المقدمة
الحَمدُ للهِ الَّذِي شَيَّدَ وَقَوَّى مَنَارَ الدِّينِ، وَبَيّنَ لِلخَلقِ شَرَائِعَهُ وَأَحكَامَهُ أَحكَمَ تَبيِينٍ، وَبَعَثَ صَفوَتَهُ وَخَصَائِصَ أَولِيَائِهِ المُصطَفَينَ، لِتَبلِيغِ رِسَالَتِهِ مِن أَنبِيَائِهِ يَدعُونَ إِلَى الِالتِزَامِ بِشَرِيعَةِ الدِّينِ، وَخَتَمَ الدَّعوَةَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ المُرسَلِينَ، وَفَضَّلَهُ عَلَى مَن سَبَقَ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَجَعَلَ شَرِيَعَتَهُ مُؤَيَّدَةً إِلَى يَومِ الدِّينِ.
صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ البَحرِ الرَّائِقِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ القَائِمِ يَومَ الرِّدَّةِ بِالحَزمِ اللَّائِقِ، وَعَلَى عُمَرَ قَاهِرِ الكُفَّارِ وَفَتَّاحِ المَغَالِقَ، وَعَلَى عُثمَانَ الَّذِي مَا استَحَلَّ حُرمَتَهُ إِلَّا مَارِقٌ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ لِشَجَاعَتِهِ يَسلُكُ المَضَائِقَ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ الَّذِينَ كُلٌّ مِنهُم عَلَى مَن سِوَاهُم فَائِقٌ، مَن تَقُومُ بِهِمُ الحُجَّةُ، وَتَرتَفِعُ بِقَولِهِمُ الشُّبهَةُ، وَهُمُ الفُقَهَاءُ الَّذِينَ التَزَمُوا حِرَاسَةَ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ، أَمَّا بَعدُ:
الشرح
١٠– بَابٌ: العِلمُ قَبلَ القَولِ وَالعَمَلِ،
وَجَعَلَ البُخَارِيُّ هَذَا عُنوَانًا، بَابٌ العِلمُ قَبلَ القَولِ وَالعَمَلِ، قَبلَ أَن تَتَكَلَّمَ قَبلَ أَن تَعمَلَ عَلَيكَ أَن تَتَعَلَّمَ العِلمَ، فَبِالعِلمِ تَعرِفُ مَا يَحِلُّ مِنَ القَولِ وَمَا يَحرُمُ، بِالعِلمِ تَعرِفُ مَا يَحِلُّ مِنَ العَمَلِ وَمَا يَحرُمُ، فَلِذَلِكَ العِلمُ يُقَدَّمُ وَالقَولُ وَالعَمَلُ لَا يُعتَبَرَانِ إِلَّا بِالعِلمِ، كُلُّنَا نَعرِفُ أَنَّ هُنَاكَ أُنَاسًا تُصَلِّي وَتَصُومُ أَو كَذَا أَو كَذَا مِنَ الأَحكَامِ الفَرعِيَّةِ وَلَكن لَا يَعرِفُونَ كَيفَ يُصَلُّونَ وَلَا كَيفَ يَصُومُونَ وَلَا كَيفَ يُزَكُّونَ، يَدفَعُونَ مَالًا بِاسمِ الزَّكَاةِ لِبِنَاءِ مَسجِدٍ أَو مُصَلًّى أَو مَركَزًا، أَلَم تَسمَعُوا بِهَذَا؟ بَلَى وَلَكِن هَل هَذَا عِندَ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مَقبُولٌ؟، الجَوَابُ لَا، الَّذِي دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ لِبِنَاءِ مَسجِدٍ أَو مُصَلًّى أَو مَركَزٍ إِسلَامِيٍّ أَو مَدرَسَةٍ أَو لِإِصلَاحِ الطُّرُقَاتِ أَو شِرَاءِ أَكفَانٍ لِلمَوتَى أَو لِطِبَاعَةِ كُتُبٍ فَليَعلَم أَنَّ زَكَاتَهُ مَا صَحَّت وَأَنَّ ذِمَّتَهُ مَا بَرِئَت، أَمَّا بِنَاءُ مَسجِدٍ أَو مُصَلًّى أَو مَدرَسَةٍ أَو طِبَاعَةِ كُتُبٍ أَو مَا شَابَهَ ذَلِكَ فَمِن مَالِ التَّبَرُّعَاتِ، المُحسِنُونَ يَتَبَرَّعُونَ بِهَذِهِ الأَموَالِ مِن بَابِ المُسَاعَدَةِ مِن بَابِ الصَّدَقَةِ مِن غَيرِ الزَّكَاةِ، هَذَا المَالُ يُوضَعُ فِي هَذَا المَحَلِّ، أَمَّا الزَّكَاةُ فَلَهَا مَصَارِفُهَا الثَّمَانِيَةُ المَذكُورَةُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى)
لِقَولِ اللهِ تَعَالَى: ﴿فَاعلَم أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ﴾،
انظُر إِلَى فَطَانَةِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ، استَدَلَّ بِالآيَةِ عَلَى أَنَّ العِلمَ قَبلَ القَولِ وَالعَمَلِ، الآيَةُ: ﴿فَاعْلَم أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِر لِذَنْبِكَ﴾.
قَالَ البُخَارِيُّ: قَدَّمَ اللهُ العِلمَ عَلَى الِاستِغفَارِ وَالِاستِغفَارُ مِنَ القَولِ، فَالعِلمُ يُقَدَّمُ عَلَى القَولِ وَالعَمَلِ فَبَدَأَ بِالعِلمِ بَدَأَ اللهُ تَعَالَى بِالعِلمِ(وَالخِطَابُ وَإِن كَانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِأُمَّتِهِ، وَاستَدَلَّ سُفيَانُ بنُ عُيَينَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى فَضلِ العِلمِ، كَمَا أَخرَجَهُ أَبُو نُعَيمٍ فِي الحِليَةِ أَنَّهُ تَلَاهَا فَقَالَ: أَلَم تَسمَع أَنَّهُ بَدَأَ بِهِ فَقَالَ: اعلَم ثُمَّ أَمَرَهُ بِالعَمَلِ).
وَمَعنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ كَمَا قَالَ أَهلُ العِلمِ: لَا مَعبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، لَا أَحَدَ يَستَحِقُّ العِبَادَةَ إِلَّا اللهُ، لَا أَحَدَ يَستَحِقُّ أَن نَتَذَلَّلَ لَهُ غَايَةَ التَّذَلُّلِ إِلَّا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللهُ، اللهُ تَعَالَى خَلَقَنَا وَخَلَقَ أَعمَالَنَا الِاختِيَارِيَّةَ وَأَعمَالَنَا غَيرَ الِاختِيَارِيَّةَ، اللهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) (وَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَولَوِيَّةِ عِلمِ التَّوحِيدِ وَوُجُوبِ تَعَلُّمِهِ وَتَعلِيمِهِ.
وَليُعلَم أَنَّ الِاشتِغَالَ بِالعِلمِ مِن أَفضَلِ القُرَبِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَهَمِّ أَنوَاعِ الخَيرِ وَءَاكَدِ العِبَادَاتِ، فَكَيفَ بِهِ إِذ كَانَ أَشرَفَ العُلُومِ مِن كُلِّ الجِهَاتِ، عِلمَ العَقِيدَةِ وَتَوحِيدِ اللهِ رَبِّ الكَائِنَاتِ، فَهُوَ أَولَى مَا أُنفِقَت فِيهِ نَفَائِسُ الأَوقَاتِ، وَشَمَّرَ فِي إِدرَاكِهِ وَالتَّمَكُّنِ فِيهِ أَصحَابُ الأَنفُسِ الزَّكِيَّاتِ، وَبَادَرَ إِلَى الِاهتِمَامِ بِهِ المُسَارِعُونَ إِلَى المَكرُمَاتِ، وَسَارَعَ إِلَى التَّحَلِّي بِهِ مُستَبِقُو الخَيرَاتِ، وَقَد تَظَاهَرَ عَلَى مَا ذَكَرتُهُ جُمَلٌ مِن ءَايَاتِ القُرءَانِ الكَرِيمَاتِ، وَالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّبَوِيَّةِ المَشهُورَاتِ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى الإِطنَابِ بِذِكرِهَا هُنَا لِكَونِهَا مِنَ الوَاضِحَاتِ الجَلِيَّاتِ، ثَبَّتَنَا الله وَإِيَّاكُم عَلَى التَّوحِيدِ إِلَى المَمَاتِ، ءامِينَ. وَقَالَ إِمَامُ الحَرَمَينِ الجُوَينِيُّ: أَجمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ مَعرِفَةِ الله تَعَالَى.اهـ
وَلَا يَعلَمُ الله عَلَى الحَقِيقَةِ إِلَّا الله، وَمَا مَبلَغُ مَعرِفَتِنَا بِالله إِلَّا أَنَّهُ خَالِقٌ مَوجُودٌ بِلَا تَشبِيهٍ وَلَا تَكيِيفٍ.
فَبَدَأَ بِالعِلمِ،
فلذلكَ العلمُ يقدَّمُ والقولُ والعملُ لَا يُعْتَبَرَانِ إلَّا بالعلمِ.
وَأَنَّ
بِفَتحِ الهَمزَةِ وَيَجُوزُ بِكَسرِهَا فَتَقُولُ وَإِنَّ
العُلَمَاءَ هُم وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ وَرَّثُوا العِلمَ،
(العُلَمَاءُ هُم وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ، أَيِ العُلَمَاءُ العَامِلُونَ عُلَمَاءُ الدِّينِ هُم وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ، وَالأَنبِيَاءُ مَا وَرَّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلمَ فَمَن أَخَذَ مِن مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ بِنَصِيبٍ كَامِلٍ فَهُوَ عَلَى خَيرٍ عَظِيمٍ، العُلَمَاءُ هُم وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ وَالأَنبِيَاءُ وَرَّثُوا العِلمَ قَالَ شُرَّاحُ الحَدِيثِ وَيَجُوزُ أَن تُقرَأَ وَرِثُوا العِلمَ فَيَكُونُ مَعنَاهُ العُلَمَاءُ وَرِثُوا العِلمَ)
مَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ
(أَي: نَصِيبٍ)
وَافِرٍ،
(أَي: كَامِلٍ) (رُوِيَ عَن سُلَيمَانَ بنِ مِهرَانَ: بَينَمَا ابنُ مَسعُودٍ يَومًا، مَعَهُ نَفَرٌ مِن أَصحَابِهِ، إِذ مَرَّ أَعرَابِيٌّ، فَقَالَ: عَلَى مَا اجتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: ابنُ مَسعُودٍ: «عَلَى مِيرَاثِ مُحَمَّدٍ، ﷺ يَقتَسِمُونَهُ».
وَعَن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: تَعَلَّمُوا العِلمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ حَسَنَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسبِيحٌ، وَالبَحثََ عَنهُ جِهَادٌ، وَتَعلِيمَهُ مَن لَا يَعلَمَهُ صَدَقَةٌ، وَبَذلَهُ لِأَهلِهِ قُربَةٌ، أَلَا إِنَّ العِلمَ سَبِيلُ مَنَازِلِ أَهلِ الجَنَّةِ، وَهُوَ المُؤنِسُ فِي الوَحشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الغُربَةِ، وَالمُحَدِّثُ فِي الخَلوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ، وَالمُعِينُ عَلَى الضَّرَّاءِ وَالزَّينُ عِندَ الأَخِلَّاءِ وَالسِّلَاحُ عَلَى الأَعدَاءِ يَرفَعُ اللهُ بِهِ أَقوَامًا فَيَجعَلُهُم فِي الخَيرِ قَادَةً أَئِمَّةً تُقتَفَى آثَارُهُم، وَيُقتَدَى بِأَفعَالِهِم، وَتَرغَبُ المَلَائِكَةُ فِي خِلِّهِم، وَبِأَجنِحَتِهَا تَمسَحُهُم، وَيُصَلِّي عَلَيهِم كُلُّ رَطبٍ وَيَابِسٍ، وَحِيتَانُ البَحرِ، وَهَوَامُّ الأَرضِ، وَسِبَاعُ البَرِّ وَالبَحرِ، وَالأَنعَامُ، لِأَنَّ العِلمَ حَيَاةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهلِ، وَمِصبَاحُ الأَبصَارُ مِنَ الظُّلمَةِ، وَقُوَّةُ الأَبدَانِ مِنَ الضَّعفِ، وَيَبلُغُ بِالعَبدِ مَنَازِلَ الأَخيَارِ وَالأَبرَارِ، وَالدَّرَجَاتِ العُلَى فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَبِهِ يُعرَفُ الحَلَالُ مِنَ الحَرَامِ، وَهُوَ إِمَامٌ، وَالعَمَلُ تَابِعُهُ، وَيُلهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحرَمُهُ الأَشقِيَاءُ)
وَمَن سَلَكَ طَرِيقًا
(نَكَّرَهَا وَنَكَّرَ عِلمًا لِيتَنَاوُلِ أَنوَاعِ الطُّرُقِ المُوَصِّلَةِ إِلَى تَحصِيلِ العُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَلِيَندَرِجَ فِيهِ القَلِيلُ وَالكَثِيرُ)
يَطلُبُ بِهِ عِلمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا
(أَي: فِي الآخِرَةِ، أَو فِي الدُّنيَا بِأَن يُوَفِّقَهُ لِلأَعمَالِ الصَّالِحَةِ المُوَصِّلَةِ إِلَى الجَنَّةِ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ بِتَسهِيلِ العِلمِ عَلَى طَالِبِهِ، لِأَنَّ طَلَبَهُ مِنَ الطُّرُقِ المُوَصِّلَةِ إِلَى الجَنَّةِ)
إِلَى الجَنَّةِ،
(وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ البِصرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، قَالَ: «مَن خَرَجَ مِن بَيتِهِ فِي طَلَبِ بَابٍ مِنَ العِلمِ حَفَّتهُ المَلَائِكَةُ بِأَجنِحَتِهَا، وَصَلَّت عَلَيهِ الطُّيُورُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَالسِّبَاعُ فِي البَرِّ، وَالحِيتَانُ فِي البَحرِ، أَلَا فَاطلُبُوا العِلمَ وَاطلُبُوا لِلعِلمِ السَّكِينَةَ، وَالحِلمَ، وَالوَقَارَ، وَتَوَاضَعُوا لِمَن تَتَعَلَّمُونَ مِنهُ وَلِمَن تُعَلِّمُونَهُ، وَلَا تُبَاهُوا بِهِ العُلَمَاءَ، وَلَا تُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَإِنَّ العَامِلَ بِغَيرِ عِلمٍ كَالحَائِدِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَهُوَ لَا يَزدَادُ اجتِهَادًا إِلَّا ازدَادَ بُعدًا، وَكَانَ مَا يُفسِدُهُ أَكثَرَ مِمَّا يُصلِحُهُ».
قِيلَ لَهُ: عَمَّن هَذَا يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: «لَقِيتُ فِيهِ سَبعِينَ بَدرِيًّا وَاغتَرَبتُ فِي طَلَبِهِ أَربَعِينَ عَامًا»، هَذَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى طَلَبِ العِلمِ وَالذَّهَابِ لِطَلَبِ العِلمِ، حَتَّى وَلَو كَانَ بَينَ بَيتِكَ وَبَينَ مَجلِسِ العِلمِ مَسَافَةٌ طَوِيلَةٌ أَن تَذهَبَ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ لِتَتَعَلَّمَ عِلمَ الدِّينِ، أَحيَانًا الوَاحِدُ مِنَّا يَستَغرِبُ سُبحَانَ اللهِ يَكُونُ وَاحِدٌ بَيتُهُ قَرِيبٌ مِنَ المَسجِدِ أَو مِن مَجلِسِ العِلمِ وَلَا يَحضُرُ، كَم رِسَالَةً يُرسِلُونَ لَهُ وَكَم شَخصًا يَتَّصِلُ بِهِ تَعَالَ إِلَى الدَّرسِ وَلَا يَأتِي لِدَرسِ الدِّينِ، وَالبَعضُ الآخَرُ يَكُونُ بَينَهُم وَبَينَ الدَّرسِ سَاعَةٌ بِالسَّيَّارَةِ وَمَعَهُم سَيَّارَةٌ وَمُكَيِّفٌ فَيَستَثقِلُ وَيَقُولُ سَاعَةٌ؟، وَلَكِن لِلنُّزهَةِ وَلَو عَشرَ سَاعَاتٍ يَذهَبُ بَينَمَا لَو عَرَفَ كَم فِي حُضُورِ مَجلِسِ العِلمِ مِن ثَوَابٍ عِندَ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لَكَانَ عَلَى استِعدَادٍ أَن يَأتِيَ مِن مكان بعيد لِيَحضُرَ الدَّرسَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ رِضَا اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، إِذَن وَمَن سَلَكَ طَرِيقًا يَطلُبُ بِهِ عِلمًا لِأَجلِ طَلَبِ العِلمِ الشَّرعِيِّ سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ يُثِيبُهُ اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَقَالَ جَلَّ ذِكرُهُ: ﴿إِنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾،
العُلَمَاءُ العَامِلُونَ هُم أَشَدُّ النَّاسِ خَشيَةً للهِ لِأَنَّهُم أَعلَمُ بِاللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى)(قَالَ مُلَّا عَلِيّ القَارِي: وَالخَشيَةُ خَوفٌ مَعَ التَّعظِيمِ.
وقَالَ الحَارِثُ المُحَاسِبِيُّ: العِلمُ يُورِثُ الخَشيَةَ وَالزُّهدُ يُورِثُ الرَّاحَةَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾، أَيِ العُلَمَاءُ يَخشَونَ اللهَ، وَقَالَ القُرطُبِيُّ: يَعنِي بِالعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَخَافُونَ قُدرَتَهُ، فَمَن عَلِمَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدِيرٌ أَيقَنَ بِمُعَاقَبَتِهِ عَلَى المَعصِيَةِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بنُ أَنَسٍ: مَن لَم يَخشَ اللهَ تَعَالَى فَلَيسَ بِعَالِمٍ أي حق العالم، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا العَالِمُ مَن خَشِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ: كَفَى بِخَشيَةِ اللهِ تَعَالَى عِلمًا وَبِالِاغتِرَارِ جَهلًا، وَقِيلَ لِسَعدِ بنِ إِبرَاهِيمَ: مَن أَفقَهُ أَهلِ المَدِينَةِ؟ قَالَ أَتقَاهُم لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَن مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا الفَقِيهُ مَن يَخَافُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَعَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: إِنَّ الفَقِيهَ حَقّ الفَقِيهِ مَن لَم يُقَنِّطِ النَّاسَ مِن رَحمَةِ اللهِ، وَلَم يُرَخِّص لَهُم فِي مَعَاصِي اللهِ تَعَالَى، وَلَم يُؤَمِّنهُم مِن عَذَابِ اللهِ، وَلَم يَدَعِ القُرآنَ رَغبَةً عَنهُ إِلَى غَيرِهِ، إِنَّهُ لَا خَيرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلمَ فِيهَا، وَلَا عِلمَ لَا فِقهَ فِيهِ.
وَأَسنَدَ الدَّارِمِيُّ عَن مَكحُولٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: “إِنَّ فَضلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدنَاكُم”، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿إِنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾، ثُمَّ قَالَ: “إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهلَ أَرَضِيهِ وَالنُّونَ فِي البَحرِ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الخَيرَ”، قَالَ عَبدُ الله بنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: مَنهُومَانِ لَا يَشبَعَانِ: طَالِبُ العِلمِ، وَطَالِبُ الدُّنيَا، وَهُمَا لَا يَستَوِيَانِ، أَمَّا طَالِبُ العِلمِ فَيَزدَادُ رِضًا مِنَ الرَّحمَنِ، وَأَمَّا طَالِبُ الدُّنيَا فَيَزدَادُ فِي الطُّغيَانِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾، وَقَرَأَ: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَىٰ، أَن رَآهُ استَغنَىٰٰ﴾)
وَقَالَ: ﴿وَمَا يَعقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ﴾،
(أَي وَمَا يَفهَمُهَا أَيِ الأَمثَالَ المَضرُوبَةَ إِلَّا العَالِمُونَ بِاللهِ، كَمَا رَوَى جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: “العَالِمُ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ وَاجتَنَبَ سَخَطَهُ”.
فَالعِلمُ هُوَ الَّذِي يَمنَعُ صَاحِبَهُ عَنِ المُخَالَفَاتِ إِذَا عَمِلَ بِمَا يَعلَمُ، وَقَد هَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُم أَقبَلُوا عَلَى العِبَادَاتِ وَهَجَمُوا عَلَيهَا بِدُونِ عِلمٍ، قَالَ ابنُ القَاسِمِ سَمِعتُ مَالِكًا يَقُولُ إِنَّ أَقوَامًا ابتَغَوُا العِبَادَةَ وَأَضَاعُوا العِلمَ فَخَرَجُوا عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بِأَسيَافِهِم وَلَو ابتَغَوُا العِلمَ لَحَجَزَهُم عَن ذَلِك.اهـ
وَلِذَلِكَ قَالَ ابنُ وَهبٍ: كُنتُ بَينَ يَدَي مَالِكِ بنِ أَنَسٍ فَوَضَعتُ أَلوَاحِي وَقُمتُ إِلَى الصَّلَاةِ أَيِ النَّافِلَةِ فَقَالَ مَالك: لَيسَ الَّذِي قُمتَ إِلَيهِ بِأَفضَلَ مِنَ الَّذِي تَرَكتَهُ).
﴿وَقَالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أَوْ نَعقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيْرِ﴾،
(قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَو كُنَّا نَسمَعُ الهُدَى أَو نَعقِلُهُ، أَو لَو كُنَّا نَسمَعُ سَمَاعَ مَن يَعِي وَيُفَكِّرُ، أَو نَعقِلُ عَقلَ مَن يُمَيِّزُ وَيَنظُرُ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الكَافِرَ لَم يُعطَ مِنَ العَقلِ الَّذِي يُنجِيهِ شَيئًا، وَهَذِهِ المَذكُورَةُ أَوصَافُ أَهلِ العِلمِ، فَالمَعنَى لَو كُنَّا مِن أَهلِ العِلمِ لَعَلِمنَا مَا يَجِبُ عَلَينَا فَعَمِلنَا بِهِ فَنَجَونَا).
وَقَالَ: ﴿هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ﴾،
لَا يَستَوِي الجَاهِلُ مَعَ العَالِمِ كَمَا لَا يَستَوِي الأَعمَى مَعَ البَصِيرِ، هِيَ الآيَةُ أَوَّلُهَا: ﴿قُل هَل يَستَوِي﴾، لَكِنَّ الإِمَامَ البُخَارِيَّ بَدَأَ فِيهَا فَورًا مِن غَيرِ لَفظِ ﴿قُل﴾.
(قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَولَا ثَلَاثٌ فِي الدُّنيَا لَمَا أَحبَبتُ البَقَاءَ فِيهَا، لَولَا أَن أَحمِلَ أَو أُجَهِّزَ جَيشًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَولَا مُكَابَدَةُ هَذَا الليلِ، وَلَولَا مُجَالَسَةُ أَقوَامٍ يَنتَقُونَ أَطَايِبَ الكَلَامِ كَمَا يُنتَقَى أَطَايِبُ التَّمرِ لَمَا أَحبَبتُ البَقَاءَ، فَالأَوَّلُ الجِهَادُ، وَالثَّانِي قِيَامُ الليلِ، وَالثَّالِثُ مُذَاكَرَةُ العِلمِ، فَاجتَمَعَت فِي الصَّحَابَةِ بِكَمَالِهِم وَتَفَرَّقَت فِيمَن بَعدَهُم غَالِبًا.اهـ
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ نَفيُ التَّسوِيَةِ بَينَ أَهلِهِ وَبَينَ غَيرِهِم كَمَا نَفَى التَّسوِيَةَ بَينَ أَصحَابِ الجَنَّةِ وَأَصحَابِ النَّارِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ﴾، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ فَضلِهِم وَشَرَفِهِم).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَهِّمْهُ
هَذِهِ إِحدَى رِوَايَاتِ البُخَارِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الأُخرَى عَنِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّههُ، وَالمَعنَى وَاحِدٌ يُفَقِّههُ وَيُفَهِّمهُ مَعنَاهُ يَرزُقُهُ اللهُ تَعَالَى الفَهمَ فِي العِلمِ لِأَنَّ خَيرَ مَا يُؤتَاهُ الإِنسَانُ المُسلِمُ هُوَ الفَهمُ الصَّحِيحُ، وَقَد يَقُولُ شَخصٌ أَنَا أَحفَظُ هَذَا الكِتَابَ وَهَذَا الكِتَابَ وَ وَ وَ وَلَكِن لَا يَفهَمُ مَا يَحفَظُ، مِثلَ مَا نَسمَعُ أَنَّ هَؤُلَاءِ المُشَبِّهَةَ المُجَسِّمَةَ أَعدَاءَ الإِسلَامِ يَقرَأُونَ بِلِسَانِهِم ﴿لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ﴾ لَكِن فِي المَعنَى يُكَذِّبُونَهَا وَمِنَ النَّاسِ مِن أَصنَافِ أَهلِ الضَّلَالِ مِن أَهلِ الحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ يَقرَأُونَ بِلِسَانِهِم ﴿لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ﴾ وَيَقُولُونَ لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ عَينُ كُلِّ شَيءٍ كَذَّبُوهَا، هَؤُلَاءِ عَلَى ضَلَالٍ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى ضَلَالٍ فَلَيسَ كُلُّ مَن قَرَأَ القُرءَانَ فَهِمَهُ لَيسَ كُلُّ مَن قَرَأَ الحَدِيثَ أَو حَفِظَهُ يَكُونُ قَد فَهِمَهُ فَالعِبرَةُ بِالفَهمِ السَّلِيمِ، مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَهِّمهُ يُفَقِّهْهُ(وَالفِقهُ هُوَ الفَهمُ، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿لَا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ حَدِيثًا﴾ أَي: لَا يَفهَمُونَ، وَالمُرَادُ: الفَهمُ فِي الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ).
وَإِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ،
(قَالَ ابنُ حَجَرٍ: هُوَ حَدِيثٌ مَرفُوعٌ أَيضًا، أَورَدَهُ ابنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِن حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَيضًا بِلَفظِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَعَلَّمُوا، إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالفِقهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَن يُرِدِ الله بِهِ خَيرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ إِسنَادُهُ حَسَنٌ.
وَطَرِيقَةُ طَلَبِ العِلمِ وَالحُصُولِ عَلَى العِلمِ وَنَيلِ العِلمِ بِالتَّعَلُّمِ يَعنِي بِتَلَقِّي العِلمِ، كَيفَ يَكُونُ تَعَلُّمُ العِلمِ بِتَلَقِّي العِلمِ أَي بِسَمَاعِ هَذَا العِلمِ مِن أَهلِ العِلمِ الثِّقَاتِ الَّذِينَ لَهُم إِسنَادٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ مَا قَالَ إِنَّمَا العِلمُ بِآرَائِكُم وَبِعَادَاتِ بِلَادِكُم وَتَقَالِيدِ مُجتَمَعَاتِكُم ولا قال إِنَّمَا العِلمُ بِمُطَالَعَةِ الكُتُبِ ولَا إِنَّمَا العِلمُ بِالهَوَى، مَا قَالَ هَذَا إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ أَي بِتَعَلُّمِ هَذَا العِلمِ مِن أَهلِ العِلمِ وَالمَعرِفَةِ، أَمَّا الَّذِي نَرَاهُ مُنكَبًّا عَلَى الإِنتَرنِتِّ وَجُوجِلَ وَأَمثَالِهِ وَعَلَى قِرَاءَةِ الكُتُبِ وَحدَهُ لَا يُسَمَّى عِندَ العُلَمَاءِ طَالِبَ عِلمٍ وَلَا يُسَمُّونَهُ عَالِمًا بَل يُسَمُّونَهُ صُحُفِيًّا، وَلَا يُؤخَذُ مِنهُ العِلمُ، هَل مِنكُم مَن يَذهَبُ عِندَ إِنسَانٍ اسمُهُ الطَّبِيبُ فُلَانٌ المُتَخَرِّجُ مِن جُوجِلَ؟ فَمِن بَابِ أَولَى مَن يُدَرِّسُ عِلمَ الدِّينِ.
(قَالَ ابنُ الجَوزِيِّ: مَن أَحَبَّ أَن يَكُونَ لِلأَنبِيَاءِ وَارِثا وَفِي مَزَارِعِهِم حَارِثًا فَليَتَعَلَّمِ العِلمَ النَّافِعَ وَهُوَ عِلمُ الدِّينِ، فَفِي الحَدِيثِ: “العُلمَاءُ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ”، وَليَحضُر مَجَالِسَ العُلَمَاءِ فَإِنَّهَا رِيَاضُ الجَنَّةِ، وَمَن أَحَبَّ أَن يَعلَمَ مَا نَصِيبُهُ مِن عِنَايَةِ اللهِ فَليَنظُر مَا نَصِيبُهُ مِنَ الفِقهِ فِي دِينِ اللهِ، فَفِي الحَدِيثِ: “مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ”، وَمَن سَأَلَ عَن طَرِيقٍ تُبَلِّغُهُ الجَنَّةَ فَليَمشِ إِلَى مَجلِسِ العِلمِ، فَفِي الحَدِيثِ: “مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلتَمِسُ فِيه عِلمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ”، وَمَن أَحَبَّ أَلَّا يَنقَطِعَ عَمَلُهُ بَعدَ مَوتِهِ فَليَنشُرِ العِلمَ بِالتَّدوِينِ وَالتَّعلِيمِ، فَفِي الحَدِيثِ: “إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ انقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَو عِلمٍ يُنتَفَعُ بِهِ أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدعُو لَهُ”).
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ:
(وَهَذَا الحَدِيثُ هُوَ مَا رُوِيَ عَن مَالِكِ بن مَرثَدٍ عَن أَبِيهِ قَالَ: أَتَيتُ أَبَا ذَرٍّ وَهُوَ جَالِسٌ عِندَ الجَمرَةِ الوُسطَى وَقَدِ اجتَمَعَ عَلَيهِ النَّاسُ يَستَفتُونَهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَوَقَفَ عَلَيهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَم تُنهَ عَنِ الفُتيَا؟ فَرَفَعَ رَأسَهُ إِلَيهِ فَقَالَ: أَرَقِيبٌ أَنتَ عَلَيَّ؟ لَو وَضَعتُم….)
لَو وَضَعتُمُ الصَّمصَامَةَ
(وَالصَّمصَامَةُ بِمُهمَلَتَينِ الأُولَى مَفتُوحَةٌ هُوَ السَّيفُ الصَّارِمُ الَّذِي لَا يَنثَنِي، وَقِيلَ: الَّذِي لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ)
عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنتُ أَنِّي أُنفِذُ كَلِمَةً سَمِعتُهَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ قَبلَ أَن تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنفَذتُهَا،
(إِشَارَةٌ إِلَى القَفَا، وَهُوَ يُذَّكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَأُنفِذُ بِضَمِّ الهَمزَةِ وَكَسرِ الفَاءِ وَالذَّالِ المُعجَمَةِ أَي: أُمضِيَ، وَتُجِيزُوا بِضَمِّ المُثَنَّاةِ وَكَسرِ الجِيمِ وَبَعدَ اليَاءِ زَايٌ، أَي: تُكمِلُوا قَتلِي، وَنَكَّرَ كَلِمَةً لِيَشمَلَ القَلِيلَ وَالكَثِيرَ، وَالمُرَادُ بِهِ يُبَلِّغُ مَا تَحَمَّلَهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا يَنتَهِي عَن ذَلِكَ وَلَو أَشرَفَ عَلَى القَتلِ.
انظُرُوا إِلَى أَصحَابِ النَّبِيِّ كَم عِندَهُم مِنَ الهِمَّةِ فِي تَبلِيغِ العِلمِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى آخِرِ لَحظَةٍ مِن حَيَاتِِه، عِندَهُ هَمُّ حَمَلِ الأَمَانَةَ يُرِيدُ أَن يُبَلِّغَ هَذِهِ الأَمَانَةَ لِلنَّاسِ، قَالَ حَتَّى وَلَو وَضَعتُمُ الصَّمصَامَةَ عَلَى هَذَا، وَالصَّمصَامَةُ السَّيفُ الصَّارِمُ الَّذِي لَا يَنثَنِي، لَو وَضَعتُمُ السَّيفَ عَلَى قَفَايَ هُنَا لِتَقتُلُونِي وَأَنَا وَجَدتُ فَرَاغًا لَحظَةً لَحظَتَينِ حَتَّى أُبَلِّغَ عِلمَ النَّبِيِّ سَأُبَلِّغُ عِلمَ النَّبِيِّ إِلَى آخِرِ رَمَقٍ مِن حَيَاتِي، فِكرُهُم مَصرُوفٌ نَحوَ نَشرِ العِلمِ، الوَاحِدُ مِنَّا تَقُولُ لَهُ بَلِّغِ العِلمَ أَنتَ تَعَلَّمتَ بَابَ الِاعتِقَادِ وَمَعنَى الشَّهَادَتَينِ وَالضَّرُورِيَّاتِ فِي الوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ بَلِّغهَا لِغَيرِكَ، أَنتَ لَستَ كَالشَّافِعِيِّ وَلَا نَحنُ كَالشَّافِعِيِّ، إِنَّمَا مَطلُوبٌ مِنكَ أَن تُبَلِّغَ العِلمَ وَزَكَاةُ العِلمِ أَن يُعَلَّمَ زَكَاةُ العِلمِ إِخرَاجُهُ لِلنَّاسِ، فَلَو أَشرَفَ الإِنسَانُ عَلَى القَتلِ لَكِن وَجَدَ فُسحَةً وَجَدَ وَقتًا وَلَو يَسِيرًا لِنَشرِ العِلمِ أَن يُبَلِّغَ هَذَا العِلمَ لِلنَّاسِ فَليُبَلِّغ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾، حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ،
ابنُ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَسَّرَ قَولَهُ تَعَالَى: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ فَسَّرَ الرَّبَّانِيِّينَ العُلَمَاءُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ الله الصَّادِقُونَ قَالَ حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ هَذَا فِي بَعضِ الرِّوَايَاتِ وَفِي بَعضِ الرَِّوايَاتِ حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ مَعَ العِلمِ وَالعَمَلِ مَوصُوفُونَ بِالحِكمَةِ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، كَانَ شَيخُنَا رَحَمَاتُ اللهِ عَلَيهِ يَقُولُ العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ هُوَ العَالِمُ العَامِلُ بِعِلمِهِ المُخلِصُ لِرَبِّهِ المُعَلِّمُ لِغَيرِهِ هَذَا العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ العَالِمُ العَامِلُ بِعِلمِهِ تَعَلَّمَ وَتَمَكَّنَ بِالعِلمِ لَكِن تَعَلَّمَ مِمَّن؟ مِن أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ مِن عُلَمَاءِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَعَمِلَ بِهَذَا العِلمِ لِأَنَّ هُنَاكَ أُنَاسًا يَجمَعُونَ مَعلُومَاتٍ وَلَكِن لَا يَعمَلُونَ بِعِلمِهِم لَا يُطَبِّقُونَ.
(وَقَد قِيلَ: زَينُ العِلمِ الحِلمُ.اهـ
عَن إِبرَاهِيمَ بنِ أَدهَمَ رَحِمَهُ اللهُ، وَمُحَمَّدِ بنِ عَجلَانَ: مَا شَيءٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيطَانِ مِن عَالِمٍ حَلِيمٍ، إِن تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلمٍ وَإِن سَكَتَ سَكَتَ بِحِلمٍ يَقُولُ الشَّيطَانُ: انظُرُوا إِلَيهِ كَلَامُهُ أَشَدُّ عَلَيَّ مِن سُكُوتِهِ.
وعَن رَجَاءِ بنِ حَيوَةَ قَالَ: يُقَالُ: «مَا أَحسَنَ الإِسلَامَ وَيَزِينُهُ الإِيمَانُ، وَمَا أَحسَنَ الإِيمَانَ وَيَزِينُهُ التَّقوَى، وَمَا أَحسَنَ التَّقوَى وَيَزِينُهَا العِلمُ، وَمَا أَحسَنَ العِلمُ وَيزِينُهُ الحِلمُ، وَمَا أَحسَنَ الحِلمَ وَيزِينُهُ الرِّفقُ». وَكَانَ مَكحُولٌ يَقُولُ: «اللهم انفَعنَا بِالعِلمِ وَزَيِّنَّا بِالحِلمِ وَجَمِّلنَا بِالعَافِيَةِ»).
وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلمِ قَبلَ كِبَارِهِ.
الإِمَامُ البُخَارِيُّ يَقُولُ وَيُقَالُ يَعنِي قَالَ بَعضُ أَهلِ العِلمِ فِي تَفسِيرِ العَالِمِ الرَّبَّانِيِّ، مِن جُملَةِ مَا قِيلَ فِي تَفسِيرِهِ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلمِ قَبلَ كِبَارِهِ، يَعنِي الإِمَامُ البُخَارِيُّ يُبَيِّنُ فِي هَذَا أَنَّ مِن شَأنِ العَالِمِ الرَّبَّانِيِّ أَن يَبدَأَ بِتَعلِيمِ النَّاسِ الضَّرُورِيَّاتِ الدِّينِيَّةَ يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلمِ، مَعنَى بِصِغَارِ العِلمِ الأُمُورُ الَّتِي يَحتَاجُونَهَا مِمَّا هِيَ وَاضِحَةٌ قَبلَ أَن يَتَكَلَّمَ مَعَهُم بِكِبَارِ العِلمِ، وَكِبَارُ العِلمِ المَسَائِلُ الَّتِي هِيَ بِحَاجَةٍ إِلَى تَدقِيقٍ إِلَى فَهمٍ وَاسِعٍ، مَعنَاهُ العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ يَنظُرُ مَاذَا يَحتَاجُ النَّاسُ اليَومَ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ يَأتِي العَالِمُ يَشرَحُ لَهُم سُورَةَ آلِ عِمرَانَ وَلَا يَشرَحُ لَهُم مَعنَى أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، مَاذَا يَحتَاجُ النَّاسُ أَن يَتَعَلَّمُوا؟ مَا مَعنَى سُورَةِ الزُّمَرِ أَم أَركَانَ الوُضُوءِ وَمُبطِلَاتِ الوُضُوءِ، يَنظُرُ العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ مَاذَا يَحتَاجُ النَّاسُ، اليَومَ نَسمَعُ أُنَاسًا هُم مِن أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وَمِن أَبنَاءِ المُسلِمِينَ يَقُولُونَ أَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لَا يَعرِفُونَ أَن يَقُولُوهَا لَيسُوا صِغَارًا فِي السِّنِّ، حَتَّى إِنَّ بَعضَ الكِبَارِ يَقُولُونَ أَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لِأَنَّهُم لَيسُوا مُتَعَلِّمِينَ، تَقُولُ أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مَعَ إِدغَامٍ (أَلَّا) أَو بِدُونِ إِدغَامٍ (أَن لَا)، إِذَا قَالَ شَخصٌ أَشهَدُ أَنَّ زَيدًا وَسَكَتَ يَقُولُ العُلَمَاءُ هَذِهِ جُملَةٌ نَاقِصَةٌ، فَـ(أَنَّ) لَهَا اسمٌ وَلَهَا خَبَرٌ، (زَيدًا) هَذَا اسمُهَا وَتَحتَاجُ إِلَى خَبَرٍ، وَنسَمَعُ نَحنُ وَأَنتُم عَلَى التِّلفَازِ وَاليُوتيُوبِ وَغَيرِهَا مَن يَتَصَدَّرُ بِاسمِ التَّدرِيسِ وَيَظُنُّ نَفسَهُ شَيخًا وَعَلَّامَةً وَمُحَدِّثًا إِذَا ذُكِرَ اسمُ النَّبِيِّ وَأَرَادَ أَن يُصَلِّيَ عَلَيهِ مَاذَا يَقُولُ لَا نَفهَمُ عَلَيهِ، انظُرُوا كَمِ انتَشَرَ الجَهلُ بَينَ النَّاسِ لِهَذِهِ الدَّرَجَةِ فَأَنتُمُ احمَدُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى مَا أَعطَاكُم مِن هَذِهِ النِّعَمِ،
فَالَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلمِ قَبلَ كِبَارِهِ هَذَا مِن آدَابِ العَالِمِ المُرَبِّي أَوِ المُدَرِّسِ الَّذِي يُلقِي العُلُومَ الشَّرعِيَّةَ عَلَى طَلَبَةِ العِلمِ، فَيَنبَغِي أَن يَعِيَ الطَّالِبَ مَا يُلقَى عَلَيهِ مِنَ العِلمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ شَيخُنَا: وَمِنَ المُهِمِّ أَيضًا التَّفكِيرُ في حَالِ الَّذِي يَدرُسُ عَلَى المُدَرِّسِ فَيُلقِي إِلى المُبتَدِىءِ مَا يُنَاسِبُهُ وَإِلى المُتَوَسِّطِ مَا يُنَاسِبُهُ وَإِلَى المُنتَهِي ما يُناسِبُهُ، فَيَبدَأُ بِتَعلِيمِ الطَّالِبِ صِغَارَ العِلمِ قَبلَ كِبَارِهِ.
فَارتِقَاءُ العِلمِ مِثلُ ارتِقَاءِ السُّلَّمِ يَكُونُ درجَةً بعدَ درجةٍ، ولِذلِكَ شَيخُنا رحمهُ اللهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ ابدَؤُوا بِالمُختَصَرَاتِ وَأَتقِنُوهَا.اهـ
وَكَانَ يَقُولُ أَيضًا صَادِقُ الهِمَّةِ في طَلَبِ العِلمِ لَا يَمَلُّ مِن تَكرارِ ما سَمِعَ.اهـ
وَيَنبَغِي عَلَى المُدَرِّسِ أَن يَحُثَّ الطَّالِبَ عَلَى حِفظِ مُختَصَرٍ أَو أَكثَرَ في كُلِّ فَنٍّ يُدَرِّسُهُ إِيَّاهُ وَلا يَنتَقِلُ مَعَهُ مِن شَرحِ كِتَابٍ إِلى كِتَابٍ ءَاخَرَ أَوسَعَ مِنهُ إِلّا بَعدَ أَن يُتقِنَ الطَّالِبُ فَهمَ الكِتَابِ الأَوَّلِ، فمِنَ المُهِمُّ أَن يُعِيدَ الطَّالِبُ تَلَقِّي الكِتَابِ أَكثَرَ مِن مَرَّةٍ لِيَتَأَكَّدَ مِن حُسنِ تَصَوُّرِهِ لِمَسَائِلِهِ وَمَعرِفَتِهِ بِأَحكَامِهَا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ المَعلُومَاتِ إِنَّمَا تَثبُتُ في القَلبِ بِالتَّكرَارِ وَالإعَادَةِ، وَكَثِيرًا مِنهَا لا يَتَّضِحُ في الغَالِبِ عَلَى التَّمَامِ إِلا بِالاستِمَاعِ لِشَرحِهَا مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ، وَقَد قَرَأَ بَعضُ مَشَايِخِ شَيخِنَا مُختَصَرًا مِن مُخَتَصَرَاتِ النَّحوِ خَمسَ عَشرَةَ مَرَّةً، وَقَرَأَهُ شَيخُنَا رَحِمَهُ اللهُ عَلَى مَشَايِخِهِ ثَلاثَ عَشرَةَ مَرَّةً، وَكَانَ يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ أَقَلُّ مَا يُعَادُ الكِتَابُ لِلطَّلَبَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.اهـ وَذَلِكَ لِمَا في الإعَادَةِ مِنَ الإفَادَةِ وَفي التَّكرَارِ مِن قُوَّةِ الأَثَرِ وَقَدِيمًا قِيلَ بِالتَّكرارِ يَقطَعُ الحَبلُ الحَجَرَ).
(وَقَالَ شَيخُنَا رَحِمَهُ اللهُ: العِلمُ يُحَصَّلُ بِالتَّدرِيجِ، لَا يُحَصَّلُ كُلُّ العِلمِ دَفعَةً وَاحِدَةً، يُبدَأُ بِالمُختَصَرَاتِ ثُمَّ بَعدَ فَهمِ المُختَصَرَاتِ يُترَقَّى إِلَى المَبسُوطَاتِ ثُمَّ إِلَى المُطَوَّلَاتِ، كُتُبُ العِلمِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ؛ مُختَصَرَاتٌ ثُمَّ مَرتَبَةٌ وُسطَى ثُمَّ مُطَوَّلَاتٌ وَمَبسُوطَاتٌ، هَكَذَا كُتُبُ العِلمِ والفِقهِ وهكَذَا كُتُبُ النَّحوِ وَهَكَذَا كُتُبُ الحَدِيثِ، فَلَا يَنبَغِي لِلوَاحِدِ قَبلَ أَن يُتقِنَ المُختَصَرَاتِ أَن يَشتَغِلَ بالمُطَوَّلَاتِ.
وَقَالَ أَيضًا: لِيَشتَغِل أَحَدُكُم بِفَهمِ المُختَصَرِ الَّذِي يُبدَأُ بِهِ، فَإِذَا أَتقَنَ فَهمَهُ يَنتَقِلُ، يَنتَقِلُ إِلَى مَا هُوَ فَوقَهُ، مَا هُوَ دُونَ المُطَوَّلَاتِ، ثُمَّ إِلَى المُطَوَّلَاتِ، بَعدَ أَن يُتقِنَ فَهمَ المُختَصَرَاتِ بَعدَ أَن يَفهَمَ قَوَاعِدَ العَقِيدَةِ وَأَحكَامَ الرِّدَّةِ، وَمَا هِيَ الرِّدَّةُ، بَعدَ أن يَعرِفَ هذَا يَشتَغِلُ فِي المُطَوَّلَاتِ.اهـ
وَقَالَ: إِذَا تشَوَّقَت نُفُوسُكُم لِمُطالَعَةِ الكُتُبِ المُطَوَّلَةِ فإِيَّاكُم، إِيَّاكُم أَن تَفعَلُوا ذَلِكَ، وَاحِدٌ وَجَدَ فِي البُخَارِيِّ حَدِيثًا لَم يَهتَدِ فَهمُهُ لَهُ فَنَسَبَ ـ لِسُوءِ فَهمِهِ ـ إِلَى الرَّسُولِ الِانتِحَارَ فَكَفَرَ، وَآخَرُ وَجَدَ فِي البُخَارِيِّ حَدِيثًا فَفَهِمَ مِنهُ أَنَّ سَبَّ الرَّسُولِ لَيسَ كُفرًا، مَا أَتقَنَ هَاذَانِ عِلمَ العَقِيدَةِ وَعِلمَ الأَحكَامِ الَّتِي تتعَلَّقُ بالمُرتَدِّ، مَا أَتقَنَا أَسبَابَ الرِّدَّةِ فَهَلَكَا، كِلَاهُمَا هَلَكَ، وَقَعَا فِي الكُفرِ).
١١– بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُهُم بِالمَوعِظَةِ وَالعِلمِ
(أَي يَتَعَهَّدُهُم، وَالمَوعِظَةُ النُّصحُ وَالتَّذكِيرُ، وَعَطفُ العِلمِ عَلَيهَا مِن بَابِ عَطفِ العَامِّ عَلَى الخَاصِّ؛ لِأَنَّ العِلمَ يَشمَلُ المَوعِظَةَ وَغَيرَهَا، وَإِنَّمَا عَطَفَهُ؛ لِأَنَّهَا مَنصُوصَةٌ فِي الحَدِيثِ، وَذَكَرَ العِلمَ استِنبَاطًا)
كَي لَا يَنفِرُوا
(مَعنَى النُّفُورِ هُنَا السَّآمَةَ) انظُرُوا آدَابَ النَّبِيِّ ﷺ، فَالوَاحِدُ مِنَّا إِذَا كَانَ بِحَاجَةٍ لِلعِلمِ مِنَ الفُرُوضِ العَينِيَّةِ مِثلِ كِتَابِ المُختَصَرِ وَأَمثَالِهِ، نَقُولُ لَهُ لَيسَ مَرَّةً فِي الأُسبُوعِ تَعَالَ كُلَّ يَومٍ أَو تَبقَى مَعَنَا أَربَعَةَ أَيَّامٍ أَو خَمسَةً أَو أُعطِيكَ فِي النَّهَارِ دَرسَينِ، كَمَا كَانَ سَيِّدُنَا أَحمَدُ الرِّفَاعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يُعطِي دَرسَينِ فِي اليَومِ وَاحِدًا قَبلَ الظُّهرِ وَوَاحِدًا بَعدَ العَصرِ بِالفِقهِ وَالأَحكَامِ الضَّرُورِيَّةِ، وَيَومَ الخَمِيسِ بَعدَ صَلَاةِ الظُّهرِ يَجمَعُ النَّاسَ عَلَى المَوَاعِظِ يَعِظُهُم وَيُذَكِّرُهُم بِأُمُورِ الآخِرَةِ يُذَكِّرُهُم بِالعَمَلِ الصَّالِحِ بِالتَّرغِيبِ وَالتَّرهِيبِ،
فَهَذَا البَابُ مَعقُودٌ لِبَيَانِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُرَاعِي أَصحَابَهُ وَيُذَكِّرُهُم بِأُمُورِ الآخِرَةِ بِشَكلٍ لَا يَمَلُّ مِنهُ النَّاسُ لَا يَقُولُ لَهُم نَفسَ الكَلَامِ كُلَّ يَومٍ، بَل يَجعَلُ لَهُم مَوعِدًا فِي الأُسبُوعِ فَيَعِظُهُم فِي أُمُورِ الآخِرَةِ أَمَّا فِي أُمُورِ الأَحكَامِ الضَّرُورِيَّةِ هُوَ كُلَّ يِومٍ مَعَهُم كُلَّ يَومٍ يُعَلِّمُهُم، أَمَّا فِي المَوَاعِظِ وَالتَّذكِيرِ بِعَوَاقِبِ الأُمُورِ وَالتَّذكِيرِ بِالثَّوَابِ وَالعَذَابِ كَانَ يَتَخَوَّلُ يَتَحَيَّنُ الفُرَصَ المُنَاسِبَةَ حَتَّى لَا يَمَلُّوا هَذَا، فَمَعَنَى هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَتَعَاهَدُ أَصحَابَهُ بِالنُّصحِ وَالتَّذكِيرِ بِالعَوَاقِبِ كَي لَا يَنفِرُوا حَتَّى لَا يَتَبَاعَدُوا
١٠ – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخبَرَنَا سُفيَانُ، عَنِ الأَعمَشِ، عَن أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابنِ مَسعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِالمَوعِظَةِ فِي الأَيَّامِ؛
(مَعنَاهُ: يُرَاعِي أَمرَ تَذكِيرِنَا بِعَوَاقِبِ الأُمُورِ فِي أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ)
كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَينَا.
(كَرَاهَةَ المَلَالَةِ مِنَ المَوعِظَةِ،
١١ – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ، عَن أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا،
(قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوِ اقتَصَرَ عَلَى يَسِّرُوا لَصَدَقَ عَلَى مَن يَسَّرَ مَرَّةً وَعَسَّرَ كَثِيرًا، فَقَالَ: وَلَا تُعَسِّرُوا لِنَفيِ التَّعسِيرِ فِي جَمِيعِ الأَحوَالِ، وَكَذَا القَولُ فِي عَطفِهِ عَلَيهِ: وَلَا تُنَفِّرُوا)
وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا”.
(وَالمُرَادُ تَألِيفُ مَن قَرُبَ إِسلَامُهُ وَتَركُ التَّشدِيدِ عَلَيهِ فِي الِابتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ الزَّجرُ عَنِ المَعَاصِي يَنبَغِي أَن يَكُونَ بِتَلَطُّفٍ لِيُقبَلَ، وَكَذَا تَعَلُّيمُ العِلمَ يَنبَغِي أَن يَكُونَ بِالتَّدرِيجِ، لِأَنَّ الشَّيءَ إِذَا كَانَ فِي ابتِدَائِهِ سَهلًا حُبِّبَ إِلَى مَن يَدخُلُ فِيهِ وَتَلَقَّاهُ بِانبِسَاطٍ وَكَانَت عَاقِبَتُهُ غَالِبًا الِازدِيَادَ، بِخِلَافِ ضِدِّهِ، فَنَبدَأُ بِتَعَلُّمِ العِلمِ بِالتَّدَرُّجِ وَنُحَبِّبُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَنُعطِيهِم مَا هُوَ الأَسهَلُ عَلَيهِم لِتَتَعَلَّقَ قُلُوبُهُم بِذَلِكَ ثُمَّ مَن تَعَلَّقَ قَلبُهُ بِالعِلمِ غَالِبًا يَطلُبُ المَزِيدَ وَلَا يَشبَعُ أَمَّا لَو كَانَ بِالعَكسِ مِن أَوَّلِ الطَّرِيقِ حَمَّلتَهُ الكَثِيرَ مِنَ المَعلُومَاتِ قَد يَهرُبُ وَلَا يَحضُرُ مَجَالِسَ العِلمِ فَاعمَلُوا بِحَدِيثِ نَبِيِّنَا ﷺ) (قَالَ ابنُ حَجَرٍ: يُستَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ استِحبَابُ تَركِ المُدَاوَمَةِ فِي الجِدِّ فِي العَمَلِ الصَّالِحِ خَشيَةَ المَلَالِ، وَإِن كَانَتِ المُوَاظَبَةُ مَطلُوبَةً لَكِنَّهَا عَلَى قِسمَينِ: إِمَّا كُلَّ يَومٍ مَعَ عَدَمِ التَّكَلُّفِ، وَإِمَّا يَومًا بَعدَ يَومٍ، فَيَكُونُ يَومُ التَّركِ لِأَجلِ الرَّاحَةِ لِيُقبِلَ عَلَى الثَّانِي بِنَشَاطٍ، وَإِمَّا يَومًا فِي الجُمُعَةِ، وَيَختَلِفُ بِاختِلَافِ الأَحوَالِ وَالأَشخَاصِ، وَالضَّابِطُ الحَاجَةُ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ النَّشَاطِ).
الدعاء
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدً سَيِّدِ المُرسَلِينَ: اللهم زِدنَا مِن بَرَكَاتِكَ وَعَطَايَاكَ وَهِبَاتِكَ، زِد إِيمَانَنَا وَيَقِينَنَا، زِد طَاعَاتِنَا وَقُرُبَاتِنَا، زِد تَقوَانَا وَخَشيَتَنَا، زِد حُبَّنَا لَكَ وَتَعَلُّقَنَا بِكَ، زِد فِي ذُلِّنَا وَخُضُوعِنَا لَكَ، زِد فِي انشِغَالِنَا بِطَاعَتِكَ وَرَغبَتِنَا فِيمَا عِندَكَ.
اللهم أَتمِم لَنَا نِعمَتَكَ وَبَرَكَتَكَ وَفَضلَكَ وَرَحمَتَكَ وَسَترَكَ وَعَافِيَتَكَ، اللهم افتَح بَصِيرَتَنَا عَلَى مَا تُحِبُّهُ مِن فِعلِ الخَيرَاتِ الَّذِي يُرضِيكَ عَنَّا وَيُحَبِّبُنَا إِلَيكَ وَحَبِّبهُ إِلَينَا وَأَعِنَّا عَلَيهِ وَيَسِّرهُ لَنَا وَتَقَبَّلهُ مِنَّا،
يَا رَبِّ يَا رَحمَنَ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا يَا اللهُ، نَسأَلُكَ رَحمَةً مِن عِندِكَ تَعصِمُنَا بِهَا مِنَ الزَّلَلِ، وَنَسأَلُكَ رَحمَةً مِن عِندِكَ تُصلِحُ بِهَا حَيَاتَنَا مِن كُلِّ خَلَلٍ، وَنَسأَلُكَ رَحمَةً مِن عِندِكَ تُنَقِّي بِهَا قُلُوبَنَا مِنَ الحِقدِ وَالغِلِّ.
يَا رَبِّ رِضَاكَ أَسمَى أَمَانِينَا، فَارضَ عَنَّا وَارحَمنَا، وَعَافِيَتُكَ أَوسَعُ لَنَا فَعَافِنَا وَلَا تَبتَلِنَا وَاعفُ عَنَّا، استُرنَا وَلَا تَفضَحنَا فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ.
اللهم أَعطِنَا مِنَ الدُّنيَا مَا تَقِينَا بِهِ فِتنَتَهَا، وَتُغنِينَا بِهِ عَن أَهلِهَا وَيَكُونُ بَلَاغًا لَنَا إِلَى مَا هُوَ خَيرٌ مِنهَا فَإِنَّهُ لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
اللهم قَنِّعنَا بِمَا رَزَقتَنَا وَبَارِك لَنَا فِيهِ وَاخلُف عَلَينَا كُلَّ غَائِبَةٍ بِخَيرٍ.
اللهم فَرِّجِ الكَربَ عَنِ الأَقصَى يَا رَبَّ العَالَمِينَ، يَا اللهُ احفَظِ المُسلِمِينَ وَالمَسجِدَ الأَقصَى مِن أَيدِي اليَهُودِ المُدَنِّسِينَ، يَا اللهُ ارزُقنَا صَلَاةً فِي المَسجِدِ الأَقصَى مُحَرَّرًا، نَسجُدُهَا شُكرًا لَكَ عَلَى النَّصرِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، يَا اللهُ انصُرِ الإِسلَامَ وَالمُسلِمِينَ، يَا قَوِيُّ يَا مَتِينُ انصُرِ المُسلِمِينَ فِي غَزَّةَ، يَا اللهُ يَا مَن لَا يُعجِزُكَ شَيءٌ ثَبِّتِ المُسلِمِينَ فِي غَزَّةَ وَأَمِدَّهُم بِمَدَدٍ مِن عِندِكَ، وَارزُقهُم نَصرًا قَرِيبًا مُؤَزَّرًا، اللهم عَلَيكَ بِاليَهُودِ أَعدَاءِ هَذَا الدِّينِ، اللهم أَحصِهِم عَدَدًا، وَاقتُلهُم بَدَدًا، وَلَا تُغَادِر مِنهُم أَحَدًا، يَا اللهُ يَا رَحمَنُ يَا رَحِيمُ اشفِ جَرحَى المُسلِمِينَ فِي غَزَّةَ وَفِلِسطِينَ، وَتَقَبَّل شُهَدَاءَهُم، وَأَنزِلِ الصَّبرَ وَالسَّكِينَةَ عَلَى قُلُوبِ أَهلِهِم، اللهم إِنَّا نَستَودِعُكَ غَزَّةَ وَأَهلَهَا، وَأَرضَهَا وَسَمَاءَهَا، وَرِجَالَهَا وَنِسَاءَهَا وَأَطفَالَهَا، فَيَا رَبِّ احفَظهُم مِن كُلِّ سُوءٍ.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على سيدِ الأنبياءِ والمرسلِينَ وسلَامٌ علَى المُرسَلِينَ والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ.