المقدمة
الحَمدُ للهِ عَالِمِ السِّرِّ وَالجَهرِ، قَاصَمِ الجَبَابِرَةِ بِالعِزِّ وَالقَهرِ، مُحصِي قَطَرَاتِ المَاءِ وَهُوَ يَجرِي فِي النَّهَرِ، فَضَّلَ بَعضَ المَخلُوقَاتِ عَلَى بَعضٍ حَتَّى أَوقَاتَ الدَّهرِ، وَفَضَّلَ عَلَى الأَيَّامِ هَذِهِ العَشر، فَأقسمَ بها فِي كِتَابِهِ وقَالَ: ﴿وَالفَجرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفعِ وَالوَترِ﴾، فَهُوَ سُبحَانَهُ المُتَفَرِّدُ بِإِيجَادِ خَلقِهِ، المُتَوَحِّدُ بِإِدرَارِ رِزقِهِ، عَالِمُ سِرِّ العَبدِ وَسَامِعُ نُطقِهِ، وَمُقَدِّرُ عِلمِهِ وَعَمَلِهِ وَعُمُرِهِ وَفِعلِهِ، وَمُجَازِيهِ عَلَى ذَنبِهِ، المَالِكُ القَهَّارُ، الحَلِيمُ السَّتَّارُ، جَعَلَ الشَّمسَ سِرَاجًا وَالقَمَرَ نُورًا بَينَ غَربِهِ وَشَرقِهِ. أَحمَدُهُ عَلَى الهُدَى وَتَسهِيلِ طُرُقِهِ، وَأَشهَدُ أَن لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ عَبدٍ مُعتَرِفٍ بِذَنبِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ أَرسَلَهُ وَالضَّلالُ عَامٌّ فَقام بِمَحْقِهِ، ﷺ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ السَّابِقِ بِصِدقِهِ، وَعَلَى عُمَرَ كَاسِرِ كِسرَى بِتَدبِيرِهِ وَصَبرِهِ، وَعَلَى عُثمَانَ جَامِعِ القُرآنِ فِي وَرَقِهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي تَهِيمُ قُلُوبُ أَهلِ السُّنَّةِ بِحُبِّهِ وَعِشقِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَمَن مَشَى عَلَى دَربِهِ وَخَطِّهِ، إِلَى يَومِ الفَصلِ الَّذِي يُبعَثُ فِيهِ العِبَادُ كُلٌّ مِن قَبرِهِ، أَمَّا بَعدُ:
استغلال الوقت في طاعة الله عز وجل
شرح حديث: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ
رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «نِعمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».اهـ يُقَالُ غَبَنَهُ فِي البَيعِ غَبنًا أَي نَقَصَهُ، فَالمَغبُونُ المَنقُوصُ، أَي أَنَّ أَكثَرَ النَّاسِ يَنقُصُونَ فِيهِمَا مِنَ الخَيرِ لِأَنفُسِهِم، وَلَا يَعمَلُونَ الكَثِيرَ مِنَ الخَيرِ فِي وَقتِ الصِّحَّةِ وَالفَرَاغِ.اهـ
فَمَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْمَغْبُونُ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: “كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ“، إِلَى أَنَّ الَّذِي يُوَفَّقُ لِذَلِكَ قَلِيلٌ.اهـ
وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ مُتَفَرِّغًا لِشُغْلِهِ بِالْمَعَاشِ وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا فَإِذَا اجْتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ عَنِ الطَّاعَةِ فَهُوَ الْمَغْبُونُ، وَتَمَامُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّنيَا مَزرَعَةُ الْآخِرَةِ وَفِيهَا التِّجَارَةُ الَّتِي يَظْهَرُ رِبْحُهَا فِي الْآخِرَةِ فَمَنِ اسْتَعْمَلَ فَرَاغَهُ وَصِحَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ فَهُوَ الفائز وَمَنِ اسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ فَهُوَ الْمَغْبُونُ أَيِ الَّذِي نَقَصَ الخَيرُ عَنهُ لِأَنَّ الْفَرَاغَ يَعْقُبُهُ الشُّغْلُ وَالصِّحَّةَ يَعْقُبُهَا السَّقَمُ وَلَو لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْهَرَمُ، كَمَا قِيلَ:
يَسُرُّ الفَتَى طُولُ السَّلَامَةِ وَالبَقَا
فَكَيْفَ تَرَى طُولَ السَّلَامَةِ يَفعَلُ
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النبي ﷺ كَانَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَنْصَارِ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ لَهُمْ فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة.اهـ
وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى تَحْقِيرِ عَيْشِ الدُّنْيَا لِمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ التَّكْدِيرِ وَسُرْعَةِ الْفَنَاءِ.
وَقَدْ ضُرِبَ لنا مَثَلُ الدُّنْيَا إِلَى جَنْبِ الآخِرَةِ في قَوْلِهِ تَعَالَى: ((اعلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الغُرُورِ)).اهـ
وَفِي البُخَارِيِّ عَنْ سَهْلِ بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.اهـ
وَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ ﷺ: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ (أَيْ فِي البَحْرِ) فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ».اهـ
وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ((قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ))، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِهَا، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ فَلَا قَدْرَ لَهَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمثِيلِ وَالتَّقْرِيبِ، وَإِلَّا فَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ الْمُتَنَاهِي وَهُوَ نَعِيمُ الدُّنيَا وَبَيْنَ مَا لَا يَتَنَاهَى وَهُوَ نَعِيمُ الآخِرَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: «فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ»، وَوَجْهُهُ أَنَّ القَدْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالإِصْبَعِ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا منزلة، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الدُّنْيَا كَالمَاءِ الَّذِي يَعْلَقُ فِي الْإصْبُعِ مِنَ البَحْرِ، وَالْآخِرَةَ كَسَائِرِ البَحرِ.اهـ
وروي عَنِ الإِمامِ الأَوْزاعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال: «ما مِنْ ساعَةٍ مِنْ ساعاتِ الدُّنيا إِلّا تُعْرَضُ عَلَى العَبْدِ يَوْمَ القِيامَة فَالسَّاعَةُ الذي لا يَذكُرُ اللهَ تَبارَكَ وَتعالَى فِيهَا تَتَقَطَّعُ نَفْسُهُ عَلَيْها حَسَرات”، مَعنَاهُ مِنْ غَيرِ نَكَدٍ لِأَنَّ الجَنَّةَ لَا نَكَدَ فِيهَا، لَمْ يَعمَلْ فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الَّتِي تُعرَضُ عَلَيهِ مَعْصِيَةً لَكنْ ضَيَّعَهَا بِلَا فائِدَةٍ، «تَتَقَطَّعُ نَفْسُهُ عَلَيْها حَسَرات». فَكَيفَ إِذا مَرَّتْ ساعَةٌ مَعَ ساعَةٍ وَيَومٌ مَعَ يَوْمٍ؟ فَكَيفَ بِالذِي يَشغَلُ وَقتَهُ وَأَيَّامَهُ وَسِنِينَهُ بِالحَرَامِ؟ وَفِي الحَدِيثِ: «مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيّ ﷺ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِم حَسْرَةً يَوْمَ القِيامَة».اهـ إِذَا قعَدُوا مَقْعَدًا ثُمَّ افْتَرَقُوا مِنْ غَيرِ أَنْ يَذْكُرُوا اللهَ وَلا صَلَّوْا عَلَى النّبِيِّ فِي هذه القَعْدَة يكونُ هَذَا عليهِمْ حسرةً يومَ القِيامَةِ، يَتَحَسَّرُونَ يومَ القِيامَة. مَعنَاهُ يَا لَيتَنَا مَا فَوَّتنَا عَلَى أَنفُسِنَا هَذِهِ الخَيرَاتِ.
أهمية اغتنام الوقت في طاعة الله ولا سيما في عشر ذي الحجة
إِنَّ الصَّالِحِينَ فَهِمُوا هَذَا عَلَى وجهِهِ لِذَلِكَ كَانُوا يُراعُونَ وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْ كُلِّ أَوقَاتِهِمُ اقتِدَاءً بِالنَّبِيِّ ﷺ فَقَدْ كانَ إِذَا أَفاقَ كانَ يَشوصُ فَمَهُ بِالسِّواكِ. وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَفَاقَ يَمْسَحُ وَجْهَهُ وَيَقُولُ “بِسْمِ اللهِ” ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
فَكَانَ الصَّالِحُوْنَ يُراعُونَ أَنْ لا يُفلِتَ منْهُمُ الوَقْتُ مِنْ غَيرِ أَنْ يَسْتَفِيدوا منْهُ لأَمْرِ آخِرَتِهِم وَهكذَا يَنبَغِي أَنْ يَكُونَ الوَاحِدُ مِنَّا. وَلِهَذَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ تَضْيِيْعَ الأَوْقَاتِ عَنِ المُهِمِّ، عَنِ الِاسْتِفَادَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ خَسَارَةٌ، فَاغْتَنِمُوْا أَوْقَاتَكُمْ، لَا تُضَيِّعُوهَا بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، فَفِي هَذَا الزَّمَنِ كَثُرَتِ الْغَفْلَةُ فِي النَّاسِ، قَدْ يَعِيشُ الْمُسْلِمُ مِنْ جَهْلِهِ وَغَفْلَةِ قَلْبِهِ ولَا يَتَعَلَّمُ الوَاجِبَ عَلَيهِ مِنْ أَمرِ دِينِهِ، يَقْضِي أَوْقَاتَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُلْهِيَاتِ، هَذَا خِلَافُ آدَابِ الإِسْلَامِ.
وَإِذَا كَانَ تَضيِيعُ الأَنفَاسِ وَالأَوقَاتِ فِي غَيرِ طَاعَةِ اللهِ فِي كُلِّ أَيَّامِ العَامِ مَذمُومًا مَنبُوذًا فَكَيفَ بِمِثلِ هَذِهِ الأَيَّامِ، فَإِنَّ أَيَّامَ العَشْرِ مِن أَيَّامِ اللهِ الَّتِي خَلَقَهَا وَفَضَّلَهَا عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ العَامِ، وَأَقسَمَ بِهَا فِي القُرآنِ الكَرِيمِ حَيثُ قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، وَقَالَ البُخَارِيُّ: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ: أَيَّامِ العَشرِ، وَالأَيَّامُ المَعدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ ابنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيرَةَ يَخرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكبِيرِهِمَا.اهـ
وَعَشرُ ذِي الحِجَّةِ مِنْ جُملَةِ الأَربَعِينَ الَّتِي وَاعَدَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُوسَى عَلَيهِ السَّلَامُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾.
وَقَدْ رَوَى عَبدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «مَا مِنْ عَمَلٍ في أَيَامِ السَنَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ في العَشْرِ مِنْ ذِي الحِجَةِ وَهِيَ العَشْرُ الَتِي أَتَمَّهَا اللهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَلَامُ».اهـ وهي خاتمةُ الأشهرِ المعلوماتِ أشهرِ الحجِّ التي قالَ اللهُ فيهَا: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾. وهيَ شوالٌ وذو القعدةِ وعشرٌ مِنْ ذي الحجةِ، وهي الأيامُ المعلوماتُ التي شرعَ اللهُ ذكرَهُ فيهَا علَى مَا رَزَقَ مِنْ بهيمةِ الأنعامِ يقولُ اللهُ تعالَى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾.
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَابنُ مَاجَه عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مِن أَيَّامٍ، العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ، مِن هَذِهِ الأَيَّامِ»، يَعنِي العَشرَ،قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ، فَلَم يَرجِع مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ».اهـ وَقَالَ ابنُ حَجَرٍ فِي شَرحِ البُخَارِيِّ: وَالَّذِي يَظهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امتِيَازِ عَشرِ ذِي الحِجَّةِ لِمَكَانِ اجتِمَاعِ أُمَّهَاتِ العِبَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالحَجُّ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيرِهِ.اهـ
قَالَ ابنُ الجَوزِيِّ: قِفْ عَلَى الْبَابِ طَوِيلا، وَاتَّخِذْ فِي هَذَا الْعَشْرِ سَبِيلًا، وَاجْعَلْ التَّوْبَةَ لَكَ مَقِيلًا، وَاجْتَهِدْ فِي الْخَيْرِ تَجِدْ ثَوَابًا جَزِيلًا، قُلْ فِي الأَسْحَارِ: أَنَا تائب، ناد فِي الدُّجَى: قَدْ قَدِمَ الْغَائِبُ:
أَنَا الْمُسِيءُ المُذنِبُ الخَاطِي
المُفَرِّطُ البَيِّنُ إِفرَاطِي
فَإِنْ تُعَاقِبْ أَنَا أَهْلٌ لَهُ
وَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ عَنْ خَاطِي
اغتنام أفضل أيام السنة في علم الدين
وَإِنَّ مِنْ أَفضَلِ الأَعمَالِ التِي نَشغَلُ أَوقَاتَنَا بِهِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ وَنَجعَلُهُ بِإِذنِ اللهِ زَادًا لَنَا لِلآخِرَةِ مَجَالِسَ العِلمِ، فَإِنَّ فِيهَا بَرَكَةً وَفَضلًا وَخَيرًا لَا يُحصِيهِ وَلَا يَعلَمُ قَدرَهُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِلمُشتَغِلِ بِالعِلمِ للهِ تَعَالَى مَرتَبَةٌ فِي الإِسلَامِ لَا يُسَاوِيهِ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: وَالفَضلُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ العِلمِ لِمَنْ قَامَ بِهَا عَلَى مَنْ عَطَّلَهَا.اهـ
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ﴾. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: معناه يَرْفَعُ اللهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ على الَّذِينَ لَمْ يُؤْتَوا العِلمَ دَرَجَاتٍ.اهـ
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ».اهـ أَيْ مَا يَرشَدُ بِهِ مِنْ أَمْرِ آخِرَتِهِ، مَا يُصلِحُ لَهُ أَمْرَ آخِرَتِهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ من أَرَادَ الله بِهِ خَيرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وَرَزَقَهُ عِلمًا نَافِعًا، وَأَلهَمَهُ الصَّوَابَ فِي أَخذِهِ للعلم وَفِي إِعطَائِهِ وَنَقلِهِ وَنَشرِهِ بَينَ المُسلِمِينَ، فَبَعضُ العِلمِ مَا يَنتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ وَبَعْضُ العِلمِ مَا يَهلِكُ بِهِ صَاحِبُهُ، فَلْيَكُنْ أَخذُكُمْ لِلعِلْمِ بِحَقِّهِ وَبِخُلُوصِ النِّيَّةِ وَصِدقِ العَزِيمَةِ وَاعمَلُوا بَعدَ ذَلِكَ عَلَى نَشرِهِ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَغتَرُّوا بِأَنفُسِكُمْ إِذَا حَصَّلْتُمْ عِلمًا وَفِقْهًا فِي دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ يَنبَغِي عَلَى مَنِ ازْدَادَ عِلمًا أَن يَزدَادَ تَوَاضُعًا للهِ، وَهَذَا العِلمُ هُوَ مَا انتَفَعَ بِهِ صَاحِبُهُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ حُسْنُ سَمْتٍ وَفِقْهٌ فِي الدِّينِ».اهـ
وَإِنَّ الاشتِغَالَ بِالعِلمِ هُوَ أَمرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَوَصِيَّتُهُ لِأَصحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ، فَقَدْ رَوَى البَيهَقِيُّ عَنْ رَجُلٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى أَبَا ذَرٍّ بِمِنًى فَسَمِعَهُ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ لَا نُغْلَبَ عَلَى أَنْ نَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَنُعَلِّمَ النَّاسَ السُّنَنَ.اهـ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ جَاءَ مَسْجِدَنَا هَذَا يَتَعَلَّمُ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمُهُ فَهُوَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ هَذَا كَانَ كَالرَّجُلِ يَرَى الشَّيْءَ يُعْجِبُهُ وَلَيْسَ لَهُ».اهـ وَفي رواية: «يَرَى الْمُصَلِّينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَيرَى الذَّاكِرِينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ».اهـ
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: «اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا تَغْدُ إِمَّعَةً بَيْنَ ذَلِكَ».اهـ
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُحِبًّا أَوْ مُتَّبَعًا وَلَا تَكُنِ الخَامِسَ فَتَهلِكَ. فقيلَ لِلحَسَنِ: مَنِ الخَامِسُ؟ قَالَ: المُبتَدِعُ.اهـ (مُرَادُهُ المُبتَدِعُ فِي العَقِيدَةِ كَالمُعتَزِلِيِّ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ اللهَ مَا خَلَقَ الشَّرَّ وَالعِيَاذُ بِاللهِ وَكالمُجَسِّمِ الَّذِي يَقُولُ بِأَنَّ اللهَ جِسمٌ قَاعِدٌ عَلَى العَرشِ وَيَنزِلُ حَقِيقَةً وَالعِيَاذُ بِاللهِ وَالرَّافِضِيِّ وَغَيرِهِمْ وَالعِيَاذُ بِاللهِ مِنْهُمْ) وقال يَحيَى بنُ أَبِي كَثِيرٍ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ: «مِيرَاثُ العِلمِ خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَالنَّفسُ الصَّالِحَةُ خَيرٌ مِنَ اللَّؤلُؤِ ولَا يُستَطَاعُ العِلمُ بِرَاحَةِ الجِسمِ».اهـ
أهمية دراسة سير الأولياء الصالحين
وَهَا نَحنُ فِي جَمعِيَّتِكُم هَذِهِ، جَمعِيَّةِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، جَمعِيَّةِ الخَيرِ الَّتِي تَعَوَّدْنَا عَلَيهَا عَلَى مَدَارِ العَامِ أَن تُذَكِّرَنَا بِعِلمِ الدِّينِ وَمَجَالِسِ العِلمِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مَوَاسِمِ الفَضلِ وَالبَرَكَةِ وَالخَيرِ، مَا عَرَفنَا مِن هَذِهِ الجَمعِيَّةِ وَلَا مِن شَيخِنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَن يُذَكِّرَنَا بِالدُّنيَا، بَل أَن نَتَذَكَّرَ وَنُذَكِّرَ بَعضَنَا بِأُمُورِ الآخِرَةِ المُقبِلَةِ عَلَينَا، وَنَحنُ صَائِرُونَ إِلَيهَا، وَنَتَعَلَّمَ كَيفَ نَلتَجِئُ إِلَى اللهِ وَنَتَقَرَّبَ إِلَيهِ، وَسَنَتَكَلَّمُ بِإِذنِ اللهِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ فِي مَجَالِسِنَا هَذِهِ، عَن كَرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَنَتَعَرَّفُ عَلَى أَحوَالِ الأَولِيَاءِ عَلَى مَا يَتَّسِعُ لَنَا مِنَ الوَقتِ بِإِذنِ اللهِ فِي خَيرِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَإِنَّ لِهَذَا فَوَائِدَ عَظِيمَةً جَلِيلَةً، فَإِنَّ مِنْ مَعْرِفَةِ عُلُوْمِ الدِّيْنِ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ نَاقِلِيْهَا أَيِ الْعُلَمَاءِ وَالأَولِيَاءِ وَمَعْرِفَةَ سِيَرِهِمْ، فَهُمْ نَقَلَةُ الحَدِيْثِ وَالدِّيْنِ والعلم الشرعي وَهم مُعَلِّمُو الفِقهِ وَالآدَابِ والأخلاق وَهمْ سَادَةُ النَّاسِ وَقادَتُهُمْ وَشُمُوْسُ الحَقِّ وَأَنْصَارُهُ وَرَافِعُوْ لِواءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ شَرْقًا وَغَرْبًا.
هُمُ الَّذِينَ كَانُوا نُجُوْمًا اهْتَدَىْ بِهِمُ المُسْلِمُوْنَ مِئَاتِ السِّنِيْنَ لِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ، وهم أَئِمَّتُنَا وَأَسْلَافُنَا، وأَنْفَعُ لَنَا فِي مَصَالِحِ آخِرَتِنَا الَّتِي هِيَ دَارُ قَرَارِنَا، وَأَنْصَحُ لَنَا فِيْمَا هُوَ أَعْوَدُ عَلَيْنَا بالخير، فَلَا يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نَجْهَلَهُمْ وَأَنْ نُهْمِلَ مَعْرِفَتَهُمْ.
وإِنَّ الأَولِيَاءَ هُمْ سَادَةُ النَّاسِ وَقادَتُهُمُ الأَجِلَّاءُ، وَهُمْ مَنَارَاتُ الْأَرْضِ وَهُمْ خِيَارُ النَّاسِ، وَلِلْعُلَمَاءِ وَالأَولِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَضْلٌ عَظِيْمٌ إِذِ النَّاسُ مُحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ حِيْنٍ، وَهُمْ زِيْنَةُ الْأَرْضِ وَهُدَاةُ النَّاسِ فِيْ حَالِكِ الظَّلَامِ، وَهُمْ كَالْمَاءِ وَاَلْغَيْثِ فِي الْأَرْضِ المُقْفِرَةِ، وَكَالشَّمْسِ لِلدُّنْيَا وَكَاَلْعافيَةِ لِلنَّاسِ، والنَّاسُ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِمْ كَحَاجَتِهِمْ لِلطَّعَامِ وَالشَّرابِ بَلْ أَشَدُّ. رَفَعَهُمُ اللهُ بِالعِلمِ وَالأَدَبِ وَزَيَّنَهُمْ بِالحِلمِ، بِهِم يُعرَفُ الحَلَالُ مِنَ الحَرَامِ وَالحَقُّ مِنَ البَاطِلِ وَالضَّارُّ مِنَ النَّافِعِ وَالحَسَنُ مِنَ القَبِيحِ، هُمْ أَركَانُ الشَّرِيعَةِ وَحُمَاةُ العَقِيْدَةِ، يَنْفُوْنَ عَنْ دِيْنِ اللهِ تَحْرِيْفَ الغَالِيْنَ وانْتِحَالَ الْمُبْطِلِيْنَ وَتَأوِيْلَ الضَّالِّين، فَكَمْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ عَلَّمُوهُ، وَتَائِهٍ عَنْ صِرَاطِ الرُّشْدِ أَرْشَدُوْهُ، وَحَائِرٍ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ بَصَّرُوْهُ وَدَلُّوْهُ.
هُمْ سِرَاجُ العِبَادِ وَمَنَارُ البِلَادِ وَقَوَامُ الأُمَّةِ وَيَنَابِيْعُ الْحِكْمَةِ، هُمْ غَيْظُ الشَّيْطَانِ، بِهِمْ تَحْيَا قُلُوْبُ أَهْلِ الْحَقِّ وَتَمُوْتُ قُلُوْبُ أَهْلِ الزَّيْغِ، مَثَلُهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُوْمِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ، إِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُوْمُ تَحَيَّرُوا، وَإِذَا أَسفَرَ عَنْهَا الظَّلَامُ أَبصَرُوا.
وَسَنَتَكَلَّمُ بِإِذنِ اللهِ فِي سِيَرِ بَعضِ أَولِيَاءِ اللهِ وَكَرَامَاتِهِمْ دُونَ ادِّعَاءِ حَصرٍ لَهُمْ وَلِقَصَصِهِم وَكَرَامَاتِهِم رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ، مُبتَدِئِينَ بِكَرَامَاتِ بَعضِ الصَّحَابَةِ مِمَّا ثَبَتَ فِي كُتُبِ الحَدِيثِ وَالسِّيَرِ، وَمِنهَا مَا هُوَ فِي الصَّحِيحَينِ، وَهَذَا أَمرٌ يَزِيدُ القَلبَ تَثبِيتًا عَلَى هَذَا الدِّينِ وَيَزِيدُ الفُؤَادَ طُمَأنِينَةً بِحَقِّيَّةِ هَذَا المَنهَجِ المُحَمَّدِيِّ الذِي يُحَارِبُهُ وَيُهَاجِمُهُ أَعدَاءُ الدِّينِ وَيُبعِدُونَ أَفرَادَ وَأَجيَالَ هَذِهِ الأُمَّةِ عَنهُ، فَمَا أَعظَمَ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ بِهَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الرِّجَالِ وَمَا جَاءَ وَصَحَّ وَثَبَتَ مِنْ أَوصَافِهِم فِي الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ حَتَّى نَثبُتَ بِإِذنِ اللهِ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَعَلَى هَذِهِ العَقِيدَةِ مَهمَا ابتَعَدَ عَنهَا الكَثِيرُونَ وَمَهمَا صَارَ هَذَا الدِّينُ غَرِيبًا بَينَ النَّاسِ وَمَهمَا تَكَالَبَتِ الأُمَمُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَبِهَذَا أَحُثُّكُمْ عَلَىَ الالتِصَاقِ بِمَنهَجِ أَهلِ الحَقِّ أَتبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي أَجرَى اللهُ عَلَى أَيدِيهِمُ الكَرَامَاتِ وَالفَضَائِلَ تَصدِيقًا لِنَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَا أَتبَاعَ هَذَا النَّبِيِّ اسعَدُوا وَيَا أَحبَابَ رَسُولِ اللهِ افرَحُوا وَيَا أَهلَ الحَقِّ اثبُتُوا عَلَى دِينِكُمْ وَعَقِيدَتِكُمْ وَنَهجِ نَبِيِّكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَتَزَحزَحُوا حَتَّى تَأتِيَكُمُ البَشَائِرُ وَالفَضَائِلُ وَتَسْعَدُوا بِصُحبَةِ حَبِيبِ القُلُوبِ ﷺ وَأَصحَابِهِ وَأَولِيَاءِ أُمَّتِهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَرَحِمَ اللهُ البُوصِيرِيَّ حَيثُ يَقُولُ:
بُشْرَى لَنَا مَعْشَرَ الإِسْلَامِ أَنَّ لَنَا
مِـنَ الـعِنَـايَةِ رُكْنًـا غَـيْرَ مُنْــهَدِمِ
لَمَّا دَعَـا اللهُ دَاعِيْـنَا لِـطَاعَتِـهِ
بأَكْـرَمِ الرُّسْـلِ كُـنَّا أَكْـرَمَ الأُمَـمِ
وَإِنَّ للهِ رِجَالًا بِهِمْ يُستَغَاثُ، وَبِهِمْ يُستَنْزَلُ الغَمَامُ، هُمْ مَصَابِيحُ الهُدَى عَلَى مَرِّ الأَيَّامِ وَالأَزمَانِ، هُمُ الآمِنُونَ فِي يَومِ الهَولِ الأَكبَرِ، يَومَ يَضْطَرِبُ النَّاسُ، أُولَئكَ هُمْ أَولِيَاءُ اللهِ تَعَالَى. مَا زَالُوا فِي كُلِّ زَمَانٍ مَنَائِرَ لِلمُهتَدِينَ وَأَعلَامًا لِلسَّالِكِينَ، وَشُمُوسًا يُستَضَاءُ بِهَا فِي دَيجُورِ الظَّلَامِ، وَظُلَمِ الدَيَاجِيرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي دِرَاسَةِ سِيَرِهِمْ وَالوُقُوفِ عَلَى مَآثِرِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمُ الأَثَرُ الطَّيِّبُ فِي تَهذِيبِ النُّفُوسِ وَسُمُوِّ الأَخلَاقِ، كَيفَ لَا وَهُمْ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ الكِرَامِ، وَالمُرشِدُونَ إِلَى مِنهَاجِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمُ المُثلَى، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَعلَى الأَولِيَاءِ قَدرًا وَأَجَلِّهِمْ شَأنًا مِنْ صَحَابَةِ نَبِيِّنَا الكَرِيمِ ﷺ وَرَضِيَ اللهُ عنهم وَأَفضَلُ أَولِيَاءُ البَشَرِ وَمَن يَأتِي بِالفَضلِ بَعدَ الأَنبِيَاءِ وَهُوَ مَنْ بَلَغَ أَعلَى رُتبَةً يُتَوَصَّلُ لَهَا بِالاجتِهَادِ أَقْصِدُ رُتبَةَ الوِلَايَةِ هُوَ سَيِّدُنَا وَصَاحِبُ نَبِيِّنَا وَخَلَيِفَتُهُ وَرَفِيقُهُ فِي الغَارِ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَأَرضَاهُ.
كرامات لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه
رَوَى البَيهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرِضَ مَرَّةً فَأَخبَرَهَا بِأَنَّهُ سَيَمُوتُ بِهَذَا المَرَضِ وَأَوْصَاهَا بِأَخَوَيهَا وَأُختَيهَا، وَكَانَ عِندَهَا أُختٌ وَاحِدَةٌ هِيَ أَسمَاءُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا أَبَتِ هَذَا أَخَوَايَ فَمَنْ أُخْتَايَ؟ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنِ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: في بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ أَظُنُّهَا جَارِيَةً.اهـ
وَهَذِهِ كَانَتْ زَوْجَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَهِيَ حَبِيبَةُ بِنْتُ خَارِجَةَ مِنْ بَنِي الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ حَامِلًا حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَوَلَدَتْ بَعْدَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنتَ أَبِي بَكرٍ فَتَزَوَّجَهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَحَقَّقَ اللهُ فِرَاسَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَا قَالَهُ وَجَعَلَ ذَلِكَ كَرَامَةً لَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ وِلَادَتِهَا وَأَنَّهَا أُنْثَى وَلَيْسَتْ بِذَكَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا بَكرٍ عَرَفَ بِإِلهَامِ اللهِ لَهُ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ.اهـ
الأنبياء والأولياء لا يعلمون الغيب كله إنما الله يطلعهم على بعضه
تَنبِيهٌ: لَيسَ هَذَا مِنْ بَابِ أَنَّهُ يَعلَمُ الغَيبَ، لَا، بَلْ لَا يَعلَمُ الغَيبَ كُلَّهُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَا نَبِيٌّ وَلَا مَلَكٌ وَلَا وَلِيٌّ يَعلَمُونَ الغَيبَ كُلَّهُ، بَلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يُطلِعُ بَعضَ مَلَائِكَتِهِ وَأَنبِيَائِهِ وَأَولِيَائِهِ عَلَى بَعضِ الغَيبِيَّاتِ. فَهَذَا المَذكُورُ عَلَى لِسَانِهِ لَيسَ مِن بَابِ أَنَّهُ يَعلَمُ الغَيبَ كُلَّهُ كَمَا زَعَمَ بَعْضٌ زُورًا وَكَذِبًا فقالوا: إِنَّ النبي ﷺ أو غَيرَهُ مِنَ الأَولِيَاءِ يَعلَمُ الغَيبَ كُلَّهُ فَهَذَا كَذَّبَ القُرآنَ الكَرِيمَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قُل لَّا يَعلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ الغَيبَ إِلَّا اللهُ﴾، [النَّمل:65]، وَإِنَّمَا يَعلَمُ مِن أُمُورِ الغَيبِ مَا عَلَّمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالوَحيِ. فإِنَّ مَن كَانَ صَاحِبَ عِلمٍ وَتُقًى وَيَعمَلُ بِمَا تَعَلَّمَ وَيَثبُتُ عَلَى الطَّاعَاتِ مِن فُرُوضٍ وَوَاجِبَاتٍ وَنَوَافِلَ فَإِنَّ اللهَ يَرزُقُهُ الوِلَايَةَ وَالصَّلَاحَ وَيُجرِي الخَيرَ عَلَى يَدَيهِ وَفِي قَلبِهِ فَيَصِيرُ صَاحِبَ قَولٍ حَقٍّ سَدِيدٍ وَيَجرِي هَذَا عَلَى قَلبِهِ قَبلَ لِسَانِهِ، وَهُوَ مِصدَاقُ مَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ الذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبطِشُ بِهَا، وَرِجلَهُ الَّتِي يَمشِي بِهَا، وَإِن سَأَلَنِي لَأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ استَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، (لَيسَ مَعنَاهُ حُلُولَ البَارِئِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الأَعضَاءِ لِلعِبَادِ، فَاللهُ تَعَالَى لَا يَحُلُّ فِي شَيءٍ وَلَا يَنحَلُّ مِنهُ شَيءٌ وَلَا يَحُلُّ هُوَ فِي شَيءٍ لِأَنَّهُ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، قَالَ البَيهَقِيُّ فِي الأَسمَاءِ وَالصِّفَاتِ: قَالَ أَبُو سُلَيمَانَ رَحِمَهُ اللهُ: قَولُهُ: «وَكُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبطِشُ بِهَا»، وَهَذِهِ أَمثَالٌ ضَرَبَهَا، وَالمَعنَى وَاللهُ أَعلَمُ: تَوفِيقُهُ فِي الأَعمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الأَعضَاءِ وَتَيسِيرُ المَحَبَّةِ لَهُ فِيهَا فَيَحفَظُ جَوَارِحَهُ عَلَيهِ، وَيَعصِمُهُ عَن مُوَاقَعَةِ مَا يَكرَهُ اللهُ مِن إِصغَاءٍ إِلَى اللَّهوِ بِسَمعِهِ، وَنَظَرٍ إِلَى مَا نَهَى عَنهُ مِنَ اللَّهوِ بِبَصَرِهِ، وَبَطشٍ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ بِيَدِهِ، وَسَعيٍ فِي البَاطِلِ بِرِجلِهِ. وَقَد يَكُونُ مَعنَاهُ سُرعَةَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسَاعِيَ الإِنسَانِ إِنَّمَا تَكُونُ بِهَذِهِ الجَوَارِحِ الأَربَعِ.اهـ
وَقَالَ بَعضُ المَلَاحِدَةِ إِنَّ اللهَ يَحُلُّ فِي مَشَايِخِهِمْ حَقِيقَةً وَاستَدَلُّوا بِزَعمِهِمْ بِهَذَا الحَدِيثِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ وَحَمَلُوهُ عَلَى مُقتَضَى الحِسِّ فَغَلَوا فِي دِينِهِمْ وَخَرَجُوا مِنَ الإِسْلَام وَإِنِ ادَّعَوْهُ.اهـ
فَمَعْنَى الحَدِيثِ إِذًا: أَحْفَظُ لَهُ سَمْعَهُ فَلا يسْتَمِعُ إِلَى ما حَرَّمَ الله وَأَحْفَظُ لَهُ بَصَرَهُ فَلا يَنْظُرُ إِلَى ما حَرَّمَ الله النَّظَرُ إِلَيْهِ. تُحْفَظُ لَهُ يَدُهُ فَلا يَمُدُّها لا يسْتَعْمِلُها فِيما حَرَّمَ الله. تُحْفَظُ رِجلُهُ فَلا يستَعْمِلُها فِيما حَرَّمَ الله. يُحْفَظُ قَلْبُهُ فَلا يَعْتَقِدُ بِهِ ما يُخالِفُ شَرْعَ الله. يُحْفَظُ لِسانُهُ فَلا يسْتَـعمِلُهُ فيما يُخالِفُ شَرْعَ الله. وَمَع هذا، يُيَسِّرُ اللهُ لَهُ ما يُرِيد بِلِسانِهِ، بِيَدِهِ بِرِجْلِهِ بِقَلْبِهِ. هذا شَأْنُ وَلِيّ الله).
وَقَد أَجرَى اللهُ الكَرَامَاتِ عَلَى جَوَارِحِ الأَولِيَاءِ وَفِي قُلُوبِهِم فَتَرَى الفِرَاسَةَ يَنطِقُ بِهَا لِسَانُهُم وَيُجرِيهَا اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم، وَلَيسَت مِن بَابِ مَعرِفَةِ الغَيبِ كُلِّهِ فَلَا يَعلَمُ الغَيبَ إِلَّا اللهُ وَإِنَّمَا هِيَ نُورٌ يَقذِفُهُ اللهُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤمِنِ فَإِنَّهُ يَنظُرُ بِنُورِ اللهِ»، أَي أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُكَاشِفُهُ بِبَعضِ الخَفِيَّاتِ فَاتَّقُوا فِرَاسَةَ هَذَا المُؤمِنِ. مَعْنَاهُ: المُؤْمِنُ الْكَامِلُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الَّذِيْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُوْلِهِ وَأَدَّىْ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَيُكْثِرُ مِنَ النَّوَافِلِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْوَاجِبَاتِ تَعَلُّمُ العِلمِ الضَّرُوْرِيِّ مِنْ عِلْمِ الدِّيْنِ، هَذَا الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ يَنْظُرُ بِنُوْرِ اللهِ أَي أَنَّ اللهَ تَعَالَىْ يُكَاشِفُهُ بِبَعْضِ الْخَفِيَّاتِ فَاتَّقُوْا فِرَاسَةَ هَذَا الْمُؤْمِنِ، وَفِي الحَدِيْثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِيْ أَنْ يَكُوْنَ الَّذِيْ يَجْتَمِعُ بِالْوَلِيِّ عَلَىْ خَصْلَةٍ مِنَ الْخِصَالِ الْمَذْمُوْمَةِ بَلْ لِيَتَنَزَّهْ عَنْهَا فَإِنَّهُ قَدْ يُكَاشِفُهُ اللهُ فَيَرَىْ فِيْ هَذَا الشَّخْصِ الَّذِيْ يَأْتِيْ إِلَيْهِ هَذَهِ الْخَصْلَةَ الْمَذْمُوْمَةَ.اهـ
قَالَ العِرَاقِيِّ فِي طَرحِ التَّثرِيبِ: قَدْ يَعْلَمُ الْأَنْبِيَاءُ كَثِيرًا مِنَ الغَيْبِ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ، وَقَدْ يُطْلِعُ اللهُ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى بَعْضِ الْغُيُوبِ بِالْإِلْقَاءِ فِي الْخَوَاطِرِ كَمَا قَالَ ﷺ: «قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ أَيْ مُلْهَمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ أَحَدٌ فَعُمَرُ» وَكَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فِي حَمْلِ زَوْجَتِهِ بِنْتِ خَارِجَةَ أَظُنُّهَا أُنْثَى. وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ عِلمًا بِالغَيْبِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْأَنْبِيَاءِ عِلْمٌ بِأَمْرٍ مَخْصُوصٍ فِي قِصَّةٍ مَخْصُوصَةٍ وَلِلأَوْلِيَاءِ ظَنٌّ بِفِرَاسَةٍ صَحِيحَةٍ فَمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فِي جُزْئِيَّةٍ أَوْ جُزْئِيَّاتٍ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ الغَيْبِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعْرِفَةُ ذُكُورَةِ الْحَمْلِ وَأُنُوثَتِهِ بِطُولِ التَّجَارِبِ، وَقَدْ يُخْطِئُ الظَّنُّ وَتَنْخَرِمُ الْعَادَةُ، وَالعِلمُ الحَقِيقِيُّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.اهـ