شرح ألفية السيرة النبوية للحافظ زين الدين العراقي (17)

المقدمة

الحَمدُ للهِ سَامِعِ السِّرِّ وَالنَّجوَى، وَكَاشِفِ الضُّرِّ وَالبَلوَى، وَمُغِيثِ المُتَلَهِّفِ قَبلَ الشَّكوَى، وَمُبَلِّغِ المُؤَمِّلِ غَايَةَ أَمَلِهِ القُصوَى، كَم نَشَرَ آثَارَ عَدلِهِ وَكَم أَغبَقَ فَضلُهُ وَأَروَى، مَن تَفَكَّرَ فِي ذَاتِهِ وَقَعَ بَعِيدَ المَهوَى، وَمَن خَالَفَهُ بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ ضَرَّهُ مَا يَهوَى، لَا يُثِيبُ عَلَى صُوَرِ العِبَادِ وَإِنَّمَا يُعطِي عَلَى التَّقوَى، أَهلَكَ فِرعَونَ وَقَد أَضَلَّهُ وَأَغوَى، إِلَى أَن غَرِقَ يَومَ اليَمِّ أَينَ المُنقَلَبُ وَالمَثوَى، كَم أَهلَكَتِ الذُّنُوبُ مَن كَانَ أَكثَرَ مِنهُ وَأَقوَى، ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ﴾، أَحمَدُهُ عَلَى صَرفِ الهَمِّ وَالجَوَى، حَمدَ مَن أَنَابَ وَارعَوَى، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا نَشَرَ وَطَوَى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ أَرسَلَهُ وَعُودُ الهُدَى قَد ذَوَى، فَسَقَاهُ مَاءَ المُجَاهَدَةِ حَتَّى ارتَوَى، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيهِ وَعَلَى أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ صَاحِبِهِ إِن رَحَلَ أَو ثَوَى، وَعَلَى الفَارُوقِ الَّذِي وَسَمَ بِجِدِّهِ جَبِينَ كُلِّ جَبَّارٍ وَكَوَى، وعَلَى ذِي النُّورَينِ الصَّابِرِ عَلَى الشَّهَادَةِ سَاكِنًا مَا التَوَى، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي زَهِدَ فِي الدُّنَيا فَبَاعَهَا وَمَا احتَوَى، أَمَّا بَعدُ:

أحداث ومجريات السنة الثانية من الهجرة
ونزَلَت ءَايَاتٌ في بَنِي إسرَائِيلَ وَفِيهَا دَعوَتُهُم للإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، قالَ اللهُ سُبحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿يا بَنِي إِسرائِيلَ اذكُرُوا نِعمَتِيَ الَّتِي أَنعَمتُ عَلَيكُم وَأَوفُوا بِعَهدِي أُوفِ بِعَهدِكُم وَإِيَّايَ فَارهَبُونِ﴾.

رُوِيَ عنِ ابنِ مسعُودٍ رضي الله عنه أنَّهُ قالَ: قالَ اللهُ تعالَى لِلأَحبَارِ مِن يَهُودَ: اذكُرُوا نِعمَتِيَ الَّتِي أَنعَمتُ عَلَيكُم لِمَا كانَ نَجَّاهُم مِن فِرعَونَ وَقَومِهِ، وَأَوفُوا بِعَهدِي الَّذِي أَخَذتُ فِي أَعنَاقِكُم لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا جاءَكُم أنْ تُؤمِنُوا بِهِ، أُوفِ بِعَهدِكُم، يقُولُ: أَرضَ عَنكُم وَأُدخِلُكُمُ الجَنَّةَ.

ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهُمَا أَنَّهُ قالَ في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾، أَي لَا تَخلِطُوا الصِّدقَ بِالكَذِبِ، ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، أَي لَا تَكتُمُوا الحَقَّ وأَنتُم قَد عَلِمتُم أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَسُولُ اللهِ.

ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ وابنُ المُنذِرِ عَنِ ابنِ جُرَيجٍ عَن بعضِ مَن أسلَمَ مِن أهلِ الكِتَابِ، قالَ: وَاللهِ لَنَحنُ أَعرَفُ بِرَسُولِ اللهِ مِنَّا بِأَبنَائِنَا مِن أَجلِ الصِّفَةِ وَالنَّعتِ الَّذِي نَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا، أمَّا أبنَاؤُنَا فلَا نَدرِي مَا أَحدَثَ نسَاؤُنَا (يعنِي يَشُكُّونَ بِأَبنَائِهِم، فَلَعَلَّ زوجَاتِهِم زَنَينَ وَأَتَينَ بِهَؤُلَاءِ الأَولَادِ، وَلَا يَشُكُّونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فِي كَونِهِ نَبِيًّا أَم لَا).

ورَوَى أَبُو سَعِيدٍ النَّيسَابُورِيُّ فِي الشَّرَفِ عَنِ سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ قَالَ: جَاءَ مَيمُونُ بنُ يَامِينَ، وكانَ رَأسَ يَهُودَ، إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابعَث إِلَيهِم وَاجعَلنِي حَكَمًا بَينَهُم فَإِنَّهُم يَرجِعُونَ لِي، فَأَدخَلَهُ دَاخِلًا، ثُمَّ أرسَلَ إلَيهِم فَأَتَوهُ، فَخَاطَبُوهُ، فَقَالَ: “اختَارُوا رَجُلًا يَكُونُ حَكَمًا بَينِي وَبَينَكُم“، قالُوا: قَد رَضِينَا مَيمُونَ بنَ يَامِينَ، فلَمَّا خرَجَ إِلَيهِم قَالَ: أَشهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، فَأَبَوا أَن يُصَدِّقُوهُ.

وَقَد حَصَلَ أَن سَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ اليَهُودَ أَن يَتَمَنَّوُا المَوتَ إِن كَانُوا صَادِقِينَ فِي دَعوًى ادَّعَوهَا، قَالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، فقَد رَوَى ابنُ جَرِيرٍ عَن أَبِي العَالِيَةِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اليَهُودُ: لَن يَدخُلَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَو نَصَارَى، وَقَالُوا: نَحنُ أَبنَاءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ، فَاَنزَلَ اللهُ تَعَالَى الآيةَ الأُولَى وَتَحَدَّاهُم أَن يَتَمَنَّوُا المَوتَ إِن كَانُوا صَادِقِينَ فَلَم يَفعَلُوا.

وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: “إِن كُنتُم فِي مَقَالَتِكُم صَادِقِينَ فَقُولُوا: اللهم أَمِتنَا، فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنكُم إِلَّا غُصَّ بَرِيقِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ“، فَأَبَوا أَن يَفعَلُوا، فَنَزَلَ: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، أي عَلِيمٌ بِأَنَّهُم لَن يَتَمَنَّوا.

وجَاءَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهُمَا عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنّهُ قالَ: “لَو أَنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوُا المَوتَ، لَمَاتُوا وَلَرَأَوا مَقَاعِدَهُم مِنَ النَّارِ“.

ولمَّا نزَلَ قولُهُ تعَالَى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، وقَولَهُ تعَالَى: ﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾، دَخَلَ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ عَلَى يَهُودَ فِيمَا يُسَمُّونَهُ بَيتَ المَدَارِسِ (وَهُوَ البَيتُ الَّذِي يَقرَأُ فِيهِ أَهلُ الكِتَابِ كُتُبَهُم)، بَعدَ نُزُولِ قَولِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، وهنا وقبل أن نكمل ما حصل مع أبي بكر نتكلم عن هذه الآية:

روى القرطبي فقال: قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَمَّا نَزَلَ: ((مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)) قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ واسمه ثابت: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ يَسْتَقْرِضُنَا وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْقَرْضِ؟ قَالَ: “نَعَمْ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ بِهِ”. قَالَ: فَإِنِّي إِنْ أَقْرَضْتُ رَبِّي قَرْضًا يَضْمَنُ لِي بِهِ وَلِصِبْيَتِي مَعِي الْجَنَّةَ؟ قَالَ: “نعم” قال: فناولني يدك، فناوله رسوله اللَّهِ ﷺ يَدَهُ. فَقَالَ: إِنَّ لِي حَدِيقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالسَّافِلَةِ وَالْأُخْرَى بِالْعَالِيَةِ، وَاللَّهِ لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا، قَدْ جَعَلْتُهُمَا قَرْضًا لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “اجْعَلْ إِحْدَاهُمَا لِلَّهِ وَالْأُخْرَى دَعْهَا مَعِيشَةً لَكَ وَلِعِيَالِكَ” قَالَ: فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ خَيْرَهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ حَائِطٌ أي بستان فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ. قَالَ:” إِذًا يُجْزِيكَ اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ”. فَانْطَلَقَ أَبُو الدَّحْدَاحِ حَتَّى جَاءَ أُمَّ الدَّحْدَاحِ وَهِيَ مَعَ صِبْيَانِهَا فِي الْحَدِيقَةِ تَدُورُ تَحْتَ النَّخْلِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

هَدَاكِ رَبِّي سُبُلَ الرَّشَادِ … إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالسَّدَادِ

بِينِي مِنَ الْحَائِطِ بِالْوِدَادِ … فَقَدْ مَضَى قَرْضًا إِلَى التَّنَادِّ (يعني إلى يوم القيامة)

أَقْرَضْتُهُ اللَّهَ عَلَى اعْتِمَادِي … بِالطَّوْعِ لَا مَنٍّ وَلَا ارْتِدَادِ

إِلَّا رَجَاءَ الضِّعْفِ فِي الْمَعَادِ … فَارْتَحِلِي بِالنَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ

وَالْبِرُّ لَا شَكَّ فَخَيْرُ زَادِ … قَدَّمَهُ الْمَرْءُ إِلَى الْمَعَادِ

قَالَتْ أُمُّ الدَّحْدَاحِ: رَبِحَ بَيْعُكَ! بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا اشْتَرَيْتَ (وهذا الفعل منها رضي الله عنها يدل على أنها امرأة صالحة تعين زوجها على النفقة والصدقة في سبيل الله ليس كحال الكثيرات)، ثُمَّ أَجَابَتْهُ أُمُّ الدَّحْدَاحِ وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:

بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ وَفَرَحْ … مِثْلُكَ أَدَّى مَا لَدَيْهِ وَنَصَحْ

قَدْ مَتَّعَ اللَّهُ عِيَالِي وَمَنَحْ … بِالْعَجْوَةِ السَّوْدَاءِ وَالزَّهْوِ الْبَلَحْ

وَالْعَبْدُ يَسْعَى وَلَهُ مَا قَدْ كَدَحْ … طُولَ الليالي وعليه ما اجْتَرَحْ

ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّ الدَّحْدَاحِ عَلَى صِبْيَانِهَا تُخْرِجُ مَا فِي أَفْوَاهِهِمْ وَتُنَفِّضُ مَا فِي أَكْمَامِهِمْ حَتَّى أَفْضَتْ إِلَى الْحَائِطِ الْآخَرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “كَمْ مِنْ عِذْقٍ [أي غصن النخل] رَدَاحٍ [ثقيل] وَدَارٍ فَيَّاحٍ [أي واسعةٍ] لِأَبِي الدَّحْدَاحِ”.اهـ

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:” انْقَسَمَ الْخَلْقُ بِحُكْمِ الْخَالِقِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ أَقْسَامًا، فَتَفَرَّقُوا فِرَقًا ثَلَاثَةً: الْفِرْقَةُ الْأُولَى الرَّذْلَى [أي الأقبح والأسوء] قَالُوا: إِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ مُحْتَاجٌ فَقِيرٌ إِلَيْنَا وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، فَهَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ))، وهم اليهود لعنهم الله.

الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ لَمَّا سَمِعَتْ هَذَا الْقَوْلَ آثَرَتِ الشُّحَّ وَالْبُخْلَ وَقَدَّمَتِ الرَّغْبَةَ فِي الْمَالِ، فَمَا أَنْفَقَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا فَكَّتْ أَسِيرًا وَلَا أَعَانَتْ أَحَدًا، تَكَاسُلًا عَنِ الطَّاعَةِ وَرُكُونًا إِلَى هَذِهِ الدَّارِ. (وهم البخلاء الذين يبخلون بما وجب عليهم من الإنفاق من أموالهم طلبًا للدنيا)، نسأل الله أن لا يجعلنا منهم. الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ لَمَّا سَمِعَتْ بَادَرَتْ إِلَى امْتِثَالِهِ وَآثَرَ الْمُجِيبُ مِنْهُمْ بِسُرْعَةٍ بِمَالِهِ كَأَبِي الدَّحْدَاحِ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ. (نسأل الله أن يجعلنا منهم ويجعلنا من المتصدقين في الليل والنهار سرًّا وعلانية).

(وهذا فيه بيان ثواب الصدقة وعظم أمرها في الدين، وأعظم الصدقة هي التي تكون لنصرة الدين ولإعلاء كلمته ولنشر العلم بين الناس كما تقوم على ذلك جمعيتنا ولله الحمد) (فالصدقة تجارة رابحة تزيد المال ولا تُنقِصُه بإذن الله، فالمال مال الله والله هو الرزاق، يعطي من يشاء ما يشاء، يقول الله تعالى: [مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]) (وقال رسوله الكريم ﷺ: «مَا نَقَص مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَة»، ثم جاءت سنة النبيِّ ﷺ لتؤكِّد بالقول والفعل على هذا الأمر وتحضَّ عليه، وتبيِّنَ فضلَه وعظيم ثوابه، وسار الصحابة رضي الله عنهم على الدرب، فمنهم من ترك ماله كله لله، ومنهم من ترك نصفَه، ومنهم من ترك ثلثيه، ومنهم من ترك ثلثه، ومنهم من تصدَّق باليسير من المال أو الطعام، أو أعان المحتاج وغير ذلك.

فبعد هذه الأمثلة الرائعة من رسول الله ﷺ وصحابته الكرام التي نسمع بها، فلنسأل أنفسنا: تُرى أين نحنُ من هذه البطولات والجرأةِ والإقدام في العطاءات؟ فهل أنقذنا ملهوفًا؟ وهل أسعفنا محتاجًا وهل أنقذنا مضطرًّا؟ وهل خرجنا من أموالنا أو من بعضها لتأييد عقيدة رسول الله ﷺ ونصرتها وبثِّها والمحافظة عليها؟ هل نحن مستعدُّونَ لنفعلَ كما فعلَ الأجوادُ الأسخياء من الأولياء والصُّلحاء؟ وليكن جوابك على هذه الأسئلة لنفسك لا لي، فقدّم لقبرك وءاخرتك قبلَ أن تخسرَ هذا المال، أو قبل أن تموتَ فيرثه من لا يتصدق عنك بفلسٍ، وكن كريمًا على نفسك بإنفاقك على الفقراء والمصالح الإسلامية لأجل نفسك، ولا سيّما في أيامنا هذه التي أصبحَ فيها أهل السنة وعيقدتهم كاليتيم الذي لا كافل له، وحيث كثر الفقراء وامتلأت البلاد بالمحتاجين من المسلمين بسبب غفلة الكثيرين من الأغنياء فضيَّعوا من حيث الغالب الفقراء والمصالح الإسلامية وازداد عددُ المنكوبين والمضطرّين زيادة ظاهرةً ملحوظةً في أكثر البلاد والبقاع والأسقاع، فهبُّوا لنجدة المحتاجين ولنجدة أهل السنة وأسرعوا لإغاثة الملهوفين قبل أن تصيروا في عداد الأموات من أهل البرزخ تحت التراب) وَلذلك كان يقول شيخنا رحمه الله: «التَّبَرُّعُ لِلْجَمْعِيَّةِ لِمُكَافَحَةِ الضَّلَالِ أَفْضَلُ ما ينفق فيه المال»، لأننا بهذا المال الذي يأتينا ننشر الفروض ونحذر من الكفر ونطمس المنكرات بين الناس وفي مجتمعاتهم.

فَوَجَدَ أبو بكر مِنهُم نَاسًا كَثِيرًا قَد اجتَمَعُوا إلَى رَجُلٍ مِنهُم يُقَالُ لَهُ فِنحَاصُ، وَكَانَ مِن عُلَمَائِهِم وَأَحبَارِهِم، وَمَعَهُ حَبرٌ مِن أَحبَارِهِم يُقَالُ لَهُ: أَشيَعُ، فَقَالَ أَبُو بَكرٍ لِفِنحَاصٍ: وَيحَك يَا فِنحَاصُ! اتّقِ الله وَأَسلِم، فَوَ اللهِ إنَّكَ لَتَعلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا لَرَسُولُ اللهِ قَد جَاءَكُم بِالحَقِّ مِن عِندِهِ تَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَكُم فِي التَّورَاةِ والإِنجِيلِ، فقَالَ فِنحَاصُ لِأَبِي بَكرٍ: وَالله يَا أَبَا بَكرٍ، مَا بِنَا إلَى الله مِن فَقرٍ، وَإِنّهُ إلَينَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرّعُ إلَيهِ كَمَا يَتَضَرّعُ إلَينَا، وَإِنّا عَنهُ لَأَغنِيَاءُ، وَمَا هُوَ عَنَّا بِغَنِيٍّ، وَلَو كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا استَقرَضَنَا أَموَالَنَا كَمَا يَزعُمُ صَاحِبُكُم، يَنهَاكُم عَنِ الرِّبَا وَيُعطِينَاهُ، وَلَو كَانَ عَنّا غَنِيًّا مَا أَعطَانَا الرِّبَا (مُرَادُهُ قولُهُ تعَالَى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾)

فلما سمع أبو بكر قول فنحاص غَضِبَ فَضَرَبَ وَجهَ فِنحَاصَ ضَربًا شَدِيدًا، وَقَالَ: وَاَلّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَولَا العَهدُ الّذِي بَينَنَا وَبَينَكُم لَضَرَبتُ رَأسَك أَي عَدُوَّ الله، قَالَ: فَذَهَبَ فِنحَاصُ إلَى رَسُولِ الله ﷺ، فقال: يا مُحَمّدُ اُنظُر مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُك، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ لأبي بَكرٍ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعت؟، فَقَالَ أَبُو بَكرٍ: يَا رَسُولَ الله، إنّ عَدُوّ الله قَالَ قَولًا عَظِيمًا، إنّهُ زَعَمَ أَنّ الله فَقِيرٌ وَأَنّهُم أَغنِيَاءُ، فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبتُ للهِ مِمَّا قَالَ وَضَرَبتُ وَجهَهُ، فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنحَاصُ وَقَالَ: مَا قُلتُ ذَلِكَ، فَأَنزَلَ الله تَعَالَى فِيمَا قَالَ فِنحَاصُ رَدّا عَلَيهِ وَتَصدِيقًا لِأَبِي بَكرٍ: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾.

وَنَزَلَ فِي أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِن الغَضَبِ: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.

وهذَا فِنحَاصُ لَعَنَهُ اللهُ وَصَفَ اللهَ بِالبُخلِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾، قالَ ابنُ عباسٍ: إِنَّ اللهَ كانَ قَد بَسَطَ عَلَى اليَهُودِ حَتَّى كانُوا أكثَرَ الناسِ أموَالًا وأخصَبَهُم ناحِيَةً، فَلَمَّا عَصَوُا اللهَ وَمُحَمَّدًا ﷺ وَكَذَّبُوا بِهِ كفَّ عَنهُم مَا بَسَطَ عَلَيهِم مِنَ السَّعَةِ، فَعِندَ ذَلِكَ قَالَ فِنحَاصُ: يَدُ اللهِ مَغلُولَةٌ، يَعنِي مَحبُوسَةٌ مَقبُوضَةٌ عَنِ الرزقِ والبذلِ والعطاءِ، فنَسَبُوا اللهَ تعالى إلى البُخلِ والقَبضِ، تعالَى اللهُ عن قَولِهم عُلُوًّا كَبِيرًا، وَلَمَّا قَالَ هَذِهِ المَقَالَةَ الخَبِيثَةَ فِنحَاصُ وَلَم يَنهَهُ بَقِيَّةُ اليَهُودِ ورَضُوا بِقَولِهِ لَا جَرَمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَشرَكَهُم مَعَه فِي هَذِهِ المَقَالَةِ، فَقَالَ تَعَالَى إِخبَارًا عَنهُم: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾.

زاد تعنت اليهود والمنافقين وكثر كيدهم للنبي ﷺ ولدعوته الشريفة، وعمدوا إلى سؤاله أسئلة عديدة ليس لحب العلم ولا لطلبه ولكن لتعجيزه، فظهر لهم جليًّا صدق الرسول وأنه نبي الله وخاتم النبيين، ومع ذلك أصروا على كفرهم والعياذ بالله.

روَى ابنُ جَرِيرٍ عَن مُحَمَّدِ بنِ كَعبٍ القُرَظِيِّ قال: جاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بنُ الضَّيفِ وَمَعَهُ جمَاعَةٌ، فَخَاصَمَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالُوا: يا أبَا القَاسِمِ، أَلَا تَأتِنَا بكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى أَلوَاحًا، فَأَنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، فقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: “أَنشُدُكَ بِالَّذِي أَنزَلَ التَّورَاةَ عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِدُ فِي التَّورَاةِ أَنَّ اللهَ يُبغِضُ الحَبرَ السَّمِينَ؟”، وَكَانَ مَالِكٌ هذَا حَبرًا سَمِينًا، وحتى في شريعتنا ذمُ السِّمَن لمن تكلفه بالإسراف في الملذات من الطعام والشراب والاشتغال به عن العمل النافع الصالح الذي يستغرق على المسلم عمره ووقته.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. وَقَالَ اقْرَءُوا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) رواه البخاري ومسلم قال النووي رحمه الله: “فيه ذم السِّمَن”. انتهى.

فغَضِبَ وقالَ: واللهِ مَا أنزَلَ اللهُ علَى بَشَرٍ مِن شَيءٍ، فَقَالَ لهُ أَصحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ: وَيحَكَ!، ولَا عَلَى مُوسَى؟، فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيءٍ، فأَنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ نَقضًا لِقَولِهِم وَرَدًّا عَلَيهِم: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾، ثُمَّ صَارَ هَذَا الكَافِرُ يَهجُو النَّبِيَّ ﷺ ويَسُبُّهُ، فَأَهدَرَ النبيُّ ﷺ دمَهُ، فقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بنُ مَسلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

وَسَأَلَ اليهودُ النبيَّ ﷺ عَن أشياءَ لَا يعرِفُهَا إلا نَبِيٌّ فأجَابَهُم وقالُوا أصَابَ، لكنَّهُم عانَدُوا وتمرَّدُوا عَنِ الإِيمَانِ بهِ.

فقَد روَى البَيهَقِيُّ والطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَضَرَت جماعَةٌ مِنَ اليَهُودِ يَومًا عندَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: يَا محمدُ حَدِّثنَا عَن أشياءَ نَسأَلُكُ عَنهَا لَا يَعلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَ: “سَلُوا عَمَّا شِئتُم، وَلَكِنِ اجعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللهِ وَمَا أَخَذَ يَعقُوبُ عَلَى بَنِيهِ، إِن أَنَا حَدَّثتُكُم بِشَيءٍ تَعرِفُونَهُ صِدقًا لَتُبَايِعُنِّي عَلَى الإِسلَامِ“، قَالُوا: لَكَ ذَلِكَ، قَالَ: “فَسَلُونِي عَمَّا شِئتُم“، قَالُوا: أَخبِرنَا عَنِ الطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَ إِسرَائِيلُ (يعقوبُ) عَلَى نَفسِهِ مِن قَبلِ أَن تُنَزَّلَ التَّورَاةُ، وَأَخبِرنَا عَن مَاءِ الرَّجُلِ كَيفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنهُ حَتَّى يَكُونَ ذَكَرًا، وَكَيفَ تَكُونُ الأُنثَى مِنهُ حَتَّى تَكُونَ أُنثَى؟ وَأَخبِرنَا كَيفَ هَذَا النبيُّ الأميُّ فِي النَّومِ؟ وأخبِرنَا مَا هذَا الرَّعدُ؟ وَمَن وَلِيُّكَ مِنَ المَلَائِكَةِ؟ قَالَ: “فَعَلَيكُم عَهدُ اللهِ لَئِن أَنَا حَدَّثتُكُم لَتُبَايِعُنِّي“، فَأَعطَوهُ مَا شَاءَ اللهُ مِن عَهدٍ وَمِيثَاقٍ.

قَالَ: “أَنشُدُكُم بِاللهِ الَّذِي أَنزَلَ التَّورَاةَ عَلَى مُوسَى هَل تَعلَمُونَ أَنَّ إِسرَائِيلَ (يَعقُوبَ) مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا طَالَ سَقَمُهُ مِنهُ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذرًا لَئِن شَفَاهُ اللهُ مِن سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ (أي يَمنَعَنَّ نفسَهُ) أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيهِ، وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيهِ أَلبَانَ الإِبِلِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيهِ لُحمَانَ الإِبِلِ؟“، قَالُوا: اللهُمَّ نَعَم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “اللهُمَّ اشهَد عَلَيهِم“، قَالَ: “أَنشُدُكُم بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي أَنزَلَ التَّورَاةَ عَلَى مُوسَى، هَل تَعلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبيَضُ وَمَاءَ المَرأَةِ أَصفَرُ رَقِيقٌ فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ لَهُ الوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذنِ اللهِ، وَإِن عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرأَةِ كَانَ ذَكَرًا بِإِذنِ اللهِ، وَإِن عَلَا مَاءُ المَرأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَت أُنثَى بِإِذنِ اللهِ؟“، قَالُوا: اللهُمَّ نَعَم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “اللهُمَّ اشهَد“، قَالَ: “أَنشُدُكُم بِاللهِ الَّذِي أَنزَلَ التَّورَاةَ عَلَى مُوسَى، هَل تَعلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ تَنَامُ عَينَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلبُهُ؟“، قَالُوا: اللهُمَّ نَعَم، قَالَ: “اللهُمَّ اشهَد عَلَيهِم“، وقالَ: “الرَّعدُ مَلَكٌ مِن مَلاَئِكَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مُوَكَّلٌ بالسَّحَابِ بِيَدِهِ أَو فِي يَدِهِ مِخرَاقٌ مِن نَارٍ يَزجُرُ بِهِ السَّحَابَ يَسُوقُهُ حَيثُ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ“، قالوا: فمَا هذَا الصَّوتُ؟ قالَ: “صوتُه“، قالُوا: صدَقتَ، قَالُوا: أَنتَ الآنَ حَدِّثنَا من وَلِيُّكَ مِنَ المَلَائِكَةِ؟، قَالَ: “وَلِيِّي جِبرِيلُ، وَلَم يَبعَثِ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ“، قَالُوا: فَعِندَهَا نُفَارِقُكَ، لَو كَانَ وَلِيُّكَ غَيرَهُ مِنَ المَلَائِكَةِ لَتَابَعنَاكَ وَصَدَّقنَاكَ، قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا مِنَ المَلَائِكَةِ، فَأَنزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَنَزَلَت: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.

وروَى الترمذِيُّ عَن صَفوَانَ بنِ عَسَّالٍ قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذهَب بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ فَنَسأَلَهُ، فَقَالَ الآخَرُ: لَا تَقُل نَبِيٌّ، فَإِنَّهُ إِن سَمِعَكَ تَقُولُ نَبِيٌّ كَانَت لَهُ أَربَعَةُ أَعيُنٍ، فَانطَلَقَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَاهُ عَن قَولِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾، قَالَ: “لَا تُشرِكُوا بِاللهِ شَيئًا، وَلَا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَلَا تَزنُوا، وَلَا تَسرِقُوا، وَلَا تَسحَرُوا، وَلَا تَمشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلطَانٍ فَيَقتُلَهُ، وَلَا تَأكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحفِ، وَلَا تَقذِفُوا مُحصَنَةً وَعَلَيكُم خَاصَّةً معاشر اليَهُودَ أَن لَا تَعتدُوا فِي السَّبتِ“، فَقَبَّلَا يَدَيهِ وَرِجلَيهِ، وَقَالَا: نَشهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، قَالَ: “فَمَا يَمنَعُكُمَا أَن تُسلِمَا“، فَقَالَا: إِنَّ دَاوُدَ سَأَلَ رَبَّهُ أَلَّا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَنَحنُ نَخَافُ إِن تَبِعنَاكَ أَن تَقتُلَنَا اليَهُودَ. وهذا كذب على داود.

وروَى مسلِمٌ في الصَّحِيحِ والبَيهَقِيُّ عَن ثَوبَانَ قَالَ: كُنتُ قَائِمًا عِندَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَاءَ حَبرٌ مِن أَحبَارِ اليَهُودِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيكُم يَا مُحَمَّدُ، جِئتُ أَسأَلُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “يَنفَعُكَ شَيءٌ إِن حَدَّثتُكَ“، قَالَ: أَسمَعُ بِأُذُنِي فَنَكَتَ بِعُودٍ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ: “سَل“، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: أَينَ النَّاسُ يَومَ تُبَدَّلُ الأَرضُ غَيرَ الأَرضِ وَالسَّمَوَاتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “فِي الظُّلمَةِ دُونَ الجِسرِ“، قَالَ: فَمَن أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً (أي يجُوزُونَ الصِّرَاطَ)، قَالَ: “فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ (أي بعدَ الأنبِيَاءِ، والمَعنَى أَنَّهُم مِن أوَّلِ مَن يَجُوزُونَهُ)”، قَالَ اليَهُودِيُّ: فَمَا تُحفَتُهُم حِينَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ، قَالَ: “زِيَادَةُ كَبِدِ نُونٍ [أي الحوت]“، قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُم عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: “يُنحَرُ لَهُم ثَورُ الجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأكُلُ مِن أَطرَافِهَا“، قَالَ: مَا شَرَابُهُم عَلَيهِ؟ قَالَ: “مِن عَينٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلسَبِيلًا“، قَالَ: صَدَقتَ، قَالَ: وَجِئتُ أَسأَلُكَ عَن شَيءٍ لَا يَعلَمُهُ أَحَدٌ مِن أَهلِ الأَرضِ إِلَّا نَبِيٌّ أَو رَجُلٌ أَو رَجُلَانِ، قَالَ: “يَنفَعُكَ إِن حَدَّثتُكَ؟“، قَالَ: أَسمَعُ بِأُذُنِي، قَالَ: جِئتُ أَسأَلُكَ عَنِ الوَلَدِ، قَالَ: “مَاءُ الرَّجُلِ أَبيَضُ، وَمَاءُ المَرأَةِ أَصفَرُ، فَإِذَا اجتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ المَرأَةِ ذَكَّرَا بِإِذنِ اللهِ، وَإِن عَلَا مَنِيُّ المَرأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ أَنَّثَا بِإِذنِ اللهِ“، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: صَدَقتَ، وَإِنَّكَ نَبِيٌّ، ثُمَّ انصَرَفَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “إِنَّهُ سَأَلَنِي هَذَا الَّذِي سَأَلَنِي عَنهُ وَمَا أَعلَمُ شَيئًا مِنهُ حَتَّى أَتَانِيَ اللهُ بِهِ“.

وروَى ابنُ أَبِي شيبَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ إِلَى النَّبيِّ، فَقَالَ: يَا أَبَا القَاسِمِ تَزعُمُ أَنَّ أَهلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ وَيَشرَبُونَ؟ قَالَ: “نَعَم، وَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهُم لَيُعطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الأَكلِ والشُّربِ وَالجمَاعِ“، قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي يَأكُلُ وَيَشرَبُ تَكُونُ لَهُ الحَاجَةُ، وَلَيسَ فِي الجَنَّةِ أَذًى، قَالَ: “تَكُونُ حَاجَةُ أَحَدِهِم رَشحًا يَفِيضُ مِن جُلُودِهِم كَرَشحِ المِسكِ، فَيَضمُرُ بَطنُهُ“.

ومما يروى في رجوع اليهود إليه ﷺ في عقوبة الزاني وما ظهر في ذلك من كتمانهم ما أنزل الله عز وجل في التوراة من حكمه وصفة نبيه ﷺ:

روى البيهقي عن أبي هريرة أَنَّ أَحْبَارَ يَهُودَ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ الْمَدَرِاسِ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ زَنَى مِنْهُمْ رَجُلٌ بَعْدَ إِحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ أَحْصَنَتْ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا بِهَذَا الرَّجُلِ وَبِهَذِهِ الْمَرْأَةِ إِلَى مُحَمَّدٍ فَسَلُوهُ: كَيْفَ الْحَكَمُ فِيهِمَا؟ وَوَلُّوهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ عَمِلَ بِعَمَلِكُمْ فِيهِمَا مِنَ التَّجْبِيَةِ، وَهُوَ الْجَلْدُ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ مَطْلِيٍّ بِقَارٍ [يعني الزفت] ثُمَّ يُسَوَّدُ وُجُوهُهُمَا ثُمَّ يُحْمَلَانِ عَلَى حِمَارَيْنِ وَيُحَوَّلُ وُجُوهُهُمَا مِنْ قُبُلٍ إِلَى دُبُرِ الْحِمَارِ، فَاتَّبِعُوهُ وَصَدِّقُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ مَلِكٌ، وَإِنْ هُوَ حَكَمَ فِيهِمَا بِالرَّجْمِ، فَاحْذَرُوا عَلَى مَا فِي أَيْدِيكُمْ أَنْ يَسْلُبَكُمُوهُ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ قَدْ أَحْصَنْتَ، فَاحْكُمْ فِيهِمَا فَقَدْ وَلَّيْنَاكَ الْحُكْمَ فِيهِمَا، فَمَشَى رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى أَتَى أَحْبَارَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَدَرِاسِ فَقَالَ: ” يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَخْرِجُوا إِلِيَّ أَعْلَمَكُمْ ” فَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ عَبْدَ اللهِ بْنَ صُورِيَا الْأَعْوَرَ.

فَخَلَا بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكَانَ غُلَامًا شَابًّا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَأَلَظَّ بِهِ (ألح ولازمه) الْمَسْأَلَةَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ لَهُ: “يَا ابْنَ صُورِيَا أَنْشُدُكَ اللهَ (أذكّرك أو سألتك به مقسما عليك) وَأُذَكِّرُكَ أَيَّامَهُ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ اللهَ حَكَمَ فِيمَنْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ بِالرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ؟ ” فَقَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ، أَمَا وَاللهِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّهُمْ لَيَعْرِفُونَ أَنَّكَ نَبِيُّ مُرْسَلٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْسِدُونَكَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ فِي بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، ثُمَّ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ صُورِيَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)).

وفي رواية فقال رسول الله ﷺ: «ما تجدون في التوراة؟» قالوا: نفضحهما ويجلدان. وفي رواية قالوا: دعنا من التوراة وقل ما عندك. فأفتاهم بالرّجم، فأنكروه. فقال رسول الله ﷺ: «أنشدكم الله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى بعد إحصان؟ قالوا: يحمّم ويجبّب. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آيةَ الرّجم. فأتوه بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرّجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفعها فإذا آية الرّجم تلوح (تبدو). قال: صدق محمد..

ففيهم نزلت هذه الآياتُ الثَّلاثُ التي في سورةِ المائدةِ وهي ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُوْنَ)) ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُوْنَ)) ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُوْنَ)) فقد رَوَى مسلمٌ عن البَرَاء بنِ عازِبٍ أنَّ اليهودَ حَرَّفُوا حُكْمَ الله الذي أَنْزَلَهُ في التَّوْرَاةِ حيثُ حَكَمُوا على الزَّاني الْمُحْصَنِ بالْجَلْدِ والتَّحْمِيمِ هو تسويدُ الْوَجْهِ بالْحُمَمِ أيْ بالْفَحْمِ. وقد أنزلَ الله الرَّجْمَ في التَّوْرَاةِ فنَزَلَتْ فيهِمُ الآياتُ المذكورةُ.. وليس في الآيةِ الأُولى تكفيرُ الحاكمِ المسلمِ لِمُجَرَّدِ أنه حَكَمَ بغيرِ الشَّرْعِ ، فلا يجوزُ تكفيرُ المسلمِ الذي يحكمُ بغيرِ شَرْعِ الله من غيرِ أنْ يَجْحَدَ حُكْمَ الشَّرْعِ في قلبهِ أو بلسانهِ أو يُفَضِّلَ حُكْمَ القانونِ على حُكْمِ القرءانِ أو يستحلَّ تركَ العملِ بحُكْمِ القرءانِ وإنما يَحْكُمُ بهذه الأحكامِ العُرْفِيَّةِ التي تعارفَها النَّاسُ فيما بينَهم لكونها مُوَافِقَةً لأهواء النَّاسِ مُتَدَاوَلَةً بينَ الدُّوَلِ وهو غيرُ مُعْتَرِفٍ بصِحَّتِهَا على الحقيقةِ ولا مُعْتَقِدٌ لذلكَ وإنما غايةُ ما يقولُه إنه حُكْمٌ بالقانونِ.. إنَّ تكفيرَ المسلمِ أي اعتبارَه خارجًا من الإسلام لِمُجَرَّدِ أنه حَكَمَ بالقانونِ بلا تفصيلٍ خَطَأٌ كبير. وقد قال عبدُ الله بنُ العبَّاسِ، رضيَ الله عنهما في تفسيرِ قولهِ تعالى ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُوْنَ)): “إنه ليس بالكُفْرِ الذي يذهبونَ إليهِ، إنه ليسَ كُفْرًا يَنْقُلُ عن الْمِلَّةِ، ومَنْ لم يَحْكُمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هُمُ الكافرونَ كُفْرٌ دونَ كُفْرٍ”، أيْ ذنبٌ كبير. وهذا الأَثَرُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ صحيحٌ ثابتٌ رواهُ الحاكمُ في الْمُسْـتَدْرَكِ، كتاب التفسير وصَحَّحَهُ.

ومِنْ عقائدِ أهلِ السُّـنَّةِ الْمُتَّفَقِ عليها أنهُ لا يُكَفَّرُ مسلمٌ بذنبٍ إنْ لم يستحلَّه، فإذا عُرِفَ ذلكَ عُلِمَ أن تكفيرَ مَنْ يحكمُ بغيرِ شرعِ الله تكفيرًا مُطْلَقًا بلا تفصيلٍ لا يوافقُ مَذْهَبًا من المذاهب الإسلاميَّة، وإنما هو من رأيِ الخوارجِ الذينَ قاعدتُهم تكفيرُ مرتكبِ المعصية.

فقد ذَكَرَ الإمامُ أبو منصورٍ البغداديُّ في كتابهِ (الفَرْقُ بينَ الفِرَق) وكتابهِ (تفسيرُ الأسماء والصِّفات) أنَّ صِنْفًا من الطَّائفةِ البَيْهَسِيَّةِ من الخوارجِ كانتْ تُكَفِّرُ السُّلْطَانَ إذا حَكَمَ بغيرِ الشَّرْعِ وتُكَفِّرُ الرَّعايا مَنْ تابعَه ومَنْ لم يتابعْه كانوا يقولونَ أيْ طائفةٌ منهم إذا كَفَرَ الإمامُ كَفَرَتِ الرَّعِيَّةُ..

توجيه مهم:

هذا ينبغي بيانه للناس حتى نغلق الباب أمام التكفيريين الذين يكفرون المسلمين بغير حق، هذا هو عمل هذه الجمعية، لذلك نوصي بها، لأنها تُعَلِّم علم الدين وعلمَ التوحيد وتنشره بين الناس لأنها تحذر من الفاسدين المفسدين الذين ينشرون الكفر بين الناس، الذين يُكَفِّرونكم ويكفروننا ويكفرون المسلمين أجمعين، لا يتورعون عن الحكم على مخالفهم بالكفر والخروج من الدين، واحد من هؤلاء الضالين الذين كان يحذر منهم شيخنا الشيخ عبد الله، ماذا قال؟ قال: إن المسلمين اليوم لا يجاهدون! ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون.اهـ هذا كلامه بحروفه، وواحد آخر ماذا قال؟ قال: كل من تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق ومن قتل مشركا فله الجنة.اهـ وآخر منهم يغلو فيقول: ذلك أن الشرك اليوم عمَّ البسيطة وأطبق على ترك الإسلام كل من في الأرض.اهـ وهؤلاء الذين نحذركم منهم، أصحاب فكر التكفير الشمولي الذين لو تمكنوا منا لقتلونا وقتلوا آباءَنا وأمهاتِنا وأبناءَنا، والعياذ بالله تعالى. فليعرف الجميع أن السلامة من أصحاب هذا الفكر الهدام يكون بنشر الحق بين الناس بنشر علم أهل السنة والجماعة بنشر علوم المذاهب الأربعة السُّنية المعتدلة أصحاب التوسط والاعتدال، فلما كشفنا الغِطاء عن هؤلاء الغلاة الجفاة النفاة، لم يجدوا ما يواجهوننا به فلجأوا إلى الافتراءات ونشرها بين الناس وقد قيل قديما: قبيح ‌الكلام ‌سلاح اللئام، ولكن هيهات أن ينالوا من أهل الحق لأن دين الله منصور وعالٍ، فقد قال تعالى: ((وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ))، أي وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، والجبال هنا المراد بها الحق الساطع الذي أتى به محمد ﷺ، فما كان مكر هؤلاء ليُزيل هذه الجبال الراسية، وقد قيل:

كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوْهِنَهَا ***** فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَىْ قَرْنَهُ الْوَعِلُ

والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين.

فائدة
مما ينفع لقضاء الحاجات بإذن الله تعالى:

يصلي صلاة الحاجة
ثم يقرأ يا جليل (11مرة)
يا عظيم (7مرات)
ثم يقرأ الفاتحة على نية تيسير الأمور
وكذلك مِنْ خواصِّ اسمِ اللهِ “العزيزِ”: أنَّ مَنْ ذَكَرَهُ أربعينَ يومًا كلَّ يومٍ أربعينَ مرةً أغناهُ اللهُ وأعزَّه ولم يُحْوِجْهُ لأحدٍ.

دعاء
اللّـٰهُمَّ افتَح لنَا في هَـٰذَا اليَومِ المُبَارَك أبوابَ فَضلِكَ، وَأنزِل عَلَينَا فيهِ بَرَكاتِكَ، وَوَفّقنَا فيهِ لِمُوجِباتِ مَرضاتِكَ. اللّـٰهُمَّ اجعَل سَعيَنَا في رَمَضَانَ مَشكورًا، وَذَنبَنَا فيهِ مَغفُورًا، وَعَمَلَنَا فيهِ مَقبُولًا، وَعَيبَنَا فيهِ مَستورًا. اللّـٰهُمَّ ارزُقنَا فيهِ فَضلَ لَيلَةِ القَدرِ، وَصَيِّر أُمُورَنَا فيهِ مِنَ العُسرِ إلى اليُسرِ، وَاقبَل مَعاذِيرنَا وَحُطَّ عَنِّا الذَّنب وَالوِزرَ، يا رَؤُوفًا بِعِبادِهِ الصّالحينَ.

اللهم ارزقنا سُؤلَنا مِنَ الخَيرِ في هَذِهِ الأيامِ المبَارَكَةِ، وَاغفِر لَنا، وَاستُر عَلَينا، وَأَعلِ دَرَجَاتِنا، وَارفع قَدرَنا، وَفَرَّج كُربَاتِنَا، وَيَسِّر أُمُورَنا، وَوَسِّع في الدَّارَينِ عَلَينَا، وَاجعَلنا مِن أَحبَابِك وَأَصفِيَائِك، وَاجعلِ الفِردَوسَ دَارَنا، وَأَنِر قُبُورَنا، وَمِمَا نَرجُو مِنَ الخَيرِ ارزُقنَا، وسُرَّ أَروَاحَنا بِرُؤيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيهِ وَءَالِهِ وَسَلَّمَ في المنَامِ في كُلِّ لَيلَةٍ اللَّهُمَّ اجعَلنَا مِن عُتَقَاءِ شَهرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ اللَّهُمَّ إنّك عفوٌّ كريم تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عنّا اللَّهُمَّ بلّغنا ليلةَ القدرِ وارزقنا بركاتِهَا وخيراتِهَا ونفحاتِهَا ورؤيَتَهَا والدُّعاءَ فيهَا، اللَّهُمَّ ءامين.

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغفِرَتِك، وَالغَنِيمَةَ مِن كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلامَةَ مِن كُلِّ إِثمٍ، لا تَدَع لنا ذَنبًا إِلَّا غَفَرتَهُ، وَلا هَمًّا إِلَّا فَرَّجتَهُ، وَلا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيتَهَا يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُــمَّ صَلِّ وَسَـــلِّم وَبَارِك على عبدِك ورسولِك؛ نبيِّنا محمّدٍ وعَلَى آله وصحبه كلَّما ذكَرَهُ الذّاكِرُونَ وغفَلَ عن ذِكرِهِ الغافِلُونَ.

ربَّنا ءاتِنا في الدّنيَا حسنَة وفي الآخِرة حسنَة وقِنا عذَابَ النار. إِلَـٰهِي أعِنَّا عَلَى مَا تَبَقَّىٰ مِن شَهرِ رَمَضَانَ وَاجعَلهُ شَاهِدًا لَنَا لَا عَلَينَا.

اللَّهُمَّ مَا تُنزِلُهُ مُن خَيرَاتٍ وَبَرَكَاتٍ وَمِنَحٍ وَهِبَاتٍ فِي هَـٰذِهِ الأيَّامِ واللَّيالِي المُبَارَكَةِ فَاجعَل لَنَا مِن ذَٰلِكَ نَصِيبًا وَحَظًّا وَافِرًا. وَاجعَلنَا مِنَ المَقبُولِينَ ومِنَ المَرحُومِينَ ومِنَ المَغفُورِينَ وَمِن عُتَقَاءِ شَهرِ رَمَضَان يَا حَنَّانُ يَا مَنَّان.

اللهم احفظ أهل فلسطين في غزة والقدس، وارزقهم الثبات والقوة والتمكين وبارك في إيمانهم وصبرهم. اللهم اجعل لأهل غزة العزة النصرة والغلبة والهيبة. اللهم إنّا نعوذ بك من العجز والقهر. اللهم نستودعك فلسطين وكل أهالي غزّة فانصرهم واحفظهم، واربط على قلوبهم وأمدهم بجُندك وانزل عليهم سكينتك وسخر لهم الأرض بما ومن عليها. اللهم إنّا لا نملِك لهم إلا الدُّعاء فَيا رب لا تردّ لنا دُعاء. يا الله إنَّهم عبادك المُستَضعفون فَكُنْ لهم عونا ومعينا يا رب انصر فلسطين الحبيبة.

اللهم اختِم شهرَنَا هذَا بالعفوِ والمغفرةِ والرضوانِ والعتقِ مِنَ النيرانِ وتَقَبَّل صيامَنَا وقيامَنَا وتلاوَتَنَا للقرآنِ وطاعاتِنَا، واجعَلِ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبِنا وجلاءَ همومنَا ونورَ صدورِنَا يا ربَّ العالمينَ، اللهم أَعِد علينَا شهرَ رمضانَ أعوامًا عديدةً وقد تحقَّقَ لهذهِ الأمةِ نصرُها وعزُّهَا واجتماعُ كلِمَتِهَا يا أكرمَ الأكرمينَ يا ربَّ العالمينَ يا اللهُ، اللهم اجعَلنَا في هذا الشهرِ الكريمِ مِنَ المقبولينَ ولا تجعلنَا مِنَ المطرودينَ اللهم ارزقنَا الحجَّ وزيارةَ الحبيبِ ﷺ واجعلنا مِن عبادِكَ الطائعينَ الشاكرينَ الصابرينَ الخاشعينَ المجبولينَ على حبِّ طاعتِكَ اللهم آميَن بجاهِ سيدِنَا محمدٍ ﷺ وكلِّ أنبيائكَ والرسلِ منهم وكلِّ أوليائِكَ وتقَبَّل مِن إخوانِنَا المسلمينَ صالحَ أعمالِهِم يا اللهُ.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …