المقدمة
الحَمدُ للهِ عَالِمِ السِّرِّ وَالجَهرِ، قَاصَمِ الجَبَابِرَةِ بِالعِزِّ وَالقَهرِ، مُحصِي قَطَرَاتِ المَاءِ وَهُوَ يَجرِي فِي النَّهرِ، فَضَّلَ بَعضَ المَخلُوقَاتِ عَلَى بَعضٍ حَتَّى أَوقَاتَ الدَّهرِ، وَفَضَّلَ عَلَى الأَيَّامِ هَذِهِ العَشر، فَأقسمَ بها فِي كِتَابِهِ وقَالَ: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾، فَهُوَ سُبحَانَهُ المُتَفَرِّدُ بِإِيجَادِ خَلقِهِ، المُتَوَحِّدُ بِإِدرَارِ رِزقِهِ، الكَرِيمُ فَمَا قَامَ مَخلُوقٌ بِحَقِّهِ، عَالِمُ سِرِّ العَبدِ وَسَامِعُ نُطقِهِ، وَمُقَدِّرُ عِلمِهِ وَعَمَلِهِ وَعُمُرِهِ وَفِعلِهِ، وَمُجَازِيهِ عَلَى ذَنبِهِ، المَالِكُ القَهَّارُ، الحَلِيمُ السَّتَّارُ، مَن جَعَلَ الشَّمسَ سِرَاجًا وَالقَمَرَ نُورًا بَينَ غَربِهِ وَشَرقِهِ.
أَحمَدُهُ عَلَى الهُدَى وَتَسهِيلِ طُرُقِهِ، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ عَبدٍ مُعتَرِفٍ بِذَنبِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ أَرسَلَهُ وَالضَّلالُ عَامٌّ فَقام بِمَحقِهِ، ﷺ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ السَّابِقِ بِصِدقِهِ، وَعَلَى عُمَرَ كَاسِرِ كِسرَى بِتَدبِيرِهِ وَصَبرِهِ، وَعَلَى عُثمَانَ جَامِعِ القُرآنِ فِي وَرَقِهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي تَهِيمُ قُلُوبُ أَهلِ السُّنَّةِ بِحُبِّهِ وَعِشقِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَمَن مَشَى عَلَى دَربِهِ وَخَطِّهِ، إِلَى يَومِ الفَصلِ الَّذِي يُبعَثُ فِيهِ العِبَادُ كُلٌّ مِن قَبرِهِ، أَمَّا بَعدُ:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، وَإِنَّ أَيَّامَكُم هَذِهِ مِن أَيَّامِ اللهِ الَّتِي خَلَقَهَا وَفَضَّلَهَا عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ العَامِ، وَأَقسَمَ بِهَا فِي القُرآنِ الكَرِيمِ حَيثُ قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، وَقَالَ البُخَارِيُّ: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ: أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ التَّشرِيقِ، وَكَانَ ابنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيرَةَ يَخرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكبِيرِهِمَا.اهـ
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَابنُ مَاجَه وَاللَّفظُ لَهُ: عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “مَا مِن أَيَّامٍ، العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ، مِن هَذِهِ الأَيَّامِ“، يَعنِي العَشرَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: “وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ، فَلَم يَرجِع مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ“.اهـ
وَقَالَ ابنُ حَجَرٍ فِي شَرحِ البُخَارِيِّ: وَالَّذِي يَظهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امتِيَازِ عَشرِ ذِي الحِجَّةِ لِمَكَانِ اجتِمَاعِ أُمَّهَاتِ العِبَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالحَجُّ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيرِهِ.اهـ
وَمَن عَرَفَ نِعمَةَ العُمُرِ عُمُومًا وَفَضلَ هَذِهِ الأَيَّامِ خُصُوصًا يَنبَغِي عَلَيهِ أَن يَعمَلَ عَلَى اغتِنَامِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بَعضُ أَوقَاتِ العُمُرِ مَوَاسِمَ فَضلٍ وَخَيرٍ عَظِيمٍ وَبَرَكَةٍ كَأَيَّامِنَا العَشرِ هَذِهِ، فَمَا إِنِ انقَضَى رَمَضَانُ خَيرُ الشُّهُورِ حَتَّى فَرِحَ المُؤمِنُونَ بِطَاعَةِ اللهِ الَّتِي وَفَّقَهُم لَهَا فِي رَمَضَانَ، وَكَبَّرُوا اللهَ وَزَارُوا أَرحَامَهُم، وَبَرُّوا آبَاءَهُم، وَأَدَّوا حُقُوقَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَتبَعُوا ذَلِكَ بِصِيَامِ سِتٍّ مِن شَوَّالٍ، ثُمَّ تَجَهَّزَتِ الرَّحَائِلُ، رَحَائِلُ الخَيرِ وَالبَرَكَةِ، رَحَائِلُ كَثِيرٍ مِنَ المُسلِمِينَ فِي أَقطَارِ الدُّنيَا إِلَى حَجِّ بَيتِ اللهِ الحَرَامِ، فَتَجَهَّزُوا لِفَرِيضَةٍ عَظِيمَةٍ مِن أَعظَمِ فَرَائِضِ الإِسلَامِ، مُستَمِرِّينَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ ثَابِتِينَ عَلَى مَا أَمَرَهُم بِهِ خَالِقُهُم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هَذَا حَالُ المُؤمِنِ الكَامِلِ، المُؤمِنِ المُوَفَّقِ لِتَطبِيقِ شَرِيعَةِ اللهِ وَالثَّبَاتِ عَلَى دِينِ الإِسلَامِ، تَرَاهُ مِن طَاعَةٍ إِلَى طَاعَةٍ، وَمِن عِبَادَةٍ لِعِبَادَةٍ، وَهَذَا الَّذِي يَنبَغِي أَن نَتَمَثَّلَ بِهِ وَأَن نَثبُتَ عَلَيهِ فِي كُلِّ أَوقَاتِ أَعمَارِنَا، فَرَبُّنَا أَمَرَنَا بِالثَّبَاتِ عَلَى الإِسلَامِ حَتَّى المَمَاتِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، مَعنَاهُ: اثبُتُوا عَلَى الإِسلَامِ حَتَّى المَمَاتِ وَلَا تُفَارِقُوهُ طَرفَةَ عَينٍ، كَيفَ لَا وَهُوَ سَبِيلُ النَّجَاةِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَهُوَ سَبَبُ الدُّخُولِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الأَبَدِيِّ الَّذِي لَا يَنقَطِعُ وَلَا يَزُولُ.
وَمِن هُنَا نَعلَمُ أَهَمِّيَّةَ الثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ فِي كُلِّ أَعمَارِنَا وَلَا سِيَّمَا فِي مَوَاسِمِ الخَيرِ وَالفَضلِ، وَلَا أَفضَلَ مِن أَيَّامِكُم هَذِهِ أَيَّامِ العَشرِ الأَوَّلِ مِن ذِي الحِجَّةِ، فَهِيَ أَفضَلُ أَيَّامِ العَامِ، وَقَد رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَن أَبِي بَكرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِي مِثلِ هَذِهِ الأَيَّامِ وَهُوَ عَلَى جَبَلِ عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: “إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ استَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ، السَّنَةُ اثنَا عَشَرَ شَهرًا، مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَينَ جُمَادَى وَشَعبَانَ“، قَالَ ﷺ هَذَا الكَلَامَ العَظِيمَ فِي يَومٍ هُوَ أَفضَلُ الأَيَّامِ نَستَعِدُّ لِاستِقبَالِهِ، وَهَا هُوَ شَهرُ ذِي الحِجَّةِ، هَذَا الشَّهرُ المُحَرَّمُ، تَبدَأُ لَيَالِيهِ وَأَيَّامُهُ، يَبدَأُ هَذَا المَوسِمُ العَظِيمُ بِطَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، نُكثِرُ فِيهَا مِن ذِكرِ اللهِ تَعَالَى بِتَسبِيحٍ وَتَحمِيدٍ وَتَهلِيلٍ وَتَكبِيرٍ وَدُعَاءٍ وَمَجَالِسِ عِلمٍ، نَجتَمِعُ وَيُعِينُ بَعضُنَا البَعضَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، فَرَبُّنَا سُبحَانَهُ يَقُولُ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، وَهَذَا هُوَ حَالُ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رِضوَانُ اللهِ عَلَيهِم فِي مَوَاسِمِ العُمُرِ يَنشَطُونَ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَيُذَكِّرُ بَعضُهُم بَعضًا بِعِبَادَةِ اللهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيهَا، فَتَرَى مِنهُمُ المُتَصَدِّقَ وَالصَّائِمَ وَالقَائِمَ وَالآمِرَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ المُنكَرِ وَالمُصَلِّيَ وَالتَّالِيَ لِلقُرآنِ وَالسَّاجِدَ وَالدَّاعِيَ وَالعَابِدَ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم قَولَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ وَقَولَهُ: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ فَهِمُوا مِن ذَلِكَ أَنَّ المُرَادَ أَن يَجتَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُم أَن يَكُونَ هُوَ السَّابِقَ لِغَيرِهِ إِلَى هَذِهِ الكَرَامَةِ، وَالمُسَارِعَ إِلَى بُلُوغِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ العَالِيَةِ، فَكَانَ أَحَدُهُم إِذَا رَأَى مَن يَعمَلُ عَمَلًا يَعجِزُ عَنهُ، خَشِيَ أَن يَكُونَ صَاحِبُ ذَلِكَ العَمَلِ هُوَ السَّابِقَ لَهُ، فَيَحزَنُ لِفَوَاتِ سَبقِهِ، فَكَانَ تَنَافُسُهُم فِي دَرَجَاتِ الآخِرَةِ وَاستِبَاقُهُم إِلَيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
ثُمَّ جَاءَ مَن بَعدَهُم فِي أَيَّامِنَا، فَعُكِسَ الأَمرُ، فَصَارَ تَنَافُسُهُم فِي الدُّنيَا الدَّنِيَّةِ وَحُظُوظِهَا الفَانِيَةِ، وَالأَمرُ يَنبَغِي أَن يَكُونَ كَمَا قَالَ الحَسَنُ البِصرِيُّ: إِذَا رَأَيتَ الرَّجُلَ يُنَافِسُكَ فِي الدُّنيَا فَنَافِسهُ فِي الآخِرَةِ.
وَقَالَ وُهَيبُ بنُ الوَردِ: إِنِ استَطَعتَ أَلَّا يَسبِقَكَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ أَحَدٌ فَافعَل، وَقَالَ بَعضُ السَّلَفِ: لَو أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ بِأَحَدٍ أَطوَعَ للهِ مِنهُ، كَانَ يَنبَغِي لَهُ أَن يُحزِنَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ غَيرُهُ: رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ بِرَجُلٍ أَطوَعَ للهِ مِنهُ فَانصَدَعَ قَلبُهُ فَمَاتَ، لَم يَكُن ذَلِكَ بِعُجبٍ وَلَكِن حُزنًا عَلَى فَوَاتِ المَرَاتِبِ مِنهُ.
قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكِ بنِ دِينَارٍ: رَأَيتُ فِي المَنَامِ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ، الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ، فَمَا رَأَيتُ أَحَدًا يَرتَحِلُ إِلَّا مُحَمَّدَ بنَ وَاسِعٍ، فَصَاحَ مَالِكٌ وَغُشِيَ عَلَيهِ.
قَالَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا عِندَ دَفعِ النَّاسِ مِن عَرَفَةَ: لَيسَ السَّابِقُ اليَومَ مَن سَبَقَ بِهِ بَعِيرُهُ، إِنَّمَا السَّابِقُ مَن غُفِرَ لَهُ.
حَتَّى إِنَّ الفُقَرَاءَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَتَسَابَقَونَ إِلَى الفَضَائِلِ وَالخَيرَاتِ وَالمَبَرَّاتِ فِي مَوَاسِمِ الخَيرَاتِ، كُلَّمَا رَأَوا أَصحَابَ الأَموَالِ مِنهُم يُنفِقُونَ أَموَالَهُم فِيمَا يُحِبُّهُ اللهُ مِنَ الحَجِّ وَالِاعتِمَارِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالعِتقِ وَالصَّدَقَةِ وَالبِرِّ وَالصِّلَةِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِن أَنوَاعِ البِرِّ وَالطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ حَزِنُوا لِمَا فَاتَهُم مِن مُشَارَكَتِهِم فِي هَذِهِ الفَضَائِلِ، وَقَد ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾، نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ بِسَبَبِ قَومٍ مِن فُقَرَاءِ المُسلِمِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى غَزوَةِ تَبُوكَ، فَطَلَبُوا مِنهُ أَن يَحمِلَهُم، فَقَالَ لَهُم: لَا أَجِدُ مَا أَحمِلُكُم عَلَيهِ، فَرَجَعُوا يَبكُونَ حُزنًا عَلَى مَا فَاتَهُم مِنَ الجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
قَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ: هَذَا وَاللهِ بُكَاءُ الرِّجَالِ، بَكَوا عَلَى فَقدِهِم رَوَاحِلَ يُحمَلُونَ عَلَيهَا إِلَى المَوتِ فِي مَوَاطِنَ تُرَاق فِيهَا الدِّمَاءُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَتُنزَعُ فِيهَا رُءُوسُ الرِّجَالِ عَن كَوَاهِلِهَا بِالسُّيُوفِ، فَأَمَّا مَن بَكَى عَلَى فَقدِ حَظِّهِ مِنَ الدُّنيَا وَشَهَوَاتِهِ العَاجِلَةِ، فَذَلِكَ شَبِيهٌ بِبُكَاءِ الأَطفَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى فَقدِ حُظُوظِهِمُ العَاجِلَةِ، إِنَّمَا يَحسُنُ البُكَاءُ وَالأَسَفُ عَلَى فَوَاتِ الدَّرَجَاتِ العُلَى وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ.اهـ
قَالَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ: إِنَّ لِي نَفسًا تَوَّاقَةً، مَا نَالَت شَيئًا إِلَّا تَاقَت إِلَى مَا هُوَ أَفضَلُ مِنهُ، وَإِنَّهَا لَمَّا نَالَت هَذِهِ المَنزِلَةَ – يَعنِي الخِلَافَةَ – وَلَيسَ فِي الدُّنيَا مَنزِلَةٌ أَعلَى مِنهَا، تَاقَت إِلَى مَا هُوَ أَعلَى مِنَ الدُّنيَا، يَعنِي الآخِرَةَ.
وَهَا نَحنُ فِي جَمعِيَّتِكُم هَذِهِ، جَمعِيَّةِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، جَمعِيَّةِ الخَيرِ الَّتِي تَعَوَّدْنَا عَلَيهَا عَلَى مَدَارِ العَامِ أَن تُذَكِّرَنَا بِعِلمِ الدِّينِ وَمَجَالِسِ العِلمِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مَوَاسِمِ الفَضلِ وَالبَرَكَةِ وَالخَيرِ، مَا عَرَفنَا مِن هَذِهِ الجَمعِيَّةِ وَلَا مِن شَيخِنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَن يُذَكِّرَنَا بِالدُّنيَا، بَل أَن نَتَذَكَّرَ وَنُذَكِّرَ بَعضَنَا بِأُمُورِ الآخِرَةِ المُقبِلَةِ عَلَينَا، وَنَحنُ صَائِرُونَ إِلَيهَا، وَنَتَعَلَّمَ كَيفَ نَلتَجِئُ إِلَى اللهِ وَنَتَقَرَّبَ إِلَيهِ، لِذَلِكَ سَنَجُولُ بِأَسمَاعِنَا وَقُلُوبِنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ الفَاضِلَةِ فِي شَرحٍ مُفَصَّلٍ لِجُزءٍ مِن أَصَحِّ الكُتُبِ المُؤَلَّفَةِ بَينَ البَشَرِ، لِشَرحِ كِتَابِ العِلمِ مِن صَحِيحِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ، وَإِنَّنَا سَنَأخُذُهُ تَلَقِّيًا وَشَرحًا وَتَعلِيقًا بِمَا يَتَيَسَّرُ لَنَا مِنَ الوَقتِ بِإِذنِ اللهِ تَعَالَى.
وَلَن أُتَرجِمَ لِلإِمَامِ البُخَارِيِّ لِشُهرَتِهِ وَلِعَظَمَةِ صِيتِهِ بَينَ أَفرَادِ سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَخَلَفِهَا، وَكُنَّا قَد تَرجَمنَا لَهُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ عِندَمَا شَرَحنَا كِتَابَهُ بِرَّ الوَالِدَينِ فِي مِثلِ هَذِهِ الأَيَّامِ، نَسأَلُ اللهَ أَن يَجمَعَنَا بِهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَيَجزِيَهُ عَنِ المُسلِمِينَ خَيرَ الجَزَاءِ.
إِذًا لَقَد أَحبَبنَا كَذَلِكَ أَن نَغتَنِمَ هَذَا الوَقتَ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَاختَرنَا لَكُم أَن نَقرَأَ مِن كِتَابِ العِلمِ مِن صَحِيحِ الإِمَامِ أَبِي عَبدِ اللهِ البُخَارِيِّ كَمَا قُلتُ، وَلَا يَخفَى عَلَيكُم أَنَّ صَحِيحَ البُخَارِيِّ هُوَ أَصَحُّ الكُتُبِ بَعدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَتَكَلَّمَ العُلَمَاءُ فِي فَضلِ هَذَا الكِتَابِ الشَّيءَ الكَثِيرَ، وَمِن جُملَةِ مَا ذَكَرُوا أَنَّهُ يَنبَغِي أَن يُقرَأَ فِي الأَزَمَاتِ وَعِندَ حُدُوثِ البَلَايَا وَالمَصَائِبِ، عَسَى أَن يَأتِيَ الفَرَجُ إِن شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
فَأَحبَبنَا أَن نَنتَقِيَ مِن كِتَابِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ هَذَا كِتَابًا هُوَ أَسمَاهُ بِكِتَابِ العِلمِ، فِيهِ بَيَانُ فَضِيلَةِ العِلمِ فِي الإِسلَامِ، وَآدَابِ العَالِمِ وَالمُتَعَلِّمِ، وفِيهِ بَيَانُ كَيفَ نَتَلَقَّى العِلمَ، وَمِمَّن نَتَلَقَّى العِلمَ، وَمَا فِي طَلَبِ العِلمِ مِن أَجرٍ عِندَ اللهِ، وَفِيهِ الحَثُّ عَلَى نَشرِ العِلمِ بِالشَّكلِ الصَّحِيحِ، إِلَى مَا هُنَالِكَ مِن فَضَائِلَ سَتُذكَرُ إِن شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا الكِتَابِ الَّذِي سَنَقرَأُهُ، كِتَابِ العِلمِ.
وَهَذَا الكِتَابُ الَّذِي سَنَقرَأُ فِيهِ سَبَقَ أَن ضَبَطَهُ مَشَايِخُنَا عَلَى نُسخَةٍ مَضبُوطَةٍ، هَذِهِ النُّسخَةُ مَعرُوفَةٌ بِالنُّسخَةِ اليُونِينِيَّةِ، هَذِهِ النُّسخَةُ اليُونِينِيَّةُ تُعرَفُ أَنَّهَا أَصَحُّ النُّسَخِ وَأَجَلُّ النُّسَخِ فِي هَِذِه الأَزمَانِ، مُعتَمَدَةٌ وَمَضبُوطَةٌ مِنَ الحَافِظِ اليُونِينِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، وَهَذَا الحَافِظُ اليُونِينِيُّ مِن لُبنَانَ مِن بَلدَةٍ اسمُهَا يُونِينُ قُربَ بَعلَبَكَّ، ذَهَبَ إِلَى دِمَشقَ وَكَانَ هُنَاكَ شَيخُ العَرَبِيَّةِ ابنُ مَالِكٍ، اجتَمَعَ مَعَهُ وَمَعَ بَعضِ حُفَّاظِ الحَدِيثِ وَقَرَأُوا هَذِهِ النُّسخَةَ وَضَبَطُوهَا فِي عِدَّةِ مَجَالِسَ حَتَّى وَصَلَت إِلَينَا وَالحَمدُ للهِ، وَتُعتَبَرُ أَصَحَّ النُّسَخِ.
والَّذِي يُنهِي سَمَاعَ هَذِهِ النُّسخَةِ المَضبُوطَةِ إِن شَاءَ اللهُ عَلَى طَرِيقَةِ المُحَدِّثِينَ وَأَهلِ الخَيرِ نَحنُ نُجِيزُهُ بِهَذَا الجُزءِ مِن هَذَا الكِتَابِ اقتِدَاءً بِهِم، مَعَ الأَسَانِيدِ المُتَّصِلَةِ مِن مَشَايِخِنَا إِلَى الإِمَامِ البُخَارِيِّ.
فَنَقُولُ وَبِاللهِ التَّوفِيقُ وَلَهُ الحَمدُ أَوَّلًا وَآخِرًا:
بِالسَّنَدِ المُتَّصِلِ إِلَى شَيخِ الحُفَّاظِ إِمَامِ الأُمَّةِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ وَرَضِيَ عَنهُ حَيثُ قَالَ:
كتاب العلم
قَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ وَرَضِيَ عَنهُ: (كِتَابُ العِلمِ): وَليُعلَم أَنَّ العِلمَ أَشرَفُ مَا رَغِبَ فِيهِ الرَّاغِبُ، وَأَفضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ فِيهِ الطَّالِبُ، وَأَنفَعُ مَا كَسَبَهُ وَاقتَنَاهُ الكَاسِبُ، لِأَنَّ شَرَفَهُ يُثمِرُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَفَضلَهُ يُنمِي عَلَى طَالِبِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، [الزمر: 9] فَمَنَعَ المُسَاوَاةَ بَينَ العَالِمِ العَامِلِ وَالجَاهِلِ لِمَا قَد خُصَّ بِهِ العَالِمُ مِن فَضِيلَةِ العِلمِ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾، [العنكبوت: 43] فَنَفَى أَن يَكُونَ غَيرُ العَالِمِ يَعقِلُ عَنهُ أَمرًا أَو يَفهَمُ مِنهُ زَجرًا كَمَا يَعقِلُهُ العَالِمُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: “أُوحِيَ إلَى إبرَاهِيمَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنِّي عَلِيمٌ أُحِبُّ كُلَّ عَلِيمٍ“.
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَن رَجُلَينِ أَحَدُهُمَا عَالِمٌ وَالآخَرُ عَابِدٌ، فَقَالَ ﷺ: “فَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدنَاكُم رَجُلًا“.
وَقَالَ مُصعَبُ بنُ الزُّبَيرِ: تَعَلَّمِ العِلمَ، فَإِن يَكُن لَك مَالٌ كَانَ لَك جَمَالًا، وَإِن لَم يَكُن لَك مَالٌ كَانَ لَك مَالًا.
وَقَالَ عَبدُ المَلِكِ بنُ مَروَانَ لِبَنِيهِ: يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا العِلمَ، فَإِن كُنتُم سَادَةً فُقتُم، وَإِن كُنتُم وَسَطًا سُدتُم، وَإِن كُنتُم سُوقَةً عِشتُم.
وَقَالَ بَعضُ الحُكَمَاءِ: العِلمُ شَرَفٌ لَا قَدرَ لَهُ، وَالأَدَبُ مَالٌ لَا خَوفَ عَلَيهِ، وَقَالَ بَعضُ الأُدَبَاءِ: العِلمُ أَفضَلُ خَلَفٍ، وَالعَمَلُ بِهِ أَكمَلُ شَرَفٍ.
وَقَالَ بَعضُ البُلَغَاءِ: تَعَلَّمِ العِلمَ، فَإِنَّهُ يُقَوِّمُكَ وَيُسَدِّدُكَ صَغِيرًا، وَيُقَدِّمُكَ وَيُسَوِّدُكَ كَبِيرًا، وَيُصلِحُ زَيفَكَ وَفَاسِدَكَ، وَيُرغِمُ عَدُوَّك وَحَاسِدَكَ، وَيُقَوِّمُ عِوَجَكَ وَمَيلَكَ، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَكَ وَأَمَلَكَ.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُ: قِيمَةُ كُلِّ امرِئٍ مَا يُحسِنُ، فَأَخَذَهُ الخَلِيلُ فَنَظَمَهُ شِعرًا فَقَالَ:
لَا يَكُونُ العَلِيُّ مِثلَ الدَّنِيِّ … لَا وَلَا ذُو الذَّكَاءِ مِثلَ الغَبِيِّ
قِيمَةُ المَرءِ قَدرُ مَا يُحسِنُ المَرءُ … قَضَاءٌ مِن الإِمَامِ عَلِيِّ
وَلَيسَ يَجهَلُ فَضلَ العِلمِ إلَّا أَهلُ الجَهلِ، لِأَنَّ فَضلَ العِلمِ إنَّمَا يُعرَفُ بِالعِلمِ، وَهَذَا أَبلَغُ فِي فَضلِهِ، لِأَنَّ فَضلَهُ لَا يُعلَمُ إلَّا بِهِ، فَلَمَّا عَدِمَ الجُهَّالُ العِلمَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُونَ إلَى فَضلِ العِلمِ جَهِلُوا فَضلَهُ وَاستَرذَلُوا أَهلَهُ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَا تَمِيلُ إلَيهِ نُفُوسُهُم مِن الأَموَالِ المُقتَنَاةِ وَالطُّرَفِ المُشتَهَاةِ أَولَى أَن يَكُونَ إقبَالُهُم عَلَيهَا وَأَحرَى أَن يَكُونَ اشتِغَالُهُم بِهَا.
وَقَد قَالَ ابنُ المُعتَزِّ فِي مَنثُورِ الحِكَمِ: العَالِمُ يَعرِفُ الجَاهِلَ، لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا، وَالجَاهِلُ لَا يَعرِفُ العَالِمَ، لِأَنَّهُ لَم يَكُن عَالِمًا، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلِأَجلِهِ انصَرَفَ الجُهَّال عَن العِلمِ وَأَهلِهِ انصِرَافَ الزَّاهِدِينَ، وَانحَرَفُوا عَنهُ وَعَنهُمُ انحِرَافَ المُعَانِدِينَ، لِأَنَّ مَن جَهِلَ شَيئًا عَادَاهُ
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
ابتَدَأَ بِالبَسمَلَةِ اقتِدَاءً بِالقُرآنِ الكَرِيمِ وَتَبَرُّكًا بِذِكرِهَا، وَاستِعَانَةً بِذِكرِ اسمِ اللهِ لِلتَّوفِيقِ لِمَا يُحِبُّ وَيَرضَى
باب فضل العلم
(قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالفَضلُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ العِلمِ لِمَن قَامَ بِهَا عَلَى مَن عَطَّلَهَا) (تَكَلَّمنَا فِي فَضلِ العِلمِ، وَالكِتَابُ الَّذِي نَشرَحُهُ كُلُّهُ يُشِيرُ إِلَى فَضلِ العِلمِ وَالعُلَمَاءِ، وَفِيهِ مِن آدَابِ العَالِمِ وَالمُتَعَلِّمِ وَمَا يَنبَغِي أَن يَكُونَ المُتَعَلِّمُونَ عَلَيهِ مِن طَلَبِ العِلمِ.
وَقَد قِيلَ لِبَعضِهِم: العِلمُ أَفضَلُ أَمِ المَالُ؟ فَقَالَ: بَلِ العِلمُ، قِيلَ: فَمَا بَالُنَا نَرَى العُلَمَاءَ عَلَى أَبوَابِ الأَغنِيَاءِ، وَلَا نَكَادُ نَرَى الأَغنِيَاءَ عَلَى أَبوَابِ العُلَمَاءِ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ لِمَعرِفَةِ العُلَمَاءِ بِمَنفَعَةِ المَالِ وَجَهلِ الأَغنِيَاءِ لِفَضلِ العِلمِ.
وَوَقَفَ بَعضُ المُتَعَلِّمِينَ بِبَابِ عَالِمٍ ثُمَّ نَادَى: تَصَدَّقُوا عَلَينَا بِمَا لَا يُتعِبُ ضِرسًا، وَلَا يُسقِمُ نَفسًا، فَأَخرَجَ لَهُ طَعَامًا وَنَفَقَةً، فَقَالَ: فَاقَتِي إلَى كَلَامِكُم أَشَدُّ مِن فَاقَتِي إلَى طَعَامِكُم، إنِّي طَالِبُ هُدًى لَا سَائِلُ نَدًى، فَأَذِنَ لَهُ العَالِمُ وَأَفَادَهُ مِن كُلِّ مَا سَأَلَ عَنهُ، فَخَرَجَ جَذِلًا فَرِحًا وَهُوَ يَقُولُ: عِلمٌ أَوضَحَ لَبسًا، خَيرٌ مِن مَالٍ أَغنَى نَفسًا)
وَقَولِ اللهِ تَعَالَى:
(يَستَدِلُّ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ هُنَا بِهَذِهِ الآيَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فَضلِ العِلمِ وَالعُلَمَاءِ، مَعَ كَثرَةِ الآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ انتَقَى آيَتَينِ هَذِهِ إِحدَاهُمَا)
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
(أَي فِي الثَّوَابِ فِي الآخِرَةِ، وَفِي الكَرَامَةِ فِي الدُّنيَا، فَيَرفَعُ المُؤمِنَ عَلَى مَن لَيسَ بِمُؤمِنٍ، وَالعَالِمَ عَلَى مَن لَيسَ بِعَالِمٍ، وَقَالَ ابنُ مَسعُودٍ: مَدَحَ اللهُ العُلَمَاءَ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَالمَعنَى أَنَّهُ يَرفَعُ اللهُ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يُؤتَوُا العِلمَ) (وَالمَعنَى: يَرفَعُهُم دَرَجَاتٍ فِي دِينِهِم إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ الرِّفعَةَ عِندَ اللهِ تَعَالَى بِالعِلمِ وَالإِيمَانِ لَا بِالسَّبقِ إِلَى صُدُورِ المَجَالِسِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ الَّذِينَ قَرَؤُوا القُرآنَ، وَقَالَ يَحيَى بنُ يَحيَى عَن مَالِكٍ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ الصَّحَابَةُ ﴿وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ يَرفَعُ اللهُ بِهَا العَالِمَ وَالطَّالِبَ لِلحَقِّ، فَيَرفَعُ المُؤمِنَ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا ثُمَّ بِعِلمِهِ ثَانِيًا، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَ يُقَدِّمُ عَبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ لِعِلمِهِ، وَفِي البُخَارِيِّ عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَكَانَ القُرَّاءُ أَصحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَو شُبَّانًا، وَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ أَنَّ نَافِعَ بنَ عَبدِ الحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَستَعمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنِ استَعمَلتَهُ عَلَى أَهلِ الوَادِي؟، فَقَالَ: ابنُ أَبزَى، فَقَالَ: وَمَنِ ابنُ أَبزَى؟ قَالَ: مَولًى مِن مَوَالِينَا، قَالَ: فَاستَخلَفتَ عَلَيهِم مَولًى!، قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُم ﷺ قَد قَالَ: “إِنَّ اللهَ يَرفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أَقوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ“، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: “بَينَ العَالِمِ وَالعَابِدِ مِائَةُ دَرَجَةٍ بَينَ كُلِّ دَرَجَتَينِ حُضرُ الجَوَادِ المُضَمَّرِ سَبعِينَ سَنَةً“، [الجَوَادُ: الفَرَسُ الرَّائِعُ، وَحُضرُهُ: عَدوُهُ، وَتَضمِيرُ الفَرَسِ: تَمرِينُهُ وَتَدمِينُهُ عَلَى الجَريِ وَالسِّبَاقِ، وَقِيلِ هُوَ أَن يُشَدَّ عَلَيهِ سَرجُهُ وَيُجَلَّلَ بِالأَجِلَّةِ، وَيُحَرَّكَ حَتَّى يَعرَقَ، فَيَذهَبَ رَهَلُهُ، وَيَقوَى لَحمُهُ وَيَخِفَّ].
وَعَنهُ ﷺ: “فَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ“.
وَعَنهُ ﷺ: “يَشفَعُ يَومَ القِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الأَنبِيَاءُ ثُمَّ العُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ“، فَأَعظِم بِمَنزِلَةٍ هِيَ وَاسِطَةٌ بَينَ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ بِشَهَادَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: خُيِّرَ سُلَيمَانُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَينَ العِلمِ وَالمَالِ وَالمُلكِ فَاختَارَ العِلمَ فَأُعطِيَ المَالَ وَالمُلكَ مَعَهُ.اهـ)
(قَالَ ابنُ حَجَرٍ: قِيلَ فِي تَفسِيرِهَا: يَرفَعِ اللهُ المُؤمِنَ العَالِمَ عَلَى المُؤمِنِ غَيرِ العَالِمِ، وَرِفعَةُ الدَّرَجَاتِ تَدُلُّ عَلَى الفَضلِ، إِذِ المُرَادُ بِهِ كَثرَةُ الثَّوَابِ، وَبِهَا تَرتَفِعُ الدَّرَجَاتُ، وَرِفعَتُهَا تَشمَلُ المَعنَوِيَّةَ فِي الدُّنيَا بِعُلُوِّ المَنزِلَةِ وَحُسنِ الصِّيتِ، وَالحِسِّيَّةَ فِي الآخِرَةِ بِعُلُوِّ المَنزِلَةِ فِي الجَنَّةِ)
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
(الخَبِيرُ مِن أَسمَاءِ اللهِ الحُسنَى مَعنَاهُ: هُوَ المُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ الأَشيَاءِ، فَلَا تَخفَى عَلَى اللهِ خَافِيَةٌ، وَهُوَ عَالِمٌ بِالكُلِّياتِ وَالجُزئِيَّاتِ، وَمَن أَنكَرَ ذَلِكَ كَفَرَ، هُوَ سُبحَانَهُ العَالِمُ بِخَلقِهِ العَلَّامُ العَلِيمُ، الَّذِي عَلِمَ كُلَّ شَيءٍ، لَا تَخفَى عَلَيهِ خَافِيَةٌ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، وَشَاءَ كُلَّ شَيءٍ، لَا حَاكِمَ عَلَيهِ، وَلَا آمِرَ لَهُ، وَلَا نَاهِيَ لَهُ، وَمَشِيئَتُهُ نَافِذَةٌ، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَم يَشَأ لَم يَكُن، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى خَلقِ مَا سَبَقَت بِهِ إِرَادَتُهُ)
الدعاء
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ المُرسَلِينَ…
اللهم إِنَّا نَسأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَم يَلِد وَلَم يُولَد وَلَم يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَن تَعفُوَ عَنَّا فِي سَاعَتِنَا هَذِهِ فَتُنزِلَ عَلَينَا رَحمَةً مِن عِندِكَ وَحَنَانًا مِن لَدُنِّكَ تُغنِناَ بِهَا عَن رَحمَةِ وَحَنَانِ مَن سِوَاكَ.
اللهم… إِن غَفَرتَ فَأَنتَ خَيرُ رَاحِمٍ وَإِن عَذَّبتَ فَغَيرُ ظَالِمٍ أَنتَ.
اللهم وَقَفَ السَّائِلُونَ بِبَابِكَ، وَلَاذَ الفُقَرَاءُ بِكَ وَوَقَفَت سَفِينَةُ المَسَاكِينِ عَلَى سَاحِلِ كَرَمِكَ، يَرجُونَ الجَوَازَ إِلَى سَاحَةِ رَحمَتِكَ وَنِعمَتِكَ، اللهم إِن كُنتَ لَا تَرحَمُنَا فَمَن لِلمُذنِبِ المُقَصِّرِ إِذَا غَرِقَ فِي بَحرِ ذُنُوبِهِ وَآثَامِهِ.
رَبِّ اجعَل أَيَّامَنَا كُلَّهَا سَعَادَةٌ رَبِّ بَدِّدِ الأَحزَانَ وَأَبرِئِ الأَسقَامَ وَابسُطِ الأَرزَاقَ وَحَسِّنِ الأَخلَاقَ وَانشُرِ الرَّحَمَاتِ وَامحُ السَّيِّئَاتِ تَبَارَكتَ يَا رَبَّ البَرِيَّاتِ يَا رَبَّ الأَرضِ وَالسَّمَاوَاتِ.
اللهم إِن كُنتَ لَا تَرحَمُ إِلَّا الطَّائِعِينَ فَمَن لِلعَاصِينَ، وَإِن كُنتَ لَا تَقبَلُ إِلَّا العَامِلِينَ فَمَن لِلمُقَصِّرِينَ، اللهم رَبِحَ العَامِلُونَ، وَفَازَ القَائِمُونَ، وَنَجَا المُخلِصُونَ، وَنَحنُ عَبِيدُكَ المُذنِبُونَ فَارحَمنَا بِرَحمَتِكَ وَجُد عَلَينَا بِفَضلِكَ وَاغفِر لَنَا بِرَحمَتِكَ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللهم فَرِّجِ الكَربَ عَنِ الأَقصَى يَا رَبَّ العَالَمِينَ، يَا اللهُ احفَظِ المُسلِمِينَ وَالمَسجِدَ الأَقصَى مِن أَيدِي اليَهُودِ المُدَنِّسِينَ، يَا اللهُ ارزُقنَا صَلَاةً فِي المَسجِدِ الأَقصَى مُحَرَّرًا، نَسجُدُهَا شُكرًا لَكَ عَلَى النَّصرِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، يَا اللهُ انصُرِ الإِسلَامَ وَالمُسلِمِينَ، يَا قَوِيُّ يَا مَتِينُ انصُرِ المُسلِمِينَ فِي غَزَّةَ، يَا اللهُ يَا مَن لَا يُعجِزُكَ شَيءٌ ثَبِّتِ المُسلِمِينَ فِي غَزَّةَ وَأَمِدَّهُم بِمَدَدٍ مِن عِندِكَ، وَارزُقهُم نَصرًا قَرِيبًا مُؤَزَّرًا، اللهم عَلَيكَ بِاليَهُودِ أَعدَاءِ هَذَا الدِّينِ، اللهم أَحصِهِم عَدَدًا، وَاقتُلهُم بَدَدًا، وَلَا تُغَادِر مِنهُم أَحَدًا، يَا اللهُ يَا رَحمَنُ يَا رَحِيمُ اشفِ جَرحَى المُسلِمِينَ فِي غَزَّةَ وَفِلِسطِينَ، وَتَقَبَّل شُهَدَاءَهُم، وَأَنزِلِ الصَّبرَ وَالسَّكِينَةَ عَلَى قُلُوبِ أَهلِهِم، اللهم إِنَّا نَستَودِعُكَ غَزَّةَ وَأَهلَهَا، وَأَرضَهَا وَسَمَاءَهَا، وَرِجَالَهَا وَنِسَاءَهَا وَأَطفَالَهَا، فَيَا رَبِّ احفَظهُم مِن كُلِّ سُوءٍ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِ الأَنبِيَاءِ وَالمُرسَلِينَ وَسَلَامٌ عَلَى المُرسَلِينَ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.