بسببه” قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَقَدْ أُبْتُ (رجعتُ) بِخَيْرٍ مَا آبَ بِمِثْلِهِ وَافِدُ قَوْمٍ وَلَوْلَا هَيْبَةُ الْمَلِكِ، وَإِجْلَالُهُ وَإِعْظَامُهُ، لَسَأَلْتُهُ مِنْ سِرَارِهِ إِيَّايَ مَا ازْدَادَ سُرُورًا قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: هَذَا حِينُهُ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ، أَوَ قَدْ وُلِدَ؟ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ: يَمُوتُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَيَكْفُلُهُ جَدُّهُ وَعَمُّهُ، وَاللهُ بَاعِثُهُ جِهَارًا، وَجَاعِلٌ لَهُ مِنَّا أَنْصَارًا، يُعِزُّ بِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ وَيُذِلُّ بِهِمْ أَعْدَاءَهُ، وَيَضْرِبُ بِهِمُ النَّاسَ، عَنْ عُرُضٍ (أي لا يبالون من لقوا دونه ولا يخافون أحدا بل يضربون كلّ من عرض لهم دونه بشرّ. وَيَسْتَفْتِحُ بِهِمْ كَرَائِمَ أَهْلِ الْأَرْضِ (يفتح بهم كنوز أهل الأرض) يَعْبُدُ الرَّحْمَنَ، وَيَدْحَضُ – أَوْ يَدْحَرُ – الشَّيْطَانَ، وَيُخْمِدُ النِّيرَانَ، وَيَكْسِرُ الْأَوْثَانَ، قَوْلُهُ فَصْلٌ، وَحُكْمُهُ عَدْلٌ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَفْعَلُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُبْطِلُهُ. قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: عَزَّ جَدُّكَ، وَدَامَ مُلْكُكَ، وَعَلَا كَعْبُكَ (هو دعاء له بالشرف والعلوّ) فَهَلِ الْمَلِكُ سَارَّنِي بِإِفْصَاحٍ، فَقَدْ وَضَّحَ لِي بَعْضَ الْإِيضَاحِ. قَالَ لَهُ الْمَلِكُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ: وَالْبَيْتِ ذِي الْحُجُبْ (يقسم بالكعبة)، وَالْعَلَامَاتِ عَلَى النُّقُبْ (بضم النون جمع نقب وهو الطريق)، إِنَّكَ لَجَدُّهُ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبْ، غَيْرَ ذِي كَذِبْ. قَالَ: فَخَرَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ سَاجِدًا لَهُ، فَقَالَ: لَهُ ابْنُ ذِي يَزَنَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ ثَلِجَ صَدْرُكَ، وَعَلَا كَعْبُكَ، فَهَلْ أَحْسَسْتَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُ كَانَ لِي ابْنٌ، وَكُنْتُ بِهِ مُعْجَبًا، “من أحب الأولاد إلي” وَعَلَيْهِ رَفِيقًا، وَإِنِّي زَوَّجْتُهُ كَرِيمَةً مِنْ كَرَائِمِ قَوْمِي: آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، فَجَاءَتْ بِغُلَامٍ فَسَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا، مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ، وَكَفَلْتُهُ أَنَا وَعَمُّهُ. قَالَ لَهُ ابْنُ ذِي يَزَنَ: إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَكَ كَمَا قُلْتُ، فَاحْفَظْهُ، وَاحْذَرْ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ لَهُ أَعْدَاءٌ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلًا وَاطْوِ (خبئ وأخفي) مَا ذَكَرْتُ لَكَ دُونَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ مَعَكَ، فَإِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ تَتَدَاخَلُهُمُ النَّفَاسَةُ (الحسد) مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكُمُ الرِّئَاسَةُ فَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ (المكائد)، وَيَبْغُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ (الكريهة)، وَإِنَّهُمْ فَاعِلُونَ ذَلِكَ، أَوْ أَبْنَاؤُهُمْ غَيْرَ شَكٍّ، وَلَوْلَا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ مُجْتَاحِي قَبْلَ مَبْعَثِهِ (أي مستأصلي ومهلكي) “يعني أموت قبل ان يبعث هذا النبي” لَسِرْتُ بِخَيْلِي وَرَجْلِي حَتَّى أُصَيِّرَ يَثْرِبَ “المدينة” دَارَ مُلْكِي، “معناه حتى دخلت يثرب فأخذتها جعلتها دار ملكي” فَإِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ النَّاطِقِ، وَالْعِلْمِ السَّابِقِ: أَنَّ يَثْرِبَ اسْتِحْكَامُ أَمْرِهِ، وَأَهْلُ نُصْرَتِهِ، وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أَقِيهِ الْآفَاتِ، وَأَحْذَرُ عَلَيْهِ الْعَاهَاتِ، لَأَعْلَنْتُ عَلَى حَدَاثَةِ سِنِّهِ أَمْرَهُ، وَلَأَوْطَأْتُ عَلَى أَسْنَانِ الْعَرَبِ كَعْبَهُ، “جعلت العرب يذلون له” وَلَكِنْ سَأَصْرِفُ ذَلِكَ إِلَيْكَ، عَنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ بِمَنْ مَعَكَ، ثُمَّ دَعَا بِالْقَوْمِ، فَأَمَرَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِعَشَرَةِ أَعْبُدٍ سُودٍ، وَعَشْرِ إِمَاءٍ سُودٍ، وَحُلَّتَيْنِ مِنْ حُلَلِ الْبُرُودِ، وَخَمْسَةِ أَرْطَالٍ ذَهَبٍ، وَعَشَرَةِ أَرْطَالِ فِضَّةٍ، وَمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَرِشٍ (وعاء) مَمْلُوءٍ عَنْبَرًا، وَأَمَرَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِعَشَرَةِ أَضْعَافِ ذَلِكَ وَقَالَ: إِذَا حَالَ الْحَوْلُ فَأْتِنِي بِخَبَرِهِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ قَالَ: فَمَاتَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ قَالَ: فَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَقُولُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا يَغْبِطُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ بِجَزِيلِ عَطَاءِ الْمَلِكِ وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنَّهُ إِلَى نَفَادٍ، وَلَكِنْ يَغْبِطُنِي بِمَا يَبْقَى لِي وَلِعَقِبِي ذِكْرُهُ وَفَخْرُهُ فَإِذَا قِيلَ: وَمَا هُوَ؟ يَقُولُ: سَيُعْلَمُ مَا أَقُولُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.

قَالَتْ حَلِيمَةُ: ثُمَّ جَهَّزَنِي عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِأَحْسَنِ الْجِهَازِ وَصَرَفَنِي، فَانْصَرَفْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَأَنَا بِكُلِّ خَيْرِ دُنْيَا، لَا أُحْسِنُ وَصْفَ خَيْرِي، وَصَارَ مُحَمَّدٌ عِنْدَ جَدِّه.

………………………………………… *** وَخَـرَجَـتْ بِـهِ إِلَى الْمَـدِينَةِ
تَـزُورُ أَخْـوَالًا لَـهُ فَمَرِضَــتْ *** رَاجِـعَـةً فَـقُبِـضَـتْ وَدُفِـنَـتْ
هُناكَ بِالأَبْـوَاءِ وَهْـوَ عُـمُـرُهْ *** سِــتُّ سِـنـِينَ مَـعَ شَـىءٍ يَقْدُرُهْ
ضَــابِـطُـهُ بِـمـائَـةٍ أَيَّـامَــا *** وَقِـيـلَ، بَـلْ أَرْبَـعَـةٌ أَعْـوَامَـا
(وَخَرَجَتْ بِهِ إلَى الْمَدِينَةِ) لَمَّا بَلَغ النبيُّ ﷺ مِن العُمرِ سِتَّ سِنينَ أخذَتهُ أُمُّهُ ءامِنةُ إلى المدينةِ المنوَّرةِ ومَعَها أُمُّ أيمَنَ المدعُوَّةُ بِبَرَكةَ تحضُنُهُ.

وهُم على بعيرَينِ، فنزلَت بهِ في دارِ النابِغَةِ فأقامَت بهِ عندَهُم شهرًا، وكان رسول الله ﷺ يذكُرُ أمورًا كانت في مُقَامِهِ ذلكَ، ونظرَ إلى الدارِ فقالَ: ها هنَا نزلَت بي أمِّي، وفي هذِهِ الدارِ قبرُ أبِي عبدُ الله، وأحسَنتُ العَومَ في بئرِ بنِي عدِيِّ بنِ النجَّارِ، وكان قومٌ مِنَ اليهودِ يختلِفُونَ إليهِ ينظرُونَ إليهِ، قالَت أمُّ أيمنَ: فسمِعتُ أحدَهُم يقولُ: هذا نبيُّ هذهِ الأمَّةِ وهذهِ دارُ هجرتِهِ، فوعَيتُ ذلكَ منهُ.

(تَزُورُ أَخْوَالًا لَهُ) أَي أنَّ ءامنَةَ أخذَتِ النبيَّ ﷺ لتزُورَ أخوالًا للنّبِيِّ ﷺ مِن بَنِي النَّجَّارِ، والمرادُ أخوالُ أبيهِ عبدِ الله.

فإنَّ هاشِمًا تزوَّجَ من بنِي النجارِ ووُلِدَ لهُ عبدُ المطلبِ في المدينةِ وتركَهُ هناكَ، فبنُو النجارِ هم أخوالُ عبدِ الله بعد عبدِ المطلبِ، أما أخوَالُ النبيِّ ﷺ الذينَ منهُم أمُّهُ فهُم بنُو زُهرَةَ بنِ عبدِ منافٍ لأَنَّ ءامِنَةَ زُهرِيَّةٌ قُرَشِيَّةٌ وليسَت مِن بَنِي النَّجَّارِ.

(فَمَرِضَتْ رَاجِعَةً): أي بَعدَ أنِ انتَهَت إقامَةُ ءامنَةَ عندَ بنِي النجارِ بالمدينةِ، وَكانَت مدَّةُ إقامَتِهَا عندَهُم شهرًا، مرضَت وهيَ راجعَةٌ إلى مَكّةَ في الأبواءِ، وهُو موضِعٌ بين مَكّةَ والمدِينةِ إلّا أنّه إلى المدِينةِ أقرَبُ.

وكانَ سببُ خروجِهَا مِنَ المدينةِ ما رُوِيَ أنَّ رسولَ الله ﷺ قالَ: “نَظَرَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ يَختَلِفُ يَنظُرُ إِلَيَّ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ مَا اسمُكَ؟، قُلتُ: أَحمَدُ، وَنَظَرَ إِلَى ظَهرِي، فَأَسمَعُهُ يَقُولُ: هَذَا نَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ، ثُمَّ رَاحَ إِلَى أَخوَالِي فَأَخبَرَهُم، فَأَخبَرُوا أُمِّي، فَخَافَت عَلَيَّ فَخَرَجنَا مِنَ المَدِينَةِ“.

(فَقُبِضَتْ وَدُفِنَتْ هُناكَ بِالأَبْوَاءِ): أي بِسَبَبِ مرضِهَا هذَا ماتَت أمُّ النبيِّ ﷺ ءامنَةُ رضي الله عنهَا ودفنَت في المكانِ الذِي ماتَت فيهِ.

وَلَمَّا كانَت آمنةُ بنتُ وَهبٍ في عِلَّتِهَا الَّتِي ماتَت فيهَا وسيِّدُنَا محمدٌ ﷺ غلامٌ يَفْعٌ لهُ سِتُّ سنِينَ عندَ رَأسِهَا، نَظَرَت إلى وجهِهِ، ثُمَّ قالَت:

بَارَكَ فِيكَ الله مِن غُلَامِ *** يَا ابنَ الَّذِي مِن حَومَةِ الحَمَامِ

نَجَا بِعَونِ المَلِكِ المِنعَامِ *** فُودِيَ يَومَ الضَّربِ بِالسِّهَامِ

بِمِائَةٍ مِن إِبِلٍ سَوَامِ *** إِنْ صَحَّ مَا أَبصَرتُ فِي مَنَامِي

فَأَنتَ مَبعُوثٌ إِلَى الأَنَامِ *** مِن عِندِ ذِي الجَلَالِ وَالإِكرَامِ

تُبعَثُ فِي الحِلِّ وَفِي الحَرَامِ *** تُبعَثُ بِالتَّحقِيقِ وَالإِسلَامِ

دِينُ أَبِيكَ البَرِّ إِبرَاهَامِ *** تُبعَثُ بِالتَّخفِيفِ وَالإِسلَامِ

ثُمَّ قَالَت: كلُّ حَيٍّ مَيِّتٌ، وكلُّ جدِيدٍ بالٍ، وكُلُّ كبيرٍ يفَنى، وأنَا ميتةٌ، وذِكرِي باقٍ، وقد ترَكتُ خَيرًا، وولَدتُ طُهرًا، ثم ماتَت، وكانَ يُسمَعُ نوحُ الجنِّ عليهَا، ومِن ذَلِكَ:

نَبكِي الفَتَاةَ البَرَّةَ الأَمِينَةْ *** ذَاتَ الجَمَالِ العَفَّةِ الرَّزِينَةْ

زَوجَةَ عَبدِ الله وَالقَرِينَةْ *** أُمَّ نَبِيِّ الله ذِي السَّكِينَةْ

وَصَاحِبِ المِنبَرِ بِالمَدِينَةْ *** صَارَت لَدَى حُفرَتِهَا رَهِينَةْ

لَو فُودِيَت لَفُودِيَت ثَمِينَةْ *** وَلِلمَنَايَا شَفرَةٌ سَنِينَهةْ

لَا تُبقِي ظَعَّانًا وَلَا ظَعِينَةْ *** إِلَّا أَتَت وَقَطَعَت وَتِينَهْ

(وَهوَ عُمُرُه سِتُّ سِنِينَ): أي وَكَانَ عمُرُهُ ﷺ حينَ ماتَت أمُّهُ ستَّ سنِينَ علَى أحدِ الأقوالِ، (مَعَ شَىءٍ يَقْدُرُه، ضَابِطُهُ بِمائَةٍ أَيَّامَا): أي وقيلَ كانَ ﷺ يَزِيدُ عَلَى السِّنِينَ السِتِّ، واختُلِفَ في هذا القَدرِ الزائدِ مِنَ الأيّامِ، فقال بعضُهُم القَدْرُ الزّائدُ مِائةُ يومٍ فوقَ سِتِّ سِنِينَ، (وَقِيلَ بَل أَرْبَعَةٌ أَعْوَامًا): أَي وَقِيلَ كانَ ﷺ يَزِيدُ علَى الستِّ سنِينَ بأربعَةِ أعوامٍ وقيلَ كانَ لَهُ ﷺ سَبْعٌ مِنَ السِّنِينَ، وقيلَ ثَمَانٍ.

فائدة
قَالَ شيخنا رحمه الله: «اللهُ اللهُ رَبِّي لَا أُشرِكُ بِهِ شَيئًا اتَّخِذُوهُ وِردًا للهَمِّ والغَمِّ. هذه لَهَا خُصُوصِيَّةٌ، مَن أَرَادَ أَنْ يُوَاجِهَ ظَالِمـًا يَخَافُ شَرَّهُ يَقُولُهَا فِي وَجهِهِ مَرَّتَينِ».
وقال: «الَّذِي يُكَرِّرُ: يَا صَمَدُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً يَصْبِرُ عَلَى الْجُوعِ، هَذَا مِنْ تَجْرِبَةِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ».
وقال أيضا: «صَلَاةُ الحَاجَةِ ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً يَا جَلِيلُ وَسَبْعَ مَرَّاتٍ يَا عَظِيمُ، ثُمَّ تَقْرَأُ الفَاتِحَةَ عَلَى نِيَّةِ تَيْسِيرِ الأَمْرِ عَلَى أَسْهَلِ وَجْهٍ».
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

دعاء
اللهم آمِنَّا في قبورنا ويوم القيامة وأدخلنا الجنة بلا عذاب ولا عقاب يا الله اللهم ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا أرحم الراحمين اللهم انصر أهل السنة والجماعة ومكِّن لهم في الأرض يا رب العالمين اللهم أرنا عز الإسلام والمسلمين وأرنا ذل الشرك والمشركين يا رب العالمين بجاه نبينا محمد ﷺ وبجاه أبي بكر الصديق وبجاه عمر الفاروق وبجاه عثمان ذي النورين وبجاه علي رضي الله عنهم أجمعين وبجاه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن اللهم أحسن لنا الختام وأمتنا على كامل الإيمان وارزقنا رؤية النبي عليه الصلاة والسلام واحشرنا معه في دار السلام مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنزن.

اللهم أعنا على ما تحب وترضى وفقنا للعمل بسنة بيك المصطفى ﷺ اللهم وفقنا للعمل بما افترضت علينا واجعنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين. اللهم انصر أهل السنة والجماعة اللهم انصر أهل السنة والجماعة اللهم انصر أهل السنة والجماعة اللهم انصر من نصر الدين وعليك بأعداء هذا الدين فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز خذهم أخذ عزيز مقتدر اللهم أرح البلاد والعباد من شر أعداء الدين يا الله. اللَّهُمَّ الطُفْ بالمسلمينَ وانصرْهُم يا أرحمَ الرَّاحمينَ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ عليكَ بأعداءِ الدِّينِ. اللهم مُنزلَ الكتاب، سريعَ الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم. اللهم يا ناصر المستضعفين. اللهم يا مفرج كربات المنكوبين. اللهم يا رب السماوات والأرَضين. اللهم انصرنا على الصهاينة أعدائك أعداء الدين المجرمين. اللهم انصرنا وردّ كيد الكائدين. اللهم انصرنا على الظالمين. اللهم أرنا فيهم ما يثلج صدور الصامدين، يا رب العالمين. يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين. اللهم أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت علام الغيوب اجعلنا سببا لمن اهتدى وأجرِ الخير على أيدينا وأقبل بقلوب الناس إلينا يا الله . اللهم عرِّفنا بنعمك بدوامها لا بزوالها يا رب العالمين اللهم أدم علينا نعمك ولا تحرمنا خيرا سقته إلينا يا رب العالمين يا الله، وبصرنا بعيوبنا وأعنا على إصلاحها. يا رب العالمين يا الله يا الله يا الله، لا تدع لنا في جمعنا هذا ذنبا إلا غفرته ولا مريضا إلا شفيته ولا مبتلىً إلا عافيته ولا مسافرا إلا بالسلامة إلى أهله رددته ولا حاجة من حوائج الدنيا لك فيها رضًى إلا يسرتها لنا بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين.

وَصَلَّى اللهُ على سيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحبِهِ وَسَلَّم، وَءَاخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

 

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …