شرح ألفية السيرة النبوية للحافظ زين الدين العراقي (15)

المقدمة

الحَمدُ للهِ الَّذِي أَحكَمَ بِحِكمَتِهِ مَا فَطَرَ وَبَنَى، وَأَمَرَنَا بِطَاعَتِهِ لَا لِحاجَتِهِ لَنَا، يَغفِرُ الخَطَايَا لِمَن أَسَاءَ وَجَنَا، وَيُجزِلُ العَطَايَا لِمَن كَانَ مُحسِنًا، بَيَّنَ لِقَاصِدِيهِ سَبِيلًا وَسُنَنًا، وَوَهَبَ لِعَابِدِيهِ جَزِيلًا يُقتَنَى، وَأَثَابَ حَامِدِيهِ أَلَذَّ مَا يُجتَنَى، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، أَحمَدُهُ مُسِرًّا لِلحَمدِ وَمُعلِنًا، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي أَسَّسَ قَوَاعِدَ الدِّينِ وَبَنَى، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ المُتَخَلِّلِ بِالعَبَا رَاضِيًا بِالعَنَا، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ بِقَولِ الله: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، وَعَلَى عُمَرَ المُجِدِّ فِي عِمَارَةِ الإِسلَامِ فَمَا وَنَى، وَعَلَى عُثمَانَ الصَّابِرِ فَنَالَ الجَنَّةَ ثَمَنًا، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي إِذَا مَدَحنَاهُ فَالفَخرُ لَنَا، أَمَّا بَعدُ:

ذِكرُ الهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ
وَعَـزمَ الصِّـدِّيـقُ أَنْ يُـهَاجِـرَا *** فَـرَدَّهُ النَّـبِـيُّ حَـتَّـى هَاجَـرَا
مَـعًا إِلَـيْـهَا فَـتَـرَافَـقَا إِلَـى *** غَارٍ بِـثَـوْرٍ بَـعْـدُ ثُـمَّ ارْتَـحَـلَا
وَمَعْهُمَا عَـامِـرُ مَـوْلَى الصِّـدِّيقْ *** وَابْـنُ أُرَيْـقِـطٍ دَلِيلٌ لِلطَّـرِيـقْ
(وَعَزمَ الصِّدِّيقُ أَنْ يُهَاجِرَا، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ حَتَّى هَاجَرَا): أي وَعَزمَ أبُو بكَرٍ الصِّدِّيقُ أَنْ يُهَاجِرَ إلى الْمَدِينَةِ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ ﷺ وقالَ له: “لَا تَعْجَلْ، لَعَلَّ اللهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا“.

(فَتَرَافَقَا إِلَى غَارٍ بِـ)ـجَبَلِ (ثَوْرٍ بَعْدُ) وهو جَبلٌ قُربَ مَكّةَ فَدَخَلا الغارَ فخَيَّم عَنكَبُوتٌ وفَرَّخَتْ حَمامَةٌ علَى بابِه، فتَقَدَّم جمعٌ مِن المشرِكين ورأَوا ذلكَ فقالوا: ليسَ في الغارِ شَىءٌ.

(ثُمَّ ارْتَحَلَا) مِن الغارِ بعدَها إلى المدِينةِ المنوَّرةِ (وَمَعْهُمَا عَامِرُ) بن فُهَيرة (مَوْلَى) أي عبدٌ مَمْلُوكٌ لِأبِي بَكرٍ (الصِّدِّيقِ) رضي الله عنهُ (وَ)معَهُم أيضًا عبدُ اللهِ (بْنُ أُرَيْقِطٍ) من بني عَبدِ بنِ عَدِيٍّ، فقَدِ استَأْجَرَاهُ علَى أنّه (دَلِيلٌ) لهما (لِلطَّرِيقِ) أي لِيَدُلَّهُما علَى الطريق إلى المدِينةِ، وكان ابنُ أُرَيقطٍ كافرًا إذْ ذاك.

فلم يَزَلْ أبو بَكرٍ يَهِمُّ بالهِجرةِ والنّبِيُّ ﷺ يَرُدُّه عَن الْمَسِيرِ حَتَّى أَيْقَنَتْ قُرَيشٌ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ قد بُويِعَ وأنّه صَارَتْ لَهُ انصارٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِمْ، عَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً وحمايةً، فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إلَيْهِمْ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النّدْوَةِ يَمكُرُونَ برسولِ اللهِ ﷺ لإطفاءِ نورِ الدعوةِ الإسلاميةِ يُعِينُهُم إبلِيسُ اللعينُ، وَكَانَ مِمّا أَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فيمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، معناهُ يُجَازِيهِم جزاءَ مكرِهِم فسَمَّى الجزاءَ مكرًا لأَنَّهُ في مقَابَلَتِهِ، والمعنَى أنَّهُمُ احتَالُوا في إبطالِ أمرِ مُحَمَّدٍ ﷺ واللهُ تعالَى منَعَهُ منهُم وأظهَرَهُ وقوَّاهُ ونصَرَهُ، فضَاعَ فِعلُهُم وظَهَرَ فعلُ اللهِ عزَّ وجَلَّ.

ولا يجوزُ إطلاقُ المكرِ على اللهِ ابتِدَاءً لما فيهِ مِن إيهامِ الذَّمِّ، فالمَكرُ المَعرُوفُ الذِي يفعَلُهُ بعضُ الناسِ الذِي هوَ الخصلةُ الخبيثةُ لإِيصالِ الضررِ إلَى الغيرِ باستعمالِ حيلةٍ لا يجوزُ في حقِّ اللهِ، فالمَعنَى هنَا أنَّهُ يجازِيهِم على المَكرِ الذِي حصَلَ منهُم، فالمكرُ مِنَ اللهِ هوَ غيرُ الذِي يَحصُلُ مِنَ العبَادِ، إنَّمَا هوَ مجازاةُ الكافرينَ بالعقوبةِ مِنْ حيثُ لَا يدرونَ، فاللهُ أقوَى فِي إيصالِ الضررِ إلَى الماكرينَ مِنْ كلِّ ماكرٍ جزاءً لَهُم علَى مكرِهِمْ، أمَّا المكرُ بمَعنَى الاحتيالِ فهوَ مستحيلٌ علَى اللهِ.

واتَّفَقَ المشركونَ فيمَا بينَهُم أنْ يجتَمِعُوا عندَ بابِ رسولِ اللهِ ﷺ ويَضرِبُوهُ ضَربَةَ رجُلٍ واحِدٍ فيتَفَرَّقَ دمُهُ بينَ القبائِلِ، ولَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ، وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ: إنّ مُحَمّدًا يَزْعُمُ أَنّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ بسَاتِينُ كبَسَاتِينِ الْأُرْدُنِّ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ثُمّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا، ثم خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِلءَ الكَفِّ مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمّ قَالَ: “أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، وأَنْتَ أَحَدُهُمْ“، وَأَخَذَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ يَنثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رؤُوسِهِم، وهُوَ يَتلُو آياتٍ مِن سُورَةِ يس.

وَقَدْ رَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ النّبِيِّ ﷺ فِي ذِكْرِ فَضْلِ سورةِ يس أَنّهَا إنْ قَرَأَهَا خَائِفٌ أَمِنَ، أَوْ جَائِعٌ شَبِعَ، أَوْ عَارٍ كُسِيَ، أَوْ عَاطِشٌ سُقِيَ، وغيرَ ذلكَ، وتنفعُ كثيرًا إذا قُرئتْ على ميتٍ مسلمٍ، فقد جاء في الحديث: (اقْرَؤُوْا عَلَىْ مَوْتَاكُمْ يَس).

يَخرُجُ رسُولُ اللهِ ﷺ مِن بيتِهِ مَعَ كلِّ هذَا المَكرِ الذِي أُعِدَّ للقضاءِ عليهِ وعَلَى دعوَتِهِ الشريفَةِ سَالِمًا مُعَافًى بِسَبَبِ حِفظِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عليهِ الصلاةُ والسلَامُ، لتَبدَأَ رِحلَةٌ عَظِيمَةٌ، ليَبدَأَ هذَا الحَدَثُ العظِيمُ، حدَثٌ قلَبَ مسَارَ التارِيخِ، وغَيَّرَ مَجرَى الدعوَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، فانتَقَلَ أصحَابُهُ مِنَ القَهرِ وَالِاستِضعَافِ والتَّعذِيبِ والقَتلِ، إِلَى العِزِّ والمَجدِ وقَهرِ العَدُوِّ والغَلَبَةِ علَيهِ وَفَتحِ الفُتُوحَاتِ، ﴿إِنْ تَنْصُرُوْا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، هذا حدثٌ بَزَغَ فِيهِ فجرُ دِينِ الإسلامِ، ليُضِيءَ في أقلَّ مِن رُبعِ قَرنٍ بعدَهُ مَشَارِقَ الأرضِ ومغارِبَهَا، الحَدَثُ الذِي اختَارَهُ الفارُوقُ عمَرُ بنُ الخطَّابِ ليَبدَأَ منهُ التَّأرِيخ الإسلَامِيّ، حتَّى صَارَ يُسَمَّى التَّارِيخَ الهجرِيَّ إيذَانًا وَتَذكَارًا لِهِجرَةِ الحبيبِ المصطَفَى ﷺ، ما أعظَمَهُ مِن حَدَثٍ، ومَا أكبَرَهَا مِن وَاقِعَةٍ، صبَرَ فيهَا سَيِّدُ الأنبيَاءِ والمُرسَلِينَ ﷺ وصاحِبُهُ الصديقُ رضي الله عنه، فأَعَزَّ اللهُ بهَا الإسلامَ والمسلمِينَ، وأذَلَّ بهَا الشِّركَ والمُشرِكِينَ.

وَهناكَ فِي غَارِ ثَورٍ أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَجَرَةٍ فَنَبَتَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ فَسَتَرَتْهُ، وَأَمَرَ اللهُ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ فَسَتَرَتْهُ، وَأَمَرَ اللهُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَفَتَا بِفَمِ الْغَارِ، وَأَقْبَلَ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ، بِعِصِيِّهِمْ وَهَرَاوِيهِمْ وَسُيُوفِهِمْ، حَتَّى كَانُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بِقَدْرِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَنْظُرَ فِي الْغَارِ، فَرَأَى حَمَامَتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَمْ تَنْظُرْ فِي الْغَارِ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ مَا قَالَ، فَعَرَفَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ دَرَأَ عَنْهُ بِهِمَا.

فالهِجرَةُ النَّبَوِيَّةُ كانَت نَصرًا مِنَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، نَصَرَهُ اللهُ بِخَيطِ العَنكَبُوتِ، نَصَرَهُ بحَمَامَتَينِ وَحشِيَّتَينِ ما أَعظَمَهُ مِن نَصرٍ لم تَقدِر عَلَى صَدِّهِ جحَافِلُ المُشرِكِينَ، بعَدَدِهِم وعُدَّتِهِم، لم يَقدِرُوا صَدَّ خَيطِ العنكَبُوتِ، ورَحِمَ اللهُ القائِلَ:

أَيُّهَا المَدَّعِي الفخَارَ دَعِ الفَخْـ *** ـرَ لِذِي الكِبْرِيَاءِ وَالجبَروْتِ

نَسْجُ دَاود لَمْ يَفِدْ ليلةَ الغَا *** ر ‌وَكَانَ ‌الفخَارُ لِلْعَنْكَبُوْتِ

قَالَ أبو بكرٍ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: “يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثُهُمَا؟”، فمَعنَى قولِ النَّبِيِّ ﷺ: “يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنَّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا“، مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَحْفَظُنَا وَيَنْصُرُنَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ مَعَهُمَا فِي الْغَارِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِذَاتِهِ مَعَهُمَا فِي الْغَارِ، بَلِ الْمَعِيَّةُ هُنَا هِيَ مَعِيَّةُ النُّصْرَةِ، أَيِ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَنْصُرُنَا وَيَحْمِينَا، لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَحُلُّ مَكَانًا، فَهُوَ الْمَوْجُودُ بِلا مَكَانٍ وَهُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ صِفَاتٍ الْخَلْقِ. ويَرحَمُ اللهُ البُوصِيرِيَّ حيثُ قالَ:

وَيْحَ قَومٍ جَفَوا نَبِيًّا بِأَرضٍ *** أَلِفَتْهُ ضِبَابُهَا وَالظِّبَاءُ

وَسَلَوهُ وَحَنَّ جِذْعٌ إِلَيهِ *** وَقَلَوْهُ وَوَدَّهُ الغُرَبَاءُ

أَخرَجُوهُ مِنهَا وَآوَاهُ غَارٌ *** وَحَمَتْهُ حَمَامَةٌ وَرقَاءُ

وَكَفَتْهُ بِنَسجِهَا عَنكَبُوتٌ *** مَا كَفَتْهُ الحَمَامَةُ الحَصْدَاءُ

وقالَ:

أقْسَمْتُ بالقَمَرِ المُنْشَقِّ إِنَّ لَهُ *** مِنْ قَلْبِهِ نِسْبَةً مَبْرُورَةَ القَسَمِ

ومَا حَوَى الغَارُ مِنْ خَيْرٍ ومَنْ كَرَمٍ *** وَكُلُّ طَرْفٍ مِنَ الكُفَّارِ عَنهُ عَمِي

فَالصِّدْقُ فِي الغَارِ وَالصِّدِّيقُ لَمْ يَرِمَا *** وَهُمْ يَقُولُونَ مَا بِالغَارِ مِنْ أَرَمِ

ظَنُّوا الحَمَامَ وَظَنُّوا العَنْكَبُوتَ عَلَى *** خَيْرِ البَرِيَّةِ لَمْ تَنْسُجْ وَلَمْ تَحُمِ

وِقَايَةُ اللهِ أَغْنَتْ عَنْ مُضَاعَفَةٍ *** مِنَ الدُّرُوعِ وَعَنْ عَالٍ مِنَ الأُطُمِ

وَلَمَّا انْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ مُسْتَخْفِينَ، مَرُّوا بِعَبْدٍ يَرْعَى غَنَمًا، فَاسْتَسْقيَاهُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَاةٌ تُحْلَبُ غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا عَنَاقًا، (العَنَاقُ: أُنثَى المَعِزِ الصَّغِيرَةُ) حَمَلَتْ أَوَّلَ الشِّتَاءِ، وَقَدْ أَخْرَجَتْ وَمَا بَقِيَ لَهَا لَبَنٌ، فَقَالَ النبي ﷺ: “ادْعُ بِهَا“، فَأخذهَا النَّبِيُّ ﷺ وَمَسَحَ ضَرْعَهَا، وَدَعَا حَتَّى أَنْزَلَتْ، قَالَ: وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِمِجَنٍّ (تُرسٍ) فَحَلَبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَسَقَى الرَّاعِيَ، ثُمَّ حَلَبَ فَشَرِبَ، فَقَالَ الرَّاعِي: بِاللهِ مَنْ أَنْتَ؟ فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ، قَالَ: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ“، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنَّهُ صَابِئٌ؟، أَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا فَعَلْتَ إِلَّا نَبِيٌّ.

ذِكرُ وُصُولِه ﷺ إِلَى قُباءٍ ثُمَّ إِلَى المَدِينَةِ
حَـتَّـى إِذَا أَتَـى إِلَـى قُـبَـاءِ *** نَـزَلَـهـا بِـالسَّــعـدِ وَالـهَـنَـاءِ
فِي يَـومِ الاثنَينِ لِثِنتَي عَـشــرَه *** مِن شَـهـرِ مَولِـدٍ فَنِعمَ الهِجـرَه
أَقَـامَ أَربَـعًا لَـدَيـهِـم وَطَـلَـع *** فِـي يَـومِ جُـمعَةٍ فَصَـلَّى وَجَمَع
فِي مَسـجِـدِ الجُمعةِ وَهيَ أَوَّلُ *** مَـا جَـمَّـعَ النَّـبِـيُّ فِيمَا نَقَلُوا
كَانَ المُهَاجِرُونَ وَالأَنصَارُ عِندَمَا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ مِن مَكَّةَ يَذهَبُونَ إِلَى قُباءٍ يَنتَظِرُونَ قُدومَهُ ﷺ في أَوَّلِ النَّهارِ، فإِذَا أَحرَقَتهُم الشَّمسُ رَجَعُوا إلى بُيُوتِهم، وَبَعضُهُم يتَسَلَّقُ الأَشجارَ وَيَنظُرُ إلَى بُعدٍ عَلَّهُ يَرَى أثرًا لِقُدومِ رَسُولِ اللهِ مُحمَّدٍ ﷺ، فلَمَّا كانَ يَومُ قُدُومِه غَدَوا كعَادَتِهم، فَلَمَّا أحرَقَتهُم الشَّمسُ رَجَعُوا، فإِذَا بَيَهُودِيٍّ يَصِيحُ علَى مَكَانٍ عَالٍ: يا بَنِي قَيلَةَ هذَا صاحِبُكُم قَد جاءَ، فلَبِسُوا السِّلاحَ وذهبُوا لِاستِقبَالِهِ ﷺ، فَلَقِيَهُ الزُّبَيرُ فِي رَكبٍ مِنَ المُسلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا راجِعِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيرُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَأَبَا بَكرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ.

ثُمَّ قَدِمَ ﷺ حَتَّى إِذَا أَتَى إِلَى مَوضِع قُبَاءٍ نَزَلَها بِالسَّعدِ وَالهَنَاءِ، فِي يَومِ الاثنَينِ لِثِنتَي عَشْرَةَ لَيلةً خَلَت مِن شَهرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ شَهرِ مَولِدهِ ﷺ، فَنَزَلَ النبيُّ ﷺ حينَ قَدِمَ تحتَ ظِلِّ نخلَةٍ غَربيَّ مكانِ مسجِدِ قبَاءٍ، فلَم يُمَيِّزِ الأنصَارُ رسُولَ اللهِ ﷺ مِنَ الصدِّيقِ رضي اللهُ عنه، لأَنَّهُم لَم يَرَوهُ مِن قَبلُ، حتَّى لَحِقَتهُ الشَّمسُ فَقَامَ الصدِّيقُ يظَلِّلُهُ بردَائِهِ فعرَفَ الأنصَارُ حينَئِذٍ رسُولَ اللهِ ﷺ مِنَ الصِّدِّيقِ.

وَأَقامَ النَّبِيُّ ﷺ في قُباءٍ أَربعةَ أيامٍ الاثنَينِ والثُّلاثاءَ والأَربِعاءَ والخَمِيسَ في مَنزِلِ كُلثُومِ بنِ الهِدْمِ من بَنِي عَمرِو بنِ عوفٍ، وهُوَ الذِي نزَلَ فيهِ قولُ اللهِ تعالَى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾، فقالَ لهُم رسُولُ اللهِ ﷺ حينَ نزَلَتِ الآيَةُ: “يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ، إِنَّ اللهَ قَد أَثنَى عَلَيكُم خَيرًا فِي الطُّهُورِ، فَمَا طُهُورُكُم هَذَا؟“، قالُوا: يا رسُولَ اللهِ، نتوضَّأُ للصلَاةِ ونغتَسِلُ منَ الجنابَةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: “فَهَل مَعَ ذَلِكَ مِن غَيرِهِ؟“، فقالوا: لَا، غيرَ أنَّ أحدَنَا إذَا خرَجَ من الغائِطِ أحَبَّ أن يَستَنجِيَ بالمَاءِ، فقالَ ﷺ: “هُوَ ذَاكَ فَعَلَيكُمُوهُ“، أي علَيكُم بهِ واثبُتُوا علَيهِ.

ثم أخذَ النَّبِيُّ ﷺ جرِيدَةً فأسَّسَ مسجدَ قُبَاءٍ، وهوَ أولُ مسجِدٍ بناهُ النبيُّ ﷺ وأصحابُهُ بالمدينَةِ المنوَّرَةِ، ونزَلَ في شأنهِ قولُهُ تعالَى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾، ويُستَحَبُّ استِحبَابًا مؤكَّدًا أن يأتِيَ مسجدَ قباءٍ يومَ السبت، فإِن تعذَّرَ يومَ السبتِ ففِي غيرِهِ من الأيَّامِ، فإِنَّ النبيَّ ﷺ كان يأتِيهِ كلَّ سبتٍ راكِبًا وماشِيًا، وكانَ ابنُ عمرَ رضي الله عنهما يفعَلُهُ، وقال ﷺ: “الصَّلَاةُ فِيهِ كَعُمرَةٍ“، وقالَ رسولُ الله ﷺ: “مَن تَطَهَّرَ فِي بَيتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسجِدَ قُبَاءٍ فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجرِ عُمرَةٍ“، وقد اشتركَ رسولُ اللهِ ﷺ معَ أصحَابِهِ فِي بِنَائِهِ.

وهو غيرُ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ الشّريفِ، وحينَ أسَّسَهُ ﷺ كانَ هو أوَّلَ مَن وَضعَ حجَرًا في قِبلَتِه، ثم جاءَ أبُو بكرٍ رضي الله عنه بِحَجرٍ فوَضَعَهُ، ثم جاءَ عُمَرُ رضيَ اللهُ عنه بِحَجَرٍ فوَضَعَهُ إلى حَجَرِ أبي بَكرٍ، ثُمَّ أخَذ النّاسُ في البُنيانِ، فكانَ ﷺ يأخُذُ الحَجَرَ أوِ الصَّخرَةَ فيُصِيبُ التُّرَابُ بَطنَهُ الشريفَ ﷺ، فيَأتِي الرَّجُلُ ويَقُولُ: بِأَبِي أَنتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ أَعطِنِي أَكفِكَ، فيَقُولَ: “لَا، خُذ مِثلَهُ“.

ورُوِيَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ رواحَةَ كانَ يقُولُ وهُم يبنُونَ مسجِدَ قباءٍ: «أفلَحَ مَن يُعَمِّرُ المَسَاجِدَا»، فقال رسولُ الله ﷺ: “المَسَاجِدَا“، فقالَ عبدُ اللهِ: «وَيَقرَأُ القُرَآنَ قَائِمًا وَقَاعِدًا»، فقالَ رسُولُ اللهِ ﷺ: “وَقَاعِدًا“، فقال عبدُ اللهِ: «وَلَا يَبِيتُ اللَّيلَ عَنهُ رَاقِدًا»، فقالَ رسُولُ اللهِ ﷺ: “رَاقِدًا“.

يا حبيبي يا رسولَ الله، تخيَّلُوا كم سَيَفرَحُ عبدُ اللهِ عندَمَا يفعَلُ الرسُولُ ﷺ ذلِكَ، كأَنَّهُ يشَجِّعُهُ ويُؤَيِّدُهُ فيمَا يَقُولُ، تخَيَّلُوا كيفَ ستَكُونُ همَّةُ الصَّحَابَةِ فِي العَمَلِ والرَّسُولُ ﷺ يعمَلُ معَهَم.

وَطَلَع بَعد ذلِكَ النَّبِيُّ ﷺ مِن بَينِ أَظهُرِ أهلِ قُباءٍ فِي يَومِ الجُمعَةِ المُبارَكةِ، فرَكِبَ راحِلَتَه ومَشَى النّاسُ حَولَهَا، وصارَ الواحِدُ مِنهُم يُنازِعُ صَاحِبَه زِمامَ الرّاحلةِ تسابُقًا للنَّيلِ مِن بَرَكَةِ مُرافقَتِهِ ﷺ وخِدمَتِه، فأَدركَتِ النَّبِيَّ الجُمُعةُ في بَنِي سالِم بنِ عَوفٍ، فَصَلَّى الجُمُعةَ بِمَن مَعَه مِن المسلِمِينَ، وَجَمَع النّاسَ لأجلِهَا فِي مَسجِدِ الجُمعةِ، وَهيَ أوَّل صَلاةِ جُمُعَةٍ جَمَّعَ النَّبِيُّ ﷺ لَها، وكانَ العَرَبُ يُسَمُّونَ يَومَ الجُمُعَةِ يَومَ العَرُوبَةِ، إِلَى أَن جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فصَلَّى بهِم فِيهِ وذكَّرَهُم فسَمُّوهُ يَومَ الجُمُعَةِ حينَ اجتَمَعُوا إِلَيهِ.

ثُمَّ خطَبَ النَّبِيُّ ﷺ أولَ خُطبَةِ جُمُعَةٍ لهُ، فقامَ النَّبِيُّ ﷺ حامِدًا للهِ ومُثنِيًا عليهِ وقال: “أَمَّا بَعدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم، تَعلَمُنَّ وَاللهِ لَيُصعَقَنَّ أَحَدُكُم، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ لَيسَ لَهُ تَرجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحجُبُهُ دُونَهُ: أَلَم يَأتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَءَاتَيتُكَ مَالًا، وَأَفضَلتُ عَلَيكَ، فَمَا قَدَّمتَ لِنَفسِكَ، فَلَيَنظُرَنَّ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيئًا، ثُمَّ لَيَنظُرَنَّ قُدَّامَهُ فَلَا يَرَى غَيرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ استَطَاعَ أَن يَقِيَ وَجهَهُ مِنَ النَّارِ وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ فَليَفعَل، وَمَن لَم يَجِد فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإِنَّ بِهَا تُجزَى الحَسَنَةُ عَشْرَ أَمثَالِهَا إِلَى سَبعِمِائَةِ ضِعفٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيكُم وَرَحمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ“.

وبعَثَ رسُولُ اللهِ ﷺ زيدَ بنَ حارِثَةَ وأبَا رَافِعٍ إلى مكَّةَ وأعطَاهُمَا بعِيرَينِ وخمسَمِائَةِ درهَمٍ، فقَدِمَا عليهِ بفَاطِمَةَ وأُمِّ كُلثُومٍ ابنَتَيهِ وسَودَةَ بنتِ زمعَةَ زوجَتِهِ، وبَقِيَت بِنتُهُ زَينَبَ هُنَاكَ معَ زوجِهَا، وخرَجَ عبدُ اللهِ بنُ أبِي بكرٍ بعيَالِ أبِي بكرٍ فيهِم عائِشَةُ وأُختُهَا أسمَاءُ زَوجَةُ الزُّبَيرِ وأمُّ رُومانَ أمُّ عائِشَةَ رضي الله عنهُنَّ.

بَـنَـى بِـهَا مَسـجِـدَهُ وَارتَحَـلَا *** لِطَـيبَةَ الفَيحَـاءِ طَابَـت نُـزُلَا
فَـبَـرَكَـت نَاقَـتُـهُ المَـأمُـورَه *** بِمَوضِـعِ المَسـجِدِ فِي الظَّـهِيرَه
فَـحَـلَّ فِـي دَارِ أَبِـي أَيُّـوبَـا *** ……………………………………..
وَبعدَ أن أقامَ رسولُ الله ﷺ أيامًا بقُباءٍ وكان يومَ جُمُعةٍ وارتَفَع النَّهارُ، دعا رسولُ الله ﷺ براحِلَتِهِ، واحَتَشدَ المُسلِمونَ ولَبِسُوا السِّلَاحَ، ورَكِبَ رسولُ اللهِ ﷺ ناقَتَهُ القَصواءَ مُريدًا الخُروجَ مِن قُباءٍ، والنّاسُ معَهُ عن يمِينِهِ وعن شِمَالِهِ وخَلفَهُ منهُمُ الماشِي والرَّاكِبُ، فاجتمَعَت بنُو عمرِو بنِ عوفٍ يسألُونَه ﷺ إنْ كان يُرِيدُ دارًا خيرًا مِن دارِهِم أو خَرَجَ منهُم لأنَّهُ ملَّ منهُم، فقالَ النّبيُّ ﷺ: “إِنِّي أُمِرتُ بِقَريَةٍ تَأكُلُ القُرَى، فَخَلُّوها فَإِنَّهَا مَأمُورَةٌ“، (أي تَنتَصِرُ علَى كلِّ القُرَى وتَكُونُ الغلَبةُ لهَا عَلَى غيرِهَا مِنَ القُرَى، أو تُجلَبُ إليهَا الغنَائِمُ الَّتِي تحصُلُ في الجهادِ في سبيلِ اللهِ وتُنقَلُ إليهَا، وكلٌّ مِن هذَينِ الأمرَينِ قد وَقَعَ وحصلَ، فحصلَ تَغَلُّبُ هذِهِ المدينةِ على غيرِهَا مِنَ المُدُنِ، بِأَنِ انطَلَقَ منهَا الهُدَاةُ المُصلِحون والغُزاةُ الفاتِحُونَ، وأخرَجُوا الناسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذنِ ربِّهِم، فدَخلَ الناسُ في دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ وكلُّ خيرٍ حَصَلَ لِأَهلِ الأَرضِ فَإِنَّمَا خَرَجَ مِن هذِهِ المدينَةِ المبَارَكَةِ، مدينَةِ الرسُولِ ﷺ، فكَونُها تأكُلُ القُرَى يصدُقُ على كونِ الِانتِصَارِ لَهَا علَى غيرِهَا مِنَ المُدُنِ).

وارتَحَلَ النَّبِيُّ ﷺ لِطَيبَةَ المدِينةِ المنوَّرةِ الفَيحَاءِ، الّتي فاحَ عبيرُها وذِكرُها في الآفاقِ بنُزولِ النّبِيِّ ﷺ فيها، فتلقَّاهُ النّاسُ في الطّرِيقِ، فخَرَجُوا فِي الطُّرُقِ، وصَارَ الخَدَمُ والصِّبيُانُ يقولُونَ: اللهُ أَكبَرُ، جاءَنَا رسُولُ اللهِ، جاءَ مُحَمَّدٌ.

فاستَقبَلَهُمَا زُهاءُ خَمسِمِائَةٍ مِنَ الأنصَارِ حَتَّى انتَهَوا إليهِمَا، فقَالَتِ الأَنصَارُ: انطَلِقَا ءَامِنَينِ مُطاعَينِ، فأَقبَلَ رسُولُ اللهِ ﷺ وصاحِبُه بينَ أَظهُرِهِم، فخَرَجَ أهلُ المَدِينَةِ حتَّى إنَّ العواتِقَ صَعِدنَ فَوقَ البُيوتِ يَتراءَينَهُ مِن بَعيدٍ وهُنَّ يَقُلنَ: أَيُّهُم هُوَ؟ أيُّهُم هُو؟، قال أنسٌ: فَما رَأَينا مَنظَرًا شَبِيهًا بِهِ يَومَئِذٍ.

عَنِ البَرَاءِ رَضِي الله عنهُ أنَّهُ قالَ: مَا رأيتُ أهلَ المدينةِ فَرِحُوا بِشَيءٍ فَرَحَهُم برسولِ اللهِ ﷺ، وَعَن أنسٍ رضي الله عنه قال: لَمَّا كانَ اليومُ الَّذِي دَخَلَ فيهِ رسولُ اللهِ ﷺ المدينةَ أضاءَ مِنهَا كُلُّ شَىءٍ.

وعنه رضي الله عنه أيضًا قالَ: شَهِدتُ يومَ دخَلَ رَسولُ اللهِ ﷺ المدينةَ فلَم أرَ يومًا أحسَنَ مِنهُ ولا أَضوَأَ.

وَلمَّا هاجرَ المصطفَى، طابَت بهِ طيبةُ، وأضاءَ كلُّ مَا كانَ منهَا أسودَ منذُ دَخَلَهَا، وسَرَى السُّرُورُ إلَى القلوبِ بحلُولِهِ بهَا، وكانَت مِن أَوبَإِ الأَرَاضِي، فَزَالَ عَنهَا وَبَاؤُهَا بِبَرَكَةِ هَذَا النَّبِيِّ العَظِيمِ الجَاهِ، وَدَعَا اللهَ قَائِلًا: اللهم حَبِّب إِلَينَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبتَ مَكَّةَ أَو أَشَدَّ، وَصَحِّحهَا، وَبَارِك لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَحَوِّل حُمَّاهَا إِلَىَ الجُحفَةِ“، وقال: اللهم بَارِك لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللهم بَارِك لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا، وَاجعَل مَعَ البَرَكَةِ بَرَكَتَينِ“، وقال: “عَلَى أَنقَابِ المدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ“.

فلم يَمُرَّ رسولُ اللهِ ﷺ بدَارٍ مِن دُورِ الأنصَارِ إلَّا قالُوا: هَلُمَّ يا رسولَ اللهِ إلى العِزِّ والمَنَعةِ والثَّروَةِ، فيَقُولُ لهُم خيرًا ويَدعُو أو يَقُولُ: “إنَّهَا مَأمُورَةٌ خَلُّوا سَبِيلَهَا“، فمرَّ بِبَنِي سالِمٍ فقامَ إليهِ عِتبانُ بنُ مالِكٍ ونَوفلُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ مالكِ بنِ العَجلَانِ وهو ﷺ ءاخِذٌ بزِمامِ راحلَتِهِ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ انزِل فينَا فإنَّ فينا العَدَدَ والعَشِيرةَ، ونَحنُ أصحَابُ الحدائِقِ والدّرَكِ، يا رسولَ اللهِ قد كانَ الرجُلُ مِنَ العرَبِ يدخُلُ هذِه البُحَيرَةَ خائِفًا فيَلجَأُ إِلَينَا فنَقُولُ لَهُ: قَوقِل حَيث شِئتَ (أي سِرْ حيثُ تريدُ)، فجَعَل رسولُ اللهِ ﷺ يَتَبسَّمُ ويَقُولُ: “خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأمُورَةٌ“، فقامَ إِلَيهِ عُبَادَةُ بنُ الصّامِتِ والعَبّاسُ بنُ عُبادَةَ بنِ نَضلَةَ بنِ مالِكِ بنِ العَجلَانِ فجَعَلا يقُولَانِ: يا رسولَ اللهِ انزِل فِينَا، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: “بَارَكَ اللهُ عَلَيكُم، إِنَّها مَأمُورةٌ، فَخَلُّوا سَبِيلَهَا“.

وَانطَلَقَت ناقَةُ رسُولِ اللهِ ﷺ حتَّى إذا مَرَّت بدارِ بَنِي عَدِيِّ بنِ النَّجَّار، وهم أخوَالُ أَبِيهِ ﷺ لأَنَّ أمَّ عبدِ المُطَّلِبِ مِنهُم، اعتَرَضَهُ سَلِيطُ بنُ قَيسٍ وأبو سَلِيطٍ أُسَيرَةُ بنُ أبي خارِجةَ في رِجالٍ منهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، هَلُمَّ إلى أخوالِكَ، إلى العَدَدِ والعُدَّةِ والمَنَعةِ، قال: “خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأمُورَةٌ“، حتَّى إذَا أتَت دارَ بَنِي مالكِ بنِ النَّجَّارِ وَوَصَلَت حيثُ بابُ مَسجِدِهِ الآنَ فَبَرَكَت نَاقَتُهُ ﷺ، وَقتَ الظَّهِيرَةِ، وكان ذلِكَ المَوضِعُ يومئِذٍ لغُلامَين يَتِيمينِ سَهلٍ وسُهَيلٍ مِن بنِي مالِكِ بنِ النَّجَّارِ، فلَمَّا بَرَكَتِ النَّاقَةُ ورَسُولُ اللهِ ﷺ علَيهَا لم يَنزِل بَعدُ، سارَت غيرَ بَعِيدٍ ورَسولُ اللهِ ﷺ واضِعٌ لها زِمامَها لا يَثنِيها بِه، ثم التَفَتَت خَلفَهَا فرَجَعَت إلى مَبرَكِها أوَّلَ مَرَّةٍ فبَرَكَت فيهِ، فجَعَل جَبّارُ بن صَخرٍ السَّلَمِيُّ يَنخَسُها رجاءَ أن تقومَ فتَنزِلَ في دارِ بَنِي سَلِمةَ فلَم تَفعَل، فنزَلَ رسولُ اللهِ ﷺ عنهَا وقال: “هُنَا المَنزِلُ إِن شَاءَ اللهُ، ثم تلا قوله تعالى:﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾” (إذا نزلت منزلا جديدا فاقرأ هذه الآية)، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الغُلَامَينِ فَسَاوَمَهُمَا على المكانِ لِيَتَّخِذَهُ مَسجِدًا، فَقَالَا: بَل نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَن يَقبَلَهُ مِنهُمَا هِبَةً حَتَّى ابتَاعَهُ مِنهُمَا، ثم حمَلَ أبو أيُّوبَ خالدُ بنُ زيدٍ مِن بنِي النجارِ رَحْلَ النبيِّ ﷺ وأغرَاضَهُ فوَضَعَهُ في بَيتِهِ، فكلَّمَهُ بعضُهُم في النُّزُولِ علَيهِم فقالَ ﷺ: “المَرءُ مَعَ رَحلِهِ حَيثُ كَانَ“، فَحَلَّ ﷺ فِي دَارِ أَبِي أَيَّوبَ الأنصَارِيِّ رضِيَ اللهُ عنهُ وقَرَّ قَرَارُهُ واطمَأنَّت دارُه، ونَزَل معه زَيدُ بنُ حارِثةَ رضيَ الله عنهُ.

ورَوَى ابنُ ماجَه والحاكِمُ وأبو سعيدٍ النَّيسابُورِيُّ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ لَمَّا نَزَل على أبي أيُّوبَ خَرَج جَوارٍ أي بناتٌ مِن بَنِي النَّجَّارِ يَضرِبنَ بالدُّفوفِ ويَقُلنَ:

نَحنُ جَوَارٍ مِن بَنِي النَّجَّارِ *** يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِن جَارِ

فَخَرَجَ إِلَيهِم رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: “أَتُحِبُّونِي؟“، فَقَالُوا: إِي وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: “وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكُم، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكُم، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكُنَّ“.

وفي الأثرِ السّابِقِ دليلٌ على أنَّ صوتَ المرأةِ ليسَ بعَورةٍ، إلَّا لِمَن كان يَتلذَّذُ بسماعِ صوتِهَا فيَحرُمُ عليه هُوَ الاستِماعُ حِينئذٍ، فلو كانَ صوتُ المرأَةِ عورَةً لنَهَاهُمُ الرَّسُولُ ﷺ عَنِ الكَلَامِ أَمَامَ الرِّجَالِ وثَبَتَ أنَّ عائشةَ كانَت تُعَلِّمُ الصحابَةَ مِن وراءِ حجَابٍ، وكيفَ تُعَلِّمُهُم بِلَا صَوتٍ.

وذَكَرَ بعضُ أهلِ السِّيَرِ أنَّ بيتَ أبِي أيوبَ الذِي نزَلَ فيهِ رسُولُ اللهِ ﷺ بنَاهُ تُبَّعٌ الأَوَّلُ واسمُه تُبَان أَسعَد، وكانَ معَهُ أربعُمِائَةِ حبرٍ، فتعاقَدُوا على ألَّا يخرُجُوا منهَا، فسأَلَهُم تُبَّعٌ عن سرِّ ذلكَ، فقالُوا: إنَّا نَجِدُ في كُتُبِنَا أنَّ نبيًّا اسمُهُ محمَّدٌ هذِهِ دارُ هجرَتِهِ، فنَحنُ نُقِيمُ لعَلَّنَا نَلقَاهُ، فَأَرَادَ تُبَّعٌ الإِقَامَةَ معهُم، ثُمَّ بنَى لِكُلِّ واحِدٍ مِن أولَئِكَ دارًا وزوجهم وأعطَاهُم مَالًا جزِيلًا وكتَبَ كتَابًا فيهِ إسلَامُهُ ومِنهُ:

شَهِدتُ عَلَى أَحمَدٍ أَنَّهُ *** رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَارِي النَّسَمْ

فَلَو مُدَّ عُمرِي إِلَى عُمرِهِ *** لَكُنتُ وَزِيرًا لَهُ وَابنَ عَمْ

وَجَاهَدتُ بِالسَّيفِ أَعدَاءَهُ *** وَفَرَّجْتُ عَن صَدرِهِ كُلَّ هَمْ

وختَمَهُ بالذَّهَبِ ودفَعَهُ إلى كبِيرِهِم وسأَلَهُ أن يدفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ ﷺ إِن أدرَكَهُ وإِلَّا فمَن أدرَكَهُ مِن وَلَدِهِ أَو وَلَدِ وَلَدِهِ، وبَنَى للنَّبِيِّ ﷺ دارًا ينزِلُهَا إذَا قَدِمَ المدينَةَ، فتدَاوَلَ الدّارَ الملَّاكُ إلَى أن صَارَت لِأَبِي أَيُّوبَ، وهُوَ مِن وَلَدِ ذَلِكَ العَالِمِ، ويُقَالُ إِنَّ الكِتَابَ الَّذي فيهِ الشِّعرُ كانَ عندَ أَبِي أيُّوبَ حتَّى دفَعَهُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فمَا نَزَلَ رسُولُ اللهِ ﷺ إلَّا فِي بَيتِهِ.

ثم نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيتِ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ الله عنهُ، فنَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الطَّابَقِ السُّفلِيِّ وأَبُو أيُّوبَ في العُلوِيِّ، فانتَبَه أبو أيُّوبَ لَيلةً فقالَ: نَمشِي فوقَ رأسِ رسولِ اللهِ ﷺ فيَنتثِرُ التُّرابُ مِن وَطءِ أقدامِنَا علَيهِ، فتَنَحَّوا فبَاتُوا في جانِبٍ، ولَم يَزَل أبُو أيُّوبَ ساهِرًا حتّى أصبَحَ، فأتاهُ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنّي أخشَى أنّي كنتُ ساكِنًا فوقَ رأسِ النّبِيِّ ﷺ فيَنتَثِرُ التُّرابُ مِن وَطءِ أقدامِنَا عليكَ، وإنَّه أطيَبُ لِنَفسِي أن أكونَ تحتَك في أسفَلِ البيتِ، فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: “السُّفلُ أَرفَقُ“، فقال أبو أيُّوبَ: لا أَعلُو سَقِيفَةً أنتَ تَحتَها، ولم يَزَل أبو أيُّوبَ يكلمه ﷺ حتّى انتقَلَ النَّبِيُّ ﷺ إلى العُلوِ وأبو أيُّوبَ إلى السُّفلِ.

وكانَ أبُو أيوبَ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَصنَعُ للنَّبِيِّ ﷺ طعَامًا، فإِذَا جِيءَ بِهِ إلَيهِ سَأَلَ عن مَوضِعِ أصَابِعِهِ فيَتَتَبَّعُ موضِعَ أصابِعِه ﷺ، فصَنَع له طعامًا فيه ثُومٌ، فلَمَّا رُدَّ إليه سأل عَن مَوضِعِ أصابِعِ النبيِّ ﷺ، فقِيل له: لَم يَأكُل، ففَزِعَ أبُو أيوبَ مِن ذلِكَ وصَعِدَ إلَيهِ فقالَ: أحَرامٌ هُوَ؟ فقالَ النبيُّ ﷺ: “لَا، وَلَكِنِّي أَكرَهُهُ“، قال: فإِنِّي أكرَهُ ما تَكرَهُ.

قالَ الحافظُ النوويُّ: قال العلماءُ: في هذا أنَّهُ يُستَحَبُّ للآكِلِ والشَّارِبِ أن يُفضِلَ مِمَّا يأكُلُ ويَشرَبُ فَضلَةً لِيُواسِيَ بها مَن بَعدَه لَا سَيِّمَا إن كانَ مِمَّن يُتَبَرَّكُ بِفَضلَتِه، وكذَا إذَا كانَ في الطّعامِ قِلَّةٌ ولهُم إلَيهِ حَاجَةٌ، ويتَأكَّدُ هذَا في حَقِّ الضَّيفِ، لا سِيَّما إن كانَت عادَةُ أهلِ الطَّعامِ أن يُخرِجُوا كُلَّ ما عِندَهم وتَنتَظِر عِيالُهُم الفَضلَةَ كما يَفعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، ونَقَلُوا أنَّ السَّلَفَ كانُوا يَستَحِبُّون إِفضالَ هذِهِ الفَضلَةِ المذكُورةِ، وهذَا الحدِيثُ أَصلُ ذَلِكَ كُلِّه.اهـ

وعَن أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: صَنَعتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ طَعَامًا وَلِأَبِي بَكرٍ قَدرَ مَا يَكفِيهِمَا، فَأَتَيتُهُمَا بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “اذهَب فَادعُ لِي بِثَلَاثِينَ مِن أَشرَافِ الأَنصَارِ“، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَقُلتُ [أي فِي نَفسِي]: مَا عِندِي شَيءٌ أَزِيدُهُ، فَدَعَوتُهُم فَجَاءُوا فَقَالَ: “اطعَمُوا“، فَأَكَلُوا حَتَّى صَدَرُوا، ثُمَّ شَهِدُوا أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَبَايَعُوهُ قَبلَ أَن يَخرُجُوا، ثُمَّ قَالَ: “اُدعُ لِي سِتِّينَ“، ففَعَلُوا ذَلِكَ، قَالَ: فَأَكَلَ مِن طَعَامِي ذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا كُلُّهُم مِنَ الأَنصَارِ.

وقد روي أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ قَدِمَ عَلَى ابنِ عَبَّاسٍ البَصرَةَ، فَفَرَّغَ لَهُ بَيتَهُ وَقَالَ: لأَصنَعَنَّ بِكَ كَمَا صَنَعتَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، كَم عَلَيكَ؟ قَالَ: عِشرُونَ أَلفًا، فَأَعطَاهُ أَربَعِينَ أَلفًا وَعِشرِينَ مَملُوكا وَمَتَاعَ البَيتِ.

……………………………………… *** حَـتَّـى ابتَنَى مَسـجِدَهُ الرَّحِيبَا
(حَتَّى) أيْ إلى أوانٍ (ابْتَنَى) أي بنَى فيهِ ﷺ والمهاجِرونَ والأنصارُ (مَسْجِدَهُ) الشّرِيفَ (الرَّحِيبَا) أي الواسِعَ.

ولَم يَزَل رسُولُ اللهِ ﷺ مُقِيمًا عندَ أبِي أيُّوبَ يَنزِلُ عليهِ القُرءانُ ويأتِيهِ فيه جِبريلُ عليهِ السّلامُ حَتَّى ءان أوانُ بِنَاءِ مسجِدِهِ الشرِيفِ الرَّحِيبِ الواسِعِ ومَعَهُ المهاجِرونَ والأنصَارُ، وكان ﷺ يَنقُل مَعَهُم اللَّبِنَ ترغيبًا لهم في العمَلِ ويقول: “اللهم إِنَّ العَيشَ عَيشُ الآخِرَةِ، فاغفِر لِلأَنصَارِ وَالمُهَاجِرَةِ“، وصدَقَ رسُولُ اللهِ ﷺ، واللهِ إنَّ العيشَ لَعَيشُ الآخِرَةِ، فإنَّه عَيشٌ دائِمٌ ونَعِيمٌ لا تَنغِيصَ فيهِ، بخِلَافِ عَيشِ الدُّنيَا فَإِنَّهُ نَاقِصٌ مُنَغَّصٌ زَائِلٌ، ومَا أَحسَنَ قَولَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمَهُ اللهُ في ذَمِّ الدنيَا:

وَمَن يَذُقِ الدُّنيَا فَإِنِّي طَعِمتُهَا *** وَسِيْقَ إِلَينَا عَذبُهَا وَعَذَابُهَا

فَلَم أَرَهَا إِلَّا غَرُورًا وَبَاطِلًا *** كَمَا لَاحَ فِي ظَهرِ الفَلَاةِ سَرَابُهَا

فَمَا هِيَ إِلَّا جِيفَةٌ مُستَحِيلَةٌ *** عَلَيهَا كِلَابٌ هَمُّهُنَّ اجتِذَابُهَا

فَإِن تَجتَنِبهَا كُنتَ سِلمًا لِأَهلِهَا *** وَإِن تَجتَذِبهَا نَازَعَتكَ كِلَابُهَا

بنَى رَسولُ اللهِ ﷺ مَسجِدَه النبوي وكان يُقَرِّبُ لهم اللَّبِنَ وما يحتاجونَ إليهِ، واجتهَدَ الرسُولُ ﷺ، فلَمَّا رأَى ذلِكَ المهاجرُونَ والأنصَارُ جَدُّوا واجتَهَدُوا وجعَلُوا يَرتجِزُونَ ويعمَلُونَ ويقُولُونَ:

لَئِن قَعَدنَا وَالنَّبِيُّ يَعمَلُ *** لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّلُ

وروَى البيهَقِيُّ عَنِ الحَسَنِ قالَ: لَمَّا بَنَى رسولُ اللهِ ﷺ المَسجِدَ أعانَهُ أصحَابُهُ وهُوَ معَهُم يتَنَاوَلُ اللَّبِنَ حتَّى اغبَرَّ صَدرُهُ.

ثم بَنَى رَسولُ اللهِ ﷺ مَسجِدَه وجَعلَ عُضادَتَيهِ الحِجارَةَ (العمود الذي يستند به الجدار ونحوه ، ومنه عضادتا الباب خشبتاه من جانبيه)، وسَوارِيَهُ جُذوعَ النَّخلِ، وسَقفَهُ جَرِيدَهَا، وَجَعَلَ ﷺ قِبلَةَ مَسجِدِهِ إلَى بيتِ المَقدِسِ، وجَعَلَ لهُ ثلاثَةَ أبوابٍ: بابٌ في مؤخَّرِهِ مِن جِهةِ الجَنوبِ وهُوَ بابُ أَبِي بكرٍ وهوَ في جِهةُ القِبلَةِ اليومَ، وبابُ عاتكَةَ ويُقالُ له: بابُ الرَّحمَةِ في جهَةِ المغرِبِ، والبابُ الذِي كانَ يَدخُلُ منهُ رَسولُ اللهِ ﷺ وهُوَ بَابُ عُثمانَ ويُسَمَّى الآنَ بابَ جبريلَ، ولما تحوّلتِ القبلةُ للكعبَةِ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ مِن الهِجرَةِ سُدَّ البابُ الذِي كانَ في المؤخَّرِ وفُتحَ بَابٌ فِي مُوَاجَهَةِ المسجِدِ بِالجِهَةِ الشَّمَالِيَّةِ، وأَتَى جبرِيلُ إلى الرَّسُولِ ﷺ فقالَ لَهُ: يا رسُولَ اللهِ، ضَعِ القِبلَةَ وَأَنتَ تَنظُرُ إِلَى الكَعبَةِ، ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ فَتَنَحَّى كُلُّ جَبَلٍ بَينَهُ وَبَينَهَا، فَوَضَعَ تَربِيعَ المَسجِدِ وَهُوَ يَنظُرُ إِلَى الكَعبَةِ لَا يَحُولُ دُونَ نَظَرِهِ شَيءٌ، فَلَمَّا فَرَغَ أَشَارَ جِبرِيلُ بِيَدِهِ فَأَعادَ الجِبَالَ وَالشَّجَرَ وَالأَشيَاءَ عَلَى حَالِهَا، وَصَارَت قِبلَتُهُ إِلَى مِيزَابِ الكَعبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “مَا وَضَعتُ قِبلَةَ مَسجِدِي هَذَا حَتَّى رُفِعَت لِيَ الكَعبَةُ فَوَضَعتُهَا أَمَامَهَا“.

وَلَمَّا اطمَأَنَّت بِرَسُولِ اللهِ ﷺ دَارُهُ، وأَظهَرَ اللهُ بِهَا دِينَهُ، وَسَرَّهُ مَا جُمِعَ إِلَيهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأنصَارِ مِن أهلِ وِلَايَتِهِ، ذكَرَ أبُو قَيسٍ بنُ أَبِي أَنَسٍ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بنِ النّجّارِ مَا أَكرَمَهُم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِن الإِسلَامِ وَمَا خَصّهُم الله بِهِ مِن نُزُولِ رَسُولِهِ ﷺ عَلَيهِم، وقال:

ثَوَى (أقام) فِي قُرَيشٍ بِضعَ عَشْرَةَ حِجَّةً (سنة) *** يُذَكِّرُ لَو يَلقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا (موافقا)

وَيَعرِضُ فِي أَهلِ المَوَاسِمِ نَفسَهُ *** فَلَم يَرَ مَن يُؤوَى وَلَم يَرَ دَاعِيَا

فَلَمَّا أَتَانَا أَظهَرَ اللهُ دِينَهُ *** فَأَصبَحَ مَسرُورًا بِطِيبَةَ رَاضِيَا

وَأَلفَى (وجد) صَدِيقًا وَاطمَأَنَّت بِهِ النَّوَى (البعد) *** وَكَانَ لَهُ عَونًا مِنَ اللهِ بَادِيَا

يَقُصُّ لَنَا مَا قَالَ نُوحٌ لِقَومِهِ *** وَمَا قَالَ مُوسَى إذ أَجَابَ المُنَادِيَا

فَأَصبَحَ لَا يَخشَى مِنَ النَّاسِ وَاحِدًا *** قَرِيبًا وَلَا يَخشَى مِنَ النَّاسِ نَائِيَا (بعيدا)

بَذَلنَا لَهُ الأَموَالَ مِن جُلِّ مَالِنَا *** وَأَنفُسَنَا عِندَ الوَغَى وَالتَّآسِيَا (التعاون)

نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِم *** جَمِيعًا وَإِن كَانَ الحَبِيبَ المُصَافِيَا

فَوَ اللهِ مَا يَدرِي الفَتَى كَيفَ يَتَّقِي *** إذَا هُوَ لَم يَجعَل لَهُ اللهُ وَاقِيَا

شُرِّفَتِ المَدِينَةُ بِهِجرَتِهِ عَلَيهِ السَّلَامُ إِلَيهَا وأَيُّ شَرَفٍ، وَصَارَت كَهفًا لِأَولِيَاءِ اللهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمَعقِلًا وَحِصنًا مَنِيعًا لِلمُسلِمِينَ، وَدَارَ هُدًى لِلعَالَمِينَ، ومِن أَحَبِّ البِلَادِ إِلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَو لَم يَكُن لَهَا فَضلٌ غَيرَ أَنَّهَا حَوَت جَسَدَهُ الشَّرِيفَ الطَّاهِرَ لَكَفَاهَا، فَمِن حُبِّ سَيِّدِ المُرسَلِينَ ﷺ حُبُّ المَدِينَةِ الَّتِي تَشَرَّفَت وتَنَوَّرَت بِوُجُودِهِ، فَأَوَّلُ زِيَارَةٍ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى المَدِينَةِ كَانَت فِي صِبَاهُ وَهُوَ ابنُ سِتِّ سِنِينَ، أَخَذَتهُ أُمُّهُ آمِنَةُ فِي زِيَارَةِ أَقَارِبِهِ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَيهَا وَهُوَ صَاحِبُ ثَلَاثٍ وخَمسِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِن أَعظَمِ الأَيَّامِ فِي المَدِينَةِ، وَقَالَ ﷺ: “اللهم حَبِّب إِلَينَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَو أَشَدَّ حُبًّا، وَصَحِّحهَا وَبَارِك فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانقُل حُمَّاهَا فَاجعَلهَا بِالجُحفَةِ“، هِيَ مدينةُ الرَّسولِ الكريمِ ﷺ، مهبِطُ الوحيِ، ومُتَنَزَّلُ جبريلَ الأمينِ، هي مَأرِزُ الإيمانِ، وملتقَى المهاجِرِينَ والأَنصَارِ، ومَوطِنُ الذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَارَ وَالإِيمَانَ، وَهيَ العاصِمَةُ الأُولَى للمُسلِمِينَ، فيها عُقِدَت ألوِيَةُ الجهادِ فِي سبِيلِ اللهِ فانطَلَقَت كتَائِبُ الحَقِّ لِإِخرَاجِ الناسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمِنهَا شَعَّ النُّورُ، فَأَشرَقَتِ الأَرضُ بِنُورِ الهِدَايَةِ، وَهِيَ دارُ هِجرَةِ المُصطَفَى ﷺ، إِلَيَها هَاجَرَ، وَعَاشَ فِيهَا آخِرَ حيَاتِهِ ﷺ، وبِهَا مَاتَ، وفِيهَا دُفِنَ، ومِنهَا يُبعَثُ، وقَبرُهُ أولُ القُبُورِ انشِقَاقًا عَن صَاحِبِه، وَلَا يُقطَعُ بمَكَانِ قَبرِ أَحَدٍ مِن الأنبِيَاءِ سوَى مكَانِ قبرِهِ ﷺ، وهذِهِ المدِينَةُ المباركةُ شرَّفَهَا اللهُ وفضَّلَهَا، وجعَلَهَا خيرَ البقَاعِ بعدَ مكَّةَ.

والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله….

فائدة للتحصين والحفظ
وفيها آيات الحفظ من القرآن الكريم

💬 قال الدَّميري في (حياة الحيوان): «كان أبو محمد عبد الله بن يحيى بن أبي الهيثم المصعبي من أصحاب الشافعي إمامًا صالحًا من أهل اليمن من أقران صاحب البيان، وكان محافظًا على قراءة هذه الآيات»

قال: «كنت خرجت يومًا في جماعة فرأينا ذئبًا يلاعب شاة عجفاء ولا يضرها شيئًا فلما دنونا منها نفر منّا الذئب فتقدمنا إلى الشّاة فوجدنا في عنقها كتابًا مربوطًا فيه هذه الآيات»:

وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً.
وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ.
إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ.
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ.
إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ.
وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ.
وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ.
وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ.
وَحِفْظًا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل.
فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.
وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ.
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ.
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ.
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ.
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ.
💡 قال بعض العلماء: من داوم على قراءتها صباحًا ومساءً حصل له:

حفظ وعناية وأَمِنَ مما يخاف.
وتقرأ على الملبوس وعلى من يتبعه جني.
وتقرأ على المريض.
وإذا كتبت وعلقت على الصبي المقرون نفعته أو على المرأة الحامل التي يأتيها القرين نفعتها.
وحملها ينفع من حيث الإجمال من التوابع ومن شرّ الإنس والجن والدواب والأمراض وغير ذلك إن شاء الله تعالى وخصوصًا إذا كتب قبلها ءاية الكرسي.
📚 ذكر ذلك السبكي في الطبقات.

⚠️ مع التنبيه أنه ينبغي قراءتها قراءة صحيحة وبالتلقي.

والله تعالى أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين.

دعاء
اللهم علِّمنا ما ينفَعُنا وانفَعنَا بما علَّمتَنا وزِدنَا علمًا اللهم إنا نسأَلُك الهُدى والتُّقَى والعفافَ والغنَى اللهم يا مصرِّفَ القلوبِ صَرِّف قلوبَنَا على طاعتِك اللهم إنا ظَلَمنا أنفسَنَا ظلمًا كثيرًا وإنَّا تُبنَا إليكَ فاغفِر لنا يا أرحمَ الراحمينَ فاغفِر لنا يا أكرمَ الأكرمينَ فإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت وارحَمنا إنك أنت الغفورُ الرحيمُ اللهم إنا سألناك علمًا نافعًا وعملًا صالحًا متقبلًا ورزقًا حلالًا طيبًا اللهم قِنَا عذابَك يومَ تبعثُ عبادَك اللهم إنا نعوذُ بك من قلبٍ لا يَخشعُ ونداءٍ لا يُسمَعُ ومن نفسٍ لا تَشبعُ ومن علمٍ لا ينفعُ اللهم اجعلنا هداةً مهتدينَ غيرَ ضالِّينَ ولا مضلِّين اللهم قنَا شرَّ ما نتخوفُ اللهم يا اللهُ يا اللهُ إنا نسأَلُك بحبِيبِكَ محمدٍ وبحبِّكَ لحبيبِكَ محمدٍ أن تُحَقِّقَ لنا ما طلَبنَا يا رازِقَنَا يا خالِقَنَا أنت ربُّنَا تفعلُ بنا ما تشَاءُ فاغفِر لَنَا وارحَمنَا وسَامِحنَا وأعِنَّا عَلَى طَاعَتِكَ.

اللهم إنا نسألك باسمك القهار أنْ تقهر من قهر إخواننا في فلسطين، ونسألك أن تنصرهم على القوم المجرمين. اللهم ارفع الحصار عن غزة وانصر أهلها على الظلم والعدوان. اللهم منزّل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم زلزل أقدامهم ونكس أعلامهم وأذهب ريحهم اللهم آمين.

اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، اللهم إنا نستودعك فلسطين وأهلها وأرضها وسماءها، رجالها ونساءها وأطفالها، اللهم فاحفظها من كل شر وسوء يا من لا تضيع عنده الودائع، اللهم من أراد بها أو بأهلها السوء فاجعل دائرة السوء تدور عليه يا رب العالمين. اللهُم كُن لأهل غزة عونًا ونصيرًا، وبدّل خوفهم أمنًا.

اللهم أعِنَّا علَى الصيامِ والقِيامِ وتقبَّل منَّا يا رَبَّ العالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عتقَاءِ هذَا الشهرِ الكريمِ ومِنَ المقبُولِينَ يا أكرَمَ الأكرَمِينَ، اللهم أعتِقنَا فِيهِ مِنَ النيرَانِ يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ، اللهم أرِنَا ليلَةَ القدرِ المبارَكَةِ يا رَبَّ العالمينَ وارزُقنَا فيهَا دعوَةً مجَابَةً بجَاهِ سَيِّدِ الأولِينَ وَالآخِرِينَ يا اللهُ، اللهم توفَّنَا عَلَى كامِلِ الإيمَانِ وارزُقنَا شهَادَةً في سبيلِكَ ومَوْتًا في بلَدِ نبيِّكَ ﷺ، واحشرنا على نُوقٍ رحَائِلُهَا مِن ذهَبٍ آمنِينَ مطمَئِنِّينَ يا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم ارزقنَا حُسنَ الخِتَامِ والمَوتَ على دِينِكَ دينِ الإسلامِ ورؤيَةَ سيدِ الأنَامِ سيدنَا مُحَمَّدٍ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، احشُرنَا فِي زُمرَتِهِ وأَورِدنَا حوضَهُ الشريفَ يا ربَّ العالمين.

وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على سيدِ الأنبياءِ والمرسلِينَ وسلَامٌ علَى المُرسَلِينَ والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ.

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …