شرح ألفية السيرة النبوية للحافظ زين الدين العراقي (19)

المقدمة

الحَمدُ للهِ المُبدِئِ المُعِيدِ، الفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، ذِي العَرشِ المَجِيدِ، وَالبَطشِ الشَّدِيدِ، الهَادِي صَفوَةَ العَبِيدِ، إِلَى المَنهَجِ الرَّشِيدِ، وَالمَسلَكِ السَّدِيدِ، المُنعِمِ عَلَيهِم بَعدَ شَهَادَةِ التَّوحِيدِ، بِحِفظِ عَقَائِدِهِم عَن ظُلُمَاتِ التَّشكِيكِ وَالتَّردِيدِ، المُوَفِّقِ لَهُم إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِهِ المُصطَفَى وَاقتِفَاءِ آثَارِ صَحبِهِ الأَكرَمِينَ المُكَرَّمِينَ بِالتَّأيِيدِ وَالتَّسدِيدِ، المُعَرِّفِ لَهُم تَنزِيهَهُ فِي ذَاتِهِ وَأَفعَالِهِ بِمَحَاسِنِ أَوصَافِهِ الَّتِي لَا يُدرِكهَا إِلَّا مَن أَلقَى السَّمعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، المُنعِمِ عَلَيهِم بِمَعرِفَةِ أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَردٌ لَا مَثِيلَ لَهُ، صَمَدٌ لَا ضِدَّ لَهُ، مُنفَرِدٌ لَا نِدَّ لَهُ، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ قَدِيمٌ، هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ، وَأَشهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ الحَقُّ المُبِينُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ المُصطَفَى عَلَى المُرسَلِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ أَفضَلِ الصِّدِّيقِينَ، وَعَلَى عُمَرَ المَعرُوفِ بِالقُوَّةِ فِي الدِّينِ، وَعَلَى عُثمَانَ المَقتُولِ ظُلمًا بِأَيدِي المُجرِمِينَ، وَعَلَى عَلِيٍّ أَقرَبِهِم نَسَبًا عَلَى اليَقِينِ، وَعَلَى جَمِيعِ آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ، أَمَّا بَعدُ:

ذكر أحداث السنة الثالثة
……………………. وَفـِي الثَّالِثَةِ *** دُخُـولُـهُ بِحَفصَـةَ القَانِـتَـةِ
وَالزَّينَبَـيـنِ وَبَنَـى ابنُ عَفَّان *** بِأُمِّ كُـلـثُـومٍ وَفِيهِ الـجَمعَان
إِلـتَـقَـيَا بِـأُحُـدٍ ………………. *** ………………………………………
(وَفِي الثَّالِثَةِ، دُخُولُهُ بِحَفصَةَ القَانِتَةِ): وَفِي السَّنةِ الثَّالِثَةِ كانَ دُخُولُهُ ﷺ بِحَفصَةَ بنتِ عُمرَ بنِ الخَطّابِ رضيَ الله عنها وعَن أبِيهَا، وأُمُّهَا زينبُ بنتُ مَظعونِ بنِ حَبِيبٍ، وُلِدَت حَفصَةُ قبلَ بِعثَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِخَمسِ سِنِينَ، وكانَت قبلَهُ تحتَ خُنَيسِ بنِ حُذافةَ فتُوُفِّيَ عنهَا، فتزَوَّجَها النبيُّ ﷺ في شعبَانَ عَلَى رأسِ ثلَاثِينَ شهرًا مِنَ الهِجرَةِ قبلَ أُحُدٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ.

تُوفِّيَت رضي الله عنها فِي شعبَانَ سنَةَ خَمسٍ وأربَعِينَ في خلَافَةِ معاوِيَةَ وهِيَ ابنَةُ سِتِّينَ سَنَةً ودُفِنَت بالبَقيعِ، وقد عُرِفَت حفصةُ رضيَ الله عنها بالقَانِتَةِ على لِسانِ جبريلَ عليهِ السّلامُ، فقد رَوَى الطّبرانيُّ في المُعجَمِ الكَبِيرِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَّقَ حَفصةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ فَوَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رَأسِهِ وَقَالَ: مَا يَعبَأُ اللهُ بِكَ يَا ابنَ الخَطَّابِ بَعدَهَا، فَنَزَلَ جِبرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يا محمدُ، إِنَّ الله يَأمُرُكَ أَن تُرَاجِعَ حَفصَةَ رَحمَةً لِعُمَرَ، وفي روايةٍ: رَاجِع حَفصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَإِنَّهَا زَوجَتُكَ فِي الجَنَّةِ.

(وَالزَّينَبَينِ): وَبَنَى النَّبِيُّ ﷺ في السّنةِ الثّالثةِ بالزَّينبَينِ، زينبَ بنتِ جَحشٍ، وزينبَ بنتِ خُزَيمةَ بنِ الحارث، أمَّا زينبُ بنتُ جَحش بن رِئاب بن يَعمُر فهِيَ بِنتُ عمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، فأُمُّها أُمَيمَةُ بنتُ عبدِ المطَّلِبِ بنِ هاشِمٍ.

كانَت تحتَ زَيدِ بنِ حارثةَ بنِ شُرَحْبِيلَ، ثم تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي ذِي القَعدَةِ سنَةَ خَمسٍ مِنَ الهِجرَةِ وَهِيَ يومَئِذٍ بِنتُ خمسٍ وثلَاثِينَ سَنَةً، وقَد أطعَمَ ﷺ حينَ بِنَائِهِ بِهَا خَلقًا كثيرًا مِن طعَام قُدِّمَ إلَيهِ فِي قَصعَةٍ أَهدَتهَا إليهِ أُمُّ سُلَيمٍ سَهلَةُ بِنتُ مِلحانَ أُمُّ أَنَسٍ خادِمِهِ، فَلَمَّا رُفِعَ الطعامُ مِن بَينِهِم وقد شَبِعُوا وُجِدَ كمَا وُضِعَ أو أَكثَرَ، وهذَا مِن مُعجِزاتِ النَّبِيِّ ﷺ الشريفَةِ، وتُوُفِّيَت زينَبُ رضيَ الله عَنها وهِيَ ابنَةُ ثَلَاثٍ وخَمسِينَ سَنَةً وصَلَّى علَيهَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه ودُفِنَت بِالبَقِيعِ، وهيَ أوَّلُ أزوَاجِهِ مَوتًا بَعدَه ﷺ.

وأمَّا زَينَبُ بنتُ خُزَيمةَ بنِ الحَارِثِ، وكانَ لَقَبُهَا فِي الجاهِلِيَّةِ أمَّ المَسَاكِينِ.

تزَوَّجَ بهَا النَّبِيُّ ﷺ علَى رأسِ أحَدٍ وثلَاثِينَ شهرًا مِنَ الهِجرَةِ، فمَكَثَت عِندَهُ ثمَانِيَةَ أشهُرٍ، وتُوُفِّيَت في ءاخِرِ ربيعٍ الآخِرِ على رأسِ تِسعٍ وثلَاثِينَ شهرًا مِنَ الهِجرَةِ، وصلَّى علَيهَا النبيُّ ﷺ ودُفِنَت بالبَقِيعِ، وكانَ سِنُّها يومَ تُوُفِّيَت نحوَ ثلَاثِينَ سنةً.

وقد طَعَن بعضُ الكُفَّارِ الملَاحِدَةُ في النَّبِيِّ ﷺ بِقَولِهِم: إنَّ محمَّدًا احتَالَ علَى زَيدِ بنِ حارِثَةَ لَمَّا عَلِقَت نفسُهُ بزَوجَتِهِ زينَبَ بِنتِ جَحشٍ حتى تَوَصَّلَ لزِوَاجِهَا، والجوابُ أنَّ زَينبَ لم تَكُن معرفَتُهُ ﷺ بِهَا جديدَةً لأنَّها بنتُ عَمَّتِه أُمَيمةَ كمَا ذكَرنَا، وكان رَسولُ اللهِ ﷺ أرادَ أن يُزَوِّجَهَا زيدَ بنَ حارِثَةَ مَولَاهُ فكَرِهَت ذلك (أي لَم تَمِل إلى زَيدٍ إلّا أنّها لَم تَكرَه فِعلَ الرسول ﷺ)، ثم رَضِيَت بمَا صَنَع رسولُ اللهِ ﷺ فزَوَّجَها إيَّاه، ثُمَّ أَعلَمَ اللهُ عَزَّ وجل نَبِيَّه ﷺ أنها تكُونُ مِن أزوَاجِهِ فكَانَ يَستَحيِي أن يَأمُرَهُ بطَلَاقِهَا، وكَانَ لَا يزَالُ يَكُونُ بَينَ زَيدٍ وزينبَ ما يكُونُ بينَ الأَزوَاجِ مِن خُصُومَاتٍ، فأَمَرَه رسولُ الله ﷺ أن يُمسِكَ عليه زَوجَه وأن يَتَّقِيَ اللهَ، فقال زَيدٌ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ زَينبَ اشتَدَّ عَلَيَّ لِسانُها وأنَا أُرِيدُ أن أطَلِّقَها، فقَالَ لَهُ: “اتَّقِ اللهَ وَأَمسِك عَلَيكَ زَوجَكَ“، فالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُخفِي مَا أُخبِرَ بوَحيٍ من غير القرآن مِن أَنَّ زَينَبَ سَتَصِيرُ زوجَتَهُ، ولَم يكُن أُمِرَ بَعدُ بِالجَهرِ بذلِكَ، وهذا ليسَ مِنَ الخِيانَةِ في شىءٍ ولا هُوَ مِنَ التَّقصِيرِ فِي التَّبلِيغِ، لأنّهُ كانَ ﷺ ينتَظِرُ أن يُؤمَرَ بالجَهرِ لِيَجهَرَ، وكان يَحمِلُه على إخفاءِ ذلكَ خَشيةُ قولِ بعض المنافقين: تَزَوَّجَ امرأَةَ ابنِهِ، أيِ الذِي تَبَنَّاهُ ﷺ قَبلَ نُزُولِ تَحرِيمِ التّبَنِّي، وأَرَادَ اللهُ إبطالَ ما كانَ علَيهِ النَّاسُ مِن أحكامِ التَبَنِّي قبلَ نُزولِ تَحريمِهِ بأمرٍ لا أبلغَ فِي الإِبطَالِ مِنهُ، وهو تَزَوُّجُ النّبِيِّ امرأَةَ الذِي يُدعَى ابنًا له، ثُم نزَلَ تحرِيمُ التبَنِّي في القرءَانِ، فإنه لَمَّا نزل قوله تعالى: ((فلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَ وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا))، أَظهَرَ ﷺ ذلكَ فتَلَاهُ عَلَى النَّاسِ قُرءَانًا، وهذَا معنَى قولِهِ تعَالَى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ وَهُوَ زَيدُ بنُ حَارِثَةَ، أَنعَمَ اللهُ عليهِ بالإِسلَامِ، وأنعَمَ عليهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالعِتقِ، وَزَوَّجَهُ بابنَةِ عَمَّتِهِ زَينَبَ بِنتِ جحشٍ ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ أي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ما أَظهَرَ ما نَزَلَ بهِ الوَحيُ وهذا في غير القرآن وكان في بَدءِ الأَمرِ لِأَنَّهُ مَا أُمِرَ بإِظهَارِهِ ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾ لَا تُرِيدُ أَن يَقُولُوا تَزَوَّجَ زَوجَةَ ابنِهِ، لِأَنَّهُ مَا نَزَلَ حُكمُ تَحرِيمِ التَّبَنِّي بَعدُ ﴿وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾ أي فَارَقَهَا زَيدٌ وبَعدَ ذَلِكَ كَان تَزوِيجُ النَّبِيِّ ﷺ بِهَا ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ أيِ الَّذِينَ تَبَنَّوهُم مِن قَبلُ، فَفِي تزوِيجِ النَّبِيِّ ﷺ بِزَينَبَ بنتِ جَحشٍ إِبطَالُ حُكمِ التَّبَنِّي ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾.

وكذلك أمر آخر متعلق بقصة زينب بنت جحش رضي الله عنها نبينه هنا: (أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِنِسَاءِ الرَّسُولِ ﷺ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِى اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ) فَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ انْسِيَاقًا خَلْفَ وَهْمِهِمُ الْفَاسِدِ وَإِنَّمَا الَّذِى يُثْبِتُهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ يَقَعْ بِوَلِىٍّ وَشَاهِدَيْنِ كَمَا هُوَ شَأْنُ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ حُكْمٌ خَاصٌّ بِحَيْثُ (فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَزَوُّجَ النَّبِىِّ) ﷺ (بِهَا) حَصَلَ بِكِتَابَةٍ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الْمَوْجُودِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ فَهُوَ (مُسَجَّلٌ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهَذِهِ كِتَابَةٌ خَاصَّةٌ بِزَيْنَبَ

فَإِنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقَانِ بِفِعْلِ زَوَّجَ لا بِلَفْظِ الْجَلالَةِ كَمَا لَوْ قُلْتَ جَلَبْتُ لَكَ هَذِهِ الْبِضَاعَةَ مِنَ الصِّينِ فَإِنَّ الْجَلْبَ قَدْ حَصَلَ مِنَ الصِّينِ وَلا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ كُنْتَ بِذَاتِكَ مَوْجُودًا هُنَاكَ.

اللهُ تعالى منزَّهٌ عَنْ أنْ يكونَ في جهةٍ مِنَ الجهاتِ فهوَ لا يتشرفُ بجهةِ العلوِّ ولا غيرِها.

قالَ الراغبُ الأصبهاني: “فوقَ” يُستعمَلُ في المكانِ والزمانِ والجسمِ والعددِ والمنزلةِ الدنيويةِ والأخرويةِ والقهرِ:

فالأولُ: باعتبارِ العلوِّ المكانِّي ويقابلُه “تحت” نحوُ: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىْ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ)).
وَالثَّانِي: بِاعْتِبَارِ الصُّعُودِ وَالانْحِدَارِ نَحْوُ: ((إِذْ جَاؤُوْكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)).
وَالثَّالِثُ: فِي الْعَدَدِ نَحْوُ: ((فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ)).
وَالرَّابِعُ: فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ كَقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِيْ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوْضَةً فَمَا فَوْقَهَا)).
وَالْخَامِسُ: بِاعْتِبَارِ الْمَنْزِلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ نَحْوُ: ((وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)).
وَالسَّادِسُ: بِاعْتِبَارِ الْمَنْزِلَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ نَحْوُ: ((وَالَّذِيْنَ اتَّقَوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَالسَّابِعُ: فِي القَهْرِ نَحْوُ قَوْلِهِ: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))، وقولِه: ((يَخَافُوْنَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))”.
(وَبَنَى ابنُ عَفَّان، بِأُمِّ كُلثُومٍ): وفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الهِجرَةِ بَنَى عُثمَانُ بنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِأُمِّ كُلثُومٍ رضيَ اللهُ عنهَا بِنتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، بَعدَ مَوتِ أُختِهَا رُقَيَّةَ الَّتِّي كَانَت تَحتَهُ.

وَقَد كَانَ مَوتُهَا بَعدَ بَدرٍ بِلَيَالٍ، وَلَم يَحضُر سَيِّدُنَا عُثمَانُ بَدرًا بِسَبَبِ مَرَضِ زَوجَتِهِ رُقَيَّةَ، فَجَلَسَ لِتَمرِيضِهَا بِأَمرٍ مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَسَمَ لَهُ رسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الغَنَائِمِ، وَلِأَنَّ سَيِّدَنَا عُثمَانَ تَزَوَّجَ بِنتَيِ الرَّسُولِ ﷺ عُرِفَ بِذِي النُّورَينِ، فَعَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَتَى عُثمَانَ عندَ بَابِ المَسجِدِ فَقَالَ: “يَا عُثمَانُ هَذَا جِبرِيلُ يُخبِرُنِي أَنَّ اللهَ زَوَّجَكَ أُمَّ كُلثُومٍ، بِمِثلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ، وَعَلَى مِثلِ صُحبَتِهَا“.

وقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “أَلَا أَبُو أَيمٍ (أَي أَمَةٍ وَالمُرَادُ فَتَاةٍ)، أَلَا أَخُو أَيمٍ يُزَوِّجُ عُثمَانَ، فَإِنِّي قَد زَوَّجتُهُ ابنَتَينِ، وَلَو كَانَ عِندِي ثَالِثَةٌ لَزَوَّجتُهُ، وَمَا زَوَّجتُهُ إِلَّا بِوَحيٍ مِنَ السَّمَاءِ“، وَعَنِ الحسَنِ قالَ: إنَّمَا سُمِّيَ عثمانُ ذَا النُّورَينِ لِأَنَّا لا نَعلَمُ أَحَدًا أغلَقَ بَابَهُ عَلَى ابنَتَي نَبِيٍّ غيرَهُ.

وأمُّ كُلثومٍ مِمَّن عُرِفَت بكُنيَتِهَا ولَم يُعرَفِ اسمُها، وقيل: لعلَّ كُنيَتَها هيَ اسمُها، وكان قد تزوَّجَهَا أوَّلًا عُتَيبةُ بنُ أَبِي لَهَبٍ ثمَّ فارَقَهَا قبلَ دُخُولِهِ بِهَا لَمَّا طَلَب مِنه ذلَكَ أبُو لَهَبٍ (والقصةُ عندَ البيهقيِّ عَنْ هَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ : كَانَ أَبُو لَهَبٍ وَابْنُهُ عُتَيْبَةُ قَدْ تَجَهَّزَا إِلَى الشَّامِ وَتَجَهَّزْتُ مَعَهُمَا، فَقَالَ ابْنُهُ عُتَيْبَةُ: وَاللَّهِ لَأَنْطَلِقَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُوذِيَنَّهُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ، هُوَ يَكْفُرُ بِالَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” اللَّهُمَّ ابْعَثْ ‌عَلَيْهِ ‌كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مَا قُلْتَ لَهُ؟ قَالَ: كَفَرْتُ بإِلَهِهِ الَّذِي يَعْبُدُ قَالَ: فَمَاذَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُمَّ ابْعَثْ ‌عَلَيْهِ ‌كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا آمَنُ عَلَيْكَ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ قَالَ: فَسِرْنَا حَتَّى نَزَلْنَا الشَّرَاةَ وَهِيَ مَأْسَدَةٌ فَنَزَلْنَا إِلَى صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ مَا أَنْزَلَكُمْ هَذِهِ الْبِلَادَ وَإِنَّهَا مَسْرَحُ الضَّيْغَمِ (أي مليئة بالأسود)؟ فَقَالَ لنا أَبُو لَهَبٍ: إِنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ حَقِّي؟ قُلْنَا: أَجَلْ يَا أَبَا لَهَبٍ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ دَعَا عَلَى ابْنِي دَعْوَةً وَاللَّهِ مَا آمَنُهَا عَلَيْهِ، فَاجْمَعُوا مَتَاعَكُمْ إِلَى هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ، ثُمَّ افْرِشُوا لِابْنِي عُتَيْبَةَ ثُمَّ افْرِشُوا حَوْلَهُ قَالَ: فَفَعَلْنَا جَمَعْنَا الْمَتَاعَ حَتَّى ارْتَفَعَ ثُمَّ فَرَشْنا لَهُ عَلَيْهِ، وَفَرَشْنَا حَوْلَهُ فَبَيْنَا نَحْنُ حَوْلَهُ وَأَبُو لَهَبٍ مَعَنَا أَسْفَلَ وَبَاتَ هُوَ فَوْقَ الْمَتَاعِ، فَجَاءَ الْأَسَدُ فَشَمَّ وُجُوهَنَا، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَا يُرِيدُ تَقَبَّضَ ثُمَّ وَثَبَ فَإِذَا هُوَ فَوْقَ الْمَتَاعِ فَجَاءَ الْأَسَدُ فَشَمَّ وَجْهَهُ ثُمَّ هَزَمَهُ هَزْمَةً فَفَضَخَ رَأْسَهُ (أي كسر رأسه) فَقَالَ: سَيْفِي يَا كَلْبُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيَّ غَيْرُ ذَلِكَ وَوَثَبْنَا فَانْطَلَقَ الْأَسَدُ وَقَدْ فَضْخَ رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: قَدْ عَرَفْتُ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِيَنْقَلِبَ مِنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ).

أما أم كلثوم فتَزَوَّجها بعدَهُ عثمانُ بنُ عَفّانَ رضي الله عنه في السّنةِ الثالثَةِ مِنَ الهِجرَةِ، إلّا أنّهَا لَم تَلِد له، واستَمَرَّت عِندَه حتى ماتَت رضي الله عنها سنة تِسعٍ مِنَ الهجرة ودُفِنَت بالبَقِيع، وأمَّا رُقَيّةُ فقد وَلَدَت لهُ عَبدَ اللهِ.

وَفِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الهِجرَةِ كَانَت غَزوَةُ نَجدٍ، وَيُقَالُ لَهَا: غَزوَةُ ذِي أَمَرَّ، وحَصَلَت غَزوَةُ الفُرُعِ، وحَصَلَت غزوَةُ بَنِي قَينُقَاعَ.

وَهُمُ المُرَادُونَ بِقَولِهِ تَعَالَى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا، ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وَكَانَ مِن حَدِيثِهِم أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ جَمَعَهُم فِي سُوقِهِم، ثُمَّ قَالَ: “يَا مَعشَرَ يَهُودَ، احذَرُوا مِنَ اللهِ مِثلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيشٍ مِنَ النِّقمَةِ وَأَسلِمُوا، فَإِنَّكُم قَد عَرَفتُم أَنِّي نَبِيٌّ مُرسَلٌ، تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُم وَعَهدِ اللهِ إِلَيكُم”، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَرَى أَنَّا قَومُكَ؟! لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَومًا لَا عِلمَ لَهُم بِالحَربِ فَأَصَبتَ مِنهُم فُرصَةً، إِنَّا وَاللهِ لَئِن حَارَبنَاكَ لَتَعلَمَنَّ أَنَّا نَحنُ النَّاسُ.

وجاء عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا نَزَل هَؤُلَاءِ الآيَاتُ إِلَّا فِيهِم: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ يَعنِي أَصحَابَ بَدرٍ مِن أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقُرَيشٍ ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.

وَذَكَرَ الفُقَهَاءُ أَنَّ بَنِي قَينُقَاعَ كَانُوا أَوَّلَ يَهُودَ نَقَضُوا العَهدَ وَحَارَبُوا فِيمَا بَينَ بَدرٍ وَأُحُدٍ، وكَانَ مِن أَمرِ بَنِي قَينُقَاعَ أَنَّ امرَأَةً مِنَ العَرَبِ قَدِمَت بِجَلَبٍ لَهَا، فَبَاعَتهُ بِسُوقِ بَنِي قَينُقَاعَ وَجَلَسَت إِلَى صَائِغٍ هُنَاكَ مِنهُم، فَجَعَلُوا يُرِيدُونَهَا عَلَى كَشفِ وَجهِهَا فَأَبَت، فَعَمَدَ الصَّائِغُ إِلَى طَرَفِ ثَوبِهَا فَعَقَدَهُ إِلَى ظَهرِهَا، فَلَمَّا قَامَتِ انكَشَفَت سَوأَتُهَا فَضَحِكُوا بِهَا، فَصَاحَت، فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنَ المُسلِمِينَ عَلَى الصَّائِغِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ الصَّائِغُ يَهُودِيًّا، فَشَدَّتِ اليَهُودُ عَلَى المُسلِمِ فَقَتَلُوهُ، فَاستَصرَخَ أَهلُ المُسلِمِ المُسلِمِينَ عَلَى اليَهُودِ فَأُغضِبَ المُسلِمُونَ، فَوَقَعَ بَينَهُم وَبَينَ بَنِي قَينُقَاعَ، فَحَاصَرَهُم رَسُولُ الله ﷺ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكمِهِ، فَقَامَ إِلَيهِ عَبدُ الله بنُ أُبَيِّ ابنِ سَلُولَ حِينَ أَمكَنَهُ اللهُ مِنهُم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَحسِن فِي مَوَالِيَّ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الخَزرَجِ، فَأَعرَضَ النَّبِيُّ ﷺ عَنهُ، فَأَدخَلَ ابنُ سَلُولٍ يَدَهُ فِي جَيبِ دِرعِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ الفُضُولِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “أَرسِلنِي“، قَالَ: لَا وَالله، لَا أُرسِلُكَ حَتَّى تُحسِنَ فِي مَوِالِيَّ، أَربَعِمِائَةِ حَاسِرٍ وَثَلَاثِمِائَةِ دَارِعٍ قَد مَنَعُونِي مِنَ الأَحمَرِ وَالأَسوَدِ، [منعوني من جميع الناس أحمرهم، وأسودهم]، تَحصُدُهُم فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، إِنِّي وَاللهِ امرُؤٌ أَخشَى الدَّوَائِرَ.

وَمَشَى عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ مِن بَنِي عَوفٍ لَهُ مِن حِلفِهِ مِثلُ الَّذِي لَهُم مِن عَبدِ الله بنِ أُبَيٍّ، فَخَلَعَهُم إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَبَرَّأَ إِلَى الله وَإِلَى رَسُولِهِ مِن حِلفِهِم، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤمِنِينَ، وَأَبرَأُ مِن حِلفِ هَؤُلَاءِ الكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِم، قَالَ: فَفِيهِ وَفِي عَبدِ الله بنِ أُبَيٍّ نَزَلَتِ القِصَّةُ مِنَ المَائِدَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، حَتَّى قَولِهِ: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ يَعنِي عَبدَ الله بنَ أُبَيٍّ، إِلَى قَولِهِ: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ يَعنِي عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ.

وَعَزَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى القِتالِ فَسَارَ إلى بَنِي قَينُقاعٍ في جَيشٍ، وجعلَ اللِّوَاءَ الأَبيَضَ بِيَدِ حَمزَةَ عَمِّه ولَم تَكُن راياتٌ يَومئِذٍ، واستَخلَف ﷺ على المدينةِ أبا لُبابةَ، فحاصَرَهُم ﷺ خمسَ عشْرَةَ ليلةً إلى هِلالِ ذِي القَعدَةِ، فحَارَبَ بَنُو قَينُقَاعٍ وتَحصَّنُوا في حِصنِهم وكانُوا أربعَمِائَةِ حَاسِرٍ وثلاثَمِائةِ مُدرَّع، فحَاصَرَهُم ﷺ أشَدَّ الحِصَارِ حتَّى قذَفَ اللهُ في قُلوبِ اليَهودِ الرُّعبَ، فنَزَلُوا على حُكمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمّ تَرَكَهُم رسُولُ اللهِ ﷺ مِن القَتلِ لمصلَحةٍ رءَاها، وَتَنَفَّلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِن سِلاحِهم وخُمِّسَت أَموالُهم، فأخَذَ النّبِيُّ ﷺ صَفِيَّةَ خُمُسِه وجعلَ أربعةَ أخماسٍ لأصحابِه، فكانَ ذلكَ أوّلَ ما خُمِّسَ بعد بَدرٍ.

وَفِي السنَةِ الثالِثَةِ وُلِدَ لِفَاطِمَةَ بِنتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهم، سِبطُ المصطَفَى ﷺ وَرَيحَانَتُهُ، ولَدَتهُ أمُّهُ فاطمَةُ الزهرَاءُ رضي الله عنها في نِصفِ رَمَضَانَ، وعَقَّ عَنهُ جَدُّهُ ﷺ بِكَبشٍ، وحَلَقَ رَأسَهُ وَتَصَدَّقَ بِزِنَتِهِ فِضَّةً، وكانَ أشبَهَ النَّاسِ بِجَدِّهِ ﷺ، وقد جاءَ في الصَّحِيحِ أنَّ أبَا بَكرٍ الصِّدِّيقَ كانَ يحمِلُهُ علَى كَتِفِهِ وهُوَ غُلَامٌ صغِيرٌ ويَمشِي وهُوَ يقُولُ: بأَبِي شَبيهٌ بِالنَّبِيِّ، لستَ شَبِيهًا بِعَلِيٍّ، وعَليٌّ يضحَكُ، وتركَ الخِلَافَةَ ونَزَلَ عنهَا لِمُعَاوِيَةَ صَونًا للدِّمَاءِ، وكانَ يقُولُ: العَارُ وَلَا النَّارُ، ومَاتَ مَسمُومًا سَنَةَ تسعٍ وأربَعِينَ وَعُمُرُه سِتَّةً وأربَعُون سنَةً.

وَحَفِظَ عَنْ جَدِّهِ أَحَادِيْثَ، وَعَنْ أَبِيْهِ وَأُمِّهِ. وروي عَنْ أَبِي الحَوْرَاءِ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: مَا تَذكُرُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ؟ قَالَ: أَذْكُرُ أَنِّي أَخذْتُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلتُهَا فِي فِيَّ، فَنَزَعهَا رَسُوْلُ اللهِ ﷺ بِلُعَابِهَا، فَجَعَلَهَا فِي التَّمْرِ. فَقِيْلَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! وَمَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ هَذِهِ التَّمْرَةِ لِهَذَا الصَّبيِّ؟ قَالَ: (إِنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ). قَالَ: وَكَانَ يَقُوْلُ: (دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِيْنَةٌ، وَالكَذِبَ رِيْبَةٌ). وَكَانَ يُعلِّمُنَا هَذَا الدُّعَاءَ: (اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيْمَنْ هَدَيْتَ وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنه لا يذل من واليت“، وربما قال: تباركت ربنا وتعاليت).

وروي عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا وُلِدَ الحَسَنُ، جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: (أَرُوْنِي ابْنِي؛ مَا سَمَّيْتُمُوْهُ؟). قُلْتُ: حَرْبًا. قَالَ: (بَلْ هُوَ حَسَنٌ) فلمْا وُلِدَ الحُسينُ سمَّيتُهُ حَرْبًا، فجاءَ النبيُّ، فقالَ: «أَرُونِي ابْنِي، ما سمَّيتُموهُ»؟ قلنا: حربًا، قالَ: «بَلْ هُو حُسَينٌ».

وروي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَذَّنَ فِي أُذُنِ الحَسَنِ بِالصَّلاَةِ حِيْنَ وُلِدَ.

وروى الترمذي عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: الحَسَنُ أَشْبَهُ النَّاسِ بِرَسُوْلِ اللهِ ﷺ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ، وَالحُسَيْنُ أَشْبَهُ بِهِ مَا كَانَ أَسفلَ مِنْ ذَلِكَ.

وروى البخاري عن أُسَامَةَ قال: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأخُذُنِي وَالحَسَنَ، وَيَقُوْلُ: (اللَّهُمَّ إِنِّيْ أُحِبُّهُمَا، فَأَحِبَّهُمَا)، وفي رواية عند الترمذي قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْحَسَنِ: (اللَّهُمَّ إِنِّيْ أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ).

وفي البخاري قَالَ أَبُو بَكْرَةَ: رَأَيتُ رَسُولَ الله ﷺ عَلَى المِنْبَرِ، وَالحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ.

وفي حديث عند الترمذي وصححه عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ، مَرْفُوعًا: (الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ).

وفي رواية حسنها الترمذي كذلك عَنْ حُذَيْفَةَ: سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُوْلُ: (هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ، وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَنَّ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ).

وَقَدْ كَانَ الحسن بن علي سَيِّدًا، وَسِيمًا، جَمِيْلًا، عَاقِلًا، رَزِينًا، جَوَادًا، مُمَدَّحًا، خَيِّرًا، دَيِّنًا، وَرِعًا، مُحتشِمًا، كَبِيرَ الشَّأْنِ وَقِيْلَ: إِنَّهُ حَجَّ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَحَجَّ كَثِيْرًا مِنْهَا مَاشيًا مِنَ المَدِيْنَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَنَجَائِبُهُ تُقَادُ مَعَهُ.

بَعْدَ خِلافَةِ سيِّدِنا عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، تَوَلَّى الخِلافَةَ الحَسَنُ بنُ عَلِيّ مدَّةَ سِتَّةِ أَشْهُر، تَوَلَّى الخِلافَة ثُمَّ بَعْدَ تمامِ سِتَّةِ أَشْهُر اكْتَمَلَ ثلاثونَ سَنَة أَخْبَرَ عَنْها ﷺ، بِأَنَّها تَكُونُ عَلَى مِنْهاجِ النُّبُوَّة، يَعْنِى خِلافَة فِيها العَدْل وَفِيها الحُكْمُ بِشَرْعِ الله كَما يُحِبُّ الله وَيُحِبُّ الرّسُولُ ﷺ. قالَ ﷺ: “الخِلافَةُ بَعْدِي ثَلاثُونَ سَنَة ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ عَضُوضا“، يَعْنِى مُلْكٌ ظالِم! يَحْصُلُ ظُلْم فِيما بَعْدَ هٰذه الثّلاثِين سَنَة يَحْصُلُ ظُلْم فِي هٰذه الأُمَّة، مَنْ يَتَوَلَّى الخِلافَة لا يَكُونُ كَالذِينَ سَبَقُوا كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمانَ وَعَلِيّ وَالحَسَنِ بْنِ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ونَفَعَنا بِهِم جَمِيعًا. فَلِذلِك حِينَ تَمَّت الثَّلاثُونَ سنَة بِخِلافَةِ الحَسَنِ بنِ عَلِيّ مُدَّةَ سِتَّةِ أَشْهُر، حَصَلَ أَنْ أَرادَ مُعاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيان قِتالَ سَيِدِنا الحَسَن بْنِ عَلِيّ، فَكانَ الحَسَنُ بنُ عَلِيّ تَحْتَ يَدِهِ نَحو أَرْبَعِينَ أَلْف مِنَ المسْلِمين يَعْنِى كانَ تَحْتَ يَدِهِ جَيْش كَبير كبير، لَوْ طَلَبَ مِنْهُم قِتالَ مُعاوِيَةَ لَلَبُّوا أَمْرَهُ! وَأَرادَ مُعاوِيَةُ قِتالَهُ. فاجْتَمَعُوا فِي مَكان. تَلاقَى الجَيْشان فِي مَكان. فَنَظَرَ الحَسَنُ بنُ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ فِي نَفْسِهِ إِنْ نَشَبَتِ الحَرْبُ لا بُدَّ أَنَّ هُناكَ غالِبٌ وَمَغْلُوب! الغالِبُ سيُقْتَلُ مِنْهُ عَدَدٌ كَبير مِنَ المسْلِمين وَالمَغْلُوبُ سيُقْتَلُ مِنْهُ عَدَدٌ كَبِير مِنَ المسْلِمين! فرأى أَنْ يَتَنازَلَ عَنِ الخِلافَة لِمُعاوِيَة وَقَدَّمَ الحَسَنُ شُرُوطًا وافَقَ عَلَيْها كُلَّها مُعاوِيَةُ. وافَقَ عَلَى كُلِّ شُروطِ الحَسَن، عَلَى أَنْ يَتَنازَلَ الحَسَنُ بنُ عَلِيّ بالخِلافَةَ لِمُعاوِيَة وَهذا الذي حَصَل! فَحَقْنًا لِدِماءِ المسلِمين مِنْ أَنْ تُسْفَكَ، اجْتَهَدَ سيِّدُنا الحَسَن فَرَأى أَنَّ المصْلَحَةَ أَنْ يَتَراجَعَ عَنْ قِتالِ مُعاوِيَة وَأَنْ يَتَخَلَّى عَنِ الخِلافَة لِمُعاوِيَة. فَأَصْلَحَ اللهُ تعالى بِهِ بيْنَ طائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المسلِمين وَتَحَقَّقَ ما أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فِي حالِ حَياتِهِ، ثُمّ الحَسَنُ بنُ عَلِيّ لَمْ يَكُن جَبانًا عَنْ مُواجَهَةِ مُعاوِيَة وَلِكن الذي حَمَلَهُ عَلَى أَنْ تَرْكِ قِتالِهِ الحِرْصُ عَلَى أَنْ لا يَكْثُرَ التَّقْتِيلُ بَينَ أَفْرادِ هٰذه الأُمَّةِ المحمَّدِيّة وهذا مَقْصِدٌ حَسَن.

وَفِي السنَةِ الثالِثةِ حمَلَت فاطِمَةُ بِالحُسَينِ رَضِيَ الله عَنهُ، وَلَم يَكُن بَينَ وِلادَتِهَا الحَسَنَ وَحَملِهَا بِالحُسَينِ إِلا خَمسُونَ لَيلَةً.

وَفِي العامِ الثّالِثِ مِن الهِجرةِ التَقَى الجَمعَان في سَاحَةِ جَبَلِ أحُدٍ، جمعُ جيشِ المسلمينَ وجمعُ جَيشِ المُشركِينَ فتَقاتَلا، وكان ذلك في شَوّالٍ يومَ السَّبتِ لإحدَى عَشْرَةَ لَيلةً خَلَت مِنهُ على رأسِ اثنَينِ وثلاثِينَ شَهرًا مِنَ الهِجرَةِ.

وأُحُدٌ هُوَ أكبَرُ جِبَالِ المدِينَةِ المنَوَّرَةِ، ويَحتَضِنُهَا منَ الشمَالِ، وسُمِّيَ أُحُدًا لتفرُّدِه وتَوَحُّدِهِ وانقِطَاعِهِ عَن بقِيَّةِ الجِبَالِ مِن حولِهِ، وعن فَضلِهِ قالَ رسُولُ اللهِ ﷺ: “أُحُدٌ رُكنٌ مِن أَركَانِ الجَنَّةِ“، وورَدَ قولُه ﷺ: “أُحُدٌ عَلَى بَابٍ مِن أَبوَابِ الجَنَّةِ، فَإِذَا مَرَرتُم بِهِ فَكُلُوا مِن شَجَرِهِ، ووَرَدَ أنَّ هذَا الجبَلَ اهتَزَّ وارتَجَفَ عندَ صعُودِ رسُولِ اللهِ ﷺ علَيهِ، فعَن أنسِ بنِ مالِكٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَعَدَ أُحُدًا وأبُو بكرٍ وعمَرُ وعثمَانُ، فرَجَفَ بهِم، فضرَبَهُ ﷺ برِجلِهِ وقال: “اُثبُت أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ“، أفَادَ الحدِيثُ أَنَّ جَبَلَ أُحُدٍ ارتَجَّ بصُعُودِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَيهِ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الشَّرَفِ العَظِيمِ، كيفَ لَا، وقَد صَعَدَ إِلَيهِ إِمَامُ الأنبياءِ والمرسلِينَ، ثمَّ لما ضربَهُ ﷺ برِجلهِ الشريفَةِ، وأمرهُ بِأَن يَثبُتَ، فكَانَ ارتِجَافُهُ أوَّلًا إظهَارًا لِمَحَبَّتِهِ للنَّبِيِّ الكَرِيمِ وشَوقًا إليهِ، ثُمَّ ثبَاتُهُ كانَ في طَاعَتِهِ لهُ ﷺ حينَمَا أمَرَهُ بذلِكَ، وفِي هذَا درسٌ عظيمٌ لبَنِي ءادَمَ كمَا لَا يَخفَى، فإذَا كانَ الجَمَادُ الصَّلدُ الأَصَمُّ غيرُ العَاقِلِ وغَيرُ المكَلَّفِ قد ظَهَرَت مِنهُ المَحَبَّةُ والطَّاعَةُ، فالأَجدَرُ بالعُقَلَاءِ المكلَّفِينَ أَن يَكُونُوا لَهُ مُحِبِّينَ طَائِعِينَ.

وفِي مَعرَكَةِ أُحُدٍ تُوفِّيَ شَهِيدًا أَبُو عُمَارَةَ حَمزَةُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، عَمُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، والمُلَقَّبُ بِأَسَدِ اللهِ وَأَسَدِ رَسُولِهِ، وَكَانَ أخَا النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الرَّضَاعِ أَرضَعَتهُم ثُوَيبَةُ مَولَاةُ أَبِي لَهَبٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَد جَاوَزَ الخَمسِينَ مِنَ السِّنِينَ يَومَ قُتِلَ رَضِيَ الله عَنهُ، كَانَ مِنَ الشُّجعَانِ الأَبطَالِ، وَمِنَ الصَّدِّيقَينِ الكِبَارِ، وَقُتِلَ مَعَهُ يَومَئِذٍ تَمَامُ السَّبعِينَ رَضِيَ الله عَنهُم أَجمَعِينَ.

فَبعدَ أنِ انتَصَرَ المسلمُونَ انتِصَارًا كبِيرًا فِي مَعرَكَةِ بدرٍ على المُشرِكِينَ وأوَقَعُوا فيهِمُ الكثِيرَ مِنَ القَتلَى، عَادَ مَن بَقِيَ منَ الكفَّارِ إلى مَكَّةَ حِينَ كَانَت مَكَّةُ تحتَ سُلطَةِ المُشرِكِيَن يَجُرُّونَ وَرَاءَهُم أَذيَالَ الخَيبَةِ، ووَجَدُوا أنَّ قَافِلَةَ أَبِي سُفيَانَ قَد رَجَعَت بِأَمَانٍ، فَاتَّفَقُوا فِيمَا بَينَهُم أَن يَبِيعُوا بَضَائِعَهَا وَالرِّبحُ الَّذِي سيَجنُونَهُ يُجَهِّزُوا بِهِ جَيشًا لِمُقَاتَلَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ وأَخذِ الثَّأرِ لِمَقتَلِ ءَابَائِهِم وَإِخوَتِهِم وأبنَائِهِم فَاجتَمَعَت قرَيشٌ لقتَالِ رسُولِ اللهِ ﷺ وأَرسَلَت مبعُوثِينَ إِلَى بعضِ القبَائِلِ الحلِيفَةِ طلَبًا للمُقَاتِلِينَ، فاجتمَعَ ثلاثَةُ ءالَاف مُشرِكٍ معَ درُوعِهِم وأسلِحَتِهِم، وكانَ معَهُم مِائَتَا فَرَسٍ وخمسَ عَشْرَةَ نَاقَةً عَلَيهَا الهَوَادِجُ وهِيَ البُيُوتُ الصغِيرَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى ظهُورِ الجمَالِ وجلسَت فِيهِنَّ بعضُ النِّسَاءِ المُشرِكَاتِ ليُشَجِّعنَ المُشرِكِينَ عَلَى القِتَالِ وتَذكِيرِهِم بالهَزِيمَةِ فِي بَدرٍ.

وفي أَثنَاءِ استِعدَادَاتِهِم طلَبَ أَبُو سُفيَانَ مِنَ العَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ عمِّ رسولِ اللهِ ﷺ الخُرُوجَ مَعَهُ لِقِتَالِ المُسلِمِينَ ولَكِنَّهُ لَم يَقبَل بِذَلِكَ، وَأَرسَلَ العَبَّاسُ سِرًّا إلى النَّبِيِّ ﷺ يُحَذِّرُهُ مِنَ الخَطَرِ المُحدِقِ، فَوَصَلَ الخَبَرُ إلى رَسُولِ الله ﷺ فقالَ: “إِنِّي قَد رَأَيتُ وَاللهِ رَأَيتُ بَقَرًا تُذبَحُ، وَرَأَيتُ فِي ذُبَابِ سَيفِي (حَدِّ سَيفِي) ثَلمًا (كَسرًا) وَرَأَيتُ أَنِّي أَدخَلتُ يَدِي فِي دِرعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلتُهَا المَدِينَةَ“، وكانَ معنَى هذَا المَنَامِ الذِي رَءَاهُ الرَّسُولُ ﷺ أنَّ البَقَرَ نَاسٌ يُقتَلُونَ، وَأَمَّا الثَّلمُ فِي السَّيفِ فَهُوَ رَجُلٌ مِن أَهلِ بَيتِ النَّبِيِّ ﷺ يُقتَلُ.

وخرَجَ كفَّارُ قرَيشٍ بجَيشِهِم حتَّى وصَلُوا إلى ضَوَاحِي المَدِينَةِ المنورَةِ قربَ جبَلِ أحُدٍ حَيثُ كَانَ النَّبِيُّ الأَعظَمُ ﷺ قَد صَلَّى صَلَاةَ الجُمُعَةِ بِالنَّاسِ وحَثَّهُم عَلَى الجِهَادِ وَالثَّبَاتِ، وَخَرَجَ بِسَبعِمِائَةِ مقاتِلٍ شجَاعٍ منَ الصحَابَةِ الكرَامِ بعدَ أن رَجَعَ بعضُ المُنَافِقِينَ خَوفًا مِنَ القِتَالِ.

وكَانَت خُطَّةُ الحَربِ الَّتِي وَضَعَهَا النَّبِيُّ ﷺ أَن يَجعَلَ المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ فِي وجهِهِ ويَضَعُ خَلفَهُ جبَلَ أُحُدٍ وحَمَى ظهرَهُ بِخَمسِينَ مِنَ الرُّمَاةِ المَهَرَةِ صَعِدُوا عَلَى هَضَبَةٍ عَالِيَةٍ مُشرِفَةٍ عَلَى أَرضِ المَعرَكَةِ، وَجَعَلَ قَائِدَهُم صَحَابِيًّا كرِيمًا هُوَ عَبدُ اللهِ بنُ جُبَيرٍ وَأَمَرَهُمُ النبيُّ ﷺ أن يَبقَوا فِي أَمَاكِنِهِم وَأَن لَا يَترُكُوهَا حَتَّى يَأذَنَ لَهُم وقالَ لَهُم: “اِدفَعُوا الخَيلَ عَنَّا بِالنِّبَالِ“، وقالَ: إن رأيتُمونا تَخطَفُنا الطَّيرُ، فلا تبرَحوا من مَكانِكُم هذا حتَّى أُرْسِلَ لَكُم، وإن رأيتُمونا هزَمنا القومَ وأوطَأناهُم فلا تبرَحوا حتَّى أُرْسِلَ إليكُم. وهذا كِنايةٌ عنِ التَّحذيرِ الشَّديدِ في مُخالَفةِ أمْرِه هذا، وما لِمَكانِهم مِنَ الأهمِّيَّةِ البالِغةِ في سَتْرِ ثَغْرةٍ مِنَ الثَّغَراتِ يُمكِنُ لِلعَدُوِّ أنْ يَنفُذَ مِنها.

فلَمَّا بَدأتِ المَعرَكةُ هُزِمَ المُشرِكونَ وانتَصَرَ المُسلِمونَ، حتَّى إنَّ البَراءَ بنَ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه يقولُ: «فأنا واللهِ رَأيتُ النِّساءَ ويَقصِدُ نِساءَ الكُفَّارِ، يُسرِعْنَ في المَشيِ والعَدْوِ، حتَّى إنَّهُنَّ مِن شِدَّةِ سُرعَتِهِنَّ ظَهَرَ حُلِيُّ أرجُلِهِنَّ، وسِيقانُهُنَّ؛ لِرَفعِهِنَّ الثِّيابَ.

ثمَّ إنَّ أصحابَ عَبدِ اللهِ بنِ جُبَيرٍ رَضيَ اللهُ عنه – الذين حَذَّرَهمُ النَّبيُّ ﷺ ألَّا يُغادِروا مَكانَهمُ الذي ألْزَمَهمْ بهِ- قدِ انتَبهُوا لِغَنائمِ جَيشِ المشركينَ المُنهَزِمِ، يُريدونَ أنْ يَأخُذوها ويَضُمُّوها، فذَكَّرَهم عَبدُ اللهِ بنُ جُبَيرٍ رَضيَ اللهُ عنه بكَلامِ النَّبيِّ ﷺ وتَحذيرِه إيَّاهُم مِن مُغادَرةِ المَكانِ الذي وَضَعَهم فيه، فأصَرُّوا أنْ يُصيبوا مِنَ الغَنيمةِ ويَتْرُكوا مَكانَهم، فلَمَّا أتَوْا إلى ما تَوَجَّهوا إليه -وهي الغَنيمةُ- صُرِفتْ وُجوهُهم، أي: تَحَيَّروا، فلمْ يَدْروا أينَ يَتوَجَّهونَ، وذلكَ عُقوبةٌ لِعِصيانِهم قَولَ رَسولِ اللهِ ﷺ، فأقبَلوا حالَ كونِهم مُنهَزِمينَ.

فقَتَلَ المُشرِكونَ مِنَ المُسلِمينَ على إثرِ تلك الفَعلةِ سَبعينَ رَجُلًا، منهم حَمزةُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، عَمُّ النَّبيِّ ﷺ، قَتَلَه وَحْشيٌّ غُلامُ جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ. وكانَ المُسلِمونَ أصابوا مِنَ المُشرِكينَ في غَزوةِ بَدرٍ أربَعينَ ومِئةً؛ سَبعينَ أسيرًا، وسَبعينَ قَتيلًا.

وبعْدَ انتِهاءِ المَعرَكةِ قال أبو سُفيانَ -وكانَ آنَذاكَ مُشرِكًا- يُنادِي ويَسأَلُ: أفي القَومِ مُحمَّدٌ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فنَهى النَّبيُّ ﷺ أصحابَه أنْ يُجيبوه، ثمَّ نادى أبو سُفيانَ وسَأَلَ: أفي القَومِ ابنُ أبي قُحافةَ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ويَقصِدُ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، ثمَّ نادى أبو سُفيانَ وسَأَل: أفي القَومِ ابنُ الخَطَّابِ؟ ويَقصِدُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، فرَجَعَ أبو سُفيانَ إلى أصحابِه، فقال: أمَّا هؤلاءِ فقدْ قُتِلوا، يَقصِدُ النَّبيَّ ﷺ وصاحِباه رَضيَ اللهُ عنهما، فما مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَه، فقال: كَذَبتَ واللهِ يا عَدُوَّ اللهِ، إنَّ الذين عَدَدتَ أحياءٌ كُلُّهم.

فرَدَّ أبو سُفيانَ: يَومٌ بيَومِ بَدرٍ، والحَربُ سِجالٌ، أي: يَومٌ في مُقابَلةِ يَومِ بَدرٍ، والحَربُ دُوَلٌ؛ تَكونُ مَرَّةً لِهؤلاء، ومَرَّةً لِهؤلاء، ثمَّ قال أبو سُفيانَ: إنَّكمْ ستَجِدونَ في القَومِ مُثْلةً -والمُثْلةُ: قَطعُ الأُنوفِ وبَقْرُ البُطونِ، ونَحوُ ذلك لِلقَتْلى- ثمَّ نَوَّهَ أنَّ تِلكَ المُثْلةَ لم يَأمُرْ بها؛ لِأنَّها تُعَدُّ نَقيصةً في أدبِيَّاتِ الحُروبِ، ومع ذلك يُشيرُ أبو سُفيانَ إلى أنَّهُ لم تَسُؤْهُ تلك المُثْلةُ، فلم يَكرَهْ ما فُعِلَ بالمُسلِمينَ مِن تَمثيلٍ بالقَتْلى، وقدْ رَضيَ أبو سُفيانَ بتلك المُثلةِ في حَقِّ المُسلِمينَ، باعتِبارِ أنَّهم أعداءٌ له، ثمَّ أخَذَ أبو سُفيانَ يَرتَجِزُ، -والرَّجَزُ: نَوعٌ مِن أوزانِ الشِّعرِ- ويَقولُ: «اعْلُ هُبَلْ، اعْلُ هُبَلْ». و«هُبَلٌ»: اسمُ صَنَمٍ كانَ في الكَعبةِ يَعبُدونَه مِن دُونِ اللهِ، والمُرادُ: اعْلُ حتَّى تَصيرَ كالجَبَلِ العالي، فلمَّا سمِعَ النَّبيّ ﷺ ذلكَ، أمَرَ أصحابَه أنْ يُجيبوا أبا سُفيانَ بقَولِهم: «اللهُ أعلى وأجَلُّ»، اللهَ أعلى وأجَلُّ مِن كُلِّ هذه الأصنامِ التي يَعبُدُها المشرِكون.

فقال أبو سُفيانَ: «إنَّ لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم»، والعُزَّى: اسمُ صَنَمٍ كانَ لِقُرَيشٍ، وفيه كِنايةٌ عن أنَّ لِلمُشرِكينَ إلهَ العِزَّةِ الذي يُعِزُّهم، بيْنَما المُسلِمونَ لا إلهَ لهم يُضاهِيه، فلا عِزَّةَ لهم، فأمَرَ النَّبيُّ ﷺ أنْ يُجيبوا أبا سُفيانَ بقَولِهم: «اللهُ مَوْلانا، ولا مَوْلى لكم»، أي: إنَّ اللهَ هُوَ الوَليُّ، يَتوَلَّى المُؤمِنينَ بالنَّصرِ والإعانةِ، ويَخذُلُ الكافِرينَ، وأنَّ الأصنامَ لا مُوالاةَ لها، ولا نَصرَ، فبَكَّتَه ﷺ بذلكَ، ولم يُراجِعْه، وإنَّما تَرَكَ النَّبيُّ ﷺ مُجاوَبَتَه بنَفْسِه؛ تَهاوُنًا به بأنْ يكونَ خَصْمًا له، وأمَرَ مَن يَنوبُ عنه؛ تَنَزُّهًا عنه.

وفي الحَديثِ: بَيانُ عاقِبةِ مُخالَفةِ أوامِرِ النَّبيِّ ﷺ، حيث تُسبِّبُ لِلإنسانِ الهَزيمةَ والخُسرانَ.

وفيه: الأخْذُ بأسبابِ النَّصرِ وبالأسبابِ الدُّنيويَّةِ، مع التَّوكُّلِ على اللهِ.

وفيه: أنَّه يَجِبُ على الجُندِ طاعةُ القائِدِ فيما يَأمُرُهم به؛ لِأنَّ مُخالَفةَ أوامِرِه مِن أعظَمِ أسبابِ الهَزيمةِ.

وكانَ عَدَدٌ مِنَ الكُفَّارِ قَد اتَّفَقُوا فِيمَا بَينَهُم عَلَى مُهَاجَمَةِ النَّبِيِّ ﷺ دَفعَةً وَاحِدَةً فاستَغَلُّوا فُرصَةَ ابتِعَادِ بعضِ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أثناء المعرَكَةِ وانقَضُّوا عَلَيهِ، فَمِنهُم مَن ضَرَبَهُ بِالسَّيفِ فَأَصَابَ جَبهَتَهُ الشَّرِيفَةَ، وَمِنهُم مَن رَمَاهُ بِحجَارَةٍ فَكُسِرَت ربَاعِيَتُهُ اليُمنَى وَهِيَ أحَدُ أَسنَانِهِ الأَمَامِيَّةِ، وشُقَّت شَفَتُهُ الشَّرِيفَةُ، وهَجَمَ ءَاخَرُ فجَرَحَ وَجنَةَ النَّبِيِّ ﷺ أَي أَعلَى خَدِّهِ الشرِيفِ بالسَّيفِ وسقَطَ فجُرِحَت رُكبَتُهُ الشَّرِيفَةُ وسَالَ دَمُهُ عَلَى الأَرضِ، وأَقبَلَ مشرِكٌ اسمُهُ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ حَامِلًا حَربَتَهُ ووجَّهَهَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فأخَذَهَا النبيُّ ﷺ مِنهُ وقَتَلَهُ بِهَا.

ولمَّا جُرِحَ النبيُّ الأعظَمُ ﷺ صارَ الدَّمُ يسِيلُ علَى وَجهِهِ الشَّرِيفِ وأقبَلَ لحِمَايَتِهِ خمسَةٌ مِنَ الأَنصَارِ، فقُتِلُوا جمِيعًا ورَكَضَ أبُو دُجَانَةَ وجَعَلَ مِن ظَهرِهِ تُرسًا لرسُولِ اللهِ ﷺ فكَانَتِ السِّهَامُ تَنهَالُ علَيهِ وهُوَ مُنحَنٍ يحمِي بِبَدَنِهِ ورُوحِهِ أعظَمَ الكائِنَاتِ سيِّدَنَا مُحَمَّدًا ﷺ.

وَلَا يُقَالُ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَسِرَ، بَل إِنَّ الَّذِينَ خَالَفُوا أوَامِرَهُ خابُوا وسُبَّبُوا الخَسَارَةَ لأَنفُسِهِم.

ودَفَنَ المسلِمُونَ شهداءَهُم في أُحُدٍ حيثُ استُشهُِدوا، ولَمَّا عَادَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى المَدِينَةِ فِي جُوٍّ حَزِينٍ، جاءَت إحدَى نِسَاءِ الأَنصَارِ قد قُتِلَ أبُوهَا وأخُوها شَهِيدَينِ، فلمَّا أخبِرَت قالَت: ماذا حَلَّ برسُولِ اللهِ؟ فقالُوا لَهَا: هُوَ بحَمدِ اللهِ كمَا تُحِبِّينَ، قالَت: أرُونِيهِ، فلَمَّا نظَرَت إلَيهِ دمَعَت عينَاهَا فرَحًا بسَلَامَتِهِ وقَالَت: كلُّ مصِيبَةٍ بعدَكَ هَيِّنَةٌ يا رَسولَ اللهِ لَا تُوَازِي مُصِيبَتَنَا بفَقدِكَ.

ولَمَّا حصَلَ لرسُولِ اللهِ ﷺ وأصحَابِهِ ما حَصَل، جعَلَ عبدُ اللهِ بنُ أبيِّ بنِ سَلُولٍ وَالمُنَافِقُونَ يَشمَتُونَ ويُسَرُّونَ بمَا أصَابَ المُسلِمِينَ ويُظهِرُونَ أقبَحَ القَولِ، فيَقُولُ ابنُ أُبَيٍّ لابنِهِ عبدِ الله وهُوَ جرِيحٌ قَد بَاتَ يَكوِي الجِرَاحَةَ بِالنَّارِ: مَا كَانَ خُروجُك معَه إلى هَذَا الوَجهِ برَأيٍ، عصَانِي محمدٌ وأطَاعَ الوِلدَانَ، وأظهَرَ اليهُودُ القولَ السَّيِّئَ، فقَالُوا: ما محمدٌ إلا طَالِبُ مُلكٍ، مَا أُصِيبَ هكَذَا نَبِيٌّ قَطُّ، أصِيبَ في بَدَنِهِ، وأصِيبَ فِي أصحَابِهِ، وجعَلَ المنَافِقُونَ يخذِّلونَ عن رسُولِ اللهِ ﷺ أصحَابَهُ، ويَأمُرُونَهُم بالتَّفَرُّقِ عنهُ ويَقُولُونَ: لَو كانَ مَن قُتِلَ منكُم عِندَنَا مَا قُتِلَ، وسَمِعَ عمَرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه ذَلِكَ فِي أمَاكِنَ، فمَشَى إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ ليَستَأذِنَهُ في قَتلِ من سَمِعَ ذلِكَ منهُ مِنَ اليَهُودِ والمُنَافِقِينَ، فقالَ ﷺ: “يَا عُمَرُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى مُظهِرُ دِينِهِ وَمُعِزُّ نَبِيِّهِ، وَلِليَهُودِ ذِمَّةٌ فَلَا أَقتُلُهُم“، قالَ: فهؤُلَاءِ المنَافِقُونَ؟ قال: “أَلَيسَ يُظهِرُونَ شَهَادَةَ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟“، قال: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قال الرسولُ ﷺ: “يَا ابنَ الخَطَّابِ، إِنَّ قُرَيشًا لَن يَنَالُوا مِنَّا مِثلَ هَذَا اليَومِ حَتَّى نَستَلِمَ الرُّكنَ“.

فائدة— لرد الكيد وللحفظ من الشيطان بإذن الله
حَوْلِيْ وَقُوَّتِيْ بِكَ يَا اللهُ (3 مرات)
اللَّهُمَّ احْجُبْنِيْ مِنْ شَرِّ الأَشْرَارِ وكَيْدِ الفُجَّارِ ومِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ وظَالِمٍ وسَارِقٍ وفَاجِرٍ وبَاغ وحاسدٍ وشَيْطَانٍ مَّارِدٍ (مرة واحدة)
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (3 مرات)
يَا كَبِيْرُ يَا عَظِيْمُ يَا سَلامُ اكْفِنِيْ شَرَّ مَا أَخَافُ شَرَّهُ، فَإِنَّكَ قُلْتَ وقَوْلُكَ الحَقُّ (أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) بلى (مرة واحدة)
والله تعالى أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين.

دعاء
‏اللهم اجعَلنَا مِمَّن تُدرِكُهُمُ الرَّحمَةُ، وَمِنَ العُتَقَاءِ السُّعَدَاءِ يا ربُّ، اللهم إِنِّي أسأَلُكَ العَفوَ وَالعَافِيَةَ، ربَّنَا أَمسَينَا لَكَ شَاكِرِينَ، ذَاكِرِينَ، حامِدِينَ، رَاضِينَ، وعَلَيكَ مُتَوَكِّلِينَ لَكَ الحَمدُ رَبَّنَا فَأَتمِم عَلَينَا نِعمَتَكَ وعَافِيَتَكَ وسِترَك وأَسعِدنَا فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ياكريمُ، ربِّ أسأَلُكَ مِن فضلِكَ العَظِيمِ فإنَّكَ تقدِرُ وَلَا أقدِرُ وأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ‏اللهم إني أسأَلُكَ قَبولَ الصِّيَامِ وحُسنَ الخِتَامِ ولَا تجعَلنا منَ الخاسرين في رمضانَ، اللهم إنَّك قلتَ في كتابك الكريم: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ يا رب دعوناك فاستجب لنا فيَا ربِّ اكرِمنَا بما نَتَمَنَّى وأَقِرَّ أعيُنَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قديرٌ، أسأَلُ اللهَ أن يشملنا جميعًا بالرَّحمَةِ والمَغفِرَةِ ويُصلِحُ نِيَّاتِنَا ويُؤَلِّفُ بَينَ قُلُوبِنَا ويَستُرُ عُيُوبَنَا ويَغفِرُ ذنُوبَنَا ويُفَرِّجُ هُمُومَنَا ويَشفِي مَرضَانَا ويَرحَمَ موتَانَا وَأَسأَلُ اللهَ أَن يُعطِيَنِي وَيُعطِيَكُم فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ مِن رِزقِهِ وَتَوفِيقِهِ وَرَحمَتِهِ وَمَغفِرَتِهِ وَرِضوَانِهِ وَجَنَّتِهِ وصُحبَةِ نَبِيِّهِ ﷺ ‏اللهم إنَّا نَسأَلُكَ رَحمَةً لِكُلِّ مَيِتٍّ وتَفرِيجًا لِكُلِّ هَمٍّ واستِجَابَةً لِكُلِّ دُعَاءٍ وشفَاءً لكلِّ مرِيضٍ وغُفرَانًا لكلِّ ذنبٍ ورِزقًا لكلِّ محتاجٍ اللهم إجعل ما تبقى من أيَّامِ رمضَانَ جابِرَةً للقُلُوبِ، ساتِرَةً للعُيُوبِ، مَاحِيَةً للذنوب ومَفرَجَةً للكُرُوبِ، وبَلِّغنَا لَيلَةَ القَدرِ ربنّا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الاخرةِ حسنةً وقنا عذابَ النارِ. اللهم لك الحمدُ في اليُسرِ والعُسرِ اللهم لك الحمدُ على نِعَمِكَ الَّتِي لَا تُعَدُّ ولَا تُحصَى اللهم لك الحمدُ حمدًا لا ينبغي إلَّا لك اللهم فَرِّج هَمَّ المَهمُومِينَ ونَفِّس كَربَ المَكرُوبِينَ واقضِ الدَّينَ عَنِ المَدِينِينَ وَاشفِ مَرضَانَا واغفِر لِمَوتَانَا وأحفَظ غَائِبَنَا وأهدِنَا ويَسِّرِ الهُدَى لَنَا ‏اللهم إنِّي أسأَلُك من فضلِكَ ورحمَتِكَ ‏اللهم لا تَدَع لنَا حُزنًا فِي قُلُوبِنَا إِلَّا بدَّلتَهُ فَرَحًا ربَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وإِن لَم تَغفِر لَنَا وتَرحَمَنَا لنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ‏اللهم ارزقنا حلوَ الحياةِ، وخيرَ العطاءِ، وسَعَةَ الرِّزقِ ورَاحَةَ البَالِ، ولِبَاسَ العَافِيَةِ، وحُسنَ الخَاتِمَةِ، اللهم نسأَلُكَ أن تَكتُبَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ مِمَّن عَتَقَ رِقَابُهُم وتنزَّلَت علَيهِم رحمَتِكَ وتَقَبَّلتَ صِيَامَهُم وقِيَامَهُم وصَالِحَ أعمَالِهِم وأَن تَكتُبَنَا عِندَكَ مِمَّن أَسعَدتَهُم طِيلَةَ حيَاتِهِم، وبَلِّغنَا ليلَةَ القدرِ يا كرِيمُ.

اللهم ارزق أهل فلسطين الثبات والنصر والتمكين، وبارك في إيمانهم وصبرهم. اللهم انصر أهل فلسطين على من عاداهم اللهم صوب رميهم اللهم ثبت الأرض تحت أقدامهم اللهم اجعل نار أعدائهم بردا وسلاما على المسلمين. اللهم احفظ أرواحهم وأبناءهم وردهم إلى ديارهم مردًا كريمًا آمنًا. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في فلسطين وحول الأقصى وفي غزة وفي كل مكان يذكر فيه اسمك.

وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين، سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفُون، وسلامٌ على المرسَلِين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …