شرح ألفية السيرة النبوية للحافظ زين الدين العراقي (11)

المقدمة

الحَمدُ للهِ المُتَعَالِي عَنِ الأَندَادِ، المُقَدَّسِ عَنِ النَّقَائِصِ وَالأَضدَادِ، المُتَنَزِّهِ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالأَوْلَادِ، رَافِعِ السَّبعِ الشِّدَادِ، عَالِيَةً بِغَيرِ عِمَادٍ، وَوَاضِعِ الأَرضِ لِلمِهَادِ، مُثَبَّتَةً بِالرَّاسِيَاتِ الأَطْوَادِ، المُطَّلِعِ عَلَى سِرِّ القُلُوبِ وَمَكنُونِ الفُؤَادِ، قَدَّرَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ مِنَ الضَّلَالِ وَالرَّشَادِ، جَادَ عَلَى السَّائِلِينَ فَزَادَهُم مِنَ الزَّادِ، وَأَعطَى الكَثِيرَ مِنَ العَامِلِينَ المُخلِصِينَ فِي المُرَادِ، أَحمَدُهُ حَمدًا يَفُوقُ الأَعْدَادَ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَكُلَّمَا شُكِرَ زَادَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ الرَّحِيمُ بِالعِبَادِ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ المَبعُوثُ إِلَى جَمِيعِ الخَلْقِ فِي كُلِّ البِلَادِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ الَّذِي بَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَجَادَ، وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي بَالَغَ فِي نَصْرِ الإِسلَامِ وَأَجَادَ، وَعَلَى عُثمَانَ الَّذِي جَهَّزَ جَيشَ العُسْرَةِ فَيَا فَخرَهُ يَومَ يَقُومُ الأَشهَادُ، وَعَلَى عَلِيٍّ المَعرُوفِ بِالشَّجَاعَةِ وَالجِلَادِ، وَعَلَى الآلِ وَالأَصْحَابِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحَسَانٍ إِلَى يَومِ التَّنَادِّ، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعدُ:

كُنَّا قَد وَصَلنَا فِي شَرحِ أَلفِيَّةِ الحَافِظِ العِرَاقِيِّ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ إِلَى قَولِهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

ذِكرُ أذَى قُرَيشٍ لِنَبِيِّ اللهِ ولِلمُسْتضعَفِينَ مِن المُؤمنِينَ
وَأُوذِيَ النَّـبِـيُّ مَـا لَـمْ يُـؤْذَا *** مَـنْ قَبْلَهُ مِـنَ النَّـبِـيِّـيـنَ وَذَا
مِـمَّا يُضَـاعِـفُ لَـهُ الأُجُـورَا *** وَلَـوْ يَشَـاءُ دُمِّـرُوا تَـدْمِـيـرَا
لَـكِـنَّهُمْ إِذْ أَضْـمَرُوا الضَّـغَائِنَا *** مَا مُكِّنُوا فَاسْتَضْعَفُوا مَنْ ءَامَنَا
(وَأُوذِيَ النَّبِيُّ مَا لَمْ يُؤْذَا، مَنْ قَبْلَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ): أُوذِيَ نبِيُّنا محمَّدٌ ﷺ مِن كُفّارِ قُرَيشٍ بمَا لَمْ يُؤْذَ بِه مَنْ قَبْلَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ الكِرامِ صلواتُ ربي وسلامُهُ عليهِم أجمعينَ، أي مِن حيثُ اجتِماعُ الأنواعِ الكثيرةِ مِنَ الأذَى عليهِ، وإلا فقَد حصَلَ أنْ قُتِلَ بعضُ الأنبياءِ، فقُطِعَ رأسُ يحيَى ونُشِرَ زكريَّا بالمنشارِ عليهِمَا السّلامُ.

كانَ سيِّدُنَا محمدٌ ﷺ يخرُجُ من بيتِهِ، فيَلحَقُهُ عمُّهُ أبو لَهَبٍ ويَمشِي خلفَهُ فِي طُرُقَاتِ مكةَ، ويَصرُخُ: مجنُونٌ لا تُصَدِّقُوهُ، ساحِرٌ، كذَّابٌ، حتَّى يَعُودَ ﷺ إِلَى بيتِهِ، تكلَّمُوا عنهُ وأَسَاؤُوا إليهِ حتَّى وهُوَ يُصَلِّي ساجدًا للهِ في مكَّةَ، ووُضَعُوا عَلَى ظَهرِهِ وهُوَ ساجِدٌ الأَذَى والقَاذُورَاتِ وسَلَا الجَزُورِ، فتأتِي الحبِيبَةُ بنتُ الحبيبِ فاطمَةُ بنتُ رسولِ اللهِ ﷺ لتُزِيلَ هذا الأذَى عنهُ وهِيَ تبكِي، فيَقُولُ لهَا: “لَا تَبكِي يَا بُنَيَّةُ فَإِنَّ اللهَ نَاصِرٌ أَبَاكِ“، وأخرَجَتهُ عشيرَتُهُ مِن أرضِهِ وبيتِهِ وأحبِّ البقاعِ إلَيهِ، فقالَ مقالَتَهُ الشهيرَةَ: “وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيرُ أَرضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرضٍ إِلَيَّ، وَلَولَا أَنَّ أَهلَكِ أَخرَجُونِي مِنكِ مَا خَرَجتُ مِنكِ“، وفي يومِ أُحُدٍ رُمِيَ رسولُ اللهِ ﷺ، فكُسِرَت رَباعيَتُهُ، وجُرِحَت شفَتُهُ السفلَى، وشُجَّ في جبهَتِهِ، ولَمَّا وقَعَ في حفرَةٍ صارَ المشركُونَ يضرِبُونَهُ بالسيفِ على خوذَتِهِ، فدخلَت حَلقتَانِ من حِلَقِ الْمِغْفَرِ في وجنَتِهِ ﷺ، وهو يقولُ: “اللهم اهدِ قَومِي فَإِنَّهُم لَا يَعلَمُونَ“.

وصَفُوهُ بالجُنُونِ، ووصَفُوهُ بالسِّحرِ، وهو أبعَدُ الناسِ عنِ السحرِ والجنونِ، بل هُوَ أعقَلُ الناسِ، نسَبُوا إليهِ الشعرَ، وربُّنَا يقولُ: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾.

ولمَّا ذهبَ إلى قبائِلِ الطائِفِ ليكُونُوا عونًا لهُ ضدَّ قريشٍ، فكانُوا عونًا عليهِ، وأَغرَوا بهِ سفهاءَهُم وعبِيدَهُم، يسبُّونَه ويصيحُونَ به، حتَّى اجتَمَعَ عليهِ الناسُ وهم يقذِفُونَهُ بالحجارةِ، حتى سالَت دماؤُهُ الشريفةُ على كعبَيهِ ﷺ، وصَارَ يقولُ: “اللهم إِلَيكَ أَشكُو ضَعفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي“، نعَم، صارَ يشكُو أمرَهُ للهِ، حالُهُ كحالِ يعقُوبَ عليهِ السلامُ حيثُ قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.

كَم سبَّهُ أبُو جهلٍ، وَكَم عادَاهُ عمُّهُ أبُو لَهَبٍ، وَكَم تآمَرَ قَومُهُ علَيهِ، ولَكِنَّ اللهَ نَاصِرٌ نَبِيَّهُ ﷺ.

وروَى مسلمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهِ ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إلَى سَلاَ جَزُورِ (وهي اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان، وهي من الآدمية المشيمة) بَنِي فُلَانٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، قال ابن مسعود: وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ (نُصرَةٌ وَحِمَايَةٌ) طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللّهِ ﷺ، وَالنَّبِيُّ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةَ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: “اللهم عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ“، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضَّحِكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: “اللهم عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ“، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ.

ويروى أن عقبة بنَ أبي معيط كان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشًا، ودعا رسول الله ﷺ فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم. وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله ﷺ وأكل من طعامه، فعاتبه خليله أبيّ بن خلف وكان غائبًا. فقال عقبة: رأيت عظيمًا ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش. فقال له خليله: لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه ففعل عدوّ الله ما أمره به خليله؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾.

قال الضحاك: لَمَّا بَصَقَ عُقْبَةُ فِي وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَجَعَ بُصَاقُهُ فِي وَجْهِهِ ‌وَشَوَى ‌وَجْهَهُ ‌وَشَفَتَيْهِ، حَتَّى أَثَّرَ فِي وَجْهِهِ وَأَحْرَقَ خَدَّيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ أَثَرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ حَتَّى قُتِلَ.

كَم ءَاذَى أبُو لَهَبٍ النَّبِيَّ ﷺ، وكَم سعَى المشركُونَ في قتلِهِ، فكادُوا لهُ المكائِدَ وأَغرَوا عليهِ السُّفَهَاءَ، لِمَاذَا، لأَنَّهُ علَى الحقِّ، لأنه جاءَ بالحَقِّ، لأنَّهُ جاءَهُم بالتَّوحِيدِ، لأنَّهُ علَّمَهم أنَّ اللهَ هوَ خالِقُ كلِّ شيءٍ، وَلَا يُشبِهُ شيئًا مِن خلقِهِ، وأنَّهُ عز وجل ليسَ كمِثلِهِ شيءٌ، موجُودٌ لا يُشبِهُ المَوجُودَاتِ، موجُودٌ قبلَ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ بلَا مَكَانٍ ولَا زمَانٍ، ظنُّوا أنَّهُم سيَقضُونَ عليهِ وعلى دعوَتِهِ، ولكنَّ ربَّنَا عزَّ وَجلَّ حفِظَهُ وأتَمَّ دعوَتَهُ، واللهُ تعالَى نَاصِرٌ عبدَهُ، هُوَ الذِي أنزَلَ عليهِ قولَه عزَّ وجلَّ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.

يُروَى أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ تَوَاصَوْا بِالنَّبِيِّ ﷺ لِيَقْتُلُوهُ، مِنْهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَبَيْنَما النَّبِيُّ ﷺ قَائِمٌ يُصَلِّي إذ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ، فأَرْسَلُوا الْوَلِيدَ لِيَقْتُلَهُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ، فَجَعَلَ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ وَلَا يَرَاهُ، فَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدُ، وَنَفَرٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ يُصَلِّي سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ، فَيَذْهَبُونَ إِلَى الصَّوْتِ، فَإِذَا الصَّوْتُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَيَذهبوَنَ إِلَيْهِ فَيَسْمَعُونَهُ أَيْضًا مِنْ خَلْفِهِمْ، فَانْصَرَفُوا وَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، وفي هَذَا نزَلَ قولُهُ تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾.

وجاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قَالَ: إنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيَّ، وهُوَ ابنُ خَالِ رسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، أَبُو زَمْعَةَ، وَالْحَارِثَ بْنَ عَيْطَلٍ، وَالْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ، استَهزَؤُوا برَسُولِ اللهِ ﷺ، فأَنزَلَ اللهُ تعالَى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَشَكَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَرَاهُ الْوَلِيدَ، فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَى عِرْقٍ غَليظٍ في رجْلِه وَقَالَ: كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، فَأشار إِلَى عُنُقِهِ وَقَالَ: كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ، فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْحَارِثَ بْنَ عَيْطَلٍ، فَأَوْمَأَ إِلَى بَطْنِهِ وَقَالَ: كُفِيتَهُ، وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، فَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِهِ (الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَلْصَقُ بِالْأَرْضِ مِنَ الرِّجلِ عِنْدَ المَشيِ) وَقَالَ: كُفِيتَهُ، فَأَمَّا الْوَلِيدُ فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ (يعمَلُ لَهُ رِيشًا)، فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ أي كاحله فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ، وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ غائطُهُ مِنْ فمهِ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَوْمًا إِذْ دَخَلَ فِي رَأْسِهِ شِبْرِقَةٌ (الشِّبْرِقُ: نبتٌ حِجَازِيٌّ يُؤْكَلُ وَلَهُ شْوكٌ، وَإِذَا يبِسَ سُمِّيَ الضَّرِيْعَ) فَمَاتَ مِنْهَا.

(وَذَا، مِمَّا يُضَاعِفُ لَهُ الأُجُورَا): أَي وصَبرُه ﷺ على مَا يَنزِلُ بهِ مِنَ البَلاءِ مِمَّا يُضَاعِفُ اللهُ لَهُ بِه الأُجُورَ ويرفَعُ لهُ بهِ الدَّرجاتِ.

وكيفَ لا يكونُ لَهُ ذلكَ وقَد أخبَرَ ﷺ ما يكونُ للمؤمِنِ الصّابِرِ على البلاءِ الخفيفِ مِن الثّوابِ الجَزِيلِ فقالَ ﷺ: “مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً“، فكيفَ بخَيرِ خلقِ اللهِ وأكرَمِهِم علَى اللهِ إذا أصابَهُ البَلَاءُ، وكيفَ بهَذَا الأَذَى الشدِيدِ والتَّكذِيبِ الَّذِي نالَهُ مِن قَومِهِ.

(وَلَوْ يَشَاءُ دُمِّرُوا تَدْمِيرَا): فقَد خَيَّرَ اللهُ تعالَى نَبِيَّه مُحمَّدًا ﷺ، بينَ أنْ يُدمَّرَ أولئِكَ الظَّلَمةُ بإنزالِ العذابِ فيهِم.

أو يذَرَهُم، فَلَوْ كانَ النّبِيُّ ﷺ يَختارَ نُزولَ العذابِ فيهِم بعدَ تخييرِهِ لدُمِّرُوا تَدْمِيرًا عن بَكرَةِ أبيهِم، وأُهلِكُوا هلاكًا فظيعًا، وذلك أنَّ اللهَ تعالَى قَد بعثَ للنّبِيِّ ﷺ ملَكَ الجِبالِ فقالَ له: إنْ شِئتَ أَطْبَقْتُ علَيهِمُ الأَخْشَبَينِ، وَهُما جبَلَا أبي قُبَيسٍ والجبَلِ الّذِي يُقابِلُه قُعَيْقِعَانَ، ومَكَّةُ بينَهُمَا، فقالَ ﷺ: “بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِم مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا“، يا حَبِيبِي يا رسُولَ اللهِ، بعدَ كُلِّ هذَا الإيذَاءِ والتكذِيبِ، ما زَالَ رحِيمًا بقومِهِ رؤُوفًا بِهِم، هذِهِ هِيَ رحمةُ رسولِنَا الكرِيمِ ﷺ، كَيفَ لَا وَهُوَ الرَّحمَةُ المُهدَاةُ، النَبِيُّ الكَرِيمُ نَبِيُّ الرحمَةِ والمَرحَمَةِ، مَن أرسَلَهُ اللهُ بالهُدَى فَهَبَّ لإِنقَاذِ النَّاسِ مِن ظُلمَةِ الجَهلِ إلى نُورِ العلمِ والتوحيدِ، فلولَا هذَا النبيَّ ﷺ أينَ كُنَّا، اللهم اجمَعنَا بنَبِيِّكَ محَمَّدٍ ﷺ في الجنَّةِ يا أرحَمَ الراحِمِينَ.

(لَكِنَّهُمْ إِذْ أَضْمَرُوا الضَّغَائِنَا، مَا مُكِّنُوا فَاسْتَضْعَفُوا مَنْ ءَامَنَا): أي أَنَّ المشرِكِينَ لَم يَلحَظُوا عَفْوَهُ وحِلمَهُ ﷺ، ولَم يكتَفُوا بمَا فعَلُوا، بل أَضْمَرُوا وأسَرُّوا في صدُورِهمُ الأحقَادَ الشّدِيدَةَ تُجاهَ رسُولِ اللهِ ﷺ.

بُغيةَ إيذائِهم لهُ والغَدرِ بهِ، ولَكِنَّهُم مَا مُكِّنُوا مِن إيقاعِ ما أَضمَرُوهُ بِه، فمَا استطاعُوا أنْ يَقتُلُوه، بل دَفَعَ اللهُ عنهُ الأذَى الكثيرَ، ورَدَّ ذلكَ في نُحورِهم، وامتنَعُوا عن إيذاءِ ذَوِي الشَّرَفِ في قومِهم مِمّن أسلَمَ، لِمَا لَهُم مِن مَنَعةٍ في عَشائِرِهم وحِلْفِهِم وجِوارِهِم، فلَم يَبْقَ إلّا الضُّعفاءُ مِمّن ءامَنَ، فَتوجَّهُوا إلى إيذائِهِم واسْتَضْعَفُوا واستَذلُّوا واستَحقَرُوا وعذَّبُوا كثِيرًا مِمَّنْ ءَامَنَ باللهِ وبرسُولِهِ مِنَ الضُّعفَاءِ وَالمَوَالِي.

ومِنَ المستَضعَفِينَ الذِين عُذِّبُوا عذابًا شديدًا خبَّابُ بنُ الأَرَتِّ، كانُوا يُلصِقُون ظهرَهُ بالأَرضِ علَى الحِجَارَةِ المُحَمَّاةِ على النارِ، حتى ما بَقِيَ على ظهرِهِ لحمٌ من شِدَّةِ ما فعَلُوا بِهِ، وكانَت مولَاتُهُ تأخُذُ الحدِيدَةَ وقد أحمَتهَا، فتضَعُهَا على رأسِهِ، فشكَا ذلِكَ إلَى رسُولِ اللَّهِ ﷺ، فقَالَ: “اللهم انصُر خَبَّابًا“، فَمَرِضَت مَولَاتُهُ فِي رَأسِهَا، وَهِيَ أُمُّ أنمَارٍ، فكَانَت تَعوِي مَعَ الكِلَابِ، فقِيلَ لهَا علَاجُكِ الكيُّ، فكانَ يؤخَذُ بالحدِيدَةِ المحمَّاةِ فيُكوَى بهَا رأسُهَا، اللهُ نَصَرَ خَبَّابًا، وصارَت مولَاتُهُ تشرَبُ مِن نفسِ الكأسِ الذِي شَرِبَ منهُ خَبَّابٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، معَ كلِّ هذا لم يُعطِهِم خبّابُ بنُ الأرتِّ ما أرادُوا، بل بقِيَ ثابِتًا علَى الإسلَامِ صامِدًا لا يَتَزَحزَحُ كحَالِ كثِيرٍ منَ المسلمينَ معَهُ، رضيَ الله عنهُم وأرضَاهُم.

ولَمَّا مرَّ عليٌّ بقَبرِ خَبَّابٍ قالَ: رَحِمَ اللَّهُ خبَّابًا، أسلَمَ رَاغِبًا، وهاجَرَ طائِعًا، وعاشَ مُجَاهِدًا، وابتُلِيَ في جِسمِهِ أحوَالًا، ولَن يُضَيِّعَ اللَّهُ أجرَهُ.

ومِنهُم صهَيبُ بنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ رضِيَ اللهُ عنهُ، ويعرف بالرومي لأنه أقام في الروم مدة. وهو من أهل الجزيرة، سبي من قرية نينوى، من الموصل. وقد كان أبوه أو عمه عاملا لكسرى ثم إنه جُلب إلى مكة، فاشتراه عبد الله بن جُدعان القرشي كانَ مِنَ المستضعَفِينَ مِنَ المؤمِنِينَ الذينَ كانُوا يعذَّبُونَ في اللَّهِ، ويقَالُ: إنهُ لمَّا هاجَرَ تبعَهُ نفرٌ منَ المشرِكينَ، فقالَ: يا معشَرَ قريشٍ، إنِّي مِن أرمَاكُم ولا تَصِلُونَ إليّ حتَّى أرمِيَكُم بكلِّ سَهمٍ معِي، ثم أضرِبَكُم بسَيفِي، فقالُوا: جئتَنَا صعلُوكًا لا مَالَ عندَكَ، حتَّى صِرتَ من أكثَرِنَا مالًا، لن نَترُكَكَ تخرُجُ أنتَ ومَالُكَ، فقالَ: فإن كنتُم تريدُونَ مالِي دلَلتُكم عليهِ، فرَضُوا، فعاهَدَهُم ودَلَّهُم، فرجَعُوا فأخَذُوا مالَهُ، فلمَّا جاءَ إلى النّبيِّ ﷺ قالَ لَهُ: “رَبِحَ البَيعُ أَبَا يَحيَى“، فأَنزَلَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، وقالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: “السُّبَّاقُ أَربَعَةٌ: أَنَا سَابِقُ العَرَبِ، وَصُهَيبٌ سَابِقُ الرُّومِ، وَبِلَالٌ سَابِقُ الحَبَشَةِ، وَسُلَيمَانُ سَابِقُ الفُرسِ“.

عَــمَّــارًا الطَّــيِّــبَ أُمَّـهُ أَبَـهْ *** ………………………………………
(عَمَّارًا الطَّيِّبَ أُمَّهُ أَبَهْ): وءَاذَى المشرِكُونَ عَمَّارَ بنَ ياسِرٍ، الطَّيِّبَ المطيَّبَ وعَذَّبُوهُ ليَرجِعَ عَنِ الإسلَامِ حتَّى تَكَسَّرَت بعضُ أضلاعِهِ، وهُوَ ثابِتٌ عَلَى الإِسلَامِ لَا يَتَزَلْزَلُ.

وذلِكَ فِي السَّنَةِ الخامسةِ مِنَ البِعثةِ، وقد لقَّبَهُ رسولُ اللهِ ﷺ بالطيِّبِ، فقال: “مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ“، أي الطاهِرِ المطهَّرِ لأنّهُ كانَ تقيًّا صالِحًا.

ومِمَّن عَذَّبَهُم المشرِكونَ مِن الضُّعَفاءِ أُمّ عَمَّارِ بنِ ياسِرٍ سُمَيَّةُ بِنتُ خَيّاطٍ وَعَذَّبُوا أبا عَمّارٍ زوجَ سُمَيّةَ ياسِرَ بنَ عامِرٍ الصَّابِرَ، فكانَ المُشرِكونَ يأخذُونَ عَمّارًا وياسِرًا وسُمَيَّةَ وابنتَها، فيُقَلِّبُونَهُم ظَهْرًا لِبَطْنٍ في الأرضِ الشِّديدَةِ الحَرِّ، فيُحرِّقونَهُم، وقد مَرَّ عليهِم رَسُولُ اللهِ ﷺ وهُم يُعَذَّبُون فقال: “صَبْرًا ءَالَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةَ“، ولَم يكَتَفِ أبو جهلٍ بهذَا بل تمَادَى إلى أنْ طعَنَ سُمَيّةَ أُمَّ عَمّارٍ بِحَرْبةٍ مِن حَديدٍ في فَخِذِها لأنَّهَا أغلَظَت لَهُ في الكلَامِ، فماتَتْ، فهي أولُ شهيدَةٍ في الإسلامِ، فقالَ عَمّارٌ: يا رسولَ اللهِ، بلَغَ مِنّا العَذابُ كُلَّ مَبْلَغٍ، فقالَ ﷺ: “اصبِرْ أَبَا اليَقْظَانِ، اللهم لَا تُعَذِّبْ مِنْ ءَالِ ياسِرٍ أَحَدًا بِالنَّارِ“.

وماتَ ياسِرٌ وابنتُهُ بعدَ سُمَيّةَ، ونَجا عَمّارٌ، وقد قالَ بعضُ مَن رأَى عمَارَ بنَ ياسِرٍ متجَرِّدًا عن بعضِ ثيَابِهِ: نظَرتُ إلى ظهرِهِ فإذَا فيه حَبَطٌ (وهِيَ بُثُورٌ تَظهَرُ بِسَبَبِ الجُرُوحِ) فقُلتُ: مَا هَذَا؟ قال: هذَا ما كَانَت قُرَيشٌ تعذِّبُنِي في رمضَاءِ مكّةَ، وكانَ عمَّارٌ يعذَّبُ حتَّى لا يدرِي مَا يَقُولُ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ أنهُ قَالَ: قلتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ مِنْ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ (أي فِي قولِ كلَامٍ مخالِفٍ للدِّينِ تَقِيَّةً حتَى لا يقتُلَهُمُ الكفارُ ويترُكُوهُم)، قَالَ: نَعَمْ وَاَللَّهِ.

وقَد أَخَذَ المُشرِكُونَ عمّارَ بنَ ياسِرٍ، فلَم يترُكُوهُ حتَّى نالَ من رَسُولِ اللهِ، فلمَّا أتَى النّبيَّ ﷺ قالَ لَهُ النبيُّ ﷺ: “مَا وَرَاءَكَ؟” قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللهِ، واللهِ ما تُرِكْتُ حتَّى نِلْتُ مِنكَ، قَالَ: “فَكَيفَ تَجِدُ قَلبَكَ؟” قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالإِيمَانِ، قالَ: “فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ“، أي أنت مكره أن أجبروك ما عليك شيء فنزَلَ قولُهُ تعالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، في عمّارِ بنِ ياسِرٍ.

وَقد أخذَ العُلَمَاءُ مِن هَذِهِ القِصَّةِ أنَّهُ يُستَثنَى مِنَ الوُقُوعِ فِي الكُفرِ حَالَةُ الإِكْرَاهِ، فَمَنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، أي مُكرَهًا بمَا يُؤَدِّي إِلَى القَتلِ، وَكانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِيمَانِ كارِهًا للكُفرِ، فَلا يَكْفُرُ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فَقَدْ جَعَلَ الله تعالى لِلْمُكْرَهِ حُكْمًا خَاصًّا لا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُكْرَهَ بِالْقَتْلِ أَوْ نَحْوِهِ كَقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ المفضي للموت، إِذَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ تَحْتَ الإِكْرَاهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ عِنْدَ نُطْقِهِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ الْكُفْرِيِّ لَيْسَ عَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلا يُعَذَّبُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ، هَذَا مَعْنَى الآيَةِ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ لا يُشْتَرَطُ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَلا مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ، لِحَدِيثِ: “إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا“، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسلِمٌ حدِيثًا فِي مَعنَاهُ.

وَقَدْ شَذَّ بعضُهُم في هذِهِ المسأَلَةِ، فقال: إِنَّ الْمُسْلِمَ لا يُعْتَبَرُ خَارِجًا عَنِ الإِسْلامِ وَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ إِلَّا إِذَا انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِالْكُفْرِ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ وَدَخَلَ فِي دِينٍ غَيْرِ الإِسْلامِ بِالْفِعْلِ.اهـ

فهذا فَتَحَ لِلنَّاسِ بَابًا وَاسِعًا مِنَ الْكُفْرِ، وَوَرَّطَ بِهِ خَلْقًا كَثِيرًا، وجَعَلَ بِقَوْلِهِ هَذَا كُلَّ الْعِبَادِ فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ، وَلَيسَ كَمَا يَقُولُ، بَل هَذَا الحُكمُ خَاصٌ بِالمُكرَهِ عَلَى قَولِ الكُفرِ كمَا ذَكَرنَا.

………………………… *** أُمَّ بِـلَالٍ وَبِـلَالًا عَـذَّبَــهْ
أُمَيَّةٌ ………………………………. *** ……………………………………..
(أُمَّ بِلَالٍ وَبِلَالًا عَذَّبَه، أُمَيَّةٌ): وعَذَّبَ المشرِكُون أيضًا أُمَّ بِلَالِ بنِ رَباحٍ المؤَذِّنِ، واسمُهَا حَمامَةُ، ولقَبُهَا سَكِينةُ، كانتْ جارِيَةً لِبَعضِ بَنِي جُمَحٍ، وَهِيَ غيرُ حَمامَةَ جَارِيةِ عائِشَةَ.

وَعذَّبُوا أَبَا عَبدِ الكَرِيمِ بِلَالًا بنَ رَبَاحٍ الحَبَشِيَّ، عَذَّبَه مِنَ المشركِينَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ الجُمَحِيُّ، أحدُ رؤساءِ مُشرِكي قُريشٍ، معَ بعضِ مُشرِكِي بنِي جُمَحٍ، وكانَ بِلالٌ عبدًا مملوكًا لأُمَيّةَ، وكانَ أُميّةُ مُبالِغًا في تَعذِيبِ بِلالٍ وأُمِّه مُنذُ عرَفَ بإسلامِهِمَا، فكانَ يُخرِجُ بِلَالًا إذا حَمِيَتِ الظَّهِيرةُ فيَطرَحُهُ عَلَى ظَهرِه عارِيَ الظَّهرِ في بطحَاءِ مكّةَ، ثُمّ يأمُر بالصَّخرةِ العَظِيمةِ فتُوضَعُ على صَدرِه ويَقولُ لَهُ: لا تَزالُ هكذَا حتَّى تَمُوتَ أو تَكْفُرَ بمُحمَّدٍ وتَعبُدَ اللَّاتَ والعُزَّى، فيقولُ بِلالٌ: أَحَدٌ أَحَدٌ.

ورُوِيَ أنَّ ورَقةَ بنَ نَوفلٍ كان يَمُرُّ ببِلالٍ وهو يُعذَّبُ مُنادِيًا: أَحَدٌ أَحَدٌ، فيقولُ ورَقةُ: أحَدٌ أحَدٌ واللهِ يا بِلالُ، ثم يُقْبِلُ ورَقةُ على أُمَيّةَ بنِ خلَفٍ ومَن يُعذِّبُ بِلالًا مِن بَنِي جُمَحٍ فيقولُ لهُم: أَحلِفُ باللهِ لَئِنْ قَتلتُموهُ على هذا لأَتَّخِذَنَّه حَنَانًا (أي لَأَتَّخِذَّنَهُ شَيئًا أَتَبَرَّكُ بِهِ)، حَتَّى مَرَّ أَبُو بَكرٍ الصِدِّيقُ رضي الله عنه يومًا ببِلَالٍ وَهُم يُعَذِّبونَهُ، فَقَالَ لأُميَّةَ حتَّى متَى؟!، فقال أُمَيّةُ: أنتَ الّذِي أفسَدْتَهُ، فأَنْقِذهُ مِمّا تَرَى، فقالَ أبُو بكرٍ: أفعَلُ، فاشتراهُ أبو بكرٍ بخَمسِ أواقٍ منَ الذَّهَبِ أو سَبعٍ، وقيل اشتَرَاهُ بأربَعِينَ أُوقِيَّةً ذهَبًا، ثُمَّ أعتَقَهُ للهِ، فقالُوا لِأَبِي بكرٍ: لو أبيتَ أن تشتَرِيَهُ إلا بأُوقِيَّةٍ لبِعنَاكَهُ، فقال رضي الله عنه: لَو أَبَيتُم إِلَّا مِائَةَ أُوقِيَّةٍ لاشتَرَيتُهُ.

وغيرُ هؤلاءِ الكثيرُ منَ المستضعفِينَ، أخذهُم المشركُونَ، وأُلبِسوا أَدرَاعَ الحَدِيدِ، وصَهَرُوهُمْ في الشَّمْسِ، فما مِنهمْ أحدٌ إلا وَاتَاهُمْ على ما أَرادُوا إلا بِلَالًا، فإنَّه هَانَتْ عليهِ نفسُهُ في اللهِ، وهانَ على قومِهِ، فأخذُوهُ، فَأعطَوْهُ الوِلْدانَ، فجَعَلُوا يَطُوفونَ بهِ في شِعَابِ مكَّةَ، وهوَ يقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، يقولُ عمرُو بنُ العاصِ قال: مرَرتُ ببِلَالٍ وهُوَ يعذَّبُ في الرَّمضَاءِ، ولَو أَنَّ بُضعَةَ لَحمٍ وُضِعَت عليه لنَضَجَت، وهُوَ يقولُ: أنَا كَافِرٌ باللَّاتِ والعُزَّى، وأميةُ مُغتَاظٌ علَيهِ، فيَزِيدُهُ عذَابًا، فيُغشَى عليهِ ثم يُفِيقُ، فما أعطاهُم قَطُّ كلِمَةً مِمَّا يرِيدُونَ.

وكانَ أُمَيّةُ بنُ خلَفٍ لعنَهُ الله مِن رؤوسِ الكُفرِ في قُريشٍ، وأحدَ الّذينَ ءاذَوا رسولَ اللهِ ﷺ والمُؤمنِينَ إيذاءً شديدًا، وواحِدٌ مِن الّذين صَدُّوا النّاسَ عَنِ الإِسلَامِ، وقَد نزَلَ في شأنِه بعضُ الآياتِ، مِن ذلكَ أنّه كان إذَا رأَى النَّبِيَّ ﷺ هَمَزَه ولَمَزهُ، فأنزَل اللهُ فيهِ سُورةَ الهُمَزَةِ.

وقَد مكَّنَ اللهُ بِلَالًا مِن قَتلِ أُمَيّةَ في غَزوةِ بَدرٍ، فَعَن عبدِ الرّحمنِ بنِ عوفٍ رضي الله عنه قالَ: لمَّا كانَ يومُ بَدرٍ أبصَرَهُ بِلَالٌ، فقال: أُمَيّةُ بنُ خلَفٍ، لا نَجَوتُ إنْ نَجا أُمَيّةُ، وَلَمّا قَتله قالَ أبُو بكرٍ رضي الله عنه فيه أبياتًا منها:

هَنِيئًا زَادَكَ الرَّحْمَنُ فَضْلًا *** فَقَدْ أَدْرَكْتَ ثَأْرَكَ يَا بِلَالُ

ثمَّ لمَّا رأَى المشرِكُونَ ثبَاتَ المسلِمِينَ، وأَنَّهُم لَا يَقدِرُون على ما يُرِيدُونَ بالتَّعيِيبِ والضَّربِ والقَتلِ، لجأَوُا إلى طرِيقَةٍ أخرَى وهيَ سؤَالُ المعجِزَاتِ والدَّلَائِلِ عَلَى صِدقِ نَبِيِّ اللهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فصَارَت تَأتِي المُعجِزَاتُ تِبَاعًا تَترَى، ومَعَ ذلِكَ فَإِنَّ كثِيرًا مِن رؤُوسِ الكُفرِ لَم يُؤمِن، بَلِ ازدَادُوا عنَادًا وَكُفرًا وطُغيَانًا وَكَذِبًا علَى رسُولِ اللهِ ﷺ، وَمِن هَذِهِ المُعجِزَاتِ البَاهِرَاتِ مُعجِزَةُ انشِقَاقِ القَمَرِ.

ذِكرُ انْشِقاقِ القَمَرِ
وَإذْ بَغَـتْ مِنْهُ قُرَيْـشٌ أَنْ يُرِيْ *** ءَايًا أَرَاهُـمُ انْشِـقَـاقَ القَـمَـرِ
فَصَـارَ فِـرْقَتَينِ فِرْقَـةٌ عَـلَـتْ *** وَفِرْقَـةٌ لِلطَّـوْدِ مِنْهُ نَـزَلَـتْ
مُعجِزاتُ النَّبيّ محمَّدٍ ﷺ كثيرةٌ، ودلائِلُ نُبُوّتِهِ وبَراهِينُ صِدْقِهِ غزِيرَةٌ، وهُوَ ﷺ أكثرُ الرُّسُلِ مُعجِزَةً، وأبهَرُهُم ءايَةً، ومِن أبهَرِ تلكَ المعجزِاتِ انشقاقُ القَمرِ لإشارَتِه ﷺ في السّنةِ التاسِعَةِ مِنَ البِعثةِ الشَّريفَةِ.

والخبرُ في ذلِكَ أنَّهُ اجتَمَعَ المُشرِكُونَ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمِنهُمُ الوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهلٍ، وَالعَاصُ بنُ وَائِلٍ، وَالأَسوَدُ بنُ المُطَّلِبِ، وَالنَّضرُ بنُ الحَارِثِ وَنُظَرَاؤُهُم، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ أَن يُرِيَهُم آيَةً تَدُلُّ عَلَى صِدقِ دَعوَتِهِ وَنُبَوَّتِهِ، وَقَالُوا: إِن كُنتَ صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا القَمَرَ فِرقَتَينِ نِصفًا عَلَى أَبِي قُبَيسٍ وَنِصفًا عَلَى قُعَيقِعَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “اشهَدُوا“، فَنَظَرَ الكُفَّارُ إِلَى القَمَرِ فَإِذَا هُوَ مُنشَقٌّ حَتَّى رَأَوا جَبَلَ حِرَاءَ بَينَ الفِرقَتَينِ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى صَارَت فِرقَةٌ مِنهُ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيسٍ وَفِرقَةٌ مِنهُ عَلَى جَبَلِ قُعَيقِعَانَ، فَمَالَ المُشرِكُونَ بِأَبصَارِهِم فَمَحَوهَا مِنَ الدَّهشَةِ، ثُمَّ أَعَادُوا النَّظَرَ فَنَظَرُوا ثُمَّ مَسَحُوا أَعيُنَهُم ثُمَّ نَظَرُوا، وَكَأَنَّهُم لَا يُصَدِّقُونَ أَعيُنَهُم، وأَرَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ انْشِقَاقَ القَمَرِ بِمَكَّةَ لَيلةَ أَرْبَعَ عَشْرةَ.

وَمُعجِزةُ انشِقاقِ القَمَرِ للنَّبِيِّ ﷺ ثابِتةٌ بالإِجماعِ لا نِزاعَ فِيهَا، كما أنَّها ثابتةٌ بالنَّصِّ القُرءانِيّ والحديثِيِّ، أمّا النصُّ القُرءانيُّ فقولُه تعالَى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾، أي مضَى انشِقاقُهُ، وأمّا النُّصوصُ الحَدِيثيّةُ فكثيرةٌ رواهَا جماعةٌ مِن كِبارِ الصَّحابةِ، مِنهُم عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ وعبدُ اللهِ بنُ عُمرَ وحذيفةُ رضي اللهُ عنهُم، منهَا ما رواهُ البخاريُّ في صحِيحِه عَنِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنهُ أنَّهُ قالَ: انشَقَّ القمَرُ على عَهدِ رسولِ اللهِ ﷺ شِقَّتَينِ فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: “اشْهَدُوا“.

زَادَ الَّـذِيـنَ ءَامَـنُـوا إِيـمَانَا *** وَلِأَبِي جَـهْـلٍ بِـهِ طُـغْـيَانَا
وَقَـالَ ذَا سِـحْرٌ فَـجَاءَ السَّـفْرُ *** كُــلٌّ بِـهِ مُصَــدِّقٌ مُـقِـرُّ
(زَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانَا، وَلِأَبِي جَهْلٍ بِهِ طُغْيَانَا): لَمّا انشقَّ القمَرُ لإشارَةِ النّبيِّ ﷺ ازَدادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانًا وثُبوتًا ورُسخوًا وتصديقًا، وهو شأنُهُم إذا أخبَرَهُمُ النّبيُّ ﷺ بأمرٍ أو نَزَلَ عليهِ حُكمٌ أو ءايةٌ، وأمّا الّذِينَ كفَرُوا باللهِ ورسولِه فقَد زادُوا غَيًّا وعُدوَانًا وتكذِيبًا.

(زَادَ) هذا الأمرُ الفريقَ (الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانا) أي ثُبوتًا ورُسخوًا وتصديقًا، وهو شأنُهم إذا أخبَرَهم النّبيُّ ﷺ بأمرٍ أو نَزَلَ عليه حُكمٌ أو ءايةٌ.

(وَ)حَصَلَ (لِأَبِي جَهْلٍ) ومَن مَعه مِن الكُفّارِ (بِـ)ـسبَبِـ(ـهِ) أي انْشِقاقِ القمَر ومُعاينَتِهم له زيادةُ عِنادٍ وتَعَنُّتٍ وتَكَبُّرٍ فطغَوا بذلكَ (طُغْيَانَا) فوقَ طُغيانِهم أي ظُلمِهِمُ المُتمادِي.

فقد حَصَلَ لِأَبِي جَهْلٍ ومَن مَعهُ مِنَ الكُفّارِ بِسبَبِ انْشِقاقِ القمَرِ ومُعاينَتِهِم لهُ، زِيَادَةُ عِنادٍ وتَعَنُّتٍ وتَكَبُّرٍ، فطَغَوا بذلِكَ طُغْيَانَا فوقَ طُغيانِهِم وظُلمًا فوقَ ظُلمِهِم.

(وَقَالَ ذَا سِحْرٌ فَجَاءَ السَّفْرُ، كُلٌّ بِهِ مُصَدِّقٌ مُقِرُّ): لَمَّا بَلَغَ أبو جَهلٍ ومَن معهُ مِن الكافرِينَ مِنَ التّغَيُّظِ ما بلَغُوا، قَالَوا زُورًا وبُهتَانًا وافتِرَاءً: هـذَا سِحْرٌ سحَرَكُموهُ ابنُ أبي كَبْشةَ.

قال بعضُ المشركين: لَئِنْ كان سَحَرَنا ما كان يَستطِيعُ أنْ يَسحَرَ النّاسَ كُلَّهم، فابعَثُوا إلى الآفاقِ لِتَنظُروا أرَأَوا ذلكَ أمْ لا”، (فَـ)ـأَخبَرَ أهلُ الآفاقِ أنّهُم رَأَوُا القمرَ مُنْشَقًّا، وَ(جَاءَ السَّفْرُ) أي الْمُسافِرُونَ مِن الآفاقِ مِن كُلِّ وِجْهةٍ (كُلٌّ) مِنهُم مُوقِنٌ (بِهِ) أي بانشِقاقِ القَمَرِ (مُصَدِّقٌ مُقِرٌّ) بذلِكَ بقائلِينَ: “رأَيناه عِيانًا”، فقال الكفَرَةُ عندَ ذلِكَ: “هَذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ”، قال تعالى: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)).

وَاللهُ تَعَالَى أعلَمُ وأحكَمُ والحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

فائدة
غدا هو يوم الجمعة ولذلك أنقل لكم ما ذكر الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرحه على الإحياء فقال: وله (أي الإمام الغزالي) رحمه الله دعاء عظيم الشأن جربه أهل العرفان عند حصول الفاقة (أي الفقر) وهو: اللهم يا غني يا حميد، يا مبدئ يا معيد، يا رحيم يا ودود، أغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.

قال: من ذكره بعد صلاة الجمعة وداوم عليه أغناه الله عن خلقه ورزقه من حيث لم يحتسب.

دعاء
اللَّهُمَّ اجعَلِ العَافِيَةَ لِبَاسَنا وَالمغفِرَةَ سِترَنا وَالسَّعَادَةَ طَرِيقَنا وَالتُّقَى رَفِيقَنا، وَفَرِّج ضِيقَنَا وَوَسِّع رِزقَنَا، وَأَذهِب فَقرَنَا وَأَزِل كَربَنَا، وَاقَضِ دَينَنَا وَأَنِر قُلُوبَنَا، وَيَسِّر دُرُوبَنَا وَمِمَّا نتَمَنَّى هَب لَنَا وَمِن خَزَائِنِك تَفَضَّل عَلَينَا وَحَقِّق ءَامَالَنَا، وَأَكثِر أَموَالَنَا وارزقنا مِنَ الخَيرِ سُؤلَنا وَاغفِر لَنَا، وَاستُر عَلَينَا وَأَعلِ دَرَجَتَنَا، وَارفَع قَدرَنَا وَفَرِّج كُربَتَنَا، وَوَسِّع في الدَّارَيْنِ عَلَينَا وَاجعَل الفِردَوسَ دَارَنَا وأَسِرَّ أَروَاحَنَا بِرُؤيَةِ النَّبِيِّ ﷺ في المنَامِ في كُلِّ لَيلَةٍ.

اللَّهُمَّ اجعلْنا من أهلِ النفوسِ الطاهرةِ والقلوبِ الشاكرةِ والوجوهِ المُستَبشِرَةِ وارزقْنا حُسْنَ الحالِ وطِيبَ المقامِ وحُسنَ الختامِ.

اللهم من كان من إخوَانِنَا، أو أحبَابِنَا، أو أصدِقَائِنَا أو أهلِنَا مرِيضًا نسأَلُكَ لهُ الشفاءَ العاجِلَ ببرَكَةِ نبيِّنَا محمدٍ ﷺ ونسأَلُكَ لِمَن كان منهم مكرُوبًا أو مَهمُومًا أو حَزِينًا أو مَغمُومًا أن تُفَرِّجَ الكَربَ عنهُم وترفَعَ عنهُمُ الحزنَ والهَمَّ والغَمَّ بجاه النبيِّ ﷺ. اللَّهُمَّ فرّج عن أهلِنَا وإِخوَانِنَا في غزةَ وفلَسطِينَ اللَّهُمَّ انصُرهُم، اللَّهُمَّ أيّدهُم، اللَّهُمَّ احفظهم، اللَّهُمَّ أيّدهم بمددٍ من عندك يا رَبَّ العالمين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الاحياء منهم والامواتِ رَبَّنا ارزقنا رضَاكَ وشُكرَ نِعَمِكَ واختِم لنَا بخيرٍ، لك الحمدُ يا الله، اللَّهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم اللهم احفظ جمعيَّتَنَا ومشَايِخَنَا وإخوانَنَا واحبَابَهَا وانصُرهُم على اعداءِ الدينِ.

اللهم أدم علينا نعمةَ الأمنِ والأَمَانِ واجعلنا آمنين في بلادِنَا وأوطانِنَا ومجتَمَعاتِنَا وبَينَ أهلِينَا بجَاهِ رسولِكَ الكريمِ ﷺ، اللهم أزل مِن بينِ أبناءِ هذا البلدِ الشَّحنَاءَ والبَغضَاءَ والفُحشَ وأَسبَابَ الفُرقَةِ والخلافِ يا ربَّ العالَمِينَ واجعَلهُم على قلبِ رجُلٍ واحدٍ، واطرُد مَن كان سبَبًا في الشِّقَاقِ بينَهُم يا اللهُ وَلَا تَدَع لَهُ سَبِيلًا إِلَيهِم برَحمَتِكَ يا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ يا اللهُ.

اللهم أعِنَّا علَى الصيامِ والقِيامِ وتقبَّل منَّا يا رَبَّ العالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عتقَاءِ هذَا الشهرِ الكريمِ ومِنَ المقبُولِينَ يا أكرَمَ الأكرَمِينَ، اللهم أعتِقنَا فِيهِ مِنَ النيرَانِ يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ، اللهم أرِنَا ليلَةَ القدرِ المبارَكَةِ يا رَبَّ العالمينَ وارزُقنَا فيهَا دعوَةً مجَابَةً بجَاهِ سَيِّدِ الأولِينَ وَالآخِرِينَ يا اللهُ، اللهم ارفَعِ البَلَاءَ وَالوَبَاءَ والأَمرَاضَ عَنِ المسلِمِينَ في مشَارِقِ الأرضِ ومغَارِبِهَا إكرامًا لوِجهِ محمَّدٍ ﷺ يا ربَّ العالمِينَ، اللهم توفَّنَا عَلَى كامِلِ الإيمَانِ وارزُقنَا شهَادَةً في سبيلِكَ ومَوْتًا في بلَدِ نبيِّكَ ﷺ، واحشرنا على نُوقٍ رحَائِلُهَا مِن ذهَبٍ آمنِينَ مطمَئِنِّينَ يا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم ارزقنَا حُسنَ الخِتَامِ والمَوتَ على دِينِكَ دينِ الإسلامِ ورؤيَةَ سيدِ الأنَامِ سيدنَا مُحَمَّدٍ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، احشُرنَا فِي زُمرَتِهِ وأَورِدنَا حوضَهُ الشريفَ يا ربَّ العالمين.

وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على سيدِ الأنبياءِ والمرسلِينَ وسلَامٌ علَى المُرسَلِينَ والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ.

 

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …