المقدمة
الحَمدُ لله الَّذِي لَا يَغفلُ وَلَا يَخَافُ فَوَاتًا، الَّذِي خَلَقَ الكَونَ وَمِن نِعَمِهِ ءَاتَا، جَمَعَ بِقُدرَتِهِ مِنَ المُختَلِفَاتِ أَشتَاتًا، وَفَرَّقَ بَينَ الإِلفَينِ وَكَم بَاتَا، وَقَصَمَ بِقَهرِهِ مِن تَكَبُّرٍ وَتَعَاتَى، كَم مُطمَئِنٍّ فِي عِزَّتِهِ أَخَذَهُ بِعِزَّتِهِ بَيَاتًا، وَكَم هَدَمَ قَصرًا مَشِيدًا وَكَم زَلزَلَ أَبيَاتًا، يَعلَمُ ضَمَائِرَ القُلُوبِ وَيَسمَعُ أَصوَاتًا، لَا يَنقُصُهُ مِن مُلكِهِ مَا وَهَبَ وَآتَى، جَعَلَ مَهرَ الأُخرَى طَلَاقَ الدُّنيَا بَتَاتًا، وَأَعلَمَ الزَّاهِدِينَ أَنَّهَا لَا تَستَطِيعُ ثَبَاتًا، مَدَّ الأَرضَ وَأَثبَتَهَا بِالجِبَالِ إِثبَاتًا، وَأَخرَجَ مِنهُ نَبتًا وَزَرعًا وَجَعَلَهُ أَقوَاتًا، وَصَيَّرَهَا مَسَاكِنَ الخَلقِ تُرَبِّيهِم صِغَارًا وَتَضُمُّهُم رُفَاتًا، وَكَتَبَ لِفَنَاءِ سَاكِنِيهَا عُمرًا مُقَدَّرًا وَمِيقَاتًا، فَقَضَى لَهُمُ حَياةً وَقَضَى عَلَيهِم مَمَاتًا، مَا تَأتِيكَ عِبرَةٌ مِثلُ أَنَّ أَبَاكَ وَأُمَّكَ مَاتَا، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ أَكمَلَ البَشَرِ خُلُقًا وَخَلقًا، صَلَّى الله وَسَلَّمَ عَلَيهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ الحَائِزِ فَضَائِلَ الِاتِّبَاعِ سَبقًا، وَعَلَى عُمَرَ العَادِلِ فَمَا حَابَى خَلقًا، وَعَلَى عُثمَانَ الَّذِي استَسلَمَ لِلشَّهَادَةِ وَمَا تَوَقَّى، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي بَاعَ مَا يَفنَى وَاشتَرَى مَا يَبقَى، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ النَّاصِرِينَ لِدِينِ الله حَقًّا، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعدُ:
فَقَد وَصَلنَا فِي شَرحِنَا أَلفِيَّةَ الحَافِظِ العِرَاقِيِّ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ إِلَى قَولِهِ رَحِمَهُ اللهُ:
ذِكرُ أحداثِ السَّنَةِ الثّانِيةِ للهِجرةِ
فَفِـيـهِ فَـرضُ الصَّـومِ والزَّكَـاةِ *** لِلفِطـرِ وَالعِـيـدَيـنِ بِالصَّـلَاةِ
بِـخُطـبَتَينِ بَـعـدُ وَالأُضـحِيَّةُ *** كَـذَا زَكَـاةُ مَـالِـهِم وَالقِبلَـةُ
لِلـمَسـجِـدِ الـحَـرَامِ وَالبِـنَـاءُ *** بِـعَـائِــشٍ كَـذَلِـكَ الـزَّهـرَاءُ
وَبَـدرٌ الكُـبـرى ……………….. *** ………………………………………
كانَ العامُ الثّانِي مُبارَكًا بنُزولِ كَثِيرٍ مِن أحكَامِ الشَّرِيعَةِ فِيهِ، فَفِيهِ كانَ فَرضُ صَومِ رَمَضانَ.
وَفِي هذِهِ السَّنَةِ فَرَضَ اللهُ تعَالَى زكَاةَ الفِطرِ قَبلَ فَرضِ زكاةِ المالِ، فقد رُوِيَ عَن أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رضي اللهُ تعالى عنهُ قَالَ: الصَّلَاةُ عِمَادُ الإِسلَامِ، وَالجِهَادُ سَنَامُ العَمَلِ، وَالصَّدَقَةُ شَيءٌ عَجِيبٌ، وَالصَّدَقَةُ شَيءٌ عجِيبٌ، والصَّدَقَةُ شَيءٌ عجِيبٌ، قِيلَ: فأَيُّ الصدَقَةِ أفضَلُ؟ قالَ: أكثَرَهَا فأكثَرَهَا، ثمَّ قَرَأَ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، قيلَ: فمَن لَم يَكُن عِندَهُ؟ قالَ: عَفوُ مَالٍ، يعنِي يَتَصَدَّقُ بِفَضلِ مَالٍ، قِيلَ: فمَن لَم يَكُن عِندَهُ مَالٌ؟ قالَ: فَعَفوُ طَعَامٍ، قيلَ: فمَن لَم يفعَل؟ قالَ: ولَو بِشِقِّ تمرَةٍ، قيلَ: فَمَن لم يفعَل، قالَ: يَكُفُّ نَفسَهُ، يَعنِي لَا يَظلِمُ النَّاسَ.
وَفيِهِ نَزَل نَدبُ القِيامِ فِي العِيدَينِ الفِطرِ والأضحَى بِالصَّلَاةِ لَهُما بِخُطبَتَينِ بَعدَ كُلٍّ مِنَ الصَّلاتَينِ، وَفي هذا العامِ شُرِعَتِ الأُضحِيَّةُ أيِ الذَّبحُ في الأضحَى إلى ءاخِرِ أيّامِ التّشريقِ، وضحَّى رسولُ الله ﷺ في هذَا العامِ.
فقَد رَوَى الإمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ عن نافعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالمَدِينَةِ عَشرَ سِنِينَ يُضَحِّي كُلَّ سَنَةٍ، وفُرِضَ في هذه السَّنةِ زَكَاةُ مَالِهِم قبلَ فَرضِ صَومِ رمضانَ.
وَكانَ في شَوّالٍ مِنَ السَّنةِ الثّانِيةِ دُخولُ النَّبِيِّ ﷺ بعائشةَ رضيَ الله عنها، وهو القَولُ الّذي اختارَهُ العراقيُّ.
وحصَلَ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ نِكاحُ عَلِيٍّ مِن فاطمةَ رضي اللهُ عنهُما ابنةِ رسولِ الله ﷺ، فقد بَنَى بها زَوجُها عَليٌّ رضيَ الله عنه في السّنةِ الثّانيةِ مِنَ الهِجرةِ، ولُقِّبَتِ بالزّهراءِ لأَنَّهَا كانَت بيضَاءَ مُشرِقةَ الوَجهِ.
وقد عَقَد عَليٌّ رضيَ الله عنه علَى فاطِمةَ في رمضانَ ودخلَ بها في ذِي الحِجَّةِ، وكان عُمرُ فاطمةَ رضيَ الله عنها خمسَ عشرةَ سنةً، وسِنُّ عليٍّ رضيَ الله عنه يومَئِذٍ إحدَى وعشرين سنةً وخمسَةَ أشهُرٍ، وأَولَمَ علَيهَا بكَبشٍ مِن عِندِ سَعدٍ وءَاصُعٍ مِن ذُرَةٍ مِن عِندِ جَماعةٍ مِن الأنصارِ.
وعَن عَلِيٍّ رضيَ الله عنهُ قال: خُطِبَت فاطِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَت لِي مَولاةٌ لِي: ما يَمنَعُكَ أَن تَأتِيَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَيُزَوِّجَكَ؟، فَقُلتُ: وَعِندِي شَىءٌ أَتَزَوَّجُ بِهِ؟! فَقالَت: إِنِّكَ إِن جِئتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ زَوَّجَكَ، فَواللَّهِ ما زالَت تُرَجِّينِي حَتَّى دَخَلتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكانَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ جَلالَةٌ وَهَيبَةٌ، فَلَمّا قَعَدتُ بَينَ يَدَيهِ أُفحِمتُ، فَواللَّهِ ما استَطَعتُ أَن أَتَكَلَّمَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “ما جاءَ بِكَ، أَلَكَ حاجَةٌ؟“، فَسَكَتُّ، فَقالَ: “مَا جَاءَ بِكَ، أَلَكَ حَاجَةٌ؟“، فَسَكَتُّ، فَقالَ: “لَعَلَّكَ جِئتَ تَخطُبُ فَاطِمَةَ“، فَقُلتُ: نَعَم، فَقَالَ: “وَهَل عِندَكَ مِن شَيءٍ تَستَحِلُّها بِهِ؟”، فَقُلتُ: لَا وَاللهِ يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ: “مَا فَعَلَت دِرعٌ سَلَّحتُكَهَا؟“، فَوالَّذِي نَفسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ إِنَّها لَحُطَمِيَّةٌ (أي لَيسَت ثَمِينَةً) ما ثَمَنُها أَربَعَةَ دَراهِمَ، فَقُلتُ: عِندِي، فَقالَ: “قَد زَوَّجتُكَها، فَابعَث إِلَيهَا بِهَا فَاستَحِلَّها بِهَا“، فَإِن كانَت لَصَدَاقَ فاطِمَةَ بِنتِ الرّسُولِ ﷺ.
وَقالَ لِعَلِيٍّ: “إِذَا أَتَتكَ فَلَا تُحدِث شَيئًا حَتَّى ءَاتِيَكَ“، قالَ عَلِيٌّ: فَجَاءَت مَعَ أُمِّ أَيمَنَ حَتَّى قَعَدَت فِي جانِبِ البَيتِ وَأَنَا فِي جانِبٍ، وَجاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقالَ: “هَهُنَا أَخِي“، قالَت أُمُّ أَيمَنَ: أَخُوكَ وَقَد زَوَّجتَهُ ابنَتَكَ، قالَ: “نَعَم“، وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ البَيتَ فَقالَ لِفاطِمَةَ: “ائتِينِي بِماءٍ“، فَقامَت إِلَى قَعَبٍ فِي البَيتِ [وهو القَدَح الضَّخْمُ المُقَعَّر] فَأَتَت فِيهِ بِماءٍ، فَأَخَذَهُ ﷺ وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قالَ لَها: “تَقَدَّمِي“، فَتَقَدَّمَت فَرَشَّ مِنهُ عَلَى أَجزَاءٍ مِن بَدَنِهَا وَقالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ“، ثُمَّ قالَ ﷺ: “ائتُونِي بِماءٍ“، قالَ عَلِيٌّ: فَعَلِمتُ الَّذِي يُرِيدُ، فَقُمتُ فَمَلَأتُ القَعبَ ماءً وَأَتَيتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قالَ لِي: “تَقَدَّم“، فَصَبَّ عَلَى أَجزَاءٍ مِن بَدَنِهِ ثُمَّ قالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أُعِيذُهُ بِكَ وَذُرِّيَّتَهُ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ“، ثُمَّ قالَ لِعَلِيٍّ: “اُدخُل بِأَهلِكَ، بِسمِ اللهِ وَالبَرَكَة“.
وَفِي هذِهِ السنَةِ نزَلَ الأَمرُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ بالقِتَالِ، وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَم يؤذَن لَهُ فِي الحَربِ، إنّمَا يُؤمَرُ بِالدّعَاءِ إلَى اللهِ وَالصّبرِ عَلَى الأَذَى وَالصّفحِ عَن الجَاهِلِ.
فَكَانَت أَوّلُ آيَةٍ أُنزِلَت فِي إذنِهِ لَهُ فِي الحَربِ لِمَن بَغَى عَلَيهِم قولُ اللهِ تبارك وتعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾.
ثُمّ أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾، أَي حَتّى لَا يُفتَنَ مُؤمِنٌ عَن دِينِهِ ويُعبَدَ اللهُ لَا يُعبَدُ مَعَهُ غَيرُهُ.
ففُرِضَ الجهادُ على النبيِّ ﷺ بعدَ الهجرَةِ وكانَ ابتِدَاءُ القِتَالِ لِلمُشرِكِيَن قَبلَ الهِجرَةِ مُحَرَّمًا.
فقَد روَى البَيهَقِيُّ والنَّسَائِيُّ عن بَعضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُم جَاؤُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَسأَلُونَهُ أَن يُقَاتِلُوا الكُفَّارَ، فقالَ لَهُم: “إِنِّي أُمِرتُ بِالعَفوِ، فَلَا تُقَاتِلُوا القَومَ“.
ثُمَّ أُمِرَ ﷺ بَعدَهَا بِقِتَالِ مَن قَاتَلَهُ، ثُمَّ أُبِيَح الِابتِدَاءُ بِهِ فِي غَيرِ الأَشهُرِ الحُرُمِ وَهُوَ مَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ مُطلَقًا، فَقَد رَوَى البَيهَقِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا فِي قولِهِ: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾، قالَ: فَنُسِخَ هَذَا العَفوُ عَنِ المشرِكِينَ بقَولِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾، فَأَمَرَهُ اللهُ بِجِهَادِ الكُفَّارِ بِالسَّيفِ وَالمُنَافِقِينَ باللِّسَانِ، وَأَذهَبَ الرِّفقَ عَنهُم.
وقَد قاتَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رُؤُوسَ الكُفرِ مِنَ اليَهُودِ وَالمُنَافِقِينَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجمَعِينَ وَجَمَعَهُم فِي أَسفَلِ سَافِلِينَ، فتهيَّأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِحَربِهِم، وَقَامَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِن جِهَادِ عَدُوِّهِ وَقِتَالِ مَن أَمَرَهُ بِهِ مِمَّن يَلِيهِ مِنَ المُشرِكِينَ، فَكَانَت سَرَايَاهُ وَغَزَوَاتُهُ مُتَتَابِعَةً وَكَثِيرَةً.
فَكَانَت مَغَازِي النّبِيِّ ﷺ الَّتِي غَزَا بِنَفسِهِ سَبعًا وَعِشرِينَ غَزوَةً، وَكَانَ مَا قَاتَلَ فِيهَا تِسعًا: بَدرُ، وَأُحُدُ، وَالمُرَيسِيعُ، وَالخَندَقُ، وَقُرَيظَةُ، وَخَيبَرُ، وَالفَتحُ، وَحُنَينٌ، وَالطّائِفُ، وَكَانَت السّرَايَا سِتًّا وخَمسِينَ سَرِيّةً.
وَحَصَلَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِن هِجرَةِ الحَبِيبِ المُصطَفَى ﷺ غزَوَاتٌ وَمَعَارِكُ وَسَرَايَا، مِنهَا مَا شَارَكَ فِيهَا النبيُّ ﷺ بِنَفسِهِ، ومِنهَا مَا لَم يُشَارِك فِيهَا بِنَفسِهِ ﷺ بل كانَ يُرسِلُ غَيرَهُ.
ومِن هذِهِ الغزَوَاتِ غَزوَةُ بُوَاطَ، وغزوةُ سَفوَانَ، وَهِيَ غَزوَةُ بَدرٍ الأُولَى، وغَزوَةُ ذِي العَشِيرَةِ، ولم يحصُل فيهَا قتَالٌ، وكانَ سَبَبُ خروجِهِ طَلَبَ عِيرِ قُرَيشٍ وَهِيَ ذَاهِبَةٌ فِي رِحلَةِ الشَّامِ وَلَم يُدرِكهَا، وَكَانَ خُرُوجُهُ لَهَا فِي عَودَتِهَا سَبَبًا لِغَزوَةِ بَدرٍ الكُبرَى، وَأَرسَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَبدَ اللهِ بنَ جَحشٍ فِي سَرِيَّةٍ لِقِتَالِ بَعضِ المُشرِكِينَ وكانَ لقَاؤُهُم في آخرِ رَجَبٍ، فقَتَلُوا اثنَينِ مِنَ المُشرِكِينَ فِي الشَّهرِ المُحَرَّمِ هُمَا عَمرُو بنُ الحَضرَمِيِّ وَعُثمَانُ بنُ عَبدِ اللَّهِ بنِ المُغِيرَةِ المَخزُومِيُّ، ولم يَكُنِ النبيُّ ﷺ قَد أمَرَهُم بِقِتَالٍ فِي الشَّهرِ الحَرَامِ، فَاستَنكَرَ المشرِكُونَ عَلَى المُسلِمِينَ أنَّهُم يُقَاتِلُونَهُم فِي الشَّهرِ الحَرَامِ، فَنَزَلَ قَولُهُ تعالَى بنَسخِ حُكمِ تَحرِيمِ القِتَالِ فِي الأَشهُرِ الحُرُمِ إِلَى جَوَازِهِ مُطلَقًا بِقُيُودِهِ، فَأَنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ ﷺ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، أَي إِن كُنتُم قَتَلتُم فِي الشَّهرِ الحَرَامِ، فَقَد صَدُّوكُم عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ الكُفرِ بِهِ وَصدُّوكُم عَنِ المَسجِدِ الحَرَامِ، وَإِخرَاجُكُم مِنهُ وَأَنتُم أَهلُهُ أَكبَرُ عِندَ اللَّهِ مِن قَتلِ مَن قَتَلتُم مِنهُم، وَالفِتنَةُ أَكبَرُ مِنَ القَتلِ، أَي والكُفرُ أكبَرُ مِنَ القَتلِ، فقَد كَانُوا يَفتِنُونَ المُسلِمَ عَن دِينِهِ حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الكُفرِ بَعدَ إِيمَانِهِ، فَذَلِكَ أَكبَرُ عِندَ اللَّهِ مِنَ القَتلِ، ثُمَّ هُم مُقِيمُونَ عَلَى أَخبَثِ ذَلِكَ وَأَعظَمِهِ غَيرَ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، الآيَةَ.
وقد لقَّبَ رسولُ اللهِ ﷺ عبدَ اللهِ بنَ جَحشٍ فِي هذِهِ البِعثَةِ بِلَقَبٍ عظِيمٍ، لقَّبَهُ بِأَمِيرِ المُؤمِنِينَ فَكَانَ أَوَّلَ مَن لُقِّبَ بِأَمِيرِ المُؤمِنِينَ مِن قَادَةِ الجُيُوشِ، أمَّا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَكَانَ أَوَّلُ مَن لُقِّبَ بهذَا اللَّقَبِ مِنَ الخُلَفَاءِ، وكانَ قَد سَلَّمَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ كتَابًا وقالَ لَهُ مَا مَعنَاهُ أَن لَا يَفتَحَهُ الآنَ الا اذا وصل الى مكان سماه له الرسول، فلمَّا سَارَ عبدُ اللهِ بنُ جَحشٍ يومَينِ فَتحَ الكِتَابَ، فنظَرَ فِيهِ فَإِذَا فِيهِ: “إِذَا نَظَرتَ فِي كِتَابِي هَذَا فَامضِ حَتَّى تَنزِلَ نَخلَة مكان بَينَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَتَرَصَّد بِهَا قُرَيشًا وَتَعَلَّم لَنَا مِن أَخبَارِهِم“، فلَمَّا نظَرَ عبدُ اللهِ بنُ جَحشٍ فِي الكِتَابِ قَالَ: سَمعًا وَطَاعَةً.
ثُمَّ قالَ لِأَصحَابِهِ: قد أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ أَن أَمضِيَ إِلَى نَخلَةَ أَرصُدُ بِهَا قُرَيشًا حَتَّى آتِيَهُ مِنهُم بِخَبَرٍ، وقَد نَهَانِي أَن أَستَكرِهَ أَحَدًا مِنكُم، فمَن كانَ مِنكُم يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرغَبُ فِيهَا فَليَنطَلِق، وَمَن كَرِهَ ذَلِكَ فَليَرجِع، فأَمَّا أَنَا فَمَاضٍ لِأَمرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصحَابُهُ لَم يتَخَلَّف عَنهُ مَعَهُم أَحَدٌ.
ثُمَّ حصَلَتِ الوَقعَةُ العَظِيمَةُ وقعَةُ بَدرٍ الكُبرَى، الوَقعَةُ الَّتِي أَعَزَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بهَا الإِسلَامَ، ودَفَعَ الكُفرَ وأَهلَهُ، وجَمَعَتِ الآيَاتِ الكثِيرَةَ وَالبَرَاهِينَ الشَّهِيرَةَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾.
أَطَاعَ المُسلِمُونَ أَمرَ اللهِ، وهَاجَرُوا مِن مَكَّةَ المكرَّمَةِ إلى المَدِينةِ المنورَةِ بعدَ أنِ اشتَدَّ الأَذَى والتَّعذِيبُ عَلَيِهِم، وتَرَكُوا مُمتَلَكَاتِهِم وَأَموَالَهُم، حيثُ إِنَّ النَّبِيَّ الصَادِقَ ﷺ وعَدَهُم أَنَّ اللهَ تَعَالَى سيُعَوِّضُ عَنهُم وَيُخلِفُ عَلَيهِم، وَمَا كَانَ مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ اللِّئَامِ إِلَّا أَنِ استَولَوا عَلَى هذِهِ الأَموَالِ وذَهَبُوا إِلَى الشَّامِ ليُتَاجِرُوا بهَا، ثُمَّ عادُوا إلى مكةَ في قافِلَةٍ محمَّلَةٍ بالكَثِيرِ منَ الأَموَالِ والأَحمَالِ والجِمَالِ.
وَوصَلَت أَخبَارُ هذِهِ القافِلَةِ إلى النَّبِيِّ محمدٍ ﷺ فِي المدِينَةِ المنورَةِ التِي كانَت قَدِ امتَلَأَت خَيرًا بالنَّبِيِّ ﷺ وصحَابَتِهِ الأَبرَارِ مِنَ المهاجرِينَ والأنصَارِ الذِين اشتَدَّ ساعِدُهُم وزَادَت قوَّتُهُم وتعبَّأَت نفُوسُهم لمُجاهَدَةِ عدوُّهِمِ، وكَانَ ذلكَ فِي السابِعَ عشَرَ مِن رمضَانَ في السنَةِ الثانِيَةِ للهِجرَةِ المُشَرَّفَةِ، فخرَجَ النبيُّ محمَّدٌ ﷺ على رأسِ جيشٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الأبطَالِ، المقبِلِينَ علَى الجهَادِ بقلُوبٍ قويَّةٍ واثِقَةٍ، متَوَكِّلِينَ على اللهِ تعَالَى، وكانَ عدَدُهم ثلاثَمِائَةٍ وثلاثَةَ عشَرَ رجُلًا والأَعلَامُ والبَيَارِقُ حولَهُم تُرَفرِفُ وتَعلُو.
ولكنَّ خبَرَ خرُوجِ المسلِمِينَ للقِتَالِ بلَغَ القافِلَةَ التِي كانَ علَى رأسِهَا أَبُو سُفيَانَ ابنُ حربٍ وهُوَ أحدُ رءوسِ الكُفرِ في ذلكَ الوَقتِ، ولَم يكُن معَهُ حراسَةٌ كافِيَةٌ لتَمنَع عنهُ النَّبِيَّ ﷺ وصحَابَتَهُ فبَعَثَ برَجُلٍ اسمُه “ضِمضِمُ” إلَى مَكَّةَ يستَنجِدُ بأَهلِهَا.
ووصَلَ “ضِمضِمُ” إلى مكَّةَ صارِخًا موَلوِلًا طالِبًا النَّجدَةَ، فأَسرَعَ كفَّارُ قريشٍ بتَجمِيعِ قُوَاهُم وجُندِهِم وسِلَاحِهِم ومَضَوا إلَى محارَبَةِ النبيِّ ﷺ.
في هذِهِ الأثنَاءِ غَيَّرَ أَبُو سفيَانَ خطَّ سَيرِ القافِلَةِ بينَ الشَّامِ ومَكَّةَ، وابتَعَد عَنِ الطرِيقِ المَعهُودِ إلى نَاحِيَةِ البَحرِ، ولَم يعلَمِ المُسلِمُونَ أنَّ كفَّارَ قرَيشٍ خرَجُوا لمُسَاعَدَةِ القافِلَةِ، حتَّى وصَلُوا إلَى مَا قبلَ “بَدرٍ” وَهِيَ اسمُ ناحِيَةٍ فنَزَلُوا هُنَاكَ وأَرسَلُوا ثلاثَةَ أشخَاصٍ للِاستِكشَافِ فعَادُوا وقَد قبَضُوا علَى غلَامَينِ خَرَجَا لِجَلبِ الماءِ لمُعَسكَرِ كفَّارِ قُرَيشٍ، فعَلِمَ عندَها النبيُّ عليه الصلاة والسلام وصحَابَتُهُ بخُرُوجِ قريشٍ لمقَاتَلَتِهِم وأَنَّ عدَدَهم قريبُ ألفِ مقَاتِلٍ، فَاستَشَار النبيُّ الأعظَمُ ﷺ صحَابَتَهُ، فقَامَ كبَارُهُم وتكَلَّمُوا فأحسَنُوا وأجَادُوا، وقالَ المهَاجرُونَ والأَنصَارُ خيرًا، وكان مِنهُم سيِّدُنا سعدُ بنُ معاذٍ فقال: يا رسُولَ اللهِ قد آمَنَّا بِكَ، وصَدَّقنَاكَ، وشَهِدنَا، أنَّ مَا جِئتَ بهِ هُوَ الحَقُّ، وأَعطَينَاكَ مَوَاثِيقَنَا علَى السَّمعِ والطَّاعَةِ، فَامضِ بِنَا لِمَا أَرَدتَ فنَحنُ مَعَكَ، فواللهِ لوِ استَعرَضتَ بِنَا هَذَا البَحرَ فَخُضتَهُ لَخُضنَاهُ معَكَ ومَا تَخَلَّفَ مِنَّا رجلٌ واحدٌ، وما نَكرَهُ أن تَلقَى بِنَا عَدُوًا، إنَّا لَصُبُرٌ في الحَربِ، صُدُقٌ في اللِّقَاءِ، فسِر بنَا على برَكَةِ اللهِ، لعلَّ اللهُ يُرِيكَ مِنَّا ما تَقَرُّ بهِ عينُكَ، فَسُرَّ النبيُّ بذلك، وظهرَ السرورُ في وجهِه، وفَرِحَ بهذِهِ الكلمَاتِ.
ثم سَارَ النبيُّ ﷺ بجَيشِهِ وهوَ يقُولُ: “أَبشِرُوا فَإِنَّ اللهَ قَد وَعَدَنِي إِحدَى الطَّائِفَتَينِ“، أي إِمَّا أَن نَربَحَ الغَنَائِمَ الَّتِي فِي القَافِلَةِ، وإِمَّا أن نَهزِمَ الجَيشَ الذِي خَرَجَ لحِمَايَتِهَا، ونَزَلُوا قُربَ بَدرٍ ذَاتِ المياهِ الكثيرَةِ.
وكانَ كفَّارُ قُرَيشٍ قد بَلَغَهُم أَنَّ القَافِلَةَ الَّتِي خَرَجُوا لِحِمَايَتِهَا قَد نَجَت ووَصَلَت إِلَى مَكَّةَ، ومَعَ ذَلِكَ رَفَضُوا العَودَةَ وأَصَرُّوا على مُقَاتَلَةِ النَّبِيِّ ﷺ حِقدًا منهُم علَيهِ وعَلَى دعوَتِهِ الإِسلَامِيَّةِ العظِيمَةِ وكرَاهِيَةً لصحَابَتِهِ الكرَامِ.
وَبَعَثَ اللهُ تعَالَى المَطرَ الخَفِيفَ فصَارَ التُّرَابُ تَحتَ أقدَامِ النبيِّ محمدٍ ﷺ والصحابَةِ جامدًا يَسهُلُ المَسِيرُ عليهِ، وأمَّا الكفَّارُ فقَد صارَ الرمَالُ مِن تحتِهِم وحلًا مزعِجًا تغُوصُ فيهِ أقدامُهُم وأقدَامُ بَعِيرِهِم ممَّا أعَاقَهُم وأَخَّرَهُم.
وأحاطَ المُسلِمُونَ بتِلَالٍ مطِلَّةٍ علَى بركَةِ ماءٍ كبِيرَةٍ في بدرٍ، وجاءَهَا الكفَارُ ليَشرَبُوا منهَا فصَارَ المُسلِمُونَ يصطَادُونَهُم الوَاحِدَ تِلوَ الآخَرِ.
ثم تقَابَلَ الجيشَانِ، جَيشُ المسلِمِينَ وفيهِ الصحابَةُ الأفاضِلُ الشجعَانُ الذِينَ يريدُونَ إعلَاءَ كلِمَةِ لَا إله إلا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، وجيشُ الكفَّارِ الَّذِينَ أَشرَكُوا بِاللهِ ويُرِيدُونَ قتلَ نَبِيِّهِ محمدٍ المُصطَفَى ﷺ والقضاءَ علَيهِ وعلَى دعوَتِهِ المبَارَكَةِ.
وكانت خُطَّةُ المُسلِمِينَ علَى ما أشَارَ عليهِم رسُولُ اللهِ ﷺ أَن لَا يبدَؤُوا القِتَالَ حَتَّى يُحِيطَ بِهُمُ الكُفَّارُ، عندَهَا يَظهَرُ الرُّمَاةُ المُختَبِئُونَ علَى التلَالِ المُحِيطَةِ بمَكَانِ المَعرَكَةِ وَيَرمُونَ ظُهُورَ الكُفَّارِ بِرِمَاحِهِم وسهَامِهِم، وهكَذَا كانَ.
واقتتلَ الناسُ قتَالًا شدِيدًا وتَضَارَبَتِ السيُوفُ ولَمَعَتِ الرمَاحُ وتطَايَرَ الغُبَارُ وعلَتِ التكبِيرَاتُ الصادِحَةُ وكانَ المَدَدُ الكَبِيرُ، فقَد أمَدَّ اللهُ تعالى جيشَ النبيِّ ﷺ بمِئَاتٍ مِنَ المَلَائِكَةِ الكِرَامِ أتَوا عَلَى خيوُلهِم يحَارِبُونَ ويقاتِلُون يتَقَدَّمُهم سيدُنَا جبريلُ عليهِ السلامُ علَى فرَسِهِ “حيزُومَ”، فَكانَ المُقاتِلُ المسلِمُ يشِيرُ بسَيفِهِ إلى المُشرِكِ فيقَعُ رأسُهُ عن جسَدِهِ قبلَ أن يَصِلَ إليهِ السَّيفُ، وكان هذَا مِن عمَلِ الملائِكَةِ عليهِمُ السلَامُ بأَمرِ اللهِ، وفي نهَايَةِ المعرَكَةِ أخذَ رسُولُ اللهِ ﷺ حفنَةً مِنَ الترَابِ ورَمَى بهَا قرَيشًا وقالَ: “شَاهَتِ الوُجُوهُ“، وقَالَ لأَصحَابِهِ: “شُدُّوا عَلَيهِم“، فكانت هزيمَةُ المشرِكِينَ وقُتِلَ منهُمُ الكثيرُ وأُسِرَ الكثِيرُ.
وكانَ بينَ قتلَى المشرِكِينَ رأسُ الكُفرِ أبُو جَهلٍ لعَنَهُ اللهُ،
مَقْتَلُ أَبِي جَهْلٍ فرعونُ هذهِ الأمةِ لَعَنَهُ اللَّهُ:
ثَبَتَ فِي ” الصَّحِيحَيْنِ “، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: «إِنِّي لَوَاقِفٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الصَّفِّ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا (بين أضلع منهما أي أقوى وأشدّ)، فَغَمَزَنِي (الغمز: الكبس باليد) أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ، أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ، لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا (وهذا يبين غيرة الصحابة وحتى صغارهم على رسول الله وعلى الإسلام)، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي أَيْضًا مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ (لم ألبث) أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحَبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ. فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. قَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا. قَالَ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ.
وَتَرَكَاهُ وَبِهِ رَمَقٌ (بقية الحياة)، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي جَهْلٍ، حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ – فقَالَ لِي أي أبو جهل: «لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ. قَالَ: ثُمَّ احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ.
وفي رواية في دلائل النبوة للبيهقي وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى مَصْرَعِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ فَقَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ ابْنَيْ عَفْرَاءَ، فَهُمَا شُرَكَاءُ فِي قَتْلِ فِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرَأْسِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ. فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مَعَهُمَا؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ شَرِكَ فِي قَتْلِهِ.» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: «لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَشِيرُ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَيْتَهُ قَتِيلًا؟ فَحَلَفَ لَهُ فَخَرَّ رَسُولُ اللَّه ﷺ سَاجِدًا».
وعادَ النبيُّ ﷺ وصَحَابَتُهُ الأَجِلَّاءُ منتَصِرِينَ معَزَّزِينَ، ولَهُم في غَزوَةِ بدرٍ الكبرَى عِبرَةٌ أنَّ الفِئَةَ القلِيلَةَ قد تَغلِبُ الفئَةَ الكثِيرَةَ بإِذنِ اللهِ.
ثُمَّ جُمِعَ قَتلَى الكُفَّارِ فَجُعِلُوا فِي بِئرٍ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ، فَانطَلَقَ رَسُولُ الله حَتَّى انتَهَى إِلَيهِم، فَقَالَ: “يَا أَهلَ القَلِيبِ، بِئسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنتُم لِنَبِيِّكُم، كَذَّبتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخرَجتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ”، ثُمُّ قَالَ: “يَا عُتبَةُ بنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيبَةُ بنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيَّةُ بنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهلِ بنَ هِشَامٍ“، فَعَدَّدَ مَن كَانَ مِنهُم فِي القَلِيبِ: “هَل وَجَدتُم مَا وَعَدَ رَبُّكُم حَقًّا؛ فَإِنِّي قَد وَجَدتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّا؟“، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، كَيفَ تُكَلِّمُ أَجسَادًا لاَ أَروَاحَ فِيهَا؟ قَالَ: “مَا أَنتُم بِأَسمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنهُم، غَيرَ أَنَّهُم لَا يَستَطِيعُونَ أَن يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيئًا“.
فائدة: فهذا دليلٌ على أنَّ الميتَ يسمعُ، أليسَ النبيُّ قالَ لنا: إذَا زرتم القبورَ قولوا السلامُ عليكمْ أنتمْ لنَا سلَفٌ ونحنُ بالأثرِ فلوْ كانوا لَا يسمعونَ فلماذَا نسلِّمُ. بعضُ الناسِ ينكرونُ زيارةَ القبورِ ويحرِّمُونَها ولاسيِّمَا فِي العيدِ وهذَا كلُّه كلامٌ مردودٌ. فإنَّهُ يجوزُ زيارةُ القبورِ فِي أيِّ وقتٍ هذَا جائزٌ. وإذَا ذهبْتَ وسلَّمْتَ فإنَّهُ يسمعُ ويَرُدُّ
الرسولُ قالَ مَا مِنْ مسلمٍ يمرُّ علَى قبرِ أخيهِ المسلمِ كانَ يعرفُهُ في الدنيا فَسَلَّمَ عليهِ إلَّا عرَفَهُ ورَدَّ عليهِ السلامَ
أمَّا الآيةُ التِي يستخدِمُهَا هؤلاءِ للناسِ وهيَ: “وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِيْ الْقُبُوْرِ” هذهِ ليسَ معناهَا أَنَّ الذِي في القبرِ لا يسمعُ.
قالَ القرطبيُّ فِي هذهِ الآيةِ اللهُ شبَّهَ الكفارَ الذينَ لمْ يَنْقَادُوا ولَمْ يتْبَعُوا سيدَنا محمدًا فيمَا قالَ شبَّهَهُم بحالِ أهلِ القبورِ مِنْ حيثُ عدمُ انتفاعِهِم بكلامه وهم أحياءِ ليسَ معنَى الآيةِ أنَّهُمْ لا يسمعونَ فالميتُ عندَمَا يدفنُ يعودُ إليهِ الروحُ فيسمعُ، فالرسولُ قالَ: “إذَا قُبِرَ الميتُ أَوِ الإنسانُ وتوَلَّى عنهُ أصحابُهُ إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إذَا انصَرَفُوْا”. وحادثَةُ قليبِ بدرٍ تدلُّ علَى هذَا الذِي ذكرنَاه، فلو لمْ يكونوا يسمعونَ لماذا يخاطبُهم الرسولُ ويقولُ لعمرَ هذَا الكلامَ، والنبيُّ هوَ الذي نزلَتْ عليهِ هذهِ الآيةُ. (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُوْرِ).
وَقَالَ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ:
فَدَعْ عَنكَ التَّذَكُّرَ كُلَّ يَومٍ *** وَرُدَّ حَرَارَةَ القَلبِ الكَئِيبِ
وَخَبِّرْ بِالَّذِي لَا عَيبَ فِيهِ *** بِصِدقٍ غَيرِ إِخبَارِ الكَذُوبِ
بِمَا صَنَعَ المَلِيكُ غَدَاةَ بَدرٍ *** لَنَا فِي المُشرِكِينَ مِنَ النَّصِيبِ
غَدَاةَ كَأَنَّ جَمعَهُمُ حِرَاءٌ *** بَدَت أَركَانُهُ جُنحَ الغُرُوبِ
فَلَاقَينَاهُمُ مِنَّا بِجَمعٍ *** كَأُسدِ الغَابِ مُردَانٍ وَشِيبِ
أَمَامَ مُحَمَّدٍ قَد وَازَرُوهُ *** عَلَى الأَعدَاءِ فِي لَفحِ الحُرُوبِ
بِأَيدِيهِم صَوَارِمُ مُرهَفَاتٌ *** وَكُلُّ مُجَرَّبٍ خَاظِي الكُعُوبِ
فَغَادَرنَا أَبَا جَهلٍ صَرِيعًا *** وَعُتبَةَ قَد تَرَكنَا بِالجَبُوبِ
وَشَيبَةَ قَد تَرَكنَا فِي رِجَالٍ *** ذَوِي حَسَبٍ إِذَا نُسِبُوا حَسِيبِ
يُنَادِيهِم رَسُولُ الله لَمَّا *** قَذَفنَاهُم كَبَاكِبَ فِي القَلِيبِ
أَلَم تَجِدُوا كَلَامِيَ كَانَ حَقًّا *** وَأَمرُ الله يَأخُذُ بِالقُلُوبِ
فَمَا نَطَقُوا وَلَو نَطَقُوا لَقَالُوا *** صَدَقتَ وَكُنتَ ذَا رَأيٍ مُصِيبِ
وهنا أقولُ: عندَمَا أسمَعُ مثلَ هذَا، أسأَلُ اللهَ العافِيَةَ، تصَوَّرُوا حسرَةَ هؤلَاءِ وقد عايَنُوا ما كانَ يُحَذِّرُهم منهُ رسُولُ اللهِ ﷺ، وما كانَ يشفِقُ عليهِم أن يُصِيبَهُم، وهوَ المَوتُ على الكُفرِ والعياذُ باللهِ، وحاوَلَ المحَاوَلَاتِ العَظِيمَةَ الكثِيرَةَ، وسَعَى بكُلِّ ما يَقدِرُ لكي لا يُصِيبَهُم هذَا الأمرُ، وهُوَ الموتُ عَلَى الكُفرِ، وهُمُ الآنَ يسمَعُونَ: “هَل وَجَدتُم مَا وَعَدَ رَبُّكُم حَقًّا“، كيفَ حسرَتُهم، ولا يرجِعُون، ها هُم وجدُوا ما وعدَهُم ربُّهم حقًّا، ولكن هيهَاتَ، لا يرجِعُون، وهذهِ أعظَمُ الحسرَاتِ، لا يَخرُجُونَ منهَا، ولا يُخَفَّفُ عنهُم من عذَابِهَا، وهذَا الذِي كانَ ﷺ يشفِقُ عليهِم منهُ، لكنَّهُم ليسُوا فقَط من يتَحَسَّرُ علَى نفسِهِ، بل وكلُّ مَن خالَفَ أمرَ اللهِ وأَمرَ رسولِهِ ﷺ وتجَرَّأَ على الحَرَامِ، فإنَّهُ سَيَأتِي عَلَيهِ يَومٌ إِن لَم يَتُب وَلَم يَغفِرِ اللهُ لهُ ويتَحَسَّرُ على هذَا الذِي عَمِلَ، عندَمَا يَجِدُ ما أَودَتهُ إلَيهِ نفسُهُ، ووقتَهَا لا تنفَعُهُ الحسرَةُ ولا النَّدَامَةُ، فالذِي أكلَ أموالَ الناسِ بالبَاطِلِ، والذِي قصَّرَ في أداءِ الواجبَاتِ واجتِنَابِ المحرَّمَاتِ، والذِي قصَّرَ في إنفاقِ مالِهِ على الوَجهِ الذِي أمرَ اللهُ بهِ، والذِي قصَّرَ في تَعلِيمِ الناسِ علمَ الدِّينِ معَ القُدرَةِ، سيتَحَسَّرُ إن لَم يَتُب قبلَ المَوتِ.
وَلَمَّا وَصَلَ الخَبَرُ إِلَى أَهلِ مَكَّةَ وَتَحَقَّقُوهُ قَطَّعَتِ النِّسَاءُ شُعُورَهُنَّ، وَعُقِرَت خُيُولٌ كَثِيرَةٌ وَرَوَاحِلُ، وبَينَمَا كانَ أَبُو لَهَبٍ جَالِسًا إِذ قَالَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو سُفيَانَ وَاسمُهُ المُغِيرَةُ بنُ الحَارِثِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ قَد قَدِمَ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَلُمَّ إِلَيَّ، فَعِندَكَ لَعَمرِي الخَبَرُ، قَالَ فَجَلَسَ إِلَيهِ وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيهِ فَقَالَ: يَا بنَ أَخِي، أَخبِرنِي كَيفَ كَانَ أَمرُ النَّاسِ؟، قَالَ: وَالله مَا هُوَ إِلَّا أَن لَقِينَا القَومَ فَمَنَحنَاهُم أَكتَافَنَا يَقتُلُونَنَا كَيفَ شَاءُوا وَيَأسِرُونَنَا كَيفَ شَاءُوا، وَايمُ اللهِ مَعَ ذَلِكَ مَا لُمتُ النَّاسَ، لَقِينَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيلٍ بُلقٍ بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ، وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيءٌ، فَقَامَ مُوَلِّيًا ذَلِيلًا، فَوَاللهِ مَا عَاشَ إِلَّا سَبعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ اللهُ بِالعَدَسَةِ فَقَتَلَتهُ، وتَرَكَهُ ابنَاهُ بَعدَ مَوتِهِ ثَلَاثًا، مَا دَفَنَاهُ حَتَّى أَنتَنَ، وَكَانَت قُرَيشٌ تَتَّقِي هَذِهِ العَدَسَةَ كَمَا تَتَّقِي الطَّاعُونَ، حَتَّى قَالَ لَهُمَا رَجُلٌ مِن قُرَيشٍ: وَيحَكُمَا، أَلَا تَستَحِيَانِ، إِنَّ أَبَاكُمَا قَد أَنتَنَ فِي بَيتِهِ، لَا تَدفِنَانِهِ؟!، فَقَالَا: إِنَّا نَخشَى عَدوَى هَذِهِ القُرحَةِ، فَقَالَ: انطَلِقَا فَأَنَا أُعِينُكُمَا عَلَيهِ، فَوَالله مَا غَسَّلُوهُ إِلَّا قَذفًا بِالمَاءِ عَلَيهِ مِن بَعِيدٍ، مَا يَدنُونَ مِنهُ، ثُمَّ احتَمَلُوهُ إِلَى أَعلَى مَكَّةَ، فَأَسنَدُوهُ إِلَى جِدَارٍ ثُمَّ رَضَمُوا عَلَيهِ بِالحِجَارَةِ.
وَروَى البيهَقِيُّ عَن عَبدِ الرَّحمَنِ رَجُلٍ مِن أَهلِ صَنعَاءَ قَالَ: أَرسَلَ النَّجَاشِيُّ ذَاتَ يَومٍ إِلَى جَعفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصحَابِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيهِ وَهُوَ فِي بَيتٍ عَلَيهِ خُلقَانٌ (ثيابٌ رَثَّةٌ بَالِيَةٌ) جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ، قَالَ جَعفَرٌ: فَأَشفَقنَا (خِفنَا) مِنهُ حِينَ رَأَينَاهُ عَلَى تِلكَ الحَالِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وُجُوهِنَا قَالَ: إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِمَا يَسُرُّكُم، إِنَّهُ جَاءَنِي مِن نَحوِ أَرضِكُم عَينٌ لِي، فَأَخبَرَنِي أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَد نَصَرَ نَبِيَّهُ ﷺ وَأَهلَكَ عَدُوَّهُ، وَأُسِرَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وفلانٌ، التَقَوا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ بَدرٌ كَثِيرُ الأَرَاكِ، كَأَنِّي أَنظُرُ إِلَيهِ، كُنتُ أَرعَى بِهِ لِسَيِّدِي إِبِلَهُ، فَقَالَ لَهُ جَعفَرٌ: مَا بَالُكَ جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ، لَيسَ تَحَتَكَ بِسَاطٌ، وَعَلَيكَ هَذِهِ الأَخلَاقُ (الثيابُ القديمةُ الباليةُ)؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِيمَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى عِيسَى عَلَيهِ السَّلَامُ أَنَّ حَقًّا عَلَى عِبَادِ اللهِ أَن يُحدِثُوا للهِ عَزَّ وَجَلَّ تَوَاضُعًا عِندَمَا أَحدَثَ لَهُم مِن نِعمَةٍ، فَلَمَّا أَحدَثَ الله عَزَّ وَجَلَّ لِي نَصرَ نَبِيِّهِ ﷺ أَحدَثتُ لَهُ هَذَا التَّوَاضُعَ.
وقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لِرَسُولِ الله ﷺ: دَعنِي أَنزِع ثَنِيَّتَي سُهَيلِ بنِ عَمرٍو يَدلَع لِسَانُهُ (أي يَخرُجُ)، فَلَا يَقُومُ عَلَيكَ خَطِيبًا فِي مَوطِنٍ أَبَدًا، فقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِعُمَرَ فِي هَذَا: “إِنَّهُ عَسَى أَن يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذُمُّهُ“، وَهَذَا هُوَ المَقَامُ الَّذِي قَامَهُ سُهَيلٌ بِمَكَّةَ حِينَ مَاتَ رَسُولُ الله ﷺ وَارتَدَّ مَنِ ارتَدَّ مِنَ العَرَبِ وَنَجَمَ النِّفَاقُ بِالمَدِينَةِ وَغَيرِهَا، فَقَامَ بِمَكَّةَ فَخَطَبَ النَّاسَ وَثَبَّتَهُم عَلَى الدِّينِ الحَنِيفِ.
وَكَانَ العباسُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ عَمُّ رسولِ اللهِ ﷺ في الأُسَارَى، لأَنَّهُ كانَ مَا زَالَ عَلَى شِركِهِ يَومَ بَدرٍ وَأَسلَمَ بعدَ ذَلِكَ، وكَانَ رَجُلًا مُوسِرًا، فَادَّعَى أَنَّهُ لَا مَالَ عِندَهُ، فقَالَ: لهُ الرَّسُولُ ﷺ فَأَينَ المَالُ الَّذِي دَفَنتَهُ أَنتَ وَأُمُّ الفَضلِ (زوجتُهُ)، وَقُلتَ لَهَا: إِن أُصِبتُ فِي سَفَرِي فَهَذَا لِبَنِيَّ الفَضلِ وَعَبدِ الله وَقُثَمَ؟، فَقَالَ: وَالله إِنِّي لَأَعلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ الله، إِنَّ هَذَا شَيءٌ مَا عَلِمَهُ إِلَّا أَنَا وَأُمُّ الفَضلِ، وكَانَ العَبَّاسُ يُدَافِعُ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ بمَكَّةَ، وكانَ يومَ البَيعَةِ هوَ المُتَكَلِّمَ عن رسُولِ اللهِ ﷺ معَ أنَّهُ كانَ مشرِكًا، وكانَ قد خَرَجَ عَلَى رسولِ اللهِ ﷺ يومَ بدرٍ رَغمًا عَنهُ، فهَدَاهُ اللهُ بعدَ ذَلِكَ، وكانَ رسُولُ اللهِ ﷺ يَعطِفُ علَيهِ وهُوَ فِي الأَسرِ وَيَرعَاهُ وَيُحسِنُ إِلَيهِ.اهـ
ومِن عجائِبِ بَدرٍ الباقِيةِ، مَا حدَّثَ بهِ بعضُ أهلِ السِّيَرِ مِن أنّ طُبُولًا يُسمَع قَرعُها بِبَدرٍ إلى ذلكَ الوقتِ، فروَى القسطَلَّانِيُّ عنِ ابنِ مَرزُوقٍ التِلِمسَانِيِّ قال: أنا جرَّبتُهَا فسَمِعتُ صَوتَ طَبلٍ سَماعًا مُحقَّقًا لا شَكَّ أنه صَوتُ طَبلٍ، ثُمّ نزَلنَا بِبَدرٍ فظَلَلتُ أسمَعُ ذلكَ الصَّوتَ يَومِي المَرّةَ بَعد المَرَّة، ولقَد أُخبِرتُ أنَّ ذلكَ الصَّوتَ لا يَسمَعُه جميعُ النَّاس.
واللهُ تعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
دعاء
اللهم انصر عبادك المستضعفين في فلسطين وسخر لهم الأرض ومن عليها والسماء ومن فيها. اللهم بقوتك، وبغوثك، وبحمايتك لمن احتمى بآياتك، نسألك يا الله يا سميع يا قريب، يا مجيب يا منتقم يا جبار، يا قهار يا شديد البطش، يا عظيم القهر يا من لا يعجزه قهر الجبابرة، ولا يعظم عليه هلاك المتمردين من الملوك والأكاسرة، أن تجعل كيد المحتلين في نحرهم، واجعل مكرهم عائدًا إليهم. اللهم اجعل للمرابطين النّصرة والعزّة والغلبة والقوة والهيبة في قلوب أعدائهم يا أكرم الأكرمين.
اللهم اغفِر لمن سبقَنا مِن إخوانِنا بالإيمانِ اللهم اجمعنا بهم في الفردوسِ الأَعلَى، اللهم ارحم مشايخَنا اللهم اجمعنا بهم في الفردوسِ الأعلَى يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ استجب لنا بحقِّ حبيبِك محمدٍ ﷺ، اللهم اجعلنا لدعوةِ نبيِّكَ سامعينَ، ولأمرِه مطيعينَ، ومِن رفقائِه المصاحِبينَ، ومِن أوليائِك المخلصينَ، اللهم وَأَبلِغهُ منَّا السلامَ.
اللهم صلِّ على محمدٍ بعددِ مَن صَلَّى عليه مِن خلقِك، وصل عليه بعددِ مَن لم يُصَلِّ عليه مِن خلقِك، وصلِّ على محمدٍ كما تنبَغِي الصلاةُ عليهِ، وصلِّ على محمدٍ كما تجبُ الصلاةُ عليه، وصلِّ على محمدٍ كما أمرتَنا بالصلاةِ عليه، اللهم اجعل صلواتِك وبركاتِك ورحمتَك على سيدِ المرسلينَ وإمامِ المتقينَ محمدٍ عبدِك ورسولِك إمامِ الخيرِ وقائدِ الخيرِ ورسولِ الرحمةِ، اللهم ابعثه مقامًا محمودًا، اللهم ءاتِه في أمتِه وذريتِه ما تُقِرُّ بِهِ عينَه واجزِهِ عنَّا خيرَ ما جزَيتَ نبيًّا عن أمتِه، واجزِ الأنبياءَ كلَّهم خيرًا.
اللهم اختِم شهرَنَا هذَا بالعفوِ والمغفرةِ والرضوانِ والعتقِ مِنَ النيرانِ وتَقَبَّل صيامَنَا وقيامَنَا وتلاوَتَنَا للقرآنِ وطاعاتِنَا، واجعَلِ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبِنا وجلاءَ همومنَا ونورَ صدورِنَا يا ربَّ العالمينَ، اللهم أَعِد علينَا شهرَ رمضانَ أعوامًا عديدةً، وقد تحقَّقَ لهذهِ الأمةِ نصرُها وعزُّهَا واجتماعُ كلِمَتِهَا يا أكرمَ الأكرمينَ يا ربَّ العالمينَ يا اللهُ، اللهم اجعَلنَا في هذا الشهرِ الكريمِ مِنَ المقبولينَ ولا تجعلنَا مِنَ المطرودينَ اللهم ارزقنَا الحجَّ وزيارةَ الحبيبِ ﷺ واجعلنا مِن عبادِكَ الطائعينَ الشاكرينَ الصابرينَ الخاشعينَ المجبولينَ على حبِّ طاعتِكَ اللهم آميَن بجاهِ سيدِنَا محمدٍ ﷺ وكلِّ أنبيائكَ والرسلِ منهم وكلِّ أوليائِكَ وتقَبَّل مِن إخوانِنَا المسلمينَ صالحَ أعمالِهِم يا اللهُ.
وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين، سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفُون، وسلامٌ على المرسَلِين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.