المقدمة
الْحَمْدُ للهِ فَالِقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَخَالِقِ الْعَبْدِ وَمَا نَوَى، الْمُطَّلِعِ عَلَى بَاطِنِ الضَّمِيرِ وَمَا حَوَى، بِمَشِيئَتِهِ رَشَدَ مَنْ رَشَدَ وَغَوَى مَنْ غَوَى، وَبِإِرَادَتِهِ فَسَدَ مَا فَسَدَ وَاسْتَوَى مَا اسْتَوَى، صَرَفَ مَنْ شَاءَ إِلَى الْهُدَى وَعَطَفَ مَنْ شَاءَ إِلَى الْهَوَى، قَرَّبَ مُوسَى نَجِيًّا وَقَدْ كَانَ مَطْوِيًّا مِنْ شِدَّةِ الطَّوَى، فَمَنَحَهُ فَلَاحًا وَكَلَّمَهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوَى، وَعَرَجَ بِمُحَمَّدٍ ثُمَّ عَادَ وَفِرَاشُهُ مَا انْطَوَى، فَأَخْبَرَ وَحَدَّثَ بِمَا رَأَى وَرَوَى، ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ﴾، أَحْمَدُهُ عَلَى صَرْفِ الْهَمِّ وَالْجَوَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا نَشَرَ وَطَوَى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَعُودُ الْهُدَى قَدْ ذَوَى، فَسَقَاهُ مَاءَ الْمُجَاهَدَةِ حَتَّى ارْتَوَى، ﷺ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ صَاحِبِهِ إِنْ رَحَلَ أَوْ ثَوَى، وَعَلَى الْفَارُوقِ الَّذِي وَسَمَ بِجِدِّهِ جَبِينَ كُلِّ جَبَّارٍ وَكَوَى، وعَلَى ذِي النُّورَيْنِ الصَّابِرِ عَلَى الشَّهَادَةِ سَاكِنًا مَا الْتَوَى، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي زَهِدَ فِي الدُّنَيْا فَبَاعَهَا وَمَا احْتَوَى، أما بعدُ:
كُنَّا قد وصَلنَا في شرحِنَا لألفِيَّةِ الحَافظِ العراقيِّ في السيرَةِ النبويَّةِ إلى قولهِ رحمَهُ اللهُ تعالَى:
ذكرُ وفاةِ عمِّه أبي طالبٍ وزَوجتِه خَدِيجةَ بنتِ خُوَيْلِدٍ رضيَ اللهُ عَنها
بَـعْـدَ خُرُوجِـهِـمْ بِثُـلْـثَـيْ عَامِ *** وَثُـلُـثَـيْ شَـهْـرٍ وَيوْمٍ طَـامِـي
سِــيْـقَ أَبُـو طَالِـبٍ لِلْحِـمَـام *** ثُـمَّ يَـلِـيْ ثَـلَاثَـةَ الأَيَّـامِ
مَـوْتُ خَـدِيجةِ الرِّضَـا فَلَمْ يَهُنْ *** عَلَى الرَّسُـولِ فَقْدُ ذَيْـنِ وَحَـزِنْ
(بَعْدَ خُرُوجـهِمْ بِثُلْثَيْ عَامِ وَثُلُثَيْ شَهْرٍ وَيوْمٍ طَامِي): أي بَعْدَ خُروجِ الْمُحْصَرِين مِن الشِّعْب بِفَتْرَةِ ثُلْثَيْ عَامٍ، وهي ثَمانِيةُ أشهُرٍ، وَثُلُثَيْ شَهْرٍ، وَيوْمٍ طَامِي، أي زائدٍ، وهو واحدٌ وعِشرونَ يَومًا. (سِيْقَ أَبُو طَالِبِ لِلْحِمَامِ): أي ماتَ عمُّ النبيِّ ﷺ أبُو طالِبٍ، فالحِمامُ الْمَوتُ.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ الله بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ، وكانَا حاضِرَينِ عندَ وفاتِهِ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟!، فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ ءَاخِرَ شَىءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: إني عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
ومِمّا يؤيِّد روايةَ مَوتِه على الكُفرِ ما جاءَ في روايةٍ عندَ ابن أبي شَيبة: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ، جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الْكَافِرَ قد مات، الحديثَ.
وفي روايةٍ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: “اذْهَبْ فَوَارِهِ“، قُلْتُ: إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا، قَالَ: “اذْهَبْ فَوَارِهِ، وَلَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي“.
فلا بُدَّ لِلدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ مِنَ الإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الِاعْتِقَادِ بِمَعْنَاهُمَا بِالْقَلْبِ وَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَقَلَ الْحَافِظُ النَّوَوِىُّ الإِجْمَاعَ عَلَيْهِ. وَعِبَارَةُ النَّوَوِىِّ فِى شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِى النَّارِ بِالإِجْمَاعِ.اﻫ أَىْ وَلَمْ يَنْطِقْ بِاللَّفْظِ الصَّحِيح وَقَالَ فِى مَوْضِعٍ ءَاخَرَ مِنْه: إِنَّ الإِيمَانَ شَرْطُهُ الإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ اعْتِقَادِهِمَا اﻫ وَقَبْلَهُ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَاضِى عِيَاضٌ فَقَالَ وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُرْتَبِطَةٌ بِالشَّهَادَتَيْنِ لا تَنْفَعُ إِحْدَاهُمَا وَلا تُنْجِى مِنَ النَّارِ دُونَ الأُخْرَى إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ لِآفَةٍ بِلِسَانِهِ أَوْ لَمْ تُمْهِلْهُ الْمُدَّةُ لِيَقُولَهَا بَلِ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ إِلَخ اﻫ وقال النووي في روضة الطالبين: لَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ الْمُشَبِّهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَمْ يَكُنْ إِسْلَامًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ التَّشْبِيهِ وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
وقال أيضا: وَلَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا سَاكِنُ السَّمَاءِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ ; لِأَنَّ السُّكُونَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وقد رُوِيَ أنَّ أبَا طَالِبٍ لما اشتَكَى وبَلَغَ قريشًا مرضُهُ، قال بعضُهَا لبعضٍ: إن حمزَةَ وعُمَرَ قد أسلَمَا، وقد فشَا أمرُ محَمَّدٍ في قبائِلِ قريشٍ كلِّهَا، فانطَلِقُوا بِنَا إلى أَبِي طالِبٍ، فليَأخُذ لَنَا عَلَى ابنِ أخيهِ، وليُعطِهِ مِنَّا، فإِنَّا واللَّهِ ما نَأمَنُ أن يَبْتَزُّونَا أمرَنَا، فمَشَوا إلى أَبِي طالِبٍ فكلَّمُوهُ، وهُم أشرَافُ قومهم، عُتبَةُ وشَيبَةُ ابنَا ربيعَةَ، وأبُو جَهلِ بنُ هشامٍ، وأميةُ بنُ خلفٍ، وأبو سفيانَ بنُ حربٍ، فقالُوا: يا أبا طالِبٍ، إنَّكَ مِنَّا حَيثُ قَد عَلِمتَ، وقَد حضَرَكَ ما تَرَى وتَخَوَّفنَا عليكَ، وقد علِمتَ الَّذِي بينَنَا وبينَ ابنِ أخيكَ، فادعُهُ وكلِّمهُ ليكفَّ عنَّا ونكفَّ عنهُ، وليَدَعنَا ودينَنَا ونَدَعَهُ ودِينَهُ، فبعَثَ إليهِ أبو طالِبٍ، فجاءَ النبيُّ ﷺ فدَخَلَ البيتَ وبينَهُم وبينَ أبي طالِبٍ قدرُ مَجلِسِ رجُلٍ، فخَشِيَ أبو جهلٍ إن جلَسَ رسولُ اللَّه ﷺ إلى أَبِي طالِبٍ أن يكُونَ أرقَّ عليهِ، فوثَبَ أبو جهلٍ فجلسَ في ذَلِكَ المجلسِ، فلم يجِد رسولُ اللَّهِ ﷺ مجلِسًا قُربَ عمِّهِ، فجلَسَ عندَ البابِ، فقال: يا ابنَ أخِي، هؤلاءِ أشرَافُ قومِكَ، قد اجتَمَعُوا إليكَ ليُعطُوكَ وليَأخُذُوا منكَ، فقالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: “نَعَم، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ يُعطُونِيهَا يَملِكُونَ بِهَا العَرَبَ وَتَدِينُ لَهُم بِهَا العَجَمُ“، ففَزِعُوا لكلمتِهِ ولقولِهِ، فقالَ القومُ: كلمةٌ واحدَةٌ؟، قالَ: “نَعَم“، فقالُ أبو جهلٍ: نَعَم وَأَبِيكَ عَشرَ كلِمَاتٍ (أي نُعطِيكَ عَشرَ كَلِمَاتٍ)، قَالَ: “تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتَخلَعُونَ مَا تَعبُدُونَ مِن دُونِهِ“، فصفَّقُوا بأيدِيهِم، ثم قالُوا: يا محمدُ، تريدُ أن تجعلَ الآلهةَ إلهًا واحِدًا؟، إنَّ أمرَكَ لعَجَبٌ، ثم قَالَ بَعضُهُم لبعضٍ: ما هَذَا الرجلُ بمعطِيكُم شيئًا ممَّا تريدُونَ، فانطلقُوا وامضُوا على دينِكُم، ثمَّ تفَرَّقُوا، فأَنزَلَ اللَّهُ فيهِم أوَّلَ سُورَةِ ص، وهِيَ قَولُهُ تعَالَى: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾.
فقالَ أبُو طالِبٍ لرسُولِ اللهِ ﷺ: واللَّهِ يا ابنَ أخِي ما رَأَيتُكَ سألتَهُم شَحْطًا، أي مَا سأَلتَهُم شيئًا بعيدًا علَيهِمُ التِمَاسُهُ وتنَاوُلُهُ، بل هُوَ أمرٌ قَرِيبٌ، فلَمَّا قالهَا طَمِعَ رسولُ اللَّهِ ﷺ فيهِ فجَعَلَ يقولُ: “أَي عَمِّ فَأَنتَ فَقُلهَا أَستَحِلَّ لَكَ بِهَا الشَّفَاعَةَ يَومَ القِيَامَةِ“، فلَمَّا رأَى حِرصَ رسُولِ اللَّهِ ﷺ على ذلكَ قالَ: لولَا مخافَةُ السُّبَّةِ علَيكَ وعَلَى بَنِي أَبِيكَ مِن بَعدِي وَأَن تَظُنَّ قريشٌ أَنِّي إِنَّمَا قلتُهَا جزَعًا منَ الموتِ لقلتُهَا.
(ثُمَّ يَلِيْ ثَلَاثَةَ الأَيَّامِ، مَوْتُ خَدِيجةِ الرِّضَا): أي وكانَ بعدَ ثَلاثةِ أيّامٍ مِن مَوْتِ أبي طالِبٍ مَوْتُ خَدِيجةَ الكُبرَى، أُمِّ المؤمِنِينَ، زَوجِ رسولِ اللهِ ﷺ، وهي المرأةُ الصَّالِحةُ الْمَرضِيّةُ عندَ النبيِّ ﷺ.
وكان عمُرُها وقتَ وفاتِهَا خمسًا وستِّينَ سَنَةً في شهرِ رمضانَ سنةَ عَشرٍ منَ النّبُوةِ، ولم يجتَمع معها أحدٌ من نِسائهِ ﷺ، قال حكيمُ بنُ حزامٍ: دَفَنَّاها بالحَجُونِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ ﷺ في حفرَتِهَا، ولم يَكُن يومَئِذٍ سُنَّة الجِنَازَةِ، وكانَ موتُهُمَا قبلَ مهاجَرَةِ رسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَى المَدِينَةِ بثَلَاثِ سِنِينَ.
(فَلَمْ يَهُنْ، عَلَى الرَّسُولِ فَقْدُ ذَيْنِ وَحَزِنْ): أي فَلَمْ يَكُنْ هيِّنًا عَلَى الرَّسُولِ ﷺ فَقْدُ زوجتِهِ وعمِّهِ، معَ غايَةِ الرِّضا والتَّسليمِ منهُ ﷺ.
فقد لَحِقهُ الأذَى مِن قُريشٍ أشَدَّ مِمّا كانَ بعدَ أن فَقَد عَمَّهُ أبَا طالِبٍ الذي كانَ يُحامِي عَنْهُ، وَحَزِنَ قلبُه الشَّرِيفُ ﷺ لِفَقْدِه خدِيجةَ الكُبرَى أُمَّ المؤمِنِينَ، وكان يُحِبُّ الإيمانَ لِأَبِي طالِبٍ لكنَّ اللهَ لم يَشَأ لَهُ الإيمانَ.
ولمَّا هلَكَ أبو طالِبٍ ونالَت قرَيشٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا لَم تَكُن تَنَالُ مِنهُ فِي حَياتِهِ، خرجَ رسولُ اللَّه ﷺ إلى الطائفِ وحدَهُ ماشِيًا، يلتَمِسُ النصرَ من ثَقِيفٍ والمَنَعةَ بهِم مِن قومِهِ، ورجَا أن يقبَلُوا منه ما جاءَهُم به مِنَ اللَّهِ تعالى.
ثمَّ أقامَ بالطائِفِ عَشَرَةَ أيامٍ وقيلَ شهرًا، لا يدَعُ أحدًا من أشرَافِهِم إلا جاءَ إليهِ وكلَّمَهُ، فلَم يجِيبُوهُ وخافُوا على أحدَاثِهِم منهُ، فقالُوا: يَا محمدُ اخرُج من بلَدِنَا، وأغرَوا بهِ سفهاءَهُم وعبِيدَهُم، يسُبُّونَهُ ويصِيحُونَ بهِ حتَّى اجتَمَعَ عليهِ الناسُ، وقفُوا له صفَّينِ علَى طريقِهِ، فلَمَّا مَرَّ رسولُ اللَّهِ ﷺ بينَ الصَّفَّينِ جَعَلَ لَا يَرفَعُ رِجلَيهِ ولَا يضَعُهُمَا إلَّا رضَخُوهُمَا بالحِجَارَةِ حتَّى أدمَوا رجلَيهِ، وهُم يَضحَكُونَ، وزيدُ بنُ حارِثَةَ يقِيهِ بنَفسِهِ حتَّى لقَد شُجَّ في رأسِهِ فَخَلَصَ مِنهُم وَرِجلَاهُ تَسِيلَانِ دَمًا، فعَمَدَ إِلَى حَائِطٍ أي بستان فاستَظَلَّ فِي ظِلِّه وهُوَ مَكرُوبٌ مَوجُوعٌ.
فصَلَّى ركعتَينِ ثم قالَ: “اللهم إِنِّي أَشكُو إِلَيكَ ضَعفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنتَ رَبُّ المُستَضعَفِينَ، إِن لَم يَكُن بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِ، وَلَكِن عَافِيَتُكَ هِيَ أَوسَعُ لِي“، إِلَى أَن قالَ:”لَكَ العُتبَى حَتَّى تَرضَى، وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ“.
ثُمَّ انصَرَفَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ عَن أهلِ الطائِفِ وهُوَ محزُونٌ، لم يَستَجِبوا لَهُ
ثُم إِنَّ رسولَ اللَّه ﷺ لَمَّا انصَرَفَ عَن أهلِ الطائِفِ ولَم يُجِيبُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُم إِلَيهِ مِن تصدِيقِهِ ونُصرَتِهِ وأَرَادَ الرجُوعَ إلى مكةَ، فقالَ له زيدُ بنُ حارِثَةَ: كيفَ تدخُلُ عليهِم وهُم قد أخرَجُوكَ؟، فقالَ: (يَا زَيدُ، إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ مُظهِرٌ دِينَهُ وَنَاصِرٌ نَبِيَِّهُ).
ذِكرُ قصَّةِ الإسراءِ
ذِكرُ قصَّةِ الإسراءِ: أي وَالمِعرَاجِ.
وَبَعْدَ عَـامٍ مَـعَ نِصْـفٍ أُسْـرِيَا *** بِـهِ إِلَى السَّــمَاءِ حَـتَّـى حَظِـيَا
مِنْ مَكَّـةَ الغَرَّاْ إِلَى القُدْسِ عَلَى *** ظَـهْـرِ البُرَاقِ رَاكِـبًا ثُـمَّ عَـلَا
إِلَى السَّـمَـاءِ مَـعَـهُ جِـبْـرِيلُ *** فَاسْـتَـفْـتَـحَ البَابَ لَـهُ يَـقُـولُ
مُجِـيْـبًا اذْ قِيلَ لَهُ مَنْ ذَا مَعَكْ *** مُـحَـمَّـدٌ مَعِيْ فَـرَحَّـبَ الْمَلَكْ
رحمةُ اللهِ واسِعَةٌ، واللهُ لَا ينسَى عبادَهُ، فبعدَ كلِّ هذا البَلَاءِ والعدَاءِ والشِّدَّةِ التي لَقِيَهَا رسولُ اللهِ ﷺ مِن قَومِهِ وقبَائِلِ العرَبِ، أرادَ اللهُ أن يُخَفِّفَ عنهُ بشيءٍ عظيمٍ ومعجِزَةٍ جليلَةٍ، ينسَى فيهَا رسولُ اللهِ ﷺ ما كَان لاقاهُ مِن تعَبٍ وهَمٍّ وغَمٍّ، ويَرتَاحُ فيهَا قلبُهُ، فيأخُذُهُ جبريلُ بأمرٍ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى رِحلَةٍ عظيمَةٍ، يصِلُ فيهَا إلى بَيتِ المَقدِسِ حيثُ يَجتَمِعُ بإِخوَانِهِ الأنبياءِ صلواتُ ربي وسلَامُهُ عليهِ، ثم يَصعَدُ فيهَا إلى السماواتِ السبعِ، بل ويَصعَدُ إلى الجنةِ، ما أعظمَهَا من رِحلَةٍ، ومَا أجمَلَهَا مِن تَسلِيَةٍ، يَفرَحُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بما يَرَى ويَسمَعُ مِن كَلَامِ ربِّهِ الذِي ليسَ حرفًا ولَا صوتًا ولا لغةً، ويرَاهُ بقلبِهِ بلا جِهَةٍ ولَا مَكَانٍ ولَا كيفٍ، فيَحصُلُ لهُ السُّرُورُ العظِيمُ.
(وَبَعْدَ عَامٍ مَعَ نِصْفٍ أُسْرِيَا، بِهِ): أي وبَعدَ عامٍ ونِصفٍ من مَوتِ عمِّهِ وزَوجَتِهِ وقَبلَ بَيعَةِ العقَبَةِ أُسْرِيَ بالنَّبِيِّ ﷺ إلى الْمَسجِدِ الأقصَى. (إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى حَظِيَا): أي ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ في نَفْسِ اللَّيلةِ، فأُسرِيَ بجسَدِهِ ورُوحِهِ ﷺ وَعُرِجَ بِه إلى السَّماءِ حَتَّى حَظِيَ بالمنزلة الرَّفِيعة عِندَ رَبِّهِ، والعِندِيّةُ هُنا عِندِيَّةُ اختِصاصٍ واصطِفاءٍ واختِيارٍ وتَشرِيفٍ، لا عِندِيّةُ مَكانٍ، لأَنَّهُ تعالَى مُنَزَّهٌ عَنِ المكانِ والزَّمانِ وسائِرِ سِمَاتِ الحَدَثانِ والنُّقْصانِ. (مِنْ مَكَّةَ الغَرَّاْ إِلَى القُدْسِ): اتُّفِقَ على كَونِ الإسراءِ مِنْ مَكَّةَ المكَرَّمةِ الغَرَّاءِ الْمُضِيئةِ الْمُشْرِقِ نُورُها إلى بيتِ المقدِسِ بالقُدسِ.
لَكِن اختُلِف في الموضِعِ الذي أُسرِيَ بِهِ من مِكَّةَ، فقِيلَ: مِن شِعْبِ أبي طالِب، وقيل: مِن بَيتِ أُمِّ هانِئٍ، وقيل: مِن الحِجْرِ بالمسجدِ الحرامِ فِي مَكَّةَ، واتَّفَقُوا على كَوِن ذلكَ الإسراءِ إِلَى بَيتِ المقْدِسِ بالقُدْسِ.
(عَلَى، ظَهْرِ البُرَاقِ رَاكِبًا): أي وكانَ النَّبِيُّ ﷺ راكِبًا عَلَى ظَهْرِ البُرَاقِ، وهو دابّةٌ مِن الجَنّةِ أبيَضُ فَوقَ الحِمارِ ودُونَ البَغْلِ يَضعُ حافِرَه عِندَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ.
جاءَ بِهِ جبريلُ تلكَ الليلةَ مِنَ الجنَّةِ ورَدَّه إلى الجنَّةِ بعدَ أن عادَ النبيُّ إلى مكَّةَ، والبراقُ ليسَ مَلَكًا ولَا جنيًّا ولا إنسيًّا إنما هو دابّةٌ، وقد جِيءَ به إكرامًا للنبيِّ ﷺ.
وقد رافَقَ جِبريلُ عليه السَّلامُ سيِّدَنا محمَّدًا ﷺ في هَذِهِ الرِّحلَةِ، وكانَ كُلٌّ مِنهُما رَاكِبًا على ظَهْرِ هذَا البُراقِ في رِحلةِ الإسراءِ إلى بَيتِ الْمَقدِس، وَلَمَّا وَصَلَا بيتَ المقدِسِ ربطَ جبريلُ البُراقَ بالحَلْقةِ الَّتِي يَرْبِطُ بها الأنبياءُ دَواَبَّهُم، ثم دخلَ النَّبِيُّ الْمَسْجِدَ فصَلَّى ركعتَينِ بالأَنبياءِ.
(ثُمَّ عَلَا، إِلَى السَّمَاءِ مَعَهُ جِبْرِيلُ): أي ثُمَّ خَرَجَ ﷺ مِن المسجِدِ الأقصَى وَعَلَا وارتَفَعَ صاعِدًا إِلَى السَّمَاءِ على الْمِرقَاةِ.
وهو سُلَّمٌ مِن جَنَّةِ الفردوسِ، مُنَضَّدٌ بالؤلُؤِ، له درجةٌ مِن ذهبٍ ودرجةٌ مِن فضةٍ، عن يمِينِهِ ملائِكَةٌ وعَن يسَارِهِ ملائِكَةٌ، وكانَ مَعَهُ جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ.
(فَاسْتَفْتَحَ البَابَ لَهُ يَقُولُ، مُجِيْبًا اذْ قِيلَ لَهُ مَنْ ذَا مَعَكْ، مُحَمّدٌ مَعِيْ فَرَحَّبَ الْمَلَكْ): أي وكانَ جبريلُ في كل سماءٍ يسْتَفْتحُ أي يطَلَبُ مِن خازِنِ السَّماءِ أن يَفتَحَ له البَابَ، فإنّ للسَّماواتِ أبوابًا، وقد جاءَ في الأثرِ أنّ خازِنَ السّماءِ الأولى مَلَكٌ يُقال له إسماعِيلُ، تحت يَدِه اثْنَا عشَرَ ألْفَ مَلَكٍ، تَحت يَد كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ، وفي روايةٍ: وَبينَ يَدَيهِ سَبعُونَ ألْفَ مَلَكٍ، معَ كُلِّ مَلَكٍ جُنْدُهُ مائةُ أَلْفٍ.
وكان كُلَّمَا اسْتَفتَحَ جِبريلُ بابًا مِن أبوابِ السَّماواتِ يقول لَهُ خازِن السَّماءِ: مَن؟ فيَقُولُ: جِبرِيلُ، فيقولُ: مَنْ مَعَكْ؟، فيُجيبُه جِبريلُ: مُحَمَّدٌ ﷺ مَعِيْ، فيقولُ الخازِنُ: أَوَبُعِثَ إليهِ؟، أي هَل أُمِرَ بالعُرُوجِ؟، فَيَقُولُ: نَعَم، ورسولُ اللهِ ﷺ يَسمَعُ ذلكَ، وَيفرَحُ الخازِنُ بِقُدُومِ سيِّدِنَا محمَّدٍ ﷺ، ويُرَحِّبُ بِه الْمَلَكُ، قائِلًا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.
ثُـمَّ تَـلَاقَـى مَـعَ الَانْــبِــيَاءِ *** وَكُـلُّ وَاحِـدٍ لَـدَى سَــمَـاءِ
(ثُمَّ تَلَاقَى مَعَ الَانْبِيَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ لَدَى سَمَاءِ): أي وكان النَّبِيُّ محمَّدٌ يلتَقِي في كلِّ سماءٍ مَعَ الأنبياءِ، فالتَقَى بثمانِيَةٍ مِنَ الأنْبِيَاءِ في السَّماواتِ السَّبْعِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعةِ يُرحِّبُ بهِ ويَدعُو لَهُ بخيرٍ.
ثُـمَّ عَلَا لِمُسْـتَوًى قَـدْ سَـمِـعَا *** صَـرِيفَ الَاقْـلَامِ بِمَا قَـدْ وَقَعَا
(ثُمَّ عَلَا لِمُسْتَوًى قَدْ سَمِعَا، صَرِيفَ الَاقْلَامِ بِمَا قَدْ وَقَعَا): أي ثُمَّ عَلَا وارَتَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ حِسًّا، صاعِدًا إلى مُسْتَوًى قَدْ سَمِعَ فيهِ صَرِيفَ أي صوتَ حَركَةِ وجَرَيَانِ أقلَامِ الملائِكَةِ مِمَّا تَكتُبهُ الملائِكَةُ مِن أَقْضِيَةِ اللهِ تعالى بِمَا قَدْ ثَبَت وُقُوعُه بِمَشِيئةِ اللهِ لَهُ أنّ ذلك يَحصُلُ في الدُّنيا، فَتَنْسَخُ الملائكةُ القَدْرَ الَّذِي أُطْلِعَتْ عَلَيْهِ وأُذِنَ لَها في نَسْخِهِ مِنَ اللَّوحِ المحفُوظِ، وجبريلُ عليه السّلامُ لَم يَصِل إلَى هذا المُستَوَى الّذِي يُسمَع عِندَهُ صريفُ الأقلامِ، وما رُوِي مِن أنّ جبريلَ إذا تَجاوَزَ ذلكَ المَكانَ احتَرَقَ فإنَّهُ مردُودٌ لا يَصِحُّ.
ثم ركب النبيُّ ﷺ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ، فَمَرَّ بِعِيرٍ لقُرَيشٍ بمَكَانِ كذا وكذا، فلمَّا حاذَى العِيَر نَفَرَت واستَدَارَت، وصَرَخَ ذلكَ البَعِيرُ وانكَسَرَ، ومرَّ بِعِيرٍ قد ضَلُّوا بَعِيرًا.
ثُمَّ أَتَى أصحابَهُ قُبَيلَ الصبحِ بمكةَ، فلمَّا أصبحَ قطَعَ وعَرَفَ أنَّ الناسَ تكذِّبُهُ، فقَعَدَ حزِينًا (ليسَ لقلَّةِ ثبَاتٍ منهُ، بلِ النَّبِيُّ ﷺ أثبَتُ النَّاسِ في تبلِيغِ الدعوَةِ وأشجَعُهِم)، فسَلَّاهُ جبرِيلُ وصَبَّرَهُ وقال له: يُصَدِّقُكَ أبُو بكرٍ الصديقُ، فمرَّ عليهِ عدوُّ اللهِ أبُو جهلٍ، فجَاءَ حتَّى جلَسَ إليهِ، فقالَ لهُ كالمستَهزِئِ: هل كانَ مِن شيءٍ؟ قال: “نَعَم“، قالَ: مَا هُوَ؟ قال: “أُسرِيَ بِيَ اللَّيلَةَ“، قالَ: إلى أينَ؟ قالَ: “إِلَى بَيتِ المَقدِسِ“، قالَ: ثُمَّ أصبَحتَ بَينَ ظَهرَانَينَا؟ قالَ: “نَعَم“، قال: أَرَأَيتَ إِن دَعَوتُ قومَكَ تُحَدِّثُهُم مَا حَدَّثتَنِي؟، قَالَ: “نَعَم“، قَالَ يَا معشَرَ بَنِي كَعبِ بنِ لُؤَيٍّ، فانفَضَّت إليهِ المَجَالِسُ، وجاءُوا حتَّى جلَسُوا إليهِمَا، فقالَ: حَدِّث قومَكَ بمَا حَدَّثتَنِي، فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: “إِنِّي أُسرِيَ اللَّيلَةَ بِي” قالوا: إلى أينَ؟ قال: “إِلَى بَيتِ المَقدِسِ“، قالوا: ثُمَّ أصبَحتَ بَينَ ظَهرَانَينَا؟ قال: “نَعَم“، فهُم مِن بَينِ مُصَفِّقٍ ووَاضِعٍ يَدَهُ علَى رأسِهِ مُتَعَجِّبًا، وَضَجُّوا وَأَعظَمُوا ذلِكَ، فقالَ المُطعِمُ بنُ عَدِيٍّ: أَنَا أَشهَدُ أَنَّكَ كَاذِبٌ، نَحنُ نَضرِبُ أكبَادَ الإِبِلِ إلى بيتِ المقدِسِ مُصْعِدًا شهرًا ومُنحَدِرًا شهرًا، أتدَّعِي أَنتَ أَنَّكَ أَتَيتَهُ فِي لَيلَةٍ؟، واللَّاتِ وَالعُزَّى لَا أُصَدِّقُكَ.
فَـصَـدَّقَ الصِّـدِّيـقُ ذُو الـوَفَاءِ *** وَكَـذَّبَ الكُـفَّـارُ بِالإِسْــرَاءِ
(فَصَدَّقَ الصِّدِّيقُ ذُو الوَفَاءِ): ذَهَبَ النّاسُ إلى أَبِي بَكْرٍ فقَالُوا: “هَل لَكَ في صَاحِبِكَ، يَزْعُم أنّهُ جاءَ فِي هَذِهِ اللَّيلةِ بَيتَ الْمَقْدِسِ وصَلَّى فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكَّةَ، فقالَ أبو بَكرٍ: إنّكُم تَكْذِبُون علَيهِ، قالوا: هَا هُوَ ذاكَ بالْمَسْجِدِ يُحَدِّثُ بِه النّاسَ، فَصَدَّقَهُ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عَنهُ، ذُو الوَفَاءِ للنَّبِيِّ ﷺ ولِدِينِ اللهِ عَزّ وجَلّ، ثُمّ قَالَ لَهُم: لَئِنْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، (وَكَذَّبَ الكُفَّارُ بِالإِسْرَاءِ): وَلَكِنّهم أَبَوا وَكَذَّبوا بِخَبَرِ الإِسْرَاءِ، وأَصَرُّوا على العِنادِ، وقَالُوا لأَبِي بَكرٍ: أَوَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ فَقَالَ أبو بَكرٍ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ (أي بأنّ الملَكَ يَنزِلُ إليه بالوَحيِ مِنَ السّماءِ) فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ الله عَنْهُ.
وَسَـأَلُـوهُ عَـنْ صِـفَاتِ القُـدْسِ *** رَفَـعَـهُ إِلَـيْـهِ رُوْحُ القُـدْسِ
جِبْرِيلُ حَتَّى حَـقَّـقَ الأَوْصَـافَا *** لَـهُ فَـمَـا طَـاقُـوا لَـهُ خِـلَافَا
(وَسَأَلُوهُ عَنْ صِفَاتِ القُدْسِ): تَحَّدَى المشرِكُونَ النَّبِيَّ ﷺ أن يَصِفَ لهم المسجِدَ الأقصَى، فسَأَلُوهُ عَنْ صِفَاتِ بَيتِ الْمَقْدِسِ، فقالوا: يا مُحَمَّدُ صِف لَنَا بيتَ المقدسِ، كيف بنَاؤُهُ وكيفَ هيئَتُهُ؟ وكيفَ قربُهُ منَ الجبَلِ؟ وكانَ فيهِم مَن سافَرَ إليهِ ويعرِفُ وصفَهُ، فذهبَ ينعَتُ لهُم: بنَاءُهُ كذَا وهيئَتُهُ كذا، وقُربُهُ مِنَ الجبَلِ كذَا. (رَفَعَهُ إِلَيْهِ رُوْحُ القُدْسِ، جِبْرِيلُ حَتَّى حَقَّقَ الأَوْصَافَا، له): ما زال نبيُّنَا ﷺ ينعَتُهُ لهُم حتَّى التَبَسَ علَيهِ النّعتُ، فكُرِبَ كَربًا مَا كُرِبَ مِثلَهُ، فرَفَعَ جبرِيلُ لَهُ المسجِدَ وصارَ ينظُرُ إليهِ، فقالُوا: كم للمَسجِدِ مِن بَابٍ؟، ولم يَكُن عَدَّهَا، فجعَلَ ينظُرُ إلَيهِ ويَعُدُّهَا بَابًا بَابًا، ويُعَلِّمُهُم، وَأبُو بَكرٍ يقُولُ: صدَقتَ صدَقتَ، أشهَدُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فقال القوم: أَمَّا النعتُ فَواللهِ لَقَد أصَابَ.
ثُمَّ لَم يَكتَفُوا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أخبِرنَا عَن عِيرِنَا، فقَالَ: “أَتَيتُ عَلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِالرَّوحَاءِ قَد ضَلُّوا نَاقَةً لَهُم، فَانطَلَقُوا فِي طَلَبِهَا، فَانتَهَيتُ إِلَى رِحَالِهِم، فَلَيسَ بِهَا مِنهُم أَحَدٌ، وَإِذَا قَدَحُ مَاءٍ فَشَرِبتُ مِنهُ، ثُمَّ انتَهَيتُ إِلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ فِي التَّنعِيمِ يَقدُمُهَا جَمَلٌ أَورَقُ عَلَيهِ مِسحٌ أَسوَدُ وَغِرَارَتَانِ سَودَاوَانِ وَهَا هِيَ ذِهِ تَطلُعُ عَلَيكُم مِنَ الثَّنِيَّةِ“، فانصرَفَت قريشٌ ينظُرُونَ، حتَّى دخَلَتِ العِيرُ، فقَالُوا: هَل ضلَّ لكُم بَعيرٌ؟ قالُوا: نَعَم، فسَأَلُوا العِيرَ الآخَرَ، فقالُوا: هل انكَسَرَ لكُم نَاقَةٌ حمرَاءُ؟ قالوا: نَعَم، قالُوا: فَهَل كانَ عندَكُم قَصعَةٌ مِن مَاءٍ؟، فقالَ رَجُلٌ: أَنَا واللهِ، وضَعتُهَا فلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ رَمَوهُ بِالسِّحرِ، وَقَالُوا: صَدَقَ الوَلِيدُ.
(فَمَا طَاقُوا لَهُ خِلَافَا): أي لَم يَقدِرِ الكُفّارُ على إنكَارِ صِحَّةِ الوَصْفِ الذي وَصَفَ ﷺ به بيتَ المقْدِسِ وعَجَزُوا عن ذلِكَ.
لَكِنَّهُمْ قَـدْ كَـذَّبُـوا وَجَـحَـدُوا *** فأُهْلِكُوا وَفِي العَـذَابِ أُخْلِـدُوا
(لَكِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا وَجَحَدُوا، فأُهْلِكُوا وَفِي العَذَابِ أُخْلِدُوا): أي معَ أنّهُ ﷺ وصَفَ لَهُم المسجِدَ كما طَلَبُوا، إلا أنّهُم قَدْ كَذَّبُوا النَّبِيَّ عِنادًا، وَجَحَدُوا ما وَضَحَ لَهُم، وكانَ قد ارَتَدَّ بعضُ مَن ءامَنَ بالنَّبِيِّ بِسَبَبِ ذلِكَ، فأُهْلِكُوا بسبَبِ تكذِيبِهِم للنَّبِيِّ ﷺ وكُفرِهِم.
وفي الختامِ، يَجِبُ وُجُوبًا مُؤَكَّدًا التَّحذِيرُ مِنَ الأَبَاطِيلِ وَالِافتِرَاءَاتِ الَّتِي تُفترَى على دِينِنَا الحنِيفِ في قصّةِ المِعرَاجِ:
فَيَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إِنَّ اللهَ يسكُنُ السماءَ أو إنّ اللهَ جالسٌ على العرشِ.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنّ الرسُولَ ﷺ ليلَةَ المِعرَاجِ وَصَلَ إلى مَكانٍ ينتَهِي إِلَيهِ وُجُودُ اللهِ.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنّ الرسولَ ﷺ ليلةَ المعراجِ اقتَرَبَ مِنَ اللهِ بالمَسَافَةِ والمكانِ حتى صارَ منهُ كالحَاجِبِ مِن الحاجِبِ.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنّ الرسولَ ﷺ في المعراجِ وصَلَ إلى مكانٍ فأُزِيحَ لهُ الستارُ فدخَلَ فاجتَمَعَ بربِّهِ خلفَ الستارِ.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنّ الرسولَ ﷺ في المعراجِ وصلَ إلى مَكانٍ رأَى اللهَ يصلِّي فِيهِ، ويَزِيدُ هُنَا بَعضُ الناسِ فيقولُ: طُوبَى لَكَ أيُّهَا المصلِّي، فاللهُ يُصَلِّي، والنَّبِيُّ يصلِّي والملائِكَةُ يصَلُّونَ، فأَنتَ فِي صَفِّ اللهِ.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنّ الرسولَ ﷺ في المعراجِ أُزِيحَ لَهُ السِتارُ فدخَلَ وصارَ بينَهُ وبينَ اللهِ والملائِكَةِ حِوارُ التحيَّاتِ.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنّ الرسولَ ﷺ ليلةَ المعراجِ اختَرَقَ آلافًا مِن حُجُبِ النُّورِ وَالنَّارِ والهَيبَةِ ثمَّ وصَلَ إلى مكانٍ خلفَ تلكَ الحجُبِ فرأَى اللهَ تعالَى.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنَّ الرسولَ ﷺ رأَى اللهَ في المعراجِ بصُورَةِ شابٍّ أمرَدَ.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنّ الرسولَ ﷺ رأَى اللهَ في المعراجِ بهيئَةِ نُورٍ عَظِيمٍ، حتَّى خَاضَ النَّبِيُّ ﷺ في ذلِكَ النُّورِ الذِي هوَ اللهُ بزَعمِهِم.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنّ الرسولَ ﷺ استَوحَشَ فِي المِعرَاجِ فَكَلَّمَهُ اللهُ بِصَوتِ أَبِي بَكرٍ الصديقِ.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنَّهُ لما وصلَ جبرِيلُ والرسولُ ﷺ إلى ما بعدَ سِدرَةِ المُنتَهَى قال جبريلُ: هنَا يفارِقُ الخليلُ خليلَه لو تقدَمتُ احترقتُ، فإنْ قالَهُ على وجهِ الِاستخفَافِ بسَيِّدِنَا جبريلَ أوِ انتِقَاصًا مِن قدرِهِ العَظِيمِ أو أَنَّه يحتَرِقُ ويَمُوتُ حقيقَةً كَفرَ، وأَصلُ الخبَرِ لم يَرِد في حدِيثٍ صحيحٍ، أمَّا مَن أوردَه مِن غَيرِ اعتِقَادٍ وَلَا فَهمٍ لِهَذِهِ المَعَانِي التِي حذَّرنَا مِنهَا فَلَا يكفُرُ.
ويَجِبُ التحذيرُ مِن قَولِ البَعضِ إنَّ الرسولَ ﷺ دَنَا مِنَ اللهِ حتَّى صَارَ بينَهُمَا مِنَ المَسَافَةِ قَدرُ ذرَاعَينِ أو أَقَلُّ.
وَكُلُّ ما سبَقَ مِن هذِهِ الأقوالِ فيهِ تكذِيبٌ للقرءَانِ والسُّنَّةِ وللإجماعِ، يقولُ الله تعالى: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، وقالَ اللهُ تقدَّسَتْ أسماؤُه: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، وقال أبو جعفرٍ الطحاويُّ ناقلًا في ذلِكَ الإجماعَ: «ومَن وصَفَ اللهَ بمعنًى مِن مَعَانِي البَشَرِ فَقَد كَفَر»، وقالَ الإِمَامُ الشافِعِيُّ: «المُجَسِّمُ كَافِرٌ»، روَاهُ عنهُ السُّيُوطِيُّ فِي «الأَشبَاهِ والنَّظَائِرِ».
وَيَجِبُ التَّحذِيرُ مِن قَولِ بَعضِ الجُهَّالِ الّذينَ ينسُبُونَ للنبيِّ ﷺ كذِبًا أنّه قال: مَن بشَّرَ أُمَّتِي بِدُخُولِ رجَبٍ حُرِّمَت عليهِ النّارُ.
فليَحذَرِ المرءُ مِن روايةِ المكذوباتِ على النبيِّ ﷺ على سبيلِ التّروِيجِ لهَا، فإنَّ الكذِبَ على الرَّسُولِ ﷺ أَقَلُّ ما يُقَالُ فيهِ إنَّهُ كبيرَةٌ، وقَد يَصِلُ إلى الكُفرِ والعيَاذُ باللهِ تعالَى منهُ، ومِمَّا يؤيِّدُ تغليظَ أمرِ الكَذِبِ على النبيِّ ﷺ وأنّه ليسَ كالكَذِبِ على غيرِهِ مِنَ النّاسِ قولُه عليه السّلامُ: “إنَّ كَذِبًا علَيَّ ليسَ ككَذِبٍ علَى أَحدٍ (أي مِن الخَلْقِ) مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ“، أي بوّأَهُ اللهُ ذلك، وهذا كُلُّه محمولٌ على أنَّ هذا جزاءُ الكاذبِ عليه ﷺ بمعنَى أنّه يَستَحِقُّ ذلكَ إنْ لَم يَتُب قبلَ المَوتِ، وقد يَعفُو اللهُ الكَرِيمُ عنهُ فلَا يُعذِّبُه إذَا لَم يَصِل إِلَى حَدِّ الكُفرِ، أمَّا مَنِ استحَلَّ الكذِبَ على رسولِ اللهِ ﷺ أو كذبَ عليه ما يُؤدِّي إلى تكذِيبِ الدِّينِ وماتَ على ذلك فإنّهُ يُخلَّدُ في النّارِ إلى أبدِ الآبادِ.
شرح قوله تعالى: ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىْ)). وشرح حديث: (ارْجِعْ إِلَىْ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيْفَ).
قوله تعالى: ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىْ)): أي دنا جبريل من محمد، وليس أن الله دنا حقيقة من محمد.
أما حديث: (ارْجِعْ إِلَىْ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيْفَ): أي ارجع إلى المكان الذي كنت تتلقى فيه الوحي من ربك.
(يَجِبُ مَعْرِفَةُ أَنَّ الْقُرْءَانَ تُوجَدُ فِيهِ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ) أي فالصحيح أن آيات الكتاب منقسمة إلى هذين القسمين، محكمة ومتشابهة. قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿هُوَ﴾ أَىِ اللَّهُ ﴿الَّذِىَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ﴾ أَىْ يَا مُحَمَّدُ ﴿الْكِتَابَ﴾ أَىِ الْقُرْءَانَ ﴿مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أَىْ أَصْلُ الْكِتَابِ وَأَسَاسُهُ ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ يُحْتَاجُ إِلَى رَدِّهَا إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ لِتَتَّضِحَ دِلالَتُهَا.
(الآيَاتِ الْمُحْكَمَةَ فَقَالَ هِىَ مَا لا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا أَوْ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِهِ بوُضُوحٍ أَىْ كَانَتْ دِلالَتُهُ عَلَى الْمُرَادُ وَاضِحَةً جَلِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَولِهِ فِى سُورَةِ الإِخْلاصِ ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَقَوْلِهِ فِى سُورَةِ مَرْيَمَ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ أَىْ مِثْلًا فَهَذِهِ كُلُّهَا ءَايَاتٌ مُحْكَمَةٌ لا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا عَنْ مَعْنَاهَا الْمُتَبَادِرِ لِأَنَّ اللُّغَةَ لا تَحْتَمِلُ لَهَا مَعَانِىَ أُخْرَى تُحْمَلُ عَلَيْهَا
وأما الآيَاتُ الْمُتَشَابِهَةُ: وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دِلالَتُهُ أَوْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا عَدِيدَةً بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَاحْتَاجَ إِلَى النَّظَرِ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ وَالدِّرَايَةِ بِاللُّغَةِ وَبِمَعَانِى النُّصُوصِ لِحَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ الَّذِى لا يَتَعَارَضُ مَعَ مَعَانِى الْمُحْكَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ طَه ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ وَالنَّقْلِىُّ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْجُلُوسُ أَوِ الِاسْتِقْرَارُ أَوِ الْكَوْنُ فِى جِهَةٍ أَوْ مَكَانٍ فَوَجَبَ لِذَلِكَ إِخْرَاجُ كَلِمَةِ اسْتَوَى عَنِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ الْمُقْتَضِى لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لِكَىْ لا يَكُونَ تَعَارُضٌ بَيْنَ الأَدِلَّةِ وَتَنَافٍ بَيْنَ النُّصُوصِ.
تأويل بعض الآيات المتشابهة:
قوله تعالى: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)) قالَ ابنُ عطيةَ: يَنْظُرُونَ معناه ينتظرونَ والمعنى يأتيهم حكمُ اللهِ وأمرُه ونهيُه وعقابُه إيَّاهُم.
قوله تعالى: ((أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ))، قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: فِيْهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، قَالَهُ الحَسَنُ. وَالثَّانِي: فِي حَقِّ اللهِ، قَالَهُ سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ. وَالثَّالِثُ: فِي أَمْرِ اللهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاج. وَالرَّابِعُ: فِي ذِكْرِ اللهِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ.
قوله تعالى: ((وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا))، قَالَ الخَازِنُ: فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيْلِ الآيَةِ فَقِيْلَ فِي تَأْوِيْلِهَا: وَجَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالجَزَاءِ، وَقِيْلَ: جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَقَضَاؤُهُ، وَقِيْلَ: وَجَاءَ دَلَائِلُ ءَايَاتِ رَبِّك، وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما: أمرُه وقضاؤُه”.
قوله تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، قَالَ الطَّبَرِيُّوَابْنُ فُوْرَك: إِنَّهَا فِي مَقْدُوْرِهِ.
قوله تعالى: ((وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ))، قَالَ ابْنُ فُوْرَكَ: ذُكِرَتِ اليَمِيْنُ لِلْمَبَالَغَةِ فِي الاقْتِدَارِ.
قولُهُ ﷺ: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي ءَادَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ)). قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ: “أَيْ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيْئَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وقَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ العَرَبِيِّ: “هَذَا يَسْتَحِيْل عَلَى اللهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ إِلَى قَانُوْنِ التَّأْوِيْل”.
وأمَّا ما وردَ في الحديثِ القدسيِّ: ((يَا ابْن ءَادَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِيْ)). قَالَ القَاضِي عياضٌ: “قَدْ فَسَّرَ فِي هَذَا الحَدِيْثِ مَعْنَى الْمَرَضِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَرَضُ العَبْدِ الْمَخْلُوْقِ”. وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَمُلَّا عَلِيٌّ القَارِي وَالْمُنَاوِيّ: ” قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا أَضَافَ الْمَرَضَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمُرَادُ الْعَبْدُ تَشْرِيفًا لِلْعَبْدِ”.
وأما حديث البخاري: ((يُقَالُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيْدٍ فَيَضَعُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتَقُوْلُ: قَطْ قَطْ)). قَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ العَرَبِيِّ: “قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى “قَدَمَهُ” خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ يُسَمَّى قَدَمًا، أضَافَهُ إِضَافَةَ الْمِلْكِ إِلَى نَفْسِهِ. قَالَ الحَافِظُ ابنُ حجرٍ وَبَدْرُ الدِّيْنِ العَيْنِيُّ: “الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ الْفَرَطُ السَّابِقُ أَيْ يَضَعُ اللهُ فِيهَا مَا قَدَّمَهُ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ”.
وما وردَ في الحديثِ القدسيِّ: ((يَسُبُّ بَنُو ءَادَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ)). قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ: “أَيْ أَنَا مَالِكُ الدَّهْرِ وَمُصَرِّفُهُ، فَحُذِفَ اخْتِصَارًا لِلَّفْظِ وَاتِّسَاعًا فِي الْمَعْنَى.اهـ وَقَالَ القَاضِي عياضٌ: “وَهَذَا هُوَ مَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُوْنَ مِنْ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ فِي الدَّهْرِ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ”. وَقَالَ الطِّيْبِيُّ: ” وَالتَّقْدِيْرُ: أَنَا مُقَلِّبُ الدَّهْرِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّمَانَ يُذْعِنُ لِأَمْرِي لَا اخْتِيَارَ لَهُ”.
وأمَّا حديثُ رسولِ اللهِ ﷺ الذي رواه البخاري: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ)). وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَلَّانَ: ” وَقِيْلَ: هُوَ عَلَى تَقْدِيْرِ مُضَافٍ: أَيْ عَظَمَةُ اللهِ أَوْ ثَوَابُهُ”.
ومعنى ما جاءَ في الحديثِ: ((خُذُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)): قَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ العَرَبِيِّ: ” لَا يَتْرُكُ ثَوَابَكُم حَتَّى تَتْرُكُوا طَاعَتَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ: “يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الْمُجَازَاةَ عَلَى العِبَادَةِ حَتَّى تَقْطَعُوا العَمَلَ، فَأَخْرَجَ لَفْظَ الْمُجَازَاةِ بِلَفْظِ الفِعْلِ لِأَنَّ الْمَلَلَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا مِنْ صِفَاتِهِ. وَقَالَ القَاضِي عياضٌ: “إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ: أَيْ لَا يَدَعُ الجَزَاءَ حَتَّى تَدَعُوا العَمَلَ، وَقِيْلَ: “حَتَّى” هَهُنَا بِمَعْنَى الوَاوِ، فَيَكُوْنُ قَدْ نَفَى عَنْهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ الْمَلَلَ فَيَكُونُ التَّقْدِيْرُ: لَا يَمَلُّ وَتَمَلُّوْن.
فائدة
قال المناوي في شرحه الكبير على الجامع الصغير: رُوي أنه لما نزلت البسملة الشريفة اهتزت الجبال لنزولها.
• ومن خواصها للحفظ من الشيطان والسرقة ودفع البلاء وموت الفجأة: أن تقرأ عند النوم 21 مرة.
• ومن خواصها للأمن من ظلم الظالم: أن تقرأ في وجهه 50 مرة فإنك تأمن شره وتلقي في قلبه الهيبة منك.
• ومن خواصها لكثرة الرزق: أن تقرأها ٣١٣ مرة، ثم تصلي على النبيّ 100 مرة.
• ومن خواصها لفزع الأولاد: أن تكتب في ورقة 21 مرة ويحملها الصغير فإنّه يزول ما به ويحفظ من جميع الآفات إن شاء الله.
وفضائل وخصائص البسملة لا يحصيها إلا الله.
والله تعالى أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين.
دعاء
أسألُ اللهَ تعالى أنْ يزَوِّدَنا التقَوى ويرفَعَنا درجاتٍ ويجعلَنا مِنَ الذينَ لَا خوفٌ عليهِم ولا هُم يحزَنُونَ ويُنَوِّرَ قلوبَنا بالعلمِ واليقينِ والهدَى والتقَى وصلاحِ الحالِ ويحفظَنا مِنْ كلِّ شرٍّ وسوءٍ ويرفَعَ عنَّا وعَنْ أهلِينَا وأحبَابِنَا كلَّ بلاءٍ ويعافِيَنَا مِن كلِّ داءٍ ويجعلَنَا مِن أبنَاءِ الآخرَةِ الذينَ قالُوا ربُّنا اللهُ ثمَّ استقَامُوا الَّذِينَ تَتَنَزَّلُ عَلَيهمُ الملائكةُ ألا تخافُوا ولا تحزنُوا وأبشِرُوا بالجنَّةِ التي كنتُم توعدُونَ ويجعَلَنَا مِمَّنْ يدعُونَ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهم بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ الَّذِينَ يأمرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عنِ المنكرِ ولا يخشَونَ في اللهِ لومةَ لائمٍ الذينَ لهمُ البشرَى في الحياةِ الدنيَا وفي الآخرةِ فيبشِّرُهم ملكُ الموتِ برحمةِ الله ورضوانِه وينالونَ مِنَ النعيمِ مِا لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعَتْ ولا خطرَ على قَلبِ بشَرٍ في أعلَى الجنَّةِ بجَاهِ سيِّدِ المرسَلِينَ محمَّدٍ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ. وأسألُ اللهَ أنْ يجعلَنا مِنَ المغفورِ لهم فهوَ أكرمُ الأكرمِينَ وأرحَمُ الراحِمِينَ وأنْ يعيدَ هذا الشهر علينَا وقد جعَلَنَا مِنْ خيارِ عبادِه الصالحينَ.
اللهم أعِنَّا علَى الصيامِ والقِيامِ وتقبَّل منَّا يا رَبَّ العالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عتقَاءِ هذَا الشهرِ الكريمِ ومِنَ المقبُولِينَ يا أكرَمَ الأكرَمِينَ، اللهم أعتِقنَا فِيهِ مِنَ النيرَانِ يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ، اللهم أرِنَا ليلَةَ القدرِ المبارَكَةِ يا رَبَّ العالمينَ وارزُقنَا فيهَا دعوَةً مجَابَةً بجَاهِ سَيِّدِ الأولِينَ وَالآخِرِينَ يا اللهُ.
اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا، اللهم إنا نسألُكَ أن ترفعَ البلاءَ عن إخواننا وأهلنا في فلسطين، اللهم ثَبِّتْ أقدامَهُمْ وانصُرْهُم على أعدائِك الصهاينةِ الغاصبين، اللهم زَلزِلِ الأرضَ تحت أقدامِ أعدائك، اللهم رُدَّ مكرَهُمْ وكيدَهُمْ إلى نحورهِم، اللهم أخزِهِمْ وافضحْهُم وبدِّدْ جموعَهم، وفرِّقْ صفوفَهم، وحطِّمْ جيوشَهم، وانصرنا عليهم يا أرحمَ الراحمين، يا أرحمَ الراحمينَ يا ربَّ العالمين. اللهم اجعل لأهل غزة وفلسطين النصرة والعزة، والغلبة والقوة والهيبة.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على سيدِ الأنبياءِ والمرسلِينَ وسلَامٌ علَى المُرسَلِينَ والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ.