المقدمة
الحَمدُ للهِ فَالِقِ النَّوَى وَالحُبُوبِ، وَخَالِقِ الصَّبَا وَالجَنُوبِ، المُنَزَّهِ عَنِ الآفَاتِ وَالعُيُوبِ، المُطَّلِعِ عَلَى خَفِيَّاتِ الغُيُوبِ، رَدَّ بَعدَ البُعدِ يُوسُفَ عَلَى يَعقُوبَ، يُبصِرُ دَبِيبَ الدَّمِ فِي العُرُوقِ وَيَسمَعُ أَخفَى أَصوَاتِ الأَورَاقِ يَصطَفِقنَ عَن هُبُوبٍ، أَرسَلَ الرِّيَاحَ اللَّوَاقِحَ تَحمِلُ السَّحَابَ عَلَى أَن يَؤوبَ، فَانفَجَرَت عُيُونُ المُزنِ فَجَدَّت كَدَمعِ الخَرِيرِ المَسكُوبِ، فَبَرَزَتِ الثِّمَارُ مِنَ الآكَامِ، تُنَادِي بِلِسَانِ الإِعلَامِ: مَا يَقدِرُ شَيءٌ مِنَ الأَصنَامِ عَلَى إِنشَاءِ أُنبُوبٍ، ﴿وَإِن يَسلُبهُمُ الذُّبَابُ شَيئًا لَا يَستَنقِذُوهُ مِنهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطلُوبُ﴾.
أَحمَدُهُ عَلَى سَترِ الخَطَايَا وَالاقتِرَافِ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي أُنزِلَ عَلَيهِ ﴿ق﴾، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ الَّذِي أُمِنَ بِبَيعَتِهِ الخِلافُ، وَعَلَى عُمَرَ صَاحِبِ العَدلِ وَالإِنصَافِ، وَعَلَى عُثمَانَ الصَّابِرِ عَلَى الشَّهَادَةِ صَبرَ النِّظَافِ، وَعَلَى عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ مَحبُوبِ أَهلِ السُّنَّةِ الأَشرَافِ. وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَمَن سَارَ عَلَى دَربِهِم السَّادَةِ الأَشرَافِ، أَمَّا بَعدُ:
أَشرَاطُ السَّاعَةِ الصُّغرَى
مِنهَا مَا وَقَعَ فِي زَمَانِهِ ﷺ وَمِن ذَلِكَ:
بِعثَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ ﷺ
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَهَل يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغتَةً فَقَد جَاءَ أَشرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُم إِذَا جَاءَتهُم ذِكرَاهُم﴾، قَالَ البَغَوِيُّ: أَي أَمَارَاتُهَا وَعَلَامَاتُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِن أَشرَاطِ السَّاعَةِ.اهـ
وَفِي البُخَارِيِّ عَن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ بِإِصبَعَيهِ هَكَذَا، بِالوُسطَى وَالَّتِي تَلِي الإِبهَامَ: «بُعِثتُ وَالسَّاعَةَ كَهَاتَينِ». قَالَ القُرطُبِيُّ: وَأَوَّلُهَا النَّبِيُّ ﷺ؛ لِأَنَّهُ نَبِيُّ آخِرِ الزَّمَانِ، وَقَد بُعِثَ وَلَيسَ بَينَهُ وَبَينَ القِيَامَةِ نَبِيٌّ.
إِذًا فَالبِعثَةُ النَّبَوِيَّةُ مِن أَشرَاطِ السَّاعَةِ، قَالَ ابنُ التِّينِ: اختُلِفَ فِي مَعنَى قَولِهِ: «بُعِثتُ وَالسَّاعَةَ كَهَاتَينِ». كَهَاتَينِ فَقِيلَ المَعنَى لَيسَ بَينَهُ وَبَينَهَا نَبِيٌّ. وَقَالَ القُرطُبِيُّ فِي المُفهِمِ: حَاصِلُ الحَدِيثِ تَقرِيبُ أَمرِ السَّاعَةِ وَسُرعَةُ مَجِيئِهَا.
وَقِيلَ مَعنَى الحَدِيثِ أَنَّهُ لَيسَ بَينِي وَبَينَ القِيَامَةِ شَيءٌ، هِيَ الَّتِي تَلِينِي كَمَا تَلِي السَّبَّابَةُ الوُسطَى.
قَالَ الضَّحَّاكُ: أَوَّلُ أَشرَاطِهَا بَعثَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَالحِكمَةُ فِي تَقَدُّمِ الأَشرَاطِ إِيقَاظُ الغَافِلِينَ وَحَثُّهُم عَلَى التَّوبَةِ وَالِاستِعدَادِ.
وَقَد جَاءَ فِي تَفسِيرِ البَغَوِيِّ لقَولِهِ تَعَالَى: ﴿أَتَى أَمرُ اللَّهِ فَلَا تَستَعجِلُوهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ﴾: ﴿أَتَى﴾ أَي جَاءَ وَدَنَا وَقَرُبَ ﴿أَمرُ اللَّهِ﴾ أي أَتَى أَمرُ اللهِ وَعدًا ﴿فَلَا تَستَعجِلُوهُ﴾ وُقُوعًا ﴿أَمرُ اللهِ﴾ المُرَادُ مِنهُ القِيَامَةُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَحمَدَ مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بُعِثتُ بِالسَّيفِ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعبَدَ اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزقِي تَحتَ ظِلِّ رُمحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَن خَالَفَ أَمرِي، وَمَن تَشَبَّهَ بِقَومٍ فَهُوَ مِنهُم».
قَولُهُ ﷺ: «بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ» يَعنِي: أَمَامَهَا، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ بُعِثَ قُدَّامَ السَّاعَةِ قَرِيبًا مِنهَا، وَمِن أَسمَائِهِ ﷺ الحَاشِرُ وَالعَاقِبُ، كَمَا صَحَّ عَنهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحمَدُ، وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمحُو اللَّهُ بِي الكُفرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ الَّذِي لَيسَ بَعدِي نَبِيّ».
أصل سبب بعثة النبي ﷺ
قَولُهُ ﷺ فِي بَيَانِ أَصلِ سَبَبِ بِعثَتِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حَتَّى يُعبَدَ اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» فَهَذَا هُوَ المَقصُودُ الأَعظَمُ مِن بِعثَتِهِ ﷺ، بَل مِن بِعثَةِ الرُّسُلِ مِن قَبلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعبُدُونِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعبُدُوا اللهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾.
بَل هَذَا هُوَ المَقصُودُ مِن خَلقِ الخَلقِ وَإِيجَادِهِم كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ﴾، فَمَا خَلَقَهُم إِلَّا لِيَأمُرَهُم بِعِبَادَتِهِ، وَأَخَذَ عَلَيهِمُ العَهدَ لَمَّا استَخرَجَهُم مِن صُلبِ آدَمَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ﴾.
وَقَد تَكَاثَرَتِ الأَحَادِيثُ المَرفُوعَةُ وَالأَخبَارُ المَوقُوفَةُ فِي تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى استَنطَقَهُم حِينَئِذٍ، فَأَقَرُّوا كُلُّهُم بِوَحدَانِيَّتِهِ، وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم وَأَشهَدَ عَلَيهِم أَبَاهُم آدَمَ وَالمَلَائِكَةَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى تَعَهَّدَهُم فِي كُلِّ زَمَانٍ بِإِرسَالِ رُسُلِهِ، وَإِنزَالِ الكُتُبِ يُذَكِّرُهُم بِالعَهدِ الأَوَّلِ، وَيُجَدِّدُ عَلَيهِمُ العَهدَ وَالمِيثَاقَ عَلَى أَن يُوَحِّدُوهُ وَيَعبُدُوهُ وَلَا يُشرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَأَشَارَ فِي خِطَابِ آدَمَ وَحَوَّاءَ عِندَ هُبُوطِهِمَا مِنَ الجَنَّةِ إِلَى هَذَا المَعنَى فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿قُلنَا اهبِطُوا مِنهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ﴾، فَمَا وَفَى بَنُو آدَمَ كُلُّهُم بِهَذَا العَهدِ المَأخُوذِ عَلَيهِم؛ بَل نَقَضَهُ أَكثَرُهُم وَأَشرَكُوا بِاللهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطَانًا، فَبَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ تُجَدِّدُ ذَلِكَ العَهدَ الأَوَّلَ وَتَدعُو إِلَى تَجدِيدِ الإِقرَارِ بِالوَحدَانِيَّةِ.
فَكَانَ نُوحٌ عَلَيهِ السَّلَامُ أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أَهلِ الأَرضِ بَعدَ ظُهُورِ الكُفرِ بَينَ البَشَرِ يَدعُوهُم إِلَى التَّوحِيدِ وَيَنهَاهُم عَنِ الشِّركِ فَإِنَّ الشِّركَ قَد فَشَا فِي الأَرضِ فِي بَنِي آدَمَ قَبلَ نُوحٍ، فَبَعَثَ اللهُ نُوحًا فِي قَومِهِ أَلفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمسِينَ عَامًا يَدعُو إِلَى اللهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا ذَكَرَهُ سُبحَانَهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَومِهِ: ﴿اعبُدُوا اللهَ واتَّقُوهُ وأَطِيعُونِ﴾ وَأَخبَرَ فِي مَوضِعٍ آخَرَ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُم: ﴿اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّن إلَهٍ غَيرُهُ﴾ فَمَا استَجَابَ لَهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنهُم، وَأَكثَرُهُم أَصَرُّوا عَلَى الشِّركِ ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُم وَلَا تَذَرُنَّ ودًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ ويَعُوق ونَسرًا﴾، فَلَمَّا أَصَرُّوا عَلَى كُفرِهِم أَغرَقَهُمُ اللهُ بِالطُّوفَانِ وَنَجَّى نُوحًا وَمَن مَعَهُ فِي الفُلكِ ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾.
ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ خَلِيلَهُ إِبرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلَامُ، فَدَعَا إِلَى تَوحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَاظَرَ عَلَى ذَلِكَ أَحسَنَ مُنَاظَرَةٍ، وَأَبطَلَ شُبَهَ المُشرِكِينَ بِالبَرَاهِينِ الوَاضِحَةِ، وَكَسَرَ أَصنَامَ قَومِهِ حَتَّى جَعَلَهُم جُذَاذًا، فَأَرَادُوا تَحرِيقَهُ فَنَجَّاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ وَجَعَلَهَا عَلَيهِ بَردًا وَسَلَامًا، وَوَهَبَ اللهُ لَهُ إِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ، فَجَعَلَ عَامَّةَ الأَنبِيَاءِ مِن ذُرِّيَّةِ إِسحَاق؛ فَإِنَّ إِسرَائِيلَ هُوَ يَعقُوبُ بنُ إِسحَاقَ، وَأَنبِيَاءُ بَنِي إِسرَائِيلَ كُلُّهُم مِن ذُرِّيَّةِ يَعقُوبَ، كَيُوسُفَ وَمُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيمَانَ عَلَيهِمُ السَّلَامُ، وَآخِرُهُمُ المَسِيحُ ابنُ مَريَمَ عَلَيهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا دَعَاهُم إِلَى التَّوحِيدِ كَمَا قَالَ: ﴿مَا قُلتُ لَهُم إِلَّا مَا أَمَرتَنِي بِهِ أَنِ اعبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُم﴾.
ثُمَّ طَبَّقَ الشِّركُ عَلَى الأَرضِ بَعدَ المَسِيحِ؛ فَإِنَّ قَومَهُ الَّذِينَ ادَّعَوُا اتِّبَاعَهُ وَالإِيمَانَ بِهِ أَشرَكُوا غَايَةَ الشِّركِ، فَجَعَلُوا المَسِيحَ هُوَ اللهُ أَوِ ابنُ اللهِ، وَجَعَلُوا اللهَ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ.
وَأَمَّا اليَهُودُ فَإِنَّهُم -وَإِن تَبَرَّؤُوا مِنَ الشِّركِ ظَاهِرًا- فَالشِّركُ فِيهِم مَوجُودٌ؛ فَإِنَّ فِيهِم مَن عَبَدَ العِجلَ فِي حَيَاةِ مُوسَى عَلَيهِ السَّلَامُ وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ اللهُ، وَإِنَّ مُوسَى نَسِيَ رَبَّهُ وَذَهَبَ يَطلُبُهُ، وَمِنهُم طَائِفَةٌ قَالُوا: العُزَيرُ ابنُ اللهِ، وَهَذَا مِن أَعظَمِ الشِّركِ.
وَأَكثَرُهُمُ اتَّخَذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَابًا مِن دُونِ اللهِ، فَأَحَلُّوا لَهُمُ الحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيهِمُ الحَلَالَ، فَأَطَاعُوهُم بِاعتِقَادِ أَنَّهُم يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ مِن دُونِ اللهِ، فَكَانَت تِلكَ عِبَادَتَهُم إِيَّاهُم؛ فَقَد جَعَلُوا التَّحرِيمَ وَالتَّحلِيلَ لِغَيرِ اللهِ.
وَأَمَّا المَجُوسُ فَشِركُهُم ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ بِإِلَهَينِ قَدِيمَينِ، أَحَدُهُمَا: نُورٌ، وَالآخَرُ: ظُلمَةٌ، فَالنُّورُ خَالِقُ الخَيرِ وَالظُّلمَةُ خَالِقَةُ الشَّرِّ عِندَهُم. وَكَانُوا يَعبُدُونَ النِّيرَانَ.
وَأَمَّا العَرَبُ وَالهِندُ وَغَيرُهُم مِنَ الأُمَمِ فَكَانُوا أَظهَرَ النَّاسِ شِركًا، يَعبُدُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً كَثِيرَةً وَيَزعُمُونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُ إِلَيهِ زُلفَى.
فَلَمَّا طَبَقَ الشِّركُ أَقطَارَ الأَرضِ، وَاستَطَارَ شَرَرُهُ فِي الآفَاقِ مِنَ المَشرِقِ إِلَى المَغرِبِ، بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالحَنِيفِيَّةِ المَحضَةِ وَالتَّوحِيدِ الخَالِصِ دِينِ إِبرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلَامُ وَأَمَرَهُ أَن يَدعُوَ الخَلقَ كُلَّهُم إِلَى تَوحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَكَانَ يَدعُو إِلَى ذَلِكَ سِرًّا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَاستَجَابَ لَهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أُمِرَ بِإِعلَانِ الدَّعوَةِ وَإِظهَارِهَا، وَقِيلَ لَهُ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ﴾، فَدَعَا إِلَى اللهِ وَإِلَى تَوحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ جَهرًا، وَأَعلَنَ الدَّعوَةَ، وَذَمَّ الأَصنَامَ الَّتِي تُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ، وَذَمَّ مَن عَبَدَهَا وَأَخبَرَ أَنَّهُ مِن أَهلِ النَّارِ.
فَثَارَ عَلَيهِ المُشرِكُونَ، وَاجتَهَدُوا فِي إِيصَالِ الأَذَى إِلَيهِ وَإِلَى أَتبَاعِهِ، وَفِي إِطفَاءِ نُورِ الحَقِّ الَّذِي بَعَثَهُ رَبُّهُ بِهِ، وَهُوَ لَا يَزدَادُ إِلَّا إِعلَانًا بِالدَّعوَةِ وتَصمِيمًا عَلَى إِظهَارِهَا وَإِشهَارِهَا وَالنِّدَاءِ بِهَا فِي مَجَامِعِ النَّاسِ، وَكَانَ يَخرُجُ بِنَفسِهِ فِي مَوَاسِمِ اجتماع الناس إِلَى مَن يَقدُمُ إِلَى مَكَّةَ مِن قَبَائِلِ العَرَبِ، فَيَعرِضُ نَفسَهُ عَلَيهِم، وَيَدعُوهُم إِلَى التَّوحِيدِ، وَهُم لَا يَستَجِيبُونَ لَهُ، بَل يَرُدُّونَ عَلَيهِ قَولَهُ وَيُسمِعُونَهُ مَا يَكرَهُ.
وَبَقِيَ عَشرَ سِنِينَ عَلَى ذَلِكَ يَقُولُ: «مَن يَمنَعُنِي [أَي يَحمِينِي مِن أَذَاهُم وَيُدَافِعُ عَنِّي] حَتَّى أُؤَدِّيَ رِسَالَاتِ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيشًا مَنَعُونِي أَن أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي»، وَكَانَ يَشُقُّ أَسوَاقَهُم فِي المَوَاسِمِ وَهُم مُزدَحِمُونَ بِهَا، يُنَادِي يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفلِحُوا»، وَوَرَاءَهُ أَبُو لَهَبٍ يُؤذِيهِ وَيَرُدُّ عَلَيهِ وَيَنهَى النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِهِ.
وَاجتَمَعَ المُشرِكُونَ مَرَّةً عِندَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ يَشكُونَهُ إِلَيهِ وَيَقُولُونَ: شَتَمَ آلِهَتَنَا وَسَفَّهَ أَحلَامَنَا وَسَبَّ آبَاءَنَا، فَمُرهُ فَليَكُفَّ عَن آلِهَتِنَا. فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَجِبْ قَومَكَ فِيمَا سَأَلُوا. فَقَالَ: «أَنَا أَدعُوهُم إِلَى خَيرٍ مِن ذَلِكَ: أَن يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُم بِهَا العَرَبُ وَيَملِكُونَ بِهَا العَجَمَ» فَقَالَ أَبُو جَهلٍ: نُعطِيكَهَا وَعَشرَ أَمثَالِهَا. فَقَالَ ﷺ: «تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ». فَنَفَرُوا عِندَ ذَلِكَ وَتَفَرَّقُوا وَهُم يَقُولُونَ: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ﴾ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ ﷺ قَالَ لِعَمِّهِ: «يَا عَمِّ، لَو وَضَعُوا الشَّمسَ عَن يَمِينِي وَالقَمَرَ عَن يَسَارِي عَلَى أَن أَترُكَ هَذَا الأَمرَ حَتَّى يُظهِرَهُ اللهُ أَو أَهلِكَ فِي طَلَبِهِ مَا تَرَكتُهُ».
وَقَالَ ﷺ: «لَقَد أُخِفتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَد أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤذَى أَحَدٌ، وَلَقَد أَتَت عَلَيَّ ثَلَاثُونَ -مِن يَومٍ وَلَيلَةٍ- وَمَا لِي طَعَامٌ يَأكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيءٌ يُوَارِيهِ إِبطُ بِلَالٍ». وَفِي رِوَايَةٍ عَنهُ ﷺ قَالَ: «مَا أُوذِيَ أَحَدٌ فِي اللهِ مَا أُوذِيتُ». كَانَ العَدُوُّ يَجهَدُ لَهُ فِي نَيلِ الأَذَى وَالعَدَاءِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا تُوُفِّيَ وَتُوُفِّيَت بَعدَهُ خَدِيجَةُ اشتَدَّ المُشرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى اضطَرُّوهُ أَن خَرَجَ مِن مَكَّةَ إِلَى الطَّائِفِ، فَدَعَاهُم إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَلَم يُجِيبُوهُ وَقَابَلُوهُ بِغَايَةِ الأَذَى، وَأَمَرُوهُ بِالخُرُوجِ مِن أَرضِهِم، وَأَغرَوا بِهِ سُفَهَاءَهُم، فَاصطَفُّوا لَهُ صَفَّينِ وَجَعَلُوا يَرمُونَهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى أَدمَوهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَمَعَهُ مَولَاهُ زَيدُ بنُ حَارِثَةَ، وَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى تَوحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ.
وَكَانَ يَقِفُ بِالمَوَاسِمِ عَلَى القَبَائِلِ فَيَقُولُ لَهُم قَبِيلَةً قَبِيلَةً: «يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم، يأمُرُكُم أَن تَعبُدُوه وَلَا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا» وَلَا يَقبَلُونَ مِنهُ، وَأَبُو لَهَبٍ خَلفَهُ يَقُولُ: لَا تُطِيعُوهُ. وَكَانَ ﷺ يُنَادِي: «مَن يُؤوِينِي؟ مَن يَنصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الجَنَّةُ؟» فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ حَتَّى بَعَثَ اللهُ لَهُ الأَنصَارَ مِنَ المَدِينَةِ فَبَايَعُوهُ.
هَذَا، وَهُوَ صَابِرٌ عَلَى الدَّعوَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذَا الوَجهِ، رَاضٍ بِقَضَاءِ اللهِ، مُنشَرِحُ الصَّدرِ بِذَلِكَ، غَيرُ مُتَضَجِّرٍ مِنهُ وَلَا جَزِعٍ. كَانَ إِذَا اشتَكَى أَحَدٌ مِن أَصحَابِهِ شَيئًا يَقُولُ: «إِنِّي عَبدُ اللهِ وَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي».
وَفِي الصَّحِيحِ عَن عَائِشَةَ قَالَت: قُلتُ، يَا رَسُولَ اللهِ، هَل مِن يَومٍ كَانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: «لَقَد لَقِيتُ مِن قَومِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنهُم يَومَ العَقَبَةِ، إِذ عَرَضتُ نَفسِي عَلَى ابنِ عَبدِ يَالِيلَ بنِ عَبدِ كُلَالٍ، [من أكبر أهل الطائف من ثقيف]. فَلَم يُجِبنِي إِلَى مَا أَرَدتُ، فَانطَلَقتُ وَأَنَا مَهمُومٌ عَلَى وَجهِي، فَلَم أَستَفِق إِلَّا وَأَنَا بِقَرنِ الثَّعَالِبِ، [فهو الذي يقال له أيضا قرن المنازل جبل معروف بين مكة والطائف وهو أقرب إلى الطائف وبه الآن قرية يحرم منها أهل نجد ومن في جهتهم]. فَرَفَعتُ رَأسِي وَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَد أَظَلَّتنِي، فَنَظَرتُ فَإِذَا فِيهَا جِبرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَد سَمِعَ قَولَ قَومِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيكَ، وَقَد بَعَثَ لَكَ مَلَكَ الجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ قَد سَمِعَ قَولَ قَومِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ، وَقَد بَعَثَنِي إِلَيكَ لِتَأمُرَنِي بِأَمرِكَ وَمَا شِئتَ، إِن شِئتَ أَن أُطبِقَ عَلَيهِمُ الأَخشَبَينِ»، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بَل أَرجُو أَنَّ اللهَ يُخرِجُ مِن أَصلَابِهِم مَن يَعبُدُه ولَا يُشرِكُ بِهِ شَيئًا».
فمَقصُودُ النَّبِيِّ ﷺ أَن يُعبَدَ اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَا يُبَالِي -إِذَا حَصَلَ ذَلِكَ- مَا أَصَابَهُ فِي الدَّعوَةِ، إِذَا وُحِّدَ مَعبُودُهُ حَصَلَ مَقصُودُهُ، إِذَا عُبِدَ مَحبُوبُهُ حَصَلَ مَطلُوبُهُ، إِذَا ذُكِرَ رَبُّهُ رَضِيَ قَلبُهُ، وَأَمَّا جِسمُهُ فَلَا يُبَالِي لَو أَصَابَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا يُؤلِمُهُ أَو مَا يُلَائِمُهُ.
وَكَانَ كُلَّمَا آذَاهُ الأَعدَاءُ إِذَا دَعَاهُم إِلَى مَولَاهُم رَجَعَ إِلَى مَولَاهُ، وَاشتَغَلَ بِمُنَاجَاتِهِ وَذِكرِهِ وَدُعَائِهِ، فَنَسِيَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ مِنَ الأَلَمِ مِن أَجلِهِ، وَقَد أَمَرَهُ اللهُ بِذَلِكَ فِي القُرآنِ فقال له: ﴿وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُن مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ﴾. وَكَانَ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمرٌ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَكَانَ يَقُولُ: «جُعِلَت قُرَّةُ عَينِي فِي الصَّلَاةِ».
فَلَم يَزَل ﷺ يَدعُو إِلَى اللهِ وَإِلَى تَوحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللهِ وَعَلَا ذِكرُهُ وَتَوحِيدُهُ فِي المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ، وَصَارَت كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا، وَدِينُهُ هُوَ الظَّاهِرَ، وَتَوحِيدُهُ هُوَ الشَّائِعَ، وَصَارَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ، وَالطَّاعَةُ كُلُّهَا لَهُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفوَاجًا. فَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى قُربِ أَجَلِهِ وَأُمِرَ حِينَئِذٍ بِالتَّهَيُّؤِ لِلِقَاءِ اللهِ وَالنُّقلَةِ إِلَى دَارِ البَقَاءِ. وَكَأَنَّ المَعنَى أَنَّهُ قَد حَصَلَ المَقصُودُ مِن إِرسَالِكَ، وَظَهَرَ تَوحِيدِي فِي أَقطَارِ الأَرضِ، وَزَالَ مِنهَا ظَلَامُ الشِّركِ، وَحَصَلَت عِبَادَتِي وَحدِي لَا شَرِيكَ لِي، وَصَارَ الدِّينُ كُلُّهُ لِي، فَأَنَا أَنقُلُكَ لِدَارٍ خَيرٍ مِن هَذِهِ الدَّارِ لِأَجزِيَكَ أَعظَمَ الجَزَاءِ ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوفَ يُعطِيكَ رَبُّكَ فَتَرضَى﴾.
وهذه صِفَتُهُ ﷺ فِي التَّورَاةِ كَمَا رَوَى البُخَارِيُّ: «وَلَن أَقبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوجَاءَ بِأَن يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَفتَحَ بِهِ أَعيُنًا عُميًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلفًا».
وَكَانَ ﷺ إِنَّمَا يُقَاتِلُ عَلَى دُخُولِ النَّاسِ فِي التَّوحِيدِ كَمَا قَالَ: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلَّا بِحَقِّ الإِسلَامِ». وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً لِلغَزوِ يُوصِي أَمِيرَهُم بِأَن يَدعُوَ عَدُوَّهُ عِندَ لِقَائِهِ لِلتَّوحِيدِ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ أَن يَدعُوَهُم إِلَى شَهَادَةِ التَّوحِيدِ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ لِقِتَالِ أَهلِ خَيبَرَ. وَرَوَى ابنُ حَجَرٍ عَنهُ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَعَثَ بَعثًا قَالَ: «تَأَلَّفُوا النَّاسَ وَتَأَنَّوا بِهِم، وَلَا تُغِيرُوا عَلَيهِم حَتَّى تَدعُوهُم، فَمَا عَلَى الأَرضِ مِن أَهلِ بَيتِ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ. [مَدَر: أي طين، والمراد أهل القرى والمدن. وبر: شعر وصوف، والمراد أهل البادية والصحراء]. إلَّا وَأَن تَأتُونِي بِهِم مُسلِمَينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن أَن تَقتُلُوا رِجَالَهُم وَتَأتُونِي بِنِسَائِهِم».
فَبِعثَتُهُ ﷺ وَإِرسَالُهُ كَانَ فِيهِ خَيرٌ لِلنَّاسِ فَهَنِيئًا لِمَن تَبِعَهُ وَتَعسًا لِمَن خَالَفَ أَمرَهُ وَغَيَّرَ طَرِيقَتَهُ ﷺ.
تَكلِيمُ السِّبَاعِ وَالجَمَادِ لِلإِنسِ، وَإِخبَارُ فَخِذِ الرَّجُلِ بِمَا يُحدِثُ أَهلُهُ بَعدَهُ، وَكَلَامُ النَّعلِ وَالسَّوطِ لِصَاحِبِهِمَا
وَالسِّبَاعُ مُفرَدُهَا سَبُعٌ وَهُوَ مَا يَفتَرِسُ الحَيَوَانَ وَيَأكُلُهُ قَهرًا وَقَسرًا، كَالأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئبِ وَنَحوِهَا.
رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلَاةَ الصُّبحِ ثُمَّ أَقبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «بَينَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَت: إِنَّا لَم نُخلَق لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقنَا لِلحَرثِ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبحَانَ اللهِ، بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ»، فَقَالَ: «فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكرٍ وَعُمَرُ، وَبَينَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذ عَدَا الذِّئبُ فَذَهَبَ مِنهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ استَنقَذَهَا مِنهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئبُ: هَذَا استَنقَذتَهَا مِنِّي، فَمَن لَهَا يَومَ السَّبُعِ يَومَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيرِي، فَقَالَ النَّاسُ: سُبحَانَ اللهِ، ذِئبٌ يَتَكَلَّمُ»، قَالَ: «فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكرٍ وَعُمَرُ» وَمَا هُمَا ثَمَّ [أَي لَم يَكُونَا حَاضِرَينِ].
وَرَوَى الإِمَامُ أَحمَدُ عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ قَالَ: عَدَا الذِّئبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي، فَانتَزَعَهَا مِنهُ، فَأَقعَى الذِّئبُ عَلَى ذَنَبِهِ [أَي أَلصَقَ أَليَيهِ بِالأَرضِ وَنَصَبَ سَاقَيهِ وَاعتَمَدَ عَلَى ذَنَبِهِ أَي جَعَلَهُ بَينَ رِجلَيهِ كَمَا يَفعَلُ الكَلبُ] فَقَالَ: أَلَّا تَتَّقِيَ اللهَ؟ تَنزِعُ مِنِّي رِزقًا سَاقَهُ اللهُ إِلَيَّ؟! فَقَالَ: يَا عَجَبًا! ذِئبٌ مُقعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الإِنسِ؟! فَقَالَ الذِّئبُ: أَلَّا أُخبِرَكَ بِأَعجَبَ مِن ذَلِكَ؟ مُحَمَّدٌ ﷺ بِيَثرِبَ يُخبِرُ النَّاسَ بِأَنبَاءِ مَا قَد سَبَقَ. قَالَ: فَأَقبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِن زَوَايَاهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخبَرَهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي: «أَخبِرهُم». فَأَخبَرَهُم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «صَدَقَ، وَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الإِنسَ، وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوطِهِ، وَشِرَاكُ نَعلِهِ، وَيُخبِرَهُ فَخذُهُ بِمَا أَحدَثَ أَهلُهُ بَعدَهُ». [وعذبة السوط طرفه التي في رأسه، فتكلم صاحبها بكلام يفهمه].
قَالَ الحَافِظُ ابنُ عَدِيٍّ: قَالَ لَنَا أَبُو بَكرِ بنُ أَبِي دَاوُدَ: وَلَدُ هَذَا الرَّاعِي يُقَالُ لَهُم: بَنُو مُكَلِّمِ الذِّئبِ، وَلَهُم أَموَالٌ وَنَعَمٌ، وَهُم مِن خُزَاعَةَ، وَاسمُ مُكَلِّمِ الذِّئبِ أُهبَانُ، قَالَ: وَمُحَمَّدُ بنُ أَشعَثَ الخُزَاعِيُّ مِن وَلَدِهِ، قَالَ البَيهَقِيُّ: فَدَلَّ عَلَى اشتِهَارِ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي الحَدِيثَ.
وَمِن كَلَامِ السِّبَاعِ أَيضًا مَا رَوَى البَيهَقِيُّ أَنَّ سَفِينَةَ مَولَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَخطَأَ الجَيشَ بِأَرضِ الرُّومِ أَو أُسِرَ فِي أَرضِ الرُّومِ، فَانطَلَقَ هَارِبًا يَلتَمِسُ الجَيشَ، فَإِذَا هُوَ بِالأَسَدِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الحَارِثِ! إِنِّي مَولَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَانَ مِن أَمرِي كَيتَ وَكَيتَ، فَأَقبَلَ الأَسَدُ يُبَصبِصُهُ [ينظر إليه وهو مطأطئ رأسه]، حَتَّى قَامَ إِلَى جَنبِهِ كُلَّمَا سَمِعَ صَوتًا أَهوَى إِلَيهِ، ثُمَّ أَقبَلَ يَمشِي إِلَى جَنبِهِ، فَلَم يَزَل كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ الجَيشَ، ثُمَّ رَجَعَ الأَسَدُ.
وَرَوَى ابنُ عَسَاكِرَ عَن مُحَمَّدِ بنِ جَعفَرَ بنِ خَالِدٍ الدِّمَشقِيِّ، قَالَ رَافِعُ بنُ عُمَيرٍ الطَّائِيُّ: كَلَّمَهُ الذِّئبُ وَهُوَ فِي ضَأنٍ لَهُ يَرعَاهَا، فَدَعَاهُ الذِّئبُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَمَرَهُ بِاللُّحُوقِ بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَلَهُ شِعرٌ قَالَهُ فِي ذَلِكَ يَرحَمُهُ اللهُ تَعَالَى:
دَعَيتُ الضَّأنَ أَجمَعُهَا بِكَلبِي … مِنَ اللِّصِّ الخَفِيِّ وَكُلِّ ذِيبِ
فَلَمَّا أَن سَمِعتُ الذِّئبَ نَادَى … يُبَشِّرُنِي بِأَحمَدَ مِن قَرِيبِ
سَعَيتُ إِلَيهِ قَد شَمَّرتُ ثَوبِي … عَلَى السَّاقَينِ فِي الوَفدِ الرَّكِيبِ
فَأَلفَيتُ النَّبِيَّ يَقُولُ قَولًا … صَدُوقًا لَيسَ بِالقَولِ الكَذُوبِ
فَبَشَّرَنِي بِدِينِ الحَقِّ حَتَّى … تَبَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ لِلمُنِيبِ
وَأَبصَرتُ الضِّيَاءَ يُضِيءُ حَولِي … أَمَامِي إِن سَعَيتُ وَعَن جَنُوبِي
أَلَا بَلِّغ بَنِي عَمرِو بنِ عَوفٍ … وَأَخبِرهُم جَدِيدًا أَن أَجِيبِي
دُعَاءَ المُصطَفَى لَا شَكَّ فِيهِ … فَإِنَّكِ إِن أَجَبتِ فَلَنْ تَخِيبِي
قَالَ القُرطُبِيُّ: وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ مَا يَرُدُّ عَلَى كَفَرَةِ الأَطِبَّاءِ وَالزَّنَادِقَةِ وَالمُلحِدِينَ، وَأَنَّ الكَلَامَ لَيسَ مُرتَبِطًا بِالهَيئَةِ، وَإِنَّمَا البَارِئُ جَلَّت قُدرَتُهُ يَخلُقُهُ مَتَى شَاءَ فِي أَيِّ شَيءٍ شَاءَ مِن جَمَادٍ أَو حَيَوَانٍ عَلَى مَا قَدَّرَهُ الخَالِقُ الرَّحمَنُ، فَقَد كَانَ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ يُسَلِّمَانِ عَلَيهِ ﷺ تَسلِيمَ مَن نَطَقَ وَتَكَلَّمَ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي غَيرِ مَا حَدِيثٍ، وَهُوَ قَولُ أَهلِ أُصُولِ الدِّينِ فِي القَدِيمِ وَالحَدِيثِ.
مِن أَشرَاطِ السَّاعَةِ الَّتِي حَصَلَت فِي زَمَانِهِ ﷺ
انشِقَاقُ القَمَرِ
أَعطَى اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ انشِقَاقَ القَمَرِ بِإِشَارَتِهِ إِلَيهِ فِرقَتَينِ، فَهِيَ مِن أَعظَمِ مُعجِزَاتِهِ ﷺ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اقتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ وَإِن يَرَوا آيَةً يُعرِضُوا وَيَقُولُوا سِحرٌ مُستَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهواءَهُم وَكُلُّ أَمرٍ مُستَقِرٌّ، وَلَقَد جاءَهُم مِنَ الأَنباءِ مَا فِيهِ مُزدَجَرٌ، حِكمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغنِ النُّذُرُ﴾ وَقَدِ اتَّفَقَ العُلَمَّاءُ مَعَ بَقِيَّةِ الأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ انشِقَاقَ القَمَرِ كَانَ فِي عَهدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَد وَرَدَتِ الأَحَادِيثُ بِذَلِكَ مِن طُرُقٍ عديدة عِندَ الأُمَّةِ.
﴿اقتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ﴾ أَي وَقَعَ انشِقَاقُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَولُ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بَعدَ ذَلِكَ بِآيَةٍ: ﴿وَإِن يَرَوا آيَةً يُعرِضُوا وَيَقُولُوا سِحرٌ مُستَمِرٌّ﴾، فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ المُرَادَ وُقُوعُ انشِقَاقِهِ، لِأَنَّ الكُفَّارَ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ يَومَ القِيَامَةِ، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَولَهُم ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنيَا يَتَبَيَّنُ وُقُوعُ الِانشِقَاقِ وَأَنَّهُ المُرَادُ بِالآيَةِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا سِحرٌ.
قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ «خَمسٌ قد مَضَيْنَ»، يعني: ظَهَرْنَ في الزَّمانِ الماضي؛ أوَّلُها الدُّخَانُ، ويقصِدُ بذلك قولَه تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾، [الدخان:10]، وهو ما حدَثَ لِكفَّارِ قُريْشٍ بِسببِ القَحطِ.
والعَلامةُ الثَّانيةُ: القَمرُ، يَقْصِدُ: انْشقاقَه، وقد ورد في قَولِ اللهِ تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾، [القمر:1]، والعلامةُ الثَّالثةُ: الرُّومُ، يعني: انتصارَ الرُّومِ على الفُرْسِ، وهو المقصودُ في قولِه تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾، [الروم:2- 3]، والعَلامةُ الرَّابعةُ: البطْشَةُ، وهي القَتلُ الَّذي حلَّ بِالمشركينَ يومَ بدرٍ، والعلامةُ الخامِسةُ: اللِّزامُ المذكورُ في قَولِه تعالَى: ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾، [الفرقان:77]، وهو الأَسْرُ والهَلَكةُ اللَّذانِ حلَّا بِقريشٍ في بَدْرٍ أيضًا، وقيل: هو القَحْطُ.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا: اجتَمَعَ المُشرِكُونَ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنهُمُ الوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ وَأَبُو جَهلٍ هِشَامٌ وَالعَاصُ بنُ وَائِلٍ وَالأَسوَدُ بنُ عَبدِ يَغُوثَ وَالأَسوَدُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ وَالنَّضرُ بنُ الحَارِثِ وَنُظَرَاؤُهُم فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ أَن يُرِيَهُم آيَةً، وَقَالُوا: إِن كُنتَ صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا القَمَرَ فِرقَتَينِ نِصفًا عَلَى أَبِي قُبَيسٍ وَنِصفًا عَلَى قُعَيقِعَانَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «اشهَدُوا» فَنَظَرَ الكُفَّارُ ثُمَّ مَالُوا بِأَبصَارِهِم فَمَحَوهَا، ثُمَّ أَعَادُوا النَّظَرَ فَنَظَرُوا، ثُمَّ مَسَحُوا أَعيُنَهُم، ثُمَّ نَظَرُوا، فَقَالُوا: سَحَرَ مُحَمَّدٌ أَعيُنَنَا، فَقَالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ: لَئِن كَانَ سَحَرَنَا فَإِنَّهُ لَا يَستَطِيعُ أَن يَسحَرَ النَّاسَ كُلَّهُم، فَانظُرُوا إِلَى السُّفَّارِ، فَإِن أَخبَرُوكُم أَنَّهُم رَأَوا مِثلَ مَا رَأَيتُم، فَقَد صَدَقَ فَكَانُوا يَلتَقُونَ الرَّكبَ فَيُخبِرُونَهُم أَنَّهُم رَأَوا مِثلَ مَا رَأَوا فَيُكَذِّبُونَهُم، فَأَنزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اقتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾.اهـ وَلَم يَنشَقَّ القَمَرُ لِأَحَدٍ غَيرِ نَبِيِّنَا ﷺ. قَالَ أَنَسٌ: فَأَرَاهُمُ انشِقَاقَ القَمَرِ بِمَكَّةَ مَرَّتَينِ.
قَالَ ابنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا قَالَ انشَقَّ القَمَرُ بِمَكَّةَ يَعنِي أَنَّ الِانشِقَاقَ كَانَ وَهُم بِمَكَّةَ قَبلَ أَن يُهَاجِرُوا إِلَى المَدِينَةِ.
وَقَالَ ابنُ حَجَرٍ: وَقَد أَنكَرَ جُمهُورُ الفَلَاسِفَةِ انشِقَاقَ القَمَرِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الآيَاتِ العُلوِيَّةَ لَا يَتَهَيَّأُ فِيهَا الِانخِرَاقُ وَالِالتِئَامُ، وَكَذَا قَالُوا فِي فَتحِ أَبوَابِ السَّمَاءِ لَيلَةَ الإِسرَاءِ إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِن إِنكَارِهِم مَا يَكُونُ يَومَ القِيَامَةِ مِن تَكوِيرِ الشَّمسِ وَغَيرِ ذَلِكَ، وَجَوَابُ هَؤُلَاءِ أَن يُنَاظَرُوا أَوَّلًا عَلَى ثُبُوتِ دِينِ الإِسلَامِ ثُمَّ يُشرَكُوا مَعَ غَيرِهِم مِمَّن أَنكَرَ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو إِسحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي المَعَانِي: أَنكَرَ بَعضُ المُبتَدِعَةِ المُوَافِقِينَ لِمُخَالِفِي المِلَّةِ انشِقَاقَ القَمَرِ، وَلَا إِنكَارَ لِلعَقلِ فِيهِ، لِأَنَّ القَمَرَ مَخلُوقٌ للهِ يَفعَلُ فِيهِ مَا يَشَاءُ كَمَا يُكَوِّرُهُ يَومَ البَعثِ وَيُفنِيهِ.
وَأَمَّا قَولُ بَعضِهِم: لَو وَقَعَ لَجَاءَ مُتَوَاتِرًا وَاشتَرَكَ أَهلُ الأَرضِ فِي مَعرِفَتِهِ وَلَمَا اختَصَّ بِهَا أَهلُ مَكَّةَ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَيلًا وَأَكثَرُ النَّاسِ نِيَامٌ، وَقَلَّ مَن يُرَاصِدُ السَّمَاءَ إِلَّا النَّادِرُ، وكَذَلِكَ الِانشِقَاقُ كَانَ آيَةً وَقَعَت لِقَومٍ سَأَلُوا وَاقتَرَحُوا فَلَم يَتَأَهَّب غَيرُهُم لَهَا.
عَلَى أَنَّهُ قَد ذَكَرَ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ المُسَافِرِينَ أَنَّهُم شَاهَدُوا هَيكَلًا بِالهِندِ مَكتُوبًا عَلَيهِ أَنَّهُ بُنِيَ فِي اللَّيلَةِ الَّتِي انشَقَّ القَمَرُ فِيهَا، ثُمَّ لَمَّا كَانَ انشِقَاقُ القَمَرِ لَيلًا قَد يَخفَى أَمرُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لِأُمُورٍ مَانِعَةٍ مِن مُشَاهَدَتِهِ فِي تِلكَ السَّاعَةِ، مِن غُيُومٍ مُتَرَاكِمَةٍ كَانَت تِلكَ اللَّيلَةَ فِي بُلدَانِهِم، وَلِنَومِ كَثِيرٍ مِنهُم.
وَمَا يَذكُرُهُ بَعضُ القُصَّاصِ مِن أَنَّ القَمَرَ دَخَلَ فِي جَيبِ النَّبِيِّ ﷺ وَخَرَجَ مِنَ كُمِّهِ وَنَحوَ هَذَا الكَلَامِ فَلَيسَ لَهُ أَصلٌ يُعتَمَدُ عَلَيهِ.
السؤال الفقهي
امرَأَةٌ نَامَت وَهِيَ حَائِضٌ وَاستَيقَظَت بَعدَ الفَجرِ فِي رَمَضَانَ وَدَمُ الحَيضِ مُنقَطِعٌ فَمَا الحُكمُ؟
الجَوَابُ: لَا تَصُومُ ذَلِكَ اليَومَ، لَا يَكُونُ صَومُهُ أَي صَومُ ذَلِكَ اليَومِ مُجزِئًا، لَكِن احتِيَاطًا تَكُفُّ عَنِ الأَكلِ، وَإِن أَكَلَت كَانَ جَائِزًا.
مختارات من الأدعية والأذكار
ما يقول عند الخروج من البيت
عَن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِن بَيتِهِ قَالَ: «اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن أَن أَزِلَّ، أَو أَضِلَّ، أَو أَظلِمَ، أَو أُظلَمَ، أَو أَجهَلَ، أَو يُجهَلَ عَلَيَّ»، رَوَاهُ البَيهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ.
الدعاء الختامي
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِي رَسُولِ اللهِ
اللهم إِنَّا نَسأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمدَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ وَحدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ الحَنَّانُ المَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ يَا ذَا الجَلَالِ وَالإِكرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. اللهم إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لَا يَنفَعُ وَقَلبٍ لَا يَخشَعُ وَدُعَاءٍ لَا يُسمَعُ وَنَفسٍ لَا تَشبَعُ وَنعُوذُ بِكَ مِنَ الجُوعِ فَإِنَّهُ بِئسَ الضَّجِيعُ وَمِنَ الخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئسَتِ البِطَانَةُ وَمِنَ الكَسَلِ وَالبُخلِ وَالجُبنِ وَالهَرَمِ وَمِن أَن نُرَدَّ إِلَى أَرذَلِ العُمُرِ وَمِن فِتنَةِ الدَّجَّالِ وَعَذَابِ القَبرِ وَمِن فِتنَةِ المَحيَا وَالمَمَاتِ.
اللهم إِنَّا نَسأَلُكَ قُلُوبًا أَوَّاهَةً مُخبِتَةً مُنِيبَةً فِي سَبِيلِكَ، اللهم إِنَّا نَسأَلُكَ عَزَائِمَ مَغفِرَتِكَ وَمُوجِبَاتِ رَحمَتِكَ وَالسَّلَامَةَ مِن كُلِّ إِثمٍ وَالغَنِيمَةَ مِن كُلِّ بِرٍّ وَالفَوزَ بِالجَنَّةِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الغَمِّ وَالغَرَقِ وَالهَدمِ وَنَعُوذُ بِكَ مِن أَن نَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدبِرِينَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِن أَن نَمُوتَ فِي طَلَبِ الدُّنيَا..
اللهم إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ القَسوَةِ وَالغَفلَةِ وَالعِيلَةِ وَالذِّلَّةِ وَالمَسكَنَةِ وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الكُفرِ وَالفُسُوقِ وَالشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَالسُّمعَةِ وَالرِّيَاءِ وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الصَّمَمِ وَالبَكَمِ وَالجُنُونِ وَالجُذَامِ وَالبَرَصِ وَسَيِّئِ الأَسقَامِ اللهم إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن زَوَالِ نِعمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَمِن فَجأَةِ نِقمَتِكَ وَمِن جَمِيعِ سَخَطِكَ
اللهم اجعَلنَا مِن عُتَقَاءِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَمِنَ المَقبُولِينَ يَا أَكرَمَ الأَكرَمِينَ، اللهم أَعتِقنَا فِيهِ مِنَ النِّيرَانِ يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ، اللهم أَرِنَا لَيلَةَ القَدرِ المُبَارَكَةَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ وَارزُقنَا فِيهَا دَعوَةً مُجَابَةً بِجَاهِ سَيِّدِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَا اللهُ. اللهم ارزُقنَا حُسنَ الخِتَامِ وَالمَوتَ عَلَى دِينِكَ دِينِ الإِسلَامِ وَرُؤيَةَ سَيِّدِ الأَنَامِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
اللهم انصُر أَهلَ غَزَّةَ وَفِلَسطِينَ.
اللهم إِنَّا نَستَودِعُكَ غَزَّةَ وَبَيتَ المَقدِسِ وَأَهلَ القُدسِ وَكُلَّ فِلَسطِينَ. اللهم ارزُق أَهلَ فِلَسطِينَ الثَّبَاتَ وَالنَّصرَ وَالتَّمكِينَ، وَبَارِك فِي إِيمَانِهِم وَصَبرِهِم. اللهم إِنَّا نَسأَلُكَ بِاسمِكَ القَهَّارِ أَن تَقهَرَ مَن قَهَرَ إِخوَانَنَا فِي فِلَسطِينَ، وَنَسأَلُكَ بِاسمِكَ الجَبَّارِ أَن تَجبُرَ إِخوَانَنَا فِي فِلَسطِينَ، وَنَسأَلُكَ أَن تَنصُرَهُم عَلَى القَومِ المُجرِمِينَ. اللهم ارفَعِ الحِصَارَ عَن غَزَّةَ وَانصُر أَهلَهَا عَلَى الظُّلمِ وَالعُدوَانِ. اللهم مُنزِلَ الكِتَابِ وَمُجرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحزَابِ اهزِمهُم وَانصُرنَا عَلَيهِم، اللهم أَنزِل عَلَيهِم بَأسَكَ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ القَومِ المُجرِمِينَ، اللهم زَلزِل أَقدَامَهُم وَنَكِّس أَعلَامَهُم وَأَذهِب رِيحَهُم اللهم آمِينَ.
اللهم استَخدِمنَا وَلَا تَستَبدِلنَا،
اللهم إِنَّا دَعَونَاكَ فَاستَجِب لَنَا دُعَاءَنَا وَاغفِرِ اللهم لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا وَارزُق كُلَّ مَن حَضَرَ وَاستَمَعَ لِلدَّرسِ سُؤلَهُ مِنَ الخَيرِ.
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ وَسَلِّم تَسلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَومِ الدِّينِ.
وَآخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ