الأولياء وكراماتهم | الحلقة 7: من كرامات الصحابة والتبرك بآثار النبي ﷺ

المقدمة
الحَمدُ للهِ عَلَى جَزِيلِ آلَائِهِ، ، ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى خَاتَمِ أَنبِيَائِهِ وَآخِرِ رُسُلِهِ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيهِمْ أَجمَعِينَ، وَسَلَامٌ عَلَيهِمْ فِي العَالَمِينَ وَبَرَكَاتُهُ. وَالحَمدُ للهِ الذِي هَدَانَا لِلإِسلَامِ، وَفَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الأَنَامِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ المُتَفَضِّلُ المُنعِمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسِ السَّلامُ، تَنَزَّهَ جَلالُهُ عَنْ دَرَكِ الأَفْهَامِ، وَتَعَالَى كَمَالُهُ عَنْ إِحَاطَةِ الأَوْهَامِ، لَيْسَ بِجِسْمٍ فَيُشْبِهُ الأَجْسَامَ، وَلا بِمُتَجَوِّفٍ فَيَحْتَاجُ لِلشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، رَبٌّ قَدِيرٌ شَدِيدُ الانْتِقَامِ، قَدَّرَ الأُمُورَ فَأَحْسَنَ إِحْكَامَ الأَحْكَامِ، وَصَرَّفَ الْحُكْمَ فِي فُنُونِ النَّقْضِ وَالإِبْرَامِ، بِقُدْرَتِهِ هُبُوبُ الرِّيحِ وَتَسْيِيرُ الْغَمَامِ، أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ، وَأُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ كَافِرًا بِالأَصْنَامِ. وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ شَفِيعِ الأَنَامِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ أَوَّلِ سَابِقٍ إِلَى الإِسْلامِ، وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي كَانَ إِذَا رَآهُ الشَّيْطَانُ هَامَ، وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي أَنْهَضَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِنَفَقَتِهِ وَأَقَامَ، وَعَلَى عَلِيٍّ الْبَحْرِ الخِضَمِ وَالأَسَدِ الضِّرْغَامِ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَبِي الْخُلَفَاءِ الأَعْلامِ. أَمَّا بَعدُ:

كَانَ عَطَاءُ بنَ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ: سَمِعتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: كَانَ عَلَى عَهدِ النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ يُحِبُّ السَّمَاعَ – يَعنِي الغِنَاءَ – فَكَانَ إِذَا أَهَلَّ (أَي طَلَعَ) هِلَالُ ذِي الحِجَّةِ أَصبَحَ صَائِمًا، فَاتَّصَلَ الحَدِيثُ بِالنَّبِيِّ ﷺ فَأُحضِرَ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى صِيَامِ هَذِهِ الأَيَّامِ؟»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا أَيَّامُ المَشَاعِرِ وَأَيَّامُ الحَجِّ، فَأَحبَبتُ أَن يُشرِكَنِي اللهُ فِي دُعَائِهِم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: «لَكَ بِعَدِ كُلِّ يَومٍ تَصُومُهُ عِتقُ مِائَةِ رَقَبَةٍ وَمِائَةِ بَدَنَةٍ تُهدِيهَا وَمِائَةِ فَرَسٍ تَحمِلُ عَلَيهَا فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا كَانَ يَومُ التَّروِيَةِ (هُوَ يَومُ الثَّامِنِ مِن ذِي الحِجَّةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَرَوَّونَ فِيهِ مِنَ المَاءِ مِن مَكَّةَ أَي يَحمِلُونَهُ مَعَهُم مِن مَكَّةَ إِلَى عَرَفَاتٍ لِيَستَعمِلُوهُ فِي الشُّربِ وَغَيرِهِ) فَلَكَ عِتقُ أَلفِ رَقَبَةٍ وَأَلفِ بَدَنَةٍ تُهدِيهَا (أَي تَسُوقُهَا مِنَ الحِلِّ إِلَى الحَرَمِ مِن بَعِيرٍ أَو بَقَرَةٍ أَو شَاةٍ) وَأَلفِ فَرَسٍ تَحمِلُ عَلَيهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِذَا كَانَ يَومُ عَرَفَةَ فَلَكَ عِتقُ أَلفَي رَقَبَةٍ وَأَلفَي بَدَنَةٍ تُهدِيهَا وَأَلفَي فَرَسٍ تَحمِلُ عَلَيهَا فِي سَبِيلِ اللهِ».

مَا زِلنَا نَجُوبُ فِي بَيَانِ وَسَردِ كَرَامَاتِ أَولِيَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَنَفَعَنَا وَإِيَّاكُمْ بِذِكرِهِمْ وَبَرَكَاتِهِمْ، فَقَدْ جَعَلَهُمُ اللهُ مِنْ صَفْوَةِ مَخلُوقَاتِهِ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى الكَثِيرِ مِنْ عِبَادِهِ، بَعْدَ رُسُلِهِ وَأَنبِيَائِهِ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِمْ، وَجَعَلَ قُلُوبَهُمْ مَعَادِنَ أَسرَارِهِ، وَاختَصَّهُمْ مِنْ بَينِ الأُمَّةِ بِطَوَالِعِ أَنوَارِهِ. فَهُمُ الغِيَاثُ لِلخَلقِ، وَالدَّائِرُونَ فِي عُمُومِ أَحوَالِهِمْ مَعَ الحَقِّ بِالحَقِّ. اصْطَفَاهُمُ خَالِقُهُمْ مِنْ بَينِ الخَلقِ فَنَقَّاهُم مِنْ كُدُورَاتِ البَشَرِيَّةِ، وَرَقَّاهُمْ إِلَى مَحَالِّ المُشَاهَدَاتِ بِمَا تَجَلَّى لَهُمْ مِنَ الحَقَائِقِ السَّنِيَّةِ. وَوَفَّقَهُمْ لِلقِيَامِ بِآدَابِ العُبُودِيَّةِ. فَقَامُوا بِأَدَاءِ مَا عَلَيهِم مِنْ وَاجِبَاتٍ وَتَكَالِيفَ، . ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بِصِدقِ الِافتِقَارِ وَنَعتِ الِانكِسَارِ، وَلَمْ يَتَّكِلُوا عَلَى مَا حَصَلَ مِنْهُمْ مِنَ الأَعمَالِ، أَوْ صَفَا لَهُمْ مِنَ الأَحوَالِ. عِلمًا مِنهُم بِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَفعَلُ مَا يُرِيدُ، وَيَختَارُ مَنْ يَشَاءُ مِنَ العَبِيدِ. لَا يَحكُمُ عَلَيهِ أَحَدٌ مِنَ البَرِيَّةِ، فَثَوَابُهُ لِمَنْ أَكرَمَهُ مِنْ خَلْقِهِ فَضْلٌ. وَعَذَابُهُ لِمَنْ اسْتَحَقَّ العَذَابَ حُكْمٌ بِعَدْلٍ. وَأَمْرُهُ وَقَضَاؤُهُ وَمَشِيئَتُهُ فَصْلٌ. لَا دَافِعَ لِمَا قَضَى وَلا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ وَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ لا يَرْجُو ثَوَابًا وَلا يَخَافُ عِقَابًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَقٌّ يَلْزَمُهُ وَلا عَلَيْهِ حُكْمٌ وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَكُنَّا نَتَكَلَّمُ عَنْ كَرَامَاتِ بَعضِ الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ وَمِنهُمْ:

ما روي من كرامات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
رَوَى البُخَارِيُّ عَن عَلقَمَةَ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ بِخَسْفٍ فَقَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ نَعُدُّ الْآيَاتِ رَحْمَةً، وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا، إِنَّا بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَيْسَ مَعَنَا طَعَامٌ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اطْلُبُوا مَنْ مَعَهُ فَضْلُ مَاءٍ»، فَأُتِيَ بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ، فَجَعَلَ المَاءُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ المُبَارَكِ، وَالبَرَكَةُ مِنَ اللهِ”، فَشَرِبْنَا مِنْهُ، قَالَ عَبدُ اللهِ: قَدْ كُنَّا نَسمَعُ تَسبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ.اهـ (قَالَ ابنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ: (حَيَّ عَلَى ‌الطَّهُورِ ‌الْمُبَارَكِ) أَيْ هَلُمُّوا إِلَى الطَّهُورِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَالْمُرَادُ الْفِعْلُ أَيْ تَطَهَّرُوا) وَسَمَاعُهُمْ لِتَسبِيحِ الطَّعَامِ هُوَ إِكرَامٌ لَهُمْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِكرَامٌ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ: حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ، وَالبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ”، وَالبَرَكَةُ هِيَ الخَيرُ وَاللهُ خَالِقُهَا يَضَعُهَا فِيمَا شَاءَ وَفِيمَنْ شَاءَ مِنْ خَلقِهِ، فَقَدْ خَلَقَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى البَرَكَةَ فِي بَعضِ الأَمَاكِنِ وَالأَشيَاءِ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي القُرءَانِ الكَرِيمِ، فَجَعَلَ البَرَكَةَ فِي مَكَّةَ وَالكَعبَةِ مَثَلًا فَقَالَ فِي القُرءَانِ الكَرِيمِ: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾، [سورة ءال عمران: 96]، وَجَعَلَ البَرَكَةَ فِي المَسجِدِ الأَقصَى وَمَا حَولَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، [سورة الإسراء: 1]، وَجَعَلَ البَرَكَةَ فِي بَعضِ الثِّمَارِ كَالزَّيتُونِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾، [سورة النور: 35]، وَجَعَلَ البَرَكَةَ فِي القُرءَانِ الكَرِيمِ أَيضًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾، [سورة الأنبياء: 50]. فَإِذَا كَانَت هَذِهِ الأَشيَاءُ الَّتِي هِيَ مِن مَخلُوقَاتِ اللهِ تَعَالَى قَد أَودَعَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا البَرَكَةَ وَالخَيرَ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ، فَمِن بَابِ أَولَى أَن يَكُونَ أَفضَلُ مَخلُوقٍ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ قَد أَودَعَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنَ الخَيرِ وَالبَرَكَةِ الشَّيءَ العَظِيمَ أَيضًا، وَهَذَا مَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رِضوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِم فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِآثَارِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَلا زَالَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذَلِكَ.

إِنَّ جَوَازَ هَذَا الأَمْرِ يُعْرَفُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ وَذَلِكَ أَنَّهُ ﷺ قَسَمَ شَعَرَهُ حِينَ حَلَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَينَ الصَّحَابَةِ وَقَسَمَ أَظْفَارَهُ بَينَهُم أَيضًا.

فعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا رَمَى ﷺ الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَ ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ الشَّعَرَ ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ فَقَالَ: “احْلِقْ“، فَحَلَقَ فَأَعْطَى الشَّعَرَ لِأَبِي طَلْحَةَ وَقَالَ ﷺ: “اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ“. رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ. فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ التَّبَرُّكَ بِآثَارِ الرَّسُولِ ﷺ جَائِزٌ، فَقَدْ قَسَمَ ﷺ شَعَرَهُ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ وَيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ لا لِيَأْكُلُوهُ لِأَنَّ الشَّعْرَ لا يُؤْكَلُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الأَكْلِ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً بَيْنَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ وَكَانَ أَحَدُهُمْ قَد أَخَذَ شَعْرَةً وَالآخَرُ أَخَذَ شَعْرَتَيْنِ وَمَا قَسَمَهُ إِلَّا لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ فَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَهُ فِي الْمَاءِ فَيَسْقُونَ هَذَا الْمَاءَ بَعْضَ الْمَرْضَى تَبَرُّكًا بِأَثَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَصَحَّ فِيمَا رَوَاهُ البَيهَقِيُّ أَنَّهُ ﷺ بَصَقَ فِي فَمِ الطِّفْلِ الْمَعْتُوهِ وَكَانَ يَعْتَرِيهِ الشَّيْطَانُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: “اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ أَنَا رَسُولُ اللهِ”، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الجِنِّيُّ فَتَعَافَى.

ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْكُلَهَا النَّاسُ بَلْ لِيَتَبَرَّكُوا بِهَ، رواه أحمد في مسنده.

فَنَعلَمُ مِن هَذَا وَغَيرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَرشَدَ أُمَّتَهُ إِلَى التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ كُلِّهَا،

دَرَجَ الصَّحَابَةُ عَلَى مَا عَلَّمَهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي كَثِيرٍ مِنَ المَوَاقِفِ الوَارِدَةِ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَلَى التَّبَرُّكِ بِآثَارِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَيَاتِهِ وَبَعدَ وَفَاتِهِ ﷺ فَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِشَعَرِهِ وَأَظفَارِهِ وَرِيقِهِ وَدَمِهِ وَعَرَقِهِ وَمَلَابِسِهِ وَغَيرِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ بَعضَ الصَّحَابَةِ أَوصَى بِأَن يُدفَنَ مَعَهُ بَعضُ ءَاثَارِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَمَّا حَضَرْت عَائِشَةَ الوفاةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَعَتْ بِخِرْقَةٍ مِنْ قَمِيصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَتْ: ضَعُوا هَذِهِ عَلَى صَدْرِي وَادْفِنُوهَا مَعِي، رَوَاهُ الْحَافِظُ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا (أَي أَسْمَاءُ) جُبَّةً وَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى نَسْتَشْفِى بِهَا.اهـ رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَعَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: أَقْبَلَ مَرْوَانُ (يَعْنِي مَرْوَانَ بنَ الْحَكَمِ) يَوْمًا (وَكَانَ حَاكِمًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَرَ رَسُولَ اللهِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ) فَوَجَدَ رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا تَصْنَعُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَبُو أَيُّوبٍ (وَاسْمُهُ خَالِدُ بنُ زَيْدٍ) فَقَالَ: نَعَم جِئْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَلَمْ ءَاتِ الْحَجَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: “لَا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ وَلَكِنِ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ“، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ وَالأَوْسَطِ.

وَعَن خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ أَنَّهُ فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ اليَرْمُوكِ فَقَالَ: اطْلُبُوهَا، فَلَمْ يَجِدُوهَا، ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا، فَقَالَ خَالِدٌ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعَرِهِ فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ صَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ حَبِيبُ الرَّحْمٰنِ الأَعْظَمِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فَقَالَ: قَالَ الْبُوصِيرِيُّ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بِنَحْوِهِ وَرِجَالُهُمَا رِجَالُ الصَّحِيحِ.اهـ

فَلا التِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى مُنْكِرِي التَّوَسُّلِ وَالتَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ الشَّرِيفَةِ ﷺ وَالْغَرِيبُ أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ يَنْتَسِبُ إِلَى المَذهَبِ الْحَنْبَلِيِّ مَعَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ العِلَلِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ قَالَ سَأَلْتُهُ يَعْنِى أَبَاهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ مِنْبَرَ النَّبِيِّ ﷺ وَيَتَبَرَّكُ بِمَسِهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيَفعَلُ بِالقَبْرِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَ هَذَا يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ لا بَأسَ بِذَلِكَ.اﻫ

وَرَوَى الْحَافِظُ الحَنبَلِيُّ الضِّيَاءُ المَقدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ الحِكَايَاتُ المَنْثُورَةُ المَحْفُوظِ بِظَاهِرِيَّةِ دِمَشْقَ أَنَّ الحَافِظَ عَبدَ الغَنِيِّ بنَ سَعِيدٍ الحَنبَلِيَّ كَانَتْ خَرَجَتْ لَهُ دُمَّلَةٌ فَأَعْيَاهُ عِلاجُهَا فَذَهَبَ إِلَى قَبْرِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فَمَسَحَهَا فَتَعَافَى.اﻫ

وَرَوَى الحَافِظُ الحَنْبَلِيُّ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي مَنَاقِبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ تَبَرُّكَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ بِقَمِيصِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.اﻫ

وَقَدْ نَظَمَ بَعضُ الشُّعَرَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ قَصِيدَةً جَمَعَ فِيهَا الكَثِيرَ مِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ التَّبَرُّكِ بِالآثَارِ النَّبِوِيَّةِ قَالَ فِيهَا:

أَبْدَأُهَـا بِقَوْلِ بِسْمِ اللهِ
تَنَـزَّهَ الرَّحْمٰنُ عَنْ أَشْبَاهِ

وَأَحْمَـدُ الإِلَهَ ذَا الْجَلالِ
لِفَضْلِهِ بِالْهَدْيِ وَالنَّوَالِ

ثُمَّ الصَّلاةُ وَالسَّـلامُ مِنَّا
عَلَى نَبِيٍّ لِلْفَلاحِ سَنَّا

طَرِيقَـةَ التَّبَـرُّكِ الْمَيْمُونَهْ
فِى ذَاكَ أَهْـلُ الْعِلْمِ يَتْبَعُـونَهْ

فَإِنْ رَأَيْتُمْ مَنْ أَتَاكُمْ يَدَّعِى
بِأَنَّهُ غَـْيرَ الْهُدَى لَمْ يَتْبَـعِ

وَقَدْ أَحَـلَّ حُرْمَةً ضَلالا
مِنْ جَهلِهِ أَوْ حَـرَّمَ الْحَلَالَا

قُولُوا لَهُ إِذْ حَرَّمَ التَّبَرُّكَا
بِأَثَـرِ النَّبِيِّ زَادَ شَرُّكَا

إِنَّ اقْتِسَامَ الشَّعْرِ يَا مُمَـارِي
رَوَاهُ مُسْـِلمٌ كَذَا الْبُخَارِي

وَقِسْمَةُ الأَظْفَــارِ أَيْضًا تُسْنَدُ
صَحِيحَةً كَمَـا رَوَاهَا أَحْمَــدُ

وَجُبَّةُ النَّبِيِّ سَـلْ أَسْـمَـاءَ
أَمَـا رَأَتْ فِي مَائِهَا الشِّـفَــاءَ

هَـاكَ دَلِيلًا مِنْ أَبِى أَيُّـوبِ
يَمَسُّ بِالْخـَدِّ ثَرَى الْمَحْبُـوبِ

أَنْعِمْ بِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَـرَا
جِئْتُ رَسُولَ اللهِ لَيْسَ الْحَجَرَا

فَمُسْـلِمٌ أُولاهُـمَا رَوَاهَـا
صَحِيحَةَ الإِسْـنَادِ عَنْ مَوْلاهَا

وَأَحْمَدٌ رَوَى الْحَدِيثَ الثَّـانِي
رَدَّ الصَّحَـابِيِّ عَلَى مَرْوَانِ

وَخَالِدٌ لِلْجَيْشِ فِي قَلَنْسُوَةْ
قَالَ اطْلُبُوا سَبَبُ ذاكَ ما هُوَهْ

لِأَنَّ فِي الطَّيَّاتِ شَعْرَاتِ النَّبِيّ
وَذَاكَ فِي الْيَرْمُوكِ يَرْوِى الْبَيْهَقِيّ

وَمَسْحُ أَحْمَدٍ لِرَأْسِ حَنْظَلَـهْ
بِكَفِّـهِ وَدَاعِيًــا بِالْخَـيْرِ لَـهْ

مَنْ جَاءَهُ وَالْوَجْهُ مِنْـهُ وَارِمُ
بِمَسْـحَةٍ يَعُـودُ وَهُوَ سَالِمُ

بَرَكَـةُ النَّبِيِّ طَـابَ عَرْفُهُ
مَوْضِـعُ كَفِّهِ فَكَيْفَ كَفُّهُ

وَثَابِتٌ قَدْ كَرَّرَ التَّقْبِيلا
يـَدًا وَعَيْنًا رَأَتِ الرَّسُولَا

وَأَنَسٌ عَنْ مِثْلِ ذَاكَ مَا زَجَرْ
مُجَوِّزًا رَوَى أَبُو يَعْلَى الأَثَرْ

يَا إِخْوَتِي مِنْ فَضْلِهِ تَبَرَّكُوا
تَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِ لا تَتْرُكُوا

أَجَازَهُ نَبِيُّنَـا الْمُعَظَّمُ
فَفَتِّشُوا عَنْ ذَيْلِ مَنْ يُحَرِّمُ

فَإِنَّهُ أَخُو الْجَهُولِ فِي الغَبَا
وَمِثْلَهُ يَأبَى الْكَرِيمُ يَصْحَبَا

نَظَمْتُهـا مُرْشِـدَةً عَزِيزَهْ
أَكْرِمْ بِهَا فِي الْخَيْرِ مِنْ أُرْجُوزَهْ اﻫ

ما روي من كرامات أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه
رَوَى جَابِرٌ عَنْ مَوْلَاةٍ لِأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَتْ: كَانَ أَبُو أُمَامَةَ رَجُلًا يُحِبُّ الصَّدَقَةَ وَيَجْمَعُ لَهَا مِنْ بَيْنِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْفُلُوسِ وَمَا يَأْكُلُ حَتَّى الْبَصَلَةَ وَنَحْوَهَا، وَلَا يَقِفُ بِهِ سَائِلٌ إِلَّا أَعْطَاهُ مَا تَهَيَّأَ لَهُ فِي يَوْمِهِ وَسَاعَتِهِ حَتَّى يَضَعَ فِي يَدِ أَحَدِهِمُ الْبَصَلَةَ، قَالَتْ: فَأَصْبَحْنَا ذَاتَ يَوْمٍ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ لَهُ وَلَا لَنَا وَلَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، فَوَقَفَ بِهِ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ دِينَارًا، ثُمَّ وَقَفَ بِهِ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ دِينَارًا، ثُمَّ وَقَفَ بِهِ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ دِينَارًا، قَالَتْ: فَغَضِبْتُ وَقُلْتُ: لَمْ يَبْقَ لَنَا شَيْءٌ، فَاسْتَلْقَى عَلَى فِرَاشِهِ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْبَيْتِ حَتَّى أَذَّنَ المُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ، فَجِئْتُهُ فَأَيْقَظْتُهُ، فَرَاحَ إِلَى مَسْجِدِهِ صَائِمًا فَرَفَقْتُ عَلَيْهِ فَاسْتَقْرَضْتُ مَا اشْتَرَيْتُ بِهِ عَشَاءً فَهَيَّأْتُ سِرَاجًا وَعَشَاءً وَوَضَعْتُ مَائِدَةً وَدَنَوْتُ مِنْ فِرَاشِهِ لِأُمَهِّدَهُ لَهُ، فَرَفَعْتُ الْمُرْفَقَةَ فَإِذَا بِذَهَبٍ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا صَنَعَ إِلَّا ثِقَةً بِمَا جَاءَ بِهِ، قَالَتْ: فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَرَكْتُهَا عَلَى حَالِهَا حَتَّى انْصَرَفَ عَنِ الْعِشَاءِ، قَالَتْ فَلَمَّا دَخَلَ وَرَأَى مَا هَيَّأْتُ لَهُ حَمِدَ اللهَ تَعَالَى وَتَبَسَّمَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: هَذَا خَيْرٌ فَجَلَسَ فَتَعَشَّى، فَقُلْتُ: يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، جِئْتَ بِمَا جِئْتَ بِهِ ثُمَّ وَضَعْتَهُ بِمَوْضِعِ مَضْيَعَةٍ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَرَفَعَتِ الْمُرْفَقَةَ عَنْهَا فَفَزِعَ لِمَا رَأَى تَحْتَهَا وَقَالَ: وَيْحَكِ مَا هَذَا؟ فَقُلْتُ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ، إِلَّا أَنِّي وَجَدْتُهُ عَلَى مَا تَرَى، قَالَتْ: فَكَثُرَ فَزَعُهُ.اهـ

هَذَا الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ الوَلِيُّ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي رَوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الحَدِيثَ المَعرُوفَ بِحَدِيثِ التَّلقِينِ، رُوِيَ عَن سَعِيدٍ الأَزْدِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا أُمَامَةَ وَهُوَ فِي النَّزْعِ، فَقَالَ لِي: يَا سَعِيْدُ، إِذَا أَنَا مِتُّ، فَافْعَلُوا بِي كَمَا أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ ﷺ قَالَ لَنَا: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ، فَنَثَرْتُمْ عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَلْيَقُمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ عِنْدَ رَأْسِهِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: يَا فُلَانُ بنَ فُلَانَةَ؛ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُجِيْبُ، ثُمَّ لْيَقُلْ: يَا فُلَانُ بنَ فُلَانَةَ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي جَالِسًا، ثُمَّ لْيَقُلْ: يَا فُلَانُ بنُ فُلَانَةَ، فَإِنَّهُ يَقُوْلُ: أَرْشِدْنَا يَرْحَمْكَ اللهُ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اذكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا؛ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَأَنَّكَ رَضِيْتَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبَالإِسْلَامِ دِيْنًا، فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، قَالَ مُنْكَرٌ وَنَكِيْرٌ: اخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا، مَا نَصْنَعُ بِهِ وَقَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ؟!». قِيْلَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، فَإِنْ لَمْ أَعْرِفْ أُمَّهُ. قَالَ: «انْسُبْهُ إِلَى حَوَّاءَ»، اهـ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَحَسَّنَهُ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ.

وَهَذَا التَّلقِينُ مِنْ جُملَةِ مَا أَخبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ والنَّبِيُّ ﷺ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُبلِّغُهُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِن أُمُورِ التَّشرِيعِ، أَوِ العَقَائِدِ، أَوِ الأَخبَارِ المُتَعَلِّقَةِ بِالأُمَمِ السَّابِقَةِ، أَو أُمُورِ الآخِرَةِ، أَوِ الحَلَالِ وَالحَرَامِ. وَهَذِهِ العِصمَةُ الَّتِي تَكُونُ للرُّسُلِ، وتَقتَضِي أَنَّهُ ﷺ لَا يُخطِئُ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ، لِأَنَّ هَذَا التَبلِيغَ هَوُ وَحيٌ مِنَ اللهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى﴾ [سورة النجم:3-4]. وَهَذَا مُقتَضَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ بِأَن يُؤمِنَ الوَاحِدُ وَيُقِرَّ بِجَمِيعِ مَا أَخبَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَِأنَّهُ حَقٌّ وَصِدقٌ.

وَمِن جُملَةِ مَا أَخبَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَيَجِبُ الإِيمَانُ و التَّصدِيقُ بِهِ عَذَابُ القَبرِ لِلْكَافِرِ ولِبَعْضِ عُصاةِ الْمُسْلِمِينَ، قالَ الإِمامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الفِقْهِ الأَكْبَرِ «وضَغْطَةُ القَبْرِ وعَذابُهُ حَقٌّ كائِنٌ لِلْكُفّارِ ولِبَعْضِ عُصاةِ المُسْلِمِينَ» فَلا يَجُوزُ إِنْكارُ عَذابِ القَبْرِ بَلْ إِنْكارُهُ كُفْرٌ، قالَ الإِمامُ أَبُو مَنْصُورٍ البَغْدادِيُّ فِي كِتابِ الفَرْقِ بَيْنَ الفِرَقِ «وقَطَعُوا أَي أَهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بِأَنَّ المُنْكِرِينَ لِعَذابِ القَبْرِ يُعَذَّبُونَ فِي القَبْرِ».اهـ

فَيَجِبُ الإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الكُفَّارَ جَمِيعَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ، فَيَأمُرُ حَشَرَاتٍ فِي الأَرْضِ مُؤذِيَةً أَنْ تَأكُلَ أَجْسَادَهُمْ، وَيَأمُرُ الأَرْضَ فَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ، فَتَكُونُ قُبورُهُمْ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّكَدِ وَالعَذَابِ.

أَمَّا المُسْلِمُونَ العُصَاةُ مِنْ أهْلِ الكَبَائِرِ الّذينَ مَاتُوا مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يُعَذّبُهُمُ اللهُ في قُبُورِهِمْ. وَقِسمٌ يُعْفِيهِمُ اللهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا العَفوُ بِسَبَبِ استِغفَارِ مُسلِمٍ حَيٍّ لَهُ أَوْ قِرَاءَةِ القُرآنِ لَهُ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّد؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.

وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ وَالتِّرمِذِيُّ وَأَبو دَاودَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “مَرَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى قَبرَينِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ» قَالَ: «بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ»، ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثنَينِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدا ثُمَّ قَال: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا»”. أَي بِحَسَبِ مَا يَرَى النَّاسُ لَيسَ ذَنبُهُمَا شَيئًا كَبِيرًا لَكِنَّهُ فِي الحَقِيقَةِ ذَنبٌ كَبِيرٌ لِذَلِكَ قَالَ: «بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمشِي بِالنَّمِيمَةِ» وَهِيَ نَقلُ الكَلَامِ بَينَ اثنَينِ لِلإِفسَادِ بَينَهُمَا، يَقُولُ لِهَذَا فُلَانٌ قَالَ عَنكَ كَذَا وَيَقُولُ لِلآخَرِ: فُلَانٌ قَالَ عَنكَ كَذَا لِيُوقِعَ بَينَهُمَا الشَّحنَاءَ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لَا يَستَنـزِهُ مِنَ البَولِ أَي كَانَ يَتَلَوَّثُ بِالبَولِ وَهَذَا مِنَ الكَبَائِرِ فَقَدْ قَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «استَنـزِهُوا مِنَ البَولِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ القَبرِ مِنهُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ. وَمَعنَاهُ: انتَبِهُوا مِنَ البَولِ لِئَلَّا يُلَوِّثَكُم، مَعنَاهُ لَا تُلَوِّثُوا ثِيَابَكُم وَجِلدَكُم بِهِ لِأَنَّ أَكثَرَ عَذَابِ القَبرِ مِنهُ.

وَيَقُولُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [سورة طه ءاية 124] أَي مَنْ أَعرَضَ عَنِ الإِيـمَانِ بِاللهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ أَي ضَيِّقَةً فِي القَبرِ كَمَا فَسَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ. المَعنَى أَنَّ الكُفَّارَ الذِينَ أَعرَضُوا عَنِ الإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى إِذَا مَاتُوا يَتَعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَلَيسَ المُرَادُ بِــ ﴿مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ مَعِيشَةً قَبلَ المَوتِ إِنَّمَا المُرَادُ حَالُهُم فِي البَرزَخِ، وَكَلِمَةُ (ذِكرِي) هُنَا مَعنَاهَا الإِيمَانُ بِاللهِ سُبحَانَهُ وَبِالرَّسُولِ لَيسَ المُرَادُ بِهَا الذِّكرَ المَعرُوفَ وَهُوَ قَولُ: سُبحَانَ اللهِ وَالحَمدُ للهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ وَنَحوُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الآيَةُ عُرِفَ أَنَّ المُرَادَ مِنهَا عَذَابُ القَبرِ مِنَ الحَدِيثِ المَرفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ الذِي فَسَّرَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ بِعَذَابِ القَبرِ رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَفِي هَذَا قَالَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ لِأَصحَابِهِ: «هَلْ تَدرُونَ فِي مَاذَا أُنزِلَتْ ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ: قَالَ عَذَابِ الكَافِرِ فِي قَبرِهِ». وَرَوَى التِّرمِذِيُّ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «القَبرُ رَوضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ».اهـ

وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ «نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ».اهـ وَهَذَا العَذَابُ يَكُونُ بِالرُّوحِ وَالجَسَدِ لَكِنَّ اللهَ يَحجُبُهُ عَنْ أَبصَارِ أَكثَرِ النَّاسِ لِيَكُونَ إِيمَانُ العَبدِ إِيمَانًا بِالغَيبِ فَيَعْظُمَ ثَوَابُهُ.

وَيَدُلُّ عَلَى كَونِ العَذَابِ بِالرُّوحِ وَالجَسَدِ مَا وَرَدَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ سَأَلَ الحَبِيبَ مُحَمَّدًا ﷺ “أَتُرَدُّ عَلَينَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ ﷺ: «نَعَمْ كَهَيئَتِكُمُ اليَومَ»”.اهـ قَالَ فَبِفِيهِ الحَجَرُ أَي سَكَتَ وَانقَطَعَ عَنِ الكَلَامِ لِسَمَاعِهِ الخَبَرَ الذِي لَمْ يَكُنْ يَعرِفُهُ.

وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى عَذَابِ القَبرِ أَيضًا قَولُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سورة غافر ءاية 46] وَالمُرَادُ بِآلِ فِرعَونَ أَتبَاعُهُ الذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى الشِّركِ وَالكُفرِ، هَؤُلَاءِ يُعرَضُونَ عَلَى النَّارِ أَوَّلَ النَّهَارِ مَرَّةً وَءَاخِرَ النَّهَارِ مَرَّةً فَيَمْتَلِؤُونَ رُعبًا وَفَـزَعًا وَخَوفًا وَهَذَا العَرضُ لَيسَ فِي الآخِرَةِ إِنَّمَا قَبلَ قِيَامِ السَّاعَةِ كَمَا يُفهَمُ مِنَ الآيَةِ وَلَيسَ قَبلَ المَوتِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ القَبرِ فِي البَرزَخِ وَهِيَ المُدَّةُ مَا بَينَ المَوتِ وَالبَعثِ.

وَرَوَى التِّرمِذِيُّ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِأُنَاسٍ: «فأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ المَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلَّا تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أي الكامل قَالَ لَهُ الْقَبْرُ مَرْحَبًا وَأَهْلا أَمَا إِنْ كُنْتَ لأحَبَّ مَنْ يَمْشِى عَلَى ظَهْرِي إِلَىَّ فَإِذْ وُلِّيتُكَ اليَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ قَالَ فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ أوْ الْكافِرُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ لا مَرْحَبًا ولا أَهْلا أَمَا إِنْ كُنْتَ لأبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهرِي إِلَىَّ فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَىَّ فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ قَالَ فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَقِي عَلَيْهِ وَتَخْتَلِفَ أضْلاعُهُ» قَالَ أَيِ الرَّاوِي، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِأَصَابِعِهِ فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ قَالَ «وَيُقَيّضُ اللهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنّينًا لَوْ أنَّ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الأرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنيَا فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الحِسَابِ».اهـ فَمِنْ عَذَابِ القَبرِ ضَغطَةُ القَبرِ يَقتَرِبُ حَائِطَا القَبرِ مِنْ جَانِبَيهِ حَتَّى تَتَدَاخَلَ أَضلَاعُهُ، أَضلَاعُهُ التِي عَنْ جَانِبِهِ الأَيـمَنِ تَتَدَاخَلُ مَعَ أَضلَاعِهِ التِي عَنِ الجَانِبِ الأَيسَرِ. وَلَكِنْ هَذَا لَا يَكُونُ لِلأَتقِيَاءِ وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ كَمَا يَقُولُ بَعضُ النَّاسِ فِي حَدِيثٍ مَكذُوبٍ أَنَّ سَعدَ بنَ مُعَاذٍ يُضغَطُ فِي قَبرِهِ.

وَمِنْ عَذَابِ القَبرِ أَيضًا الانزِعَاجُ مِن ظُلْمَةِ القَبرِ وَوَحشَتِهِ وَمِنهُ أَيضًا ضَرْبُ مُنكَرٍ وَنَكِيرٍ لِلكَافِرِ بِمِطرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَذَابَ يُضرَبُ ضَربَةً فَيَصِيحُ مِنَ الأَلَمِ صَيحَةً يَسمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَينِ أَي إِلَّا الإِنسَ وَالجِنَّ.

وَمِنْ عَذَابِ القَبرِ أَيضًا تَسلِيطُ الأَفَاعِي وَالعَقَارِبِ وَحَشَرَاتِ الأَرضِ عَلَيهِ فَتَنْهَشُ وَتَأْكُلُ مِنْ جَسَدِهِ فَفِي المُستَدْرَكِ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ يُقَالُ لِلفَاجِرِ: «ارْقُدْ مَنهُوشًا، فَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرضِ إِلَّا وَلَهَا فِي جَسَدِهِ نَصِيبٌ».اهـ

وَرَوَى أَبُو دَاودَ فِي سُنَنِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسْولِ اللهِ ﷺ فيِ جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنّـمَا عَلَى رُؤوسِنَا الطَّيْرُ وَفىِ يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بهِ الأرْضَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ «اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذابِ الْقَبْرِ اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا»اهـ

وَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه أنه قال قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عُوذُوا بِاللهِ مِنْ عَذابِ اللهِ، عُوذُوا بِاللهِ مِن عَذَابِ القَبْرِ، عُوذوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، عُوذُوا بِاللهِ مِنُ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ».اهـ

حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ المَذكُورُ سَابِقًا دَلِيلٌ لِأَهلِ السُّنَِّة عَلَى جَوَازِ التَّلقِينِ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَهُ أَصحَابَهُ، وَأَنَّهُ فِي عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَهَذَا الحَدِيثُ ذَكَرَهُ الفُقَهَاءُ وَلَو كَانَ بَعضُهُم ضَعَّفَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ العَمَلُ بِهِ، فَإِنَّ الحَدِيثَ الضَّعِيفَ يَجُوزُ العَمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الأَعمَالِ بِالإِجمَاعِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الأَذكَارِ وَغَيرِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي رَوضَةِ الطَّالِبِينَ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَقَّنَ المَيِّتُ بَعْدَ الدَّفْنِ، وَسَاقَ حَدِيثَ التَّلقِينِ الَّذِي نَقَلنَاهُ عَن أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ثُمَّ قَالَ فِي زِيَادَتِهِ عَلَى الرَّوضَةِ: قُلْتُ: هَذَا التَّلْقِينُ اسْتَحَبَّهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمُ: الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُمْ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا. وَالحَدِيثُ الوَارِدُ فِيهِ ضَعِيفٌ، لَكِنَّ أَحَادِيثَ الفَضَائِلِ يُتَسَامَحُ فِيهَا عِنْدَ أَهْلِ العِلمِ مِنَ المُحَدِّثِينَ وَغَيرِهِم. وَقَدِ اعْتَضَدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِشَوَاهِدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، كَحَدِيثِ «اسْأَلُوا اللهَ لَهُ التَّثْبِيتَ» وَوَصِيَّةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَقِيمُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَعْلَمَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا التَّلْقِينِ مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَزَمَنِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَقْعُدُ الْمُلَقِّنُ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ، وَأَمَّا الطِّفْلُ وَنَحْوُهُ، فَلَا يُلَقَّنُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ شَهِيدُ المَعرَكَةِ وَالأَنبِيَاءُ.اهـ

وَقَالَ الإِمَامُ المُفَسِّرُ القُرطُبِيُّ فِي التَّذكِرَةِ فِي أَحوَالِ المَوتَى وَأُمُورِ الآخِرَةِ: «يَنبَغِي أَن يُرشَدَ المَيتُ فِي قَبرِهِ حَيثُ يُوضَعُ فِيهِ إِلى جَوَابِ السُّؤَالِ وَيُذَكَّرُ بِذَلِكَ فَيُقَالُ لُهُ قُلِ اللهُ رَبِّي، وَالإِسلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ رَسُولِي فَإِنَّهُ عَن ذَلِكَ يُسأَلُ كَمَا جَاءَت بِهِ الأَخبَارُ عَلَى مَا يَأتِي إِن شَاءَ اللهُ، وَقَد جَرَى العَمَلُ عِندَنَا بِقُرطُبَةَ كَذَلِكَ».اهـ

ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ يَأتِيكَ بَعضُ الجُفَاةِ وَيُحَرِّمُونَ كُلَّ هَذَا وَيُكَفِّرُونَ المُسلِمِينَ بِغَيرِ سَبَبٍ إِلَّا هَوًى فِي أَنفُسِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ أَلَّفَ بَعضُهُم كِتَابًا سَمَّاهُ بِدَعَ الجَنَائِزِ قَالَ فِيهِ بِتَحرِيمِ قِرَاءَةِ القُرآنِ عَلَى المَيِّتِ وَبِتَحرِيمِ ذِكرِ اللهِ فِي الجَنَائِزِ وَبِتَحرِيمِ التَّعزِيَةِ وَبِتَحرِيمِ زِيَارَةِ القُبُورِ وَغَيرِ ذَلِكَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ العُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ القُرءَانِ عَلَى قَبرِ المَيِّتِ المُسلِمِ وَانتِفَاعِهِ بِالقِرَاءَةِ حَدِيثُ البُخَارِيِّ وَمُسلِمٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «مرَّ النبيُّ ﷺ بِحائِطٍ (أَي بُستَانٍ) مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوتَ إِنسَانَيْنِ يُعَذَّبَّانِ فِي قَبرَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى، كَانَ أَحَدُهُما لَا يَستَتِرُ مِنْ بَولِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمشِي بِالنَّمِيمَةِ» ثُمَّ دَعَا بَِجرِيدَةٍ (أَي بِعَسِيبٍ رَطِبٍ) فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبرٍ مِنهُمَا كِسْرَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» لِأَنَّ هَذَا العَسِيبَ الرَّطبَ يَذكُرُ اللهَ تَعَالَى، يُسَبِّحُ اللهَ تَعَالَى مَا دَامَ رَطْبًا. فَإِنْ كَانَ المُسلِمُ المَيِّتُ يَنتَفِعُ بِتَسبِيحِ العَسِيبِ الرَّطْبِ فَكَيفَ بِقِرَاءَةِ القُرءَانِ عِندَ قَبرِهِ مِنَ المُسلِمِ الحَيِّ؟

وَأَمَّا بِالنِّسبَةِ لِتَحضِيرِ الطَّعَامِ لِأَهلِ المَيِّتِ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فِي بَابِ صَنعَةِ الطَّعَامِ لِأَهلِ المَيِّتِ عَن عَبدِ اللهِ بنِ جَعفَرٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (اصنَعُوا لِآلِ جَعفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ) وَرَوَاهُ أَحمَدُ فِي مُسنَدِهِ وَالتِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَهْ وَالحَاكِمُ فِي المُستَدرَكِ وَصَحَّحَهُ. قَالَ ذَلِكَ الرَّسُولُ لَمَّا قُتِلَ جَعفَرٌ وَجَاءَ الخَبَرُ بِمَوتِهِ، قَالَ ابنُ الأَثِيرِ: (أَرَادَ اطْبُخُوا وَاخْبُزُوا لَهُمْ، فَيُندَبُ لِجِيرَانِ المَيِّتِ وَأَقَارِبِهِ الأَبَاعِدِ صُنعُ ذَلِكَ) قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُوَجّهَ إِلَى أَهْلِ المَيّتِ شَيْءٌ لِشُغْلِهِمْ بِالمُصِيبَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.اهـ

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُستَحَبُّ لِلأَقَارِبِ وَالجِيرَانِ تَهيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهلِ المَيِّتِ).اهـ

وَأَمَّا بِالنِّسبَةِ لِزِيَارَةِ القُبُورِ وَلَا سِيَّمَا فِي العِيدَينِ وَهَذَا يَكثُرُ السُّؤَالُ عَنهُ فِي أَيَّامِنَا هَذِهِ، فَأَقُولُ: لَم يُخَصِّصِ الشَّرعُ الحَنِيفُ وَقتًا مُعَيَّنًا لِزِيَارَةِ القُبُورِ، قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كُلَّمَا كَانَ لَيلَتُهَا يَخرُجُ مِنْ ءَاخِرِ اللَّيلِ إِلَى البَقِيعِ، أَخرَجَهُ مُسلِمٌ فِي كِتَابِ الجَنَائِزِ، بَابُ مَا يُقَالُ عِندَ دُخُولِ القُبُورِ وَالدُّعَاءِ لِأَهلِهَا، وَلَمْ يَستَثْنِ النَّبِيُّ ﷺ يَومًا فِي زِيَارَةِ القُبُورِ سَوَاءٌ كَانَ يَومُ عِيدٍ أَمْ غَيرِهِ.

وَفِي الفَتَاوَى الهِندِيَّةِ، البَابِ السَّادِسَ عَشَرَ فِي زِيَارَةِ القُبُورِ وَقِرَاءَةِ القُرءَانِ فِي المَقَابِرِ، (5/350) مَا نَصُّهُ: (وَأَفضَلُ أَيَّامِ الزِّيَارَةِ أَربَعَةٌ يَومُ الاثْنَينِ وَالخَمِيسِ وَالجُمُعَةِ وَالسَّبتِ، وَالزِّيَارَةُ يَومَ الجُمُعَةِ بَعدَ الصَّلَاةِ حَسَنٌ وَيَومَ السَّبتِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمسِ وَيَومَ الخَمِيسِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَقِيلَ فِي ءاخِرِ النَّهَارِ وَكَذَا فِي اللَّيَالِي المُبَارَكَةِ وَكَذَلِكَ فِي الأَزمِنَةِ المُبَارَكَةِ كَعَشرِ ذِي الحِجَّةِ وَالعِيدَينِ وَعَاشُورَاءَ وَسَائِرِ المَوَاسِمِ).اهـ

وَأَمَّا مَا يَظُنُّهُ البَعضُ وَهُوَ تَحرِيمُهُم زِيَارَةَ القُبُورِ فِي العِيدَينِ بِدَعوَى أَنَّهُمَا يَومَا فَرَحٍ، فَلَا وَجْهَ لَهُ، إِذِ المَقصُودُ مِنَ الزِّيَارَةِ الاعْتِبَارُ وَالدُّعَاءُ وَنَحوُ ذَلِكَ وَهَذَا لَا يُنَافِي كَونَهَا فِي العِيدَينِ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ الذِي أَخرَجَهُ مُسلِمٌ، كِتَابُ صَلَاةِ العِيدَينِ، بَابُ مَا يَقرَأُ بِهِ فِي صَلَاةِ العِيدَينِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يَقرَأُ فِي صَلَاةِ العِيدَينِ بِسُورَةِ “ق” اهـ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ ءَايَاتٍ تُذَكِّرُ بِالمَوتِ وَالآخِرَةِ.

وَفِي كِتَابِ الإِيضَاحِ لِلنَّوَوِيِّ، البَابِ السَّادِسِ فِي زِيَارَةِ قَبرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ ﷺ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. (ص/161): (يُستَحَبُّ أَنْ يَخرُجَ كُلَّ يَومٍ إِلَى البَقِيعِ خُصُوصًا يَومَ الجُمُعَةِ).اهـ وَفِيهِ: (يُستَحَبُّ أَنْ يَزُورَ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ بِأُحُدٍ وَأَفضَلُهُ يَومُ الخَمِيسِ وَابتِدَاؤُهُ بِحَمزَةَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ).اهـ

سؤال فقهي: ما الحكم إذا وافق يوم العيد يوم الجمعة فصلينا العيد هل تسقط الجمعة؟
الجواب

صَلَاةُ الجُمُعَةِ فَرضُ عَينٍ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ مُكَلَّفٍ إِذَا اجتَمَعَت فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِ الجُمُعَةِ، لِذَلِكَ إِذَا وَافَقَ يَومُ العِيدِ يومَ جُمُعَةٍ لَا تُسقِطُ صَلَاةُ الجُمُعَةِ بِصَلَاةِ العِيدِ، لِأَنَّ صَلَاةَ العِيدِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، بَينَمَا صَلَاةُ الجُمُعَةِ فَرضُ عَينٍ، وَالسُّنَّةُ لَا تُسقِطُ الفَرِيضَةَ وَلَا تُجزِئُ عَنهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَالصَّحَابَةَ لَمْ يَترُكُوا صَلَاةَ الجُمُعَةِ حِينَ اجْتَمعَ العِيدُ وَالجُمُعَةَ وَلِعُمُومِ قَولِ اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون﴾ وَلَمْ يَرِدْ مِنَ اسْتِثنَاءَاتِ سُقُوطِ وُجُوبِ الجُمُعَةِ أَنْ يَأتِيَ العِيدُ يَومَ جُمُعَةٍ.

وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ المُسْلِمِينَ، مِنَ الحَنَفِيَّةِ، وَالمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الحَنَابِلَةِ.

وَإِنَّمَا رَخَّصَ الشَّرْعُ الحَنِيفُ: إِنِ اتَّفَقَ يَوْمُ العِيدِ وَيَوْمُ الجُمُعَةِ، فَحَضَرَ أَهْلُ السَّوَادِ – وَهُمْ أَهْلُ القُرَى -، فَصَلَّوْا العِيدَ، أَنْ يَنْصَرِفُوا وَيَتْرُكُوا الجُمُعَةَ؛ لِمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدِ اجْتَمَعَ عِيدَانِ فِي يَوْمِكُمْ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ العَالِيَةِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَنَا الجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلْيَنْصَرِفْ».

وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّهُمْ إِنْ قَعَدُوا فِي البَلَدِ، لَمْ يَتَهَيَّؤُوا بِالعِيدِ، فَإِنْ خَرَجُوا ثُمَّ رَجَعُوا لِلْجُمُعَةِ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي ذٰلِكَ مَشَقَّةٌ، وَالجُمُعَةُ تَسْقُطُ بِالمَشَقَّةِ.

والعَالِيَةُ -بِالعَيْنِ المُهْمَلَةِ-: هِيَ قَرْيَةٌ بِالمَدِينَةِ مِن جِهَةِ الشَّرْقِ.

الاحْتِياطُ فِي الدِّينِ يَقتَضِي المُحَافَظَةَ عَلَى صَلَاتَي العِيدِ وَالجُمُعَةِ فِي ذَلِكَ اليَومِ، وَهُوَ مَذهَبُ جُمهُورِ الفُقَهَاءِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٍ مُعتَمَدَةٍ فِي المَذهَبِ الحَنبَلِيِّ.

وَأَمَّا القَولُ بِسُقُوطِ صَلَاةِ الظُّهرِ عَمَّنْ تَرَكَ الجُمُعَةَ بَعدَ العِيدِ، فَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ الأَربَعَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ المُوجِبَةِ لِلصَّلَوَاتِ الخَمسِ فِي اليَومِ وَاللَّيلَةِ، وَقَدْ أَجمَعَ أَهْلُ العِلمِ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِ الفَرِيضَةِ فِي هَذِهِ الحَالَةِ، فَلَا يَجُوزُ العَمَلُ بِهِ، وَلَا تَقلِيدُهُ، وَلَا الإِفتَاءُ بِمَضمُونِهِ.

فَعَلَى الأَئِمَّةِ وَالجِهَاتِ المَسؤُولَةِ إِقَامَةُ صَلَاةِ الجُمُعَةِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذْ قَالَ: «وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ»، وَهَذَا هُوَ فِعلُ أَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ وَعُثمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ، وَغَيرِهِمْ مِنَ الخُلَفَاءِ.

الدعاء الختامي
اللهم صَلِّ وَسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَجُد عَلَينَا بِأَوفَى الحُظُوظِ مِن رِضوَانِكَ، وَارزُقنَا مِن خَشيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَينَنَا وَبَينَ عِصيَانِكَ، وَاجعَل لَنَا نَصِيبًا مِن جُودِكَ وَامتِنَانِكَ، وَلَا تَقطَعنَا مَا عَوَّدتَنَا مِن جَزِيلِ إِحسَانِكَ.

اللهم صَلِّ وَسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَوَفِّقنَا اللهم لِلصَّالِحَاتِ قَبلَ المَمَاتِ، وَأَرشِدنَا إِلَى استِدرَاكِ الهَفَوَاتِ قَبلَ الفَوَاتِ، وَأَلهِمنَا أَخذَ العُدَّةِ لِلوَفَاةِ قَبلَ المُوَافَاةِ، وَنَجِّنَا يَومَ العُبُورِ عَلَى الصِّرَاطِ حِينَ تَنسَكِبُ العَبَرَاتُ، وَارحَمنَا إِذَا رَحَلنَا عَن أَهلِ الحَياةِ إِلَى أَهلِ المَمَاتِ، وَنَازَلَتنَا فِي أَلحَادِنَا طوَارِقُ المُلِمَّاتِ، وَاعتَوَرَتنَا عَجَائِبُ الصِّفَاتِ فِي الكِفَاتِ، وَأَجزِل لَنَا جَزِيلَ الصِّلَاتِ عَلَى مَرفُوعِ الصَّلَوَاتِ، وَأَثِبنَا بِقَبُولِ أَعْمَالِنَا وأدخلنا فسيح الجنات، وَلَا تَخذُلنَا يَومَ انتِقَاصِ الذَّوَاتِ، إِذَا نَادَى بَينَ الأَعضَاءِ مُنادِي الشَّتَاتِ، وَاستَجِب مِنَّا صَالِحَ الدَّعَوَاتِ، وَامحُ عَنَّا خَطَأَ الخَطَوَاتِ إِلَى الخَطِيئَاتِ، وَهَب لَنَا فِي الدُّنيَا لَذَّةَ المُنَاجَاةِ، وَفِي الآخِرَةِ سُرُورَ النَّجَاةِ، وَبَلِّغنَا مَا لَم تَبلُغهُ آمَالُنَا مِنَ الخَيرَاتِ، إِذَا نَادَى المُنَادِي فِي الفَرِيقَينِ فقَطَعَ طَمَعَ أَهلِ الزَّلَّاتِ، ﴿أَم حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.

اللهم اجعَل مُعتَمَدَنَا عَلَيكَ، وَحَوَائِجَنَا إِلَيكَ، وَتَضَرُّعَنَا لَدَيكَ، وَشَكوَانَا إِلَيكَ.

اللهم أَصلِحنَا وَادفَع عَنَّا شَيَاطِينَنَا، وَاغفِر بِرَحمَتِك ذُنُوبَنَا، ونَوِّر بِفَضلِكَ قُلُوبَنَا، وَاصرِف عَنَّا شِرَارَنَا، وَاقضِ بفَضلِكَ دُيُونَنَا، وَاجمَع عَلَى الهُدَى شُؤُونَنَا، وَارحَم أَموَاتَنَا، وَوَسِّع أَرزَاقَنَا، وَطَهِّر أَخلَاقَنَا.

اللهم لَا تَدَع لَنَا ذَنبًا إِلَّا غَفَرتَهُ، وَلَا دَينًا إِلَّا قَضَيتَه، وَلَا مَيِّتًا مِنَ المُسلِمِينَ إِلَّا رَحِمتَهُ، وَلَا هَمًّا إلَّا فَرَّجتَهُ، وَلَا بَلَاءً إِلَّا كَشَفتَهُ، وَلَا عَيبًا إِلَّا سَتَرتَهُ، وَلَا سَائِلًا إِلَّا أَعطَيتَهُ، وَلَا طَالِبًا لِلخَيرِ إِلَّا أَفَدتَهُ، وَلَا عَالِمًا إِلَّا عَصَمتَهُ، وَلَا حَاسِدًا إِلَّا دَحَرتَهُ، وَلَا غَائِبًا إِلَّا رَدَدتَهُ، وَلَا مَرِيضًا إِلَّا شَفَيتَهُ، وَلَا مُحتَاجًا إِلَّا كَفَيتَهُ، وَلَا دَاعِيًا إِلَّا أَجَبتَهُ، وَلَا جَاهِلًا إلَّا هَدَيتَهُ، وَلَا عَدُوًّا إِلَّا حَصَرتَهُ، وَلَا طَرِيقًا إِلَّا أَمَّنتَهُ، وَلَا مُجتَهِدًا فِي الخَيرِ إلَّا أَعَنتَهُ، وَلَا ظَالِمًا إِلَّا رَدَّيتَهُ، وَلَا عَاصِيًا إِلَّا أَصلَحتَهُ، وَلَا طَائِعًا إِلَّا ثَبَّتَهُ، وَلَا غَافِلًا إِلَّا نَبَّهتَهُ.

اللهم وَاخصُص بِبَرَكَةِ دُعَائِنَا الوَالِدِينَ وَالمَولُودِينَ، وَالحَاضِرِينَ وَالغَائِبِينَ، وَمَا سَأَلنَاكَ مِن خَيرٍ فَأَعطِنَا، وَمَا قَصُرَت عَنهُ أَعمَالُنَا وَآمَالُنَا مِنَ الخَيرَاتِ فَبَلِّغنَا بِرَحمَتِكَ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللهم فرج عن إخواننا في فلسطين وأمدهم بمدد من عندك وأفرغ عليهم صبرا واكسُ عاريهم وأطعم جائعهم، يا رب في هذه الليلة المباركة نسألك أن تفرج عن إخواننا في رفح وفلسطين، وفرج عنهم وعليك بعدوهم عدو الدين، اللهم أرنا الأقصى محررا وارزقنا فيه صلاة فاتحين.

﴿سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرسَلِينَ * وَالحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …