أشراط الساعة (١٥) | تقارب الزمان وفساد الأحوال وكثرة أعوان الظلمة

المقدمة

الحَمدُ للَّهِ الَّذِي نَصَبَ مِن كُلِّ كَائِنٍ عَلَى وَحدَانِيَّتِهِ بُرهَانًا، وَتَصَرَّفَ فِي خَلقِهِ كَمَا شَاءَ عِزًّا وَسُلطَانًا، وَاختَارَ المُتَّقِينَ فَوَهَبَ لَهُم بِنِعمَتِهِ عِلمًا وَإِيمَانًا، وَلَم يَقطَع أَرزَاقَ أَهلِ المَعصِيَةِ جُودًا وَامتِنَانًا، وَأَكرَمَ المُؤمِنَ إِذ كَتَبَ الإِيمَانَ فِي قَلبِهِ، وَدَعَا المُذنِبَ إِلَى تَوبَةٍ لِغُفرَانِ ذَنبِهِ، جَعَلَ الشَّمسَ سِرَاجًا وَالقَمَرَ نُورًا بَينَ شَرقِهِ وَغَربِهِ.

لَيسَ بِجِسمٍ فَيُشبِهَ الأَجسَامَ، وَلا بِمُتَجَوِّفٍ فَيَحتَاجَ إِلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، وَلا تَحدُثُ لَهُ صِفَةٌ فَيَتَطَرَّقَ عَلَيهَا انعِدَامٌ، نَصِفُهُ بما وصَفَ نَفسَه مِن غَيرِ كَيفٍ.. وَالسَّلَامُ، أَرسَلَ الأَنبِيَاءَ بِدِينِ الإِسلَامِ، فَآمَنَ الصَّالِحُونَ وَكَفَرَ اللِّئَامُ، فَأَثَابَ اللَّهُ المُؤمِنَ وَعَاقبَ الجَاحِدَ المُشَبِّهَ.

أَحمَدُهُ حَمدَ عَبدٍ مُعتَرف بذَنبِهِ، وَأُقِرُّ بِتَوحِيدِهِ إِقرَارَ مُخلِصٍ مِن قَلبِهِ، وَأُصَلِّي وأُسَلِم عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَءالِهِ وَصَحبِهِ، أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ ضَجِيعِهِ فِي تُربِهِ، وَعُمَرَ الَّذِي لا يَسِيرُ الشَّيطَانُ فِي سَربِهِ، وَعُثمَانَ الشَّهِيدِ لَا فِي صَفِّ حَربِهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ مُعِينِهِ وَمُغِيثِهِ فِي كَربِهِ، اللَّهُمَّ أَصلِح كُلًّا مِنَّا بِإِصلَاحِ قَلبِهِ، وَأَنعِم عَلَيهِ بِغُفرَانِ ذَنبِهِ، وَانفَعنِي وَكُلَّ مستَمِعٍ بِجَسَدِهِ وَلُبِّهِ، ءَامِين، أَمَّا بَعدُ:

مِن عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الَّتِي أَخبَرَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ وَحَصَلَت بَعدَ زَمَانِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

تقارب الزمان
رَوَى البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ عَن ‏أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:‏ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى..» وَذَكَرَ مِنهَا: «يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ».اهـ وَفِي التِّرمِذِيِّ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرفُوعًا: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهرِ، وَالشَّهرُ كَالجُمعَةِ وَالجُمعَةُ كَاليَومِ، وَيَكُونَ اليَومُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحتِرَاقِ السَّعَفَةِ».اهـ

قَالَ ابنُ الأَثِيرِ: السَّعَفَاتُ جَمعُ سَعَفَةٍ بِالتَّحرِيكِ، وَهِيَ أغصانُ النَّخِيلِ. وَقِيلَ إِذَا يَبِسَت سُمِّيَت سَعَفَةً.

وَفِي رِوَايَةٍ عِندَ التِّرمِذِيِّ عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهرِ، وَيَكُونُ اليَومُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونُ السَّاعَةُ ‌كَالضَّرمَةِ بِالنَّارِ».اهـ أَي: مِثلَهَا فِي سُرعَةِ ابتِدَائِهَا وَانقِضَائِهَا، وَالضَّرمَةُ بِفَتحِ المُعجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ غُصنُ النَّخلِ.اهـ

وَقَالَ ابنُ حَجَرٍ: المُرَادُ نَزعُ البَرَكَةِ مِن كُلِّ شَيءٍ حَتَّى مِنَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ مِن عَلَامَاتِ قُربِ السَّاعَةِ.

وقَالَ النَّوَوِيُّ: المُرَادُ بِقِصَرِهِ عَدَمُ البَرَكَةِ فِيهِ وَأَنَّ اليَومَ مَثَلًا يَصِيرُ الِانتِفَاعُ بِهِ بِقَدرِ الِانتِفَاعِ بِالسَّاعَةِ الوَاحِدَةِ.اهـ

وَقَالَ ابنُ أَبِي جَمرَةَ: وَالوَاقِعُ أَنَّ البَرَكَةَ فِي الزَّمَانِ وَفِي الرِّزقِ وَفِي النَّبتِ إِنَّمَا يَكُونُ مِن طَرِيقِ قُوَّةِ الإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الأَمرِ وَاجتِنَابِ النَّهيِ، وَالشَّاهِدُ لِذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ﴾.اهـ

اللهُ تَعَالَى خَالِقُ الزَّمَانِ وَهُوَ سُبحَانَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيفَ يَشَاءُ، يَجعَلُ البَرَكَةَ فِي الوَقتِ القَلِيلِ لِبَعضِ الأَشخَاصِ فَيَصِيرُ هَذَا القَلِيلُ كَثِيرًا، وَيَنزِعُ البَرَكَةَ مِنَ الكَثِيرِ فَيَصِيرُ هَذَا الكَثِيرُ قَلِيلًا، وَمِن أَمثِلَةِ هَذَا الكَثِيرِ: أَبُو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَدرَكَ مِن حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ نَحوًا مِن ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ أَكثَرَ الصَّحَابَةِ رِوَايَةً لِلحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، رَوَى عَنهُ أَكثَرَ مِن خَمسَةِ آلَافِ حَدِيثٍ.

وَأَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَت مُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَتَينِ وَشَيئًا قَلِيلًا وَمَعَ ذَلِكَ أَقَامَ أَمرَ الإِسلَامِ وَأَمرَ النَّاس بَعدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَد أَرجَعَ جَزِيرَةَ العَرَبِ لِلحَقِّ وَلِدِينِ الإِسلَامِ بَعدَ أَن أَطبَقَ الكُفرُ وَالرِّدَّةُ عَلَى أَغلَبِهَا، وَأَرسَلَ الجُيُوشَ لِفَتحِ العِرَاقِ وَالشَّامِ، فَمَا أَعظَمَ بَرَكَتَهُ عَلَى المُسلِمِينَ.

وَكَذَلِكَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ كَمَا تَكَلَّمنَا فِي شَيءٍ مِن سِيرَتِهِ، مَحَا الفَقرَ مِن كُلِّ بِلَادِ المُسلِمِينَ، لَم يَكُن فَقِيرٌ فِي كُلِّ تِلكَ البِلَادِ مِن حُدُودِ الصِّينِ شَرقًا إِلَى أَقصَى الأَندَلُسِ غَربًا إِلَّا هُوَ وَأَهلُهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَعُمُرُهُ تِسعَةٌ وَثَلَاثُونَ عَامًا وَخِلَافَتُهُ كَانَت قَرِيبًا مِن سَنَتَينِ فَقَط، كَم أَصلَحَ مِنَ الفَسَادِ وَرَفَعَ المَكسَ عَنِ النَّاسِ وَسَدَّ الحَاجَاتِ وَأَرسَلَ الجُيُوشَ وَأَقَامَ أَمرَ المُسلِمِينَ، هَذَا الرَّجُلُ جَعَلَ اللهُ لَهُ فِي عُمُرِهِ القَصِيرِ وَخِلَافَتِهِ القَلِيلَةِ بَرَكَةً عَظِيمَةً، فَاللهُ تَعَالَى يُبَارِكُ بِمَا يَشَاءُ سُبحَانَهُ.

وَالإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَ عُمُرُهُ أَربَعًا وَخَمسِينَ سَنَةً وَمَعَ ذَلِكَ نَشَرَ عِلمًا عَظِيمًا وَكَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ فِي بِلَادِ الإِسلَامِ يَعبُدُونَ اللهَ بِنَاءً عَلَى اجتِهَادَاتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مِنَ القَرنِ الثَّانِي الهِجرِيِّ إِلَى يَومِنَا هَذَا. بَعضُ النَّاسِ يَجعَلُ اللهُ لَهُمُ البَرَكَةَ فِي الأَعمَارِ وَالأَوقَاتِ، وَبَعضُ النَّاسِ يَنزِعُ اللهُ البَرَكَةَ مِن أَعمَارِهِم وَأَوقَاتِهِم.

يَروِي أَهلُ التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ أَنَّهُ قَبلَ بَدءِ مَعرَكَةِ اليَرمُوكِ بَينَ المُسلِمِينَ وَالرُّومِ، خَرَجَ أَحَدُ الأُمَرَاءِ الكِبَارِ مِنَ الصَّفِّ مِن جَيشِ الرُّومِ وَيُسَمَّى “جَرَجَةَ” وَطَلَبَ مُقَابَلَةَ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ قَائِدِ المُسلِمِينَ، فَجَاءَ إِلَيهِ حَتَّى اختَلَفَت أَعنَاقُ فَرَسَيهِمَا (وَالمُرَادُ تَقَارَبَا كَثِيرًا) فَقَالَ لَهُ جَرَجَةُ: يَا خَالِدُ، أَخبِرنِي فَاصدُقنِي وَلَا تَكذِبنِي، فَإِنَّ ‌الحُرَّ ‌لَا ‌يَكذِبُ، وَلَا تُخَادِعنِي، فَإِنَّ الكَرِيمَ لَا يُخَادِعُ المُستَرشِدَ، هَل أَنزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّكُم سَيفًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَعطَاكَ إِيَّاهُ فَلَا تَسُلُّهُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا هَزَمتَهُ؟ قَالَ خَالِدٌ: لَا. فقَالَ جَرَجَةُ: فَبِمَ سُمِّيتَ سَيفَ اللهِ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ فِينَا نَبِيَّهُ ﷺ، فَدَعَانَا فَنَفَرنَا مِنهُ وَنَأَينَا عَنهُ جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّ بَعضَنَا صَدَّقَهُ وَتَابَعَهُ، وَبَعضَنَا كَذَّبَهُ وَبَاعَدَهُ، فَكُنتُ فِيمَن كَذَّبَهُ وَبَاعَدَهُ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَخَذَ بِقُلُوبِنَا وَنَوَاصِينَا فَهَدَانَا بِهِ وَبَايَعنَاهُ، فَقَالَ لِي: «أَنتَ سَيفٌ مِن سُيُوفِ اللهِ سَلَّهُ اللهُ عَلَى المُشرِكِينَ» وَدَعَا لِي بِالنَّصرِ، فَسُمِّيتُ سَيفَ اللهِ بِذَلِكَ، فَأَنَا مِن أَشَدِّ المُسلِمِينَ عَلَى المُشرِكِينَ. قَالَ جَرَجَةُ: يَا خَالِدُ، إِلَامَ تَدعُونَ؟ فَقَالَ خَالِدٌ: إِلَى شَهَادَةِ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالإِقرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِن عِندِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ جَرَجَةُ: فَمَن لَم يُجِبكُم؟ قَالَ خَالِدٌ: فَالجِزيَةُ. قَالَ جَرَجَةُ: فَإِن لَم يُعطِهَا؟ قَالَ خَالِدٌ: نُؤذِنُهُ بِالحَربِ ثُمَّ نُقَاتِلُهُ، ثُمَّ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّا دَخَلنَا فِي هَذَا الأَمرِ وَبَايَعنَا نَبِيَّنَا ﷺ وَهُوَ حَيٌّ بَينَ أَظهُرِنَا تَأتِيهِ أَخبَارُ السَّمَاءِ (أَيِ الوَحيُ)، وَيُخبِرُنَا بِالكُتُبِ وَيُرِينَا الآيَاتِ، وَحُقَّ لِمَن رَأَى مَا رَأَينَا وَسَمِعَ مَا سَمِعنَا أَن يُسلِمَ وَيُبَايِعَ، وَإِنَّكُم أَنتُم لَم تَرَوا مَا رَأَينَا وَلَم تَسمَعُوا مَا سَمِعنَا مِنَ العَجَائِبِ وَالحُجَجِ، فَمَن دَخَلَ فِي هَذَا الأَمرِ مِنكُم بِحَقِيقَةٍ وَنِيَّةٍ كَانَ لَهُ مَنزِلَةٌ فِي الإِسلَامِ. فَقَالَ جَرَجَةُ: بِاللهِ لَقَد صَدَقتَنِي وَلَم تُخَادِعنِي؟ فَقَالَ خَالِدٌ: بِاللهِ لَقَد صَدَقتُكَ، وَإِنَّ اللَّهَ وَلِيُّ مَا سَأَلتَ عَنهُ.

فَعِندَ ذَلِكَ قَلَبَ جَرَجَةُ التُّرسَ (دِلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مَا عَادَ يُعَادِيهِ وَيُحَارِبُهُ) وَمَالَ مَعَ خَالِدٍ (أَي صَارَ فِي صَفِّ المُسلِمِينَ)، فَأَسلَمَ بِالنُّطقِ بِالشَّهَادَتَينِ وَقَالَ: عَلِّمنِي الإِسلَامَ. فَمَالَ بِهِ خَالِدٌ إِلَى فُسطَاطِهِ (أَي أَخَذَهُ إِلَى المَكَانِ الخَاصِّ بِهِ)، فَشَنَّ عَلَيهِ قِربَةً مِن مَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى بِهِ رَكعَتَينِ. فَلَمَّا عَرَفَ الرُّومُ مَا فَعَلَ جَرَجَةُ اغتَاظُوا وَهَاجَمُوا المُسلِمِينَ، فَخَرَجَ خَالِدٌ وَجَرَجَةُ إِلَى قِتَالِهِم، فَقَاتَلَ جَرَجَةُ مَعَ المُسلِمِينَ ضِدَّ قَومِهِ فِي هَذِهِ المَعرَكَةِ طُولَ النَّهَارِ، وَاستَشهَدَ فِيهَا وَلَم يُصَلِّ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا الرَّكعَتَينِ اللَّتَينِ صَلَّاهُمَا مَعَ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.اهـ

وَكَذَلِكَ كَانَ مُخَيرِيقُ حَبرًا عَالِمًا، وَكَانَ رَجُلًا غَنِيًّا كَثِيرَ الأَموَالِ مِنَ النَّخلِ، وَكَانَ يَعرِفُ رَسُولَ الله ﷺ بِصِفَتِهِ وَمَا يَجِدُ فِي عِلمِهِ، وَغَلَبَ عَلَيهِ إِلفُ دِينِهِ، فَلَم يَزَل عَلَى ذَلِكَ حَتَّى إذَا كَانَ يَومُ معركةِ أُحُدٍ وَكَانَ يَومُ أُحُدٍ يَومَ السّبتِ، قَالَ: يَا مَعشَرَ يَهُودَ، وَالله إِنَّكُم لَتَعلَمُونَ أَنّ نَصرَ مُحَمَّدٍ عَلَيكُم لَحَقٌّ، قَالُوا: إِنَّ اليَومَ يَومُ السَّبتِ، قَالَ: لَا سَبتَ لَكُم، ثُمّ أَخَذَ سِلَاحَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ بِأُحُدٍ وَأَسلَمَ، وَعَهِدَ إلَى مَن وَرَاءَهُ مِن قَومِهِ: إِن قُتِلتُ هَذَا اليَومَ فَأَموَالِي لِمُحَمَّدٍ ﷺ يَصنَعُ فِيهَا مَا أَرَاهُ اللهُ، فَلَمَّا اقتَتَلَ النَّاسُ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَقَبَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَموَالَهُ، فَعَامَّةُ صَدَقَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالمَدِينَةِ مِنهَا.اهـ

وَبِالمُقَابِلِ شَدَّادُ بنُ عَادٍ عَاشَ الَّذِي عَاشَ فِي الأُمَمِ السَّابِقَةِ، عَاشَ تِسعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَفِرعَونُ عَاشَ أَربَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَغَيرُهُمَا كَذَلِكَ كَانُوا كُفَّارًا لَا يُذكَرُونَ إِلَّا بِالسُّوءِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، فَالبَرَكَةُ يَجعَلُهَا اللهُ فِيمَا شَاءَ وَفِيمَن شَاءَ وَيَنزِعُهَا مِمَّا شَاءَ وَمِمَّن شَاءَ سُبحَانَهُ.

مِن عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الَّتِي أَخبَرَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ وَحَصَلَت بَعدَ زَمَانِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

فساد أحوال الناس أكثر مع مرور الزمان
رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الزُّبَيرِ بنِ عَدِيٍّ قَالَ: أَتَينَا أَنَسَ بنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَشَكَونَا إِلَيهِ مَا نَلقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: «اِصبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ حَتَّى تَلقَوا رَبَّكُم» سَمِعتُهُ مِن نَبِيِّكُم ﷺ. وَعِندَ الطَّبَرَانِيِّ: «لَيسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «أَمسِ خَيرٌ مِنَ اليَومِ، وَاليَومَ خَيرٌ مِن غَدٍ، وَكَذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».

وَأَخرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: «مَا مِن عَامٍ إِلَّا وَيُحِدِثُ النَّاسُ بِدعَةً وَيُمِيتُونَ سُنَّةً، حَتَّى تُمَاتُ السُّنَنُ وَتَحيَا البِدَعُ»، فَهَذَا الحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ المُرَادَ بِالشَّرِّ مَوتُ السُّنَنِ وَإِحيَاءُ البِدَعِ المُخَالِفَةِ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَينِ الأَمرَينِ فِي كُلِّ زَمَنٍ.

وَرُوِيَ عَن مَسرُوقٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَا يَأتِي عَلَيكُم زَمَانٌ إِلَّا وَهُوَ أَشَرُّ مِمَّا كَانَ قَبلَهُ، أَمَا إِنِّي لَا أَعنِي أَمِيرًا خَيرًا مِن أَمِيرٍ، وَلَا عَامًا خَيرًا مِن عَامٍ، وَلَكِن عُلَمَاؤُكُم وَفُقَهَاؤُكُم يَذهَبُونَ ثُمَّ لَا تَجِدُونَ مِنهُم خَلَفًا، وَيَجِيءُ قَومٌ يُفتُونَ بِرَأيِهِم فَيَثلِمُونَ الإِسلَامَ وَيَهدِمُونَهُ».

شَكَوا إِلَى أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَسَادَ مَا يَلقَونَهُ مِنَ الحَجَّاجِ: أَيِ ابنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ الأَمِيرِ المَشهُورِ، وَالمُرَادُ شَكوَاهُم مَا يَلقَونَ مِن ظُلمِهِ لَهُم وَتَعَدِّيهِ.

وَعَن مَالِكِ بنِ دِينَارٍ قَالَ: إِنَّ الحَجَّاجَ عُقُوبَةٌ سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيكُم، فَلَا تَستَقبِلُوا عُقُوبَةَ اللهِ بِالسَّيفِ، وَلَكِنِ استَقبِلُوهَا بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ. وَقَالَ هِشَامُ بنُ حَسَّانٍ: أَحصُوا مَا قَتَلَ الحَجَّاجُ صَبرًا فَبَلَغَ مِائَةَ أَلفٍ وَعِشرِينَ أَلفًا. وَقَالَ عَبَّادُ بنُ كَثِيرٍ: أَطلَقَ سُلَيمَانُ بنُ عَبدِ المَلِكِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ وَاحِدًا وَثَمَانِينَ أَلفَ أَسِيرٍ، وَعُرِضَتِ السُّجُونُ بَعدَ مَوتِ الحَجَّاجِ فَوَجَدُوا فِيهَا ثَلاثَةً وَثَلاثِينَ أَلفًا لَم يَجِب عَلَى أَحَدٍ مِنهُم حدٌّ.

وَقَولُهُ: «لَا يَأتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ»: هَذَا صَرِيحٌ فِي انتِشَارِ الفَسَادِ بَينَ النَّاسِ وَالبُعدِ عَن دِينِ اللهِ وَالشَّرِيعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ مَعَ مُرُورِ الزَّمَانِ، وَهَذَا لَيسَ مَعنَاهُ عَلَى الإِطلَاقِ وَإِنَّمَا مَعنَاهُ بِالغَالِبِ هَكَذَا.

وَإِنَّ النَّاظِرَ إِلَى التَّارِيخِ الإِسلَامِيِّ لَيَعلَمُ حَقِّيَّةَ تَحَقُّقِ هَذَا الأَمرِ بِتَمَامِهِ وَتَفَاصِيلِهِ، فَلَو أَرَدتَ ذِكرَ الفِتَنِ الَّتِي حَصَلَت وَاستِقرَاءَ الأَحوَالِ فِي بِلَادِ المُسلِمِينَ عُمُومًا لَعَلِمنَا مِصدَاقِيَّةَ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، وَلَزَادَ يَقِينُنَا بَعدَ ذَلِكَ بِقَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى﴾، فَمِن بَعدِ وَفَاتِهِ ﷺ بَدَأَت فِتنَةُ أَدعِيَاءِ النُّبُوَّةِ، وَارتَدَّ أَكثَرُ العَرَبِ، وَانتَشَرَ الضَّلَالُ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ، فَتَصَدَّى لِهَذِهِ المَفَاسِدِ رَأسُ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ وَأَفضَلُهُم أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَأَرضَاهُ، فَعَادَ الأَمرُ لِمَسَارِهِ الَّذِي يَرضَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ بَدَأَتِ الفِتَنُ بَعدَ استِشهَادِ الفَارُوقِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وَأَدَّت إِلَى قَتلِ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ ذِي النُّورَينِ عُثمَانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَانفَتَحَ بَابُ الفِتَنِ وَحَصَلَتِ الحُرُوبُ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَقصِدُ مَعرَكَةَ الجَمَلِ وَصِفِّينَ وَالنَّهرَوَانِ، ثُمَّ اجتَمَعَ النَّاسُ فِي عَامِ الجَمَاعَةِ عَامَ أَربَعِينَ لِلهِجرَةِ، وَحَصَلَ عَلَى رَأسِ السِّتِّينِ لِلهِجرَةِ قَتلُ الحُسَينِ وَآلِ البَيتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وَوَقعَةُ الحَرَّةِ، ثُمَّ صَارَتِ الخِلَافَةُ لِعَبدِ المَلِكِ وأَوَلَادِهِ بَعدَ مَقتَلِ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَعَن أَبِيهِ، وَأَعمَلَ الحَجَّاجُ السَّيفَ بِالمُسلِمِينَ حَتَّى كَثُرَ القَتلُ فِيهِم فِي زَمَنِ عَبدِ المَلِكِ وَالوَلِيدِ ابنِهِ، حَتَّى مَاتَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ الوَلِيدِ.

وَفِي أَثنَاءِ هَذِهِ المُدَّةِ وَصَلَت جُيُوشُ الفَتحِ إِلَى أَقصَى بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهرِ إِلَى بُخَارَى وَمَا بَعدَهَا وَإِلَى بِلَادِ الهِندِ وَالسِّندِ شَرقًا وَإِلَى أَقصَى بِلَادِ الغَربِ إِلَى الأَندَلُسِ غَربًا، حَتَّى فَتَحَ تِلكَ البِلَادَ مُوسَى بنُ نُصَيرٍ وَطَارِقُ بنُ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى.

وَفِي أَثنَاءِ القَرنِ الأَوَّلِ ظَهَرَتِ الفِتَنُ فِي العَقَائِدِ بَينَ النَّاسِ، فَبَرَزَتِ المُعتَزِلَةُ وَالمُجَسِّمَةُ وَالجَهمِيَّةُ وَالخَوَارِجُ، وَفِرَقُ الرَّوَافِضِ: مِن إِسمَاعِيلِيَّةٍ وَغَيرِهِم، وَتَصَدَّى لَهُم عُلَمَاءُ أَهلِ السُّنَّةِ وَأُمَرَاؤُهُم، وَعَلَى رَأسِ المِائَةِ الأُولَى أَصلَحَ النَّاسَ الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ سَيِّدُنَا عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَأَعَادَهَا كَمَا كَانَت فِي زَمَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الأَربَعَةِ قَبلَهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وَرَجَعَتِ المَفَاسِدُ بَعدَهُ رَحِمَهُ اللهُ فَتَوَلَّى بَعضُ الخُلَفَاءِ، وَانقَضَت خِلَافَةُ بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى جَاءَ بَنُو العَبَّاسِ أَبنَاءِ عَلِيِّ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ العَبَّاسِ، فَأَكثَرُوا القَتلَ فِي النَّاسِ وَأَعمَلُوا فِيهِمُ السَّيفَ بِقِيَادَةِ أَحَدِ قَادَتِهِم وَهُوَ أَبُو مُسلِمٍ الخُرَسَانِيُّ، وَهُوَ كَالحَجَّاجِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ، فَأَكثَرَ القَتلَ وَأَفنَى كُلَّ أُمَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَولَادَهُم وَنِسَائَهُم وَأَتبَاعَهُم حَتَّى أَسقَطَ الخِلَافَةَ الأُمَوِيَّةَ بَعدَ قِيَامِهَا نَحوًا مِن تِسعِينَ سَنَةً.

ثُمَّ تَوَالَتِ الخُلَفَاءُ حَتَّى جَاءَ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا مُجَاهِدًا، وَتَوَلَّى بَعدَهُ ابنُهُ مُحَمَّدُ الأَمِينُ وَعَبدُ اللهِ المَأمُونُ، وَقَتَلَ المَأمُونُ أَخَاهُ الأَمِينَ وَصَارَ خَلِيفَةً بَعدَهُ، وَنَشَرَ القَولَ بِخَلقِ القُرآنِ، وَأَمَرَ بِامتِحَانِ عُلَمَاءِ أَهلِ السُّنَّةِ، وَأَصَابَتهُ دَعوَةُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَحمَدَ بنِ حَنبَلٍ فَمَاتَ مِن فَورِهِ، وَأَكمَلَ بَعدَهُ أَخُوهُ المُعتَصِمُ فَسَجَنَ أَحمَدَ بنَ حَنبَلٍ وَجَلَدَهُ ثَلَاثِينَ شَهرًا، وَأَكمَلَ بَعدَهُ ابنُهُ الوَاثِقُ فَقُتِلَ أَحمَدُ بنُ نَصرٍ الخُزَاعِيُّ بِيَدِهِ لِقَولِ الوَاثِقِ بِقَولِ المُعتَزِلَةِ، وَجَاءَ بَعدَهُ المُتَوَكِّلُ فَأَوقَفَ القَولَ بِمَقَالَاتِ المُعتَزِلَةِ بَعدَ أَن كَثُرَ المَفَاسِدُ وَالبِدَعُ، وَأَحيَا مَذهَبَ أَهلِ السُّنَّةِ، وَحَارَبَ أَهلَ الرَّفضِ.

وَكَثُرَتُ الفِتَنُ بَينَ عُلَمَاءِ أَهلِ السُّنَّةِ وَأَهلِ البِدَعِ وَالفَسَادِ، وَمِنهَا مَا حَصَلَ مَعَ الإِمَامِ البُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ مَعَ بَعضِ المُجَسِّمَةِ مِن نَاحِيَةٍ وَبَعضِ المُعتَزِلَةِ مِن نَاحِيَةٍ أُخرَى، حَتَّى ضَاقَت بِهِ الأَرضُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، حَتَّى نُقِلَ عَنهُ أَنَّهُ ضَجِرَ مِن كَثرَةِ الفِتَنِ لَيلَةً فَدَعَا بَعدَ أَن فَرَغَ مِن صَلَاةِ اللَّيلِ: «اللَّهُمَّ قَد ضَاقَت عَلَيَّ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت فَاقبِضنِي إِلَيكَ» فَمَاتَ لَيلَةَ عِيدِ الفِطرِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمسِينَ وَمِائَتَينِ عَنِ اثنَتَينِ وَسِتِّينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

وَفِي حُدُودِ سَنَةِ مِائَتَينِ وَثَمَانِينَ ظَهَرَ أَبُو سَعِيدٍ ‌الجَنَّابِيُّ رَأسُ القَرَامِطَةِ قَبَّحَهُمُ اللهُ وَلَعَنَهُم، وَهُم أَحَدُ فُرُوعِ الإِسمَاعِيلِيَّةِ، وَتَغَلَّبَ أَبُو سَعِيدٍ ‌الجَنَّابِيُّ وَمَن مَعَهُ مِنَ القَرَامِطَةِ عَلَى هَجَرَ وَمَا حَولَهَا مِنَ البِلَادِ، وَأَكثَرُوا فِي الأَرضِ الفَسَادَ. فَبَعضُهُم يَعتَقِدُ بِأُلُوهِيَّةِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَبَعضُهُم يَقُولُونَ بِحُلُولِ اللهِ بِهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ بَل وَفِي كُلِّ مَخلُوقَاتِهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ مِن هَذَا الضَّلَالِ، حَتَّى استَفحَلَ أَمرُهُم سَنَةَ سَبعَ عَشرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فخَرَجُوا عَلَى الحَجِيجِ فِي جَمَاعَتِهِم يَومَ التَّروِيَةِ، فَانتَهَبُوا أَموَالَهُم، وَاستَبَاحُوا قِتَالَهُم، فَقَتَلُوا النَّاسَ فِي رِحَابِ مَكَّةَ وَشِعَابِهَا حَتَّى فِي المَسجِدِ الحَرَامِ وَفِي جَوفِ الكَعبَةِ، وَجَلَسَ أَمِيرُهُم أَبُو طَاهِرٍ سُلَيمَانُ بنُ أَبِي سَعِيدٍ الجَنَّابِيُّ – لَعَنَهُ اللَّهُ – عَلَى بَابِ الكَعبَةِ وَالرِّجَالُ تُصرَعُ حَولَهُ فِي المَسجِدِ الحَرَامِ فِي الشَّهرِ الحَرَامِ، ثُمَّ فِي يَومِ التَّروِيَةِ الَّذِي هُوَ مِن أَشرَفِ الأَيَّامِ، وَهُوَ يَقُولُ:

أَنَا بِاللهِ وَبِاللهِ أَنَا … يَخلُقُ الخَلقَ وَأُفنِيهِم أَنَا

فَكَانَ النَّاسُ يَفِرُّونَ فَيَتَعَلَّقُونَ بِأَستَارِ الكَعبَةِ فَلَا يُجدِي ذَلِكَ عَنهُم شَيئًا، بَل يُقتَلُونَ وَهُم كَذَلِكَ، وَيَطُوفُونَ فَيُقتَلُونَ فِي الطَّوَافِ، ثُمَّ أَمَرَ القِرمِطِيُّ لَعَنَهُ اللهُ أَن تُدفَنَ القَتلَى بِبِئرِ زَمزَمَ، وَدَفَنَ كَثِيرًا مِنهُم فِي أَمَاكِنِهِم وَحَتَّى فِي المَسجِدِ الحَرَامِ، وَلَم يُغَسَّلُوا وَلَم يُكَفَّنُوا وَلَم يُصَلَّ عَلَيهِم، وَهَدَمَ قُبَّةَ زَمزَمَ، وَأَمَرَ بِقَلعِ بَابِ الكَعبَةِ، وَنَزَعَ كِسوَتَهَا عَنهَا ثُمَّ أَمَرَ بِأَن يُقلَعَ الحَجَرُ الأَسوَدُ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَضَرَبَ الحَجَرَ بِمُثَقَّلٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: أَينَ الطَّيرُ الأَبَابِيلُ؟ أَينَ الحِجَارَةُ مِن سِجِّيلٍ؟ ثُمَّ قَلَعَ الحَجَرَ الأَسوَدَ – شَرَّفَهُ اللهُ وَكَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ – وَأَخَذُوهُ مَعَهُم حِينَ رَاحُوا إِلَى بِلَادِهِم، فَكَانَ عِندَهُم ثِنتَينِ وَعِشرِينَ سَنَةً حَتَّى رَدُّوهُ، وَلَمَّا رَجَعَ القِرمِطِيُّ إِلَى بِلَادِهِ تَبِعَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ هُوَ وَأَهلُ بَيتِهِ وَجُندُهُ، وَسَأَلَهُ وَتَشَفَّعَ إِلَيهِ فِي أَن يَرُدَّ الحَجَرَ لِيُوضَعَ فِي مَكَانِهِ، وَبَذَلَ لَهُ جَمِيعَ مَا عِندَهُ مِنَ الأَموَالِ، فَلَم يَفعَل -لَعَنَهُ اللهُ-، فَقَاتَلَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ فَقَتَلَهُ القِرمِطِيُّ وَقَتَلَ أَكثَرَ أَهلِهِ وَجُندِهِ، وَاستَمَرَّ ذَاهِبًا إِلَى بِلَادِهِ وَمَعَهُ الحَجَرُ الأَسوَدُ وَأَموَالُ الحَجِيجِ.

وَبَعدَ ذَلِكَ استَفحَلَ شَرَرُ بَعضِ هَذِهِ الفِرَقِ فِي بِلَادِ المَغرِبِ عَلَى يَدِ المَدعُوِّ عُبَيدِ اللهِ المَهدِيِّ، وَأُسِّسَ مَا يُسَمَّى بِالدَّولَةِ العُبَيدِيَّةِ الفَاطِمِيَّةِ، حَتَّى كَانَ بَعضُ هَؤُلَاءِ يَقتُلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فِي دِمَشقَ فِي المَسَاجِدِ، بَل زَادَ بَعضُ هَذِهِ الفِرَقِ فِي الشُّرُورِ حَتَّى كَانُوا يَغتَصِبُونَ النِّسَاءَ فِي المَسَاجِدِ أَمَامَ أَزوَاجِهِم وَيَقتُلُونَهُم بَعدَ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُم -لَعَنَهُمُ اللهُ-: لَو نَازَعَنَا صَاحِبُ القَبرِ الحُكمَ لَضَرَبنَا خَيشُومَهُ بِالسَّيفِ (يَقصِدُ رَسُولَ اللهِ ﷺ)، وَالعِيَاذُ بِاللهِ مِن هَذَا الضَّلَالِ وَالكُفرِ وَالفَسَادِ. وَأَنَا هُنَا أَتَكَلَّمُ لِغَايَةِ القَرنِ الثَّالِثِ الهِجرِيِّ وَلَم أُكمِل.

أَحبَابِي إِنَّ كُلَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرتُ هُوَ سَردٌ قَلِيلٌ لِبَعضِ الفِتَنِ الَّتِي حَصَلَت قَبلَ زَمَانِنَا هَذَا بِأَلفِ عَامٍ، وَفِي الثَّلَاثِمِائَةِ الأُولَى مِنَ التَّارِيخِ الإِسلَامِيِّ وَلَم أُكثِر مِنَ التَّفصِيلِ إِلَّا فِي شَيءٍ قَلِيلٍ مِنهَا، وَلَولَا الإِطَالَةُ لَسَرَدتُ الفِتَنَ مِن ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى أَن أَصِلَ لِزَمَنِنَا هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الحَالَ فِي ذَلِكَ الوَقتِ فَمَاذَا تَتَوَقَّعُونَ فِي أَزمَانِنَا هَذِهِ مِنَ المَفَاسِدِ الَّتِي تَجرِي بَينَ النَّاسِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «اِصبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ ﷺ: «لَا ‌يَزدَادُ ‌الأَمرُ ‌إِلَّا ‌شِدَّةً، وَلَا الدُّنيَا إِلَّا إِدبَارًا، وَلَا النَّاسُ إِلَّا شُحًّا».

فَمَن عَرَفَ هَذَا وَغَيرَهُ يَنبَغِي أَن يَتَمَسَّكَ بِالأَصلِ وَيَثبُتَ عَلَى السُّنَّةِ وَفِي صَفِّ أَهلِ السُّنَّةِ، وَلَا يَتَزَعزَعَ بِأَوَّلِ فِتنَةٍ تَصِلُ أَو تَقَعُ حَولَهُ، بَلِ الَّذِي يَنبَغِي هُوَ الثَّبَاتُ الثَّبَاتُ، وَالعَمَلُ عَلَى نُصرَةِ دِينِ اللهِ بِالنَّفسِ وَالمَالِ وَالوَقتِ وَالفِكرِ، وَأَيُّ شَيءٍ يُقَوِّي نَشرَ العِلمِ الشَّرعِيِّ بَينَ النَّاسِ يَنبَغِي أَن نُقَوِّيَهُ وَنَسعَى لِنَشرِهِ، لِأَنَّهُ بِكَثرَةِ عِلمِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَقِلُّ أَهلُ البِدَعِ وَالضَّلَالِ وَتَقِلُّ هَذِهِ الفِرَقُ الفَاسِدَةُ، وَيَقِلُّ الفَسَادُ بَينَ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الفِرَقَ الفَاسِدَةَ وَهَذِهِ الفِتَنَ إِذَا كَثُرَت فِي المُجتَمَعَاتِ الإِسلَامِيَّةِ تَكثُرُ الشُّرُورُ مِن تَقتِيلٍ وَتَكفِيرٍ بِغَيرِ حَقٍّ وَإِيذَاءٍ لِلبِلَادِ وَالعِبَادِ، وَأَمَّا إِذَا انتَشَرَ مَذهَبُ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فَإِنَّ كُلَّ هَذِهِ الشُّرُورَ تَقِلُّ، وَتَنتَشِرُ المَفَاهِيمُ الإِسلَامِيَّةُ المُعتَدِلَةُ الصَّافِيَةُ النَّقِيَّةُ الَّتِي تَدعُو إِلَى مَحَاسِنِ الأَخلَاقِ، وَعَدَمِ إِيذَاءِ المُسلِمِ بِغَيرِ حَقٍّ وَلَو بِنَظرَةٍ، وَعَدَمِ أَخذِ مَالِهِ بِغَيرِ حَقٍّ وَتَدعُو إِلَى أَن يَحتَرِمَ المُسلِمُ الصَّغِيرُ الكَبِيرَ، وَيَبَرَّ الوَلَدُ وَالِدَيهِ، وَيَصِلَ رَحِمَهُ، وَتَدعُو إِلَى التَّكَافُلِ الِاجتِمَاعِيِّ، فَهَذَا الحَقُّ الَّذِي يَنبَغِي أَن يَسرِيَ فِي مُجتَمَعَاتِ المُسلِمِينَ وَلَيسَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَن قَتلِ المُسلِمِينَ وَإِيذَائِهِم وَأَخذِ أَموَالِهِم وَتَكفِيرِهِم وَالعِيَاذُ بِاللهِ.

مِن عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الَّتِي أَخبَرَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ وَحَصَلَت بَعدَ زَمَانِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

يكثر الشح بين الناس وينتشر
رَوَى البُخَارِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «‌يَتَقَارَبُ ‌الزَّمَانُ، ‌وَيَنقُصُ العَمَلُ، وَيُلقَى الشُّحُّ، وَيَكثُرُ الهَرجُ»، قَالُوا: وَمَا الهَرجُ؟ قَالَ: «القَتلُ القَتلُ».اهـ

قَالَ ابنُ حَجَرٍ: وَأَمَّا قَولُهُ: «وَيُلقَى الشُّحُّ» فَالمُرَادُ إِلقَاؤُهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ عَلَى اختِلَافِ أَحوَالِهِم، حَتَّى يَبخَلَ العَالِمُ بِعِلمِهِ فَيَترُكَ التَّعلِيمَ وَالفَتوَى، وَيَبخَلَ الصَّانِعُ بِصِنَاعَتِهِ حَتَّى يَترُكَ تَعلِيمَ غَيرِهِ، وَيَبخَلَ الغَنِيُّ بِمَالِهِ حَتَّى يَهلِكَ الفَقِيرُ، وَلَيسَ المُرَادُ وُجُودَ أَصلِ الشُّحِّ لِأَنَّهُ لَم يَزَل مَوجُودًا، وَلَيسَ المُرَادُ بِالإِلقَاءِ هُنَا أَنَّ النَّاسَ يُلقُونَهُ، وَإِنَّمَا المُرَادُ أَنَّهُ يُلقَى إِلَيهِم أَي يُوقَعُ فِي قُلُوبِهِم، وَمِنهُ: ﴿إِنِّي أُلقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾.اهـ

وَعَن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اتَّقُوا الظُّلمَ؛ فَإِنَّ الظُّلمَ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ ‌فَإِنَّ ‌الشُّحَّ ‌أَهلَكَ ‌مَن ‌كَانَ قَبلَكُم، حَمَلَهُم عَلَى أَن سَفَكُوا دِمَاءَهُم وَاستَحَلُّوا مَحَارِمَهُم»، رَوَاهُ مُسلِمٌ.

قَالَ جَمَاعَةُ: الشُّحُّ أَشَدُّ البُخلِ وَأَبلَغُ فِي المَنعِ مِنَ البُخلِ، وَقِيلَ: هُوَ البُخلُ مَعَ الحِرصِ،

وَقَالَ مُلَّا عَلِيٌّ القَارِي: قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ الشُّحُّ سَبَبًا لِذَلِكَ لِأَنَّ فِي ‌بَذلِ ‌المَالِ ‌وَمُوَاسَاةِ ‌الإِخوَانِ التَّحَابَّ وَالتَّوَاصُلَ، وَفِي الإِمسَاكِ وَالشُّحِّ التَّهَاجُرَ وَالتَّقَاطُعَ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى التَّشَاجُرِ وَالتَّعَادِي مِن سَفكِ الدِّمَاءِ وَاستِبَاحَةِ المَحَارِمِ مِنَ الفُرُوجِ وَالأَعرَاضِ وَفِي الأَموَالِ وَغَيرِهَا.اهـ

فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ تَعَلُّقَ بَعضِ النُّفُوسِ بِالمَالِ يُؤَدِّي إِلَى المَعَاصِي وَالفِتَنِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، وَيُؤَدِّي الحَالُ بِبَعضِهِم أَن يَقطَعَ رَحِمَهُ، وَأَن يَعُقَّ وَالِدَيهِ، بَل وَأَن يَكفُرَ وَيُغَيِّرَ دِينَهُ وَالعِيَاذُ بِاللهِ.

إِذَا اشتَدَّ بُخلُ الإِنسَانِ عَن أَدَاءِ الوَاجِبَاتِ يُقَالُ عَنهُ شَحِيحٌ، الزِّيَادَةُ فِي البُخلِ يُقَالُ عَنهَا شُحٌّ، وَاحِدٌ لَا يَدفَعُ الزَّكَاةَ الوَاجِبَةَ عَلَيهِ هَذَا بَخِيلٌ، لَا يَدفَعُ الزَّكَاةَ وَلَا يُنفِقُ عَلَى الزَّوجَةِ وَلَا يُنفِقُ عَلَى الأَولَادِ مَعَ قُدرَتِهِ هَذَا صَارَ شَحِيحًا، هَذَا بُخلُهُ شَدِيدٌ.

من علامات الساعة التي أخبر بها النبي ﷺ وحصلت بعد زمانه عليه الصلاة والسلام

كثرة أعوان الظلمة
رَوَى مُسلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ لِأَبِي هُرَيرَةَ: (إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ، أَوْشَكْتَ أَنْ تَرَىَ قَوْمًا يَغْدُونَ فِي سَخَطِ اللهِ، وَيَرُوحُونَ فِي لَعْنَتِهِ، فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ). وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ…».

قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ﷺ وَإِنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ وَالظَّالِمَ لِعِبَادِ اللهِ فِي الدُّنيَا يَجُوزُ الصِّرَاطَ إِنْ جَازَهُ، لَكِن مَعَ ظُلْمَةٍ! يَسِيرُ فِي ظُلْمَةٍ، لِذَلِكَ قَالَ: “الظُّلْمُ ظُلُماتٌ يَوْمَ القِيامَة“، مَعْنَاهُ إِذَا سَارَ هَذَا الظَّالِمُ عَلَى الصِّرَاطِ، يَسِيرُ فِي ظُلْمَةٍ، لَا عَلَى نُورٍ وَهِدَايَةٍ.

وَقَدْ حُكِيَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسرَائِيلَ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ فَرَأَى رَجُلًا وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوتِهِ: أَلَا مَن رَآنِي فَلَا يَظْلِمَنَّ أَحَدًا. قَالَ فَدَنَا مِنهُ وَقَالَ: يَا عَبدَ اللهِ مَا خَبَرُكَ؟ فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنِّي كُنتُ رَجُلًا شُرطِيًّا فَجِئْتُ يَومًا إِلَى هَذَا السَّاحِلِ فَرَأَيتُ صَيَّادًا قَدْ صَادَ سَمَكَةً فَسَأَلتُهُ أَنْ يُعْطِيَنِي إِيَّاهَا فَأَبَى فَسَأَلتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا لِي فَأَبَى فَضَرَبتُ رَأسَهُ بَسَوطِي وَأَخَذْتُهَا مِنْهُ قَهْرًا وَمَضَيتُ بِهَا. قَالَ فَبَينَمَا أَنَا مَاشٍ بِهَا حَامِلُهَا إِذْ عَضَّتْ عَلَى إِبهَامِي فَرُمتُ أَنْ أُخَلِّصَ إِبهَامِي مِنهَا فَلَمْ أَقدِرْ فَجِئتُ إِلَى عِيَالِي فَحَاوَلُوا أَنْ يُخَلِّصُوا إِبهَامِي مِنهَا فَلَمْ يَقدِرُوا إِلَّا بَعدَ تَعَبٍ شَدِيدٍ. قَالَ فَأَصبَحَ إِبهَامِي قَد وَرِمَ وَانتَفَخَ، ثُمَّ انتَفَخَتْ فِيهِ عُيُونٌ مِنْ ءآثَارِ أَنيَابِ هَذِه السَّمَكَةِ فَذَهَبْتُ إِلَى طَبِيبٍ مُحسِنٍ. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى إِبهَامِي قَالَ: هَذِهِ آكِلَةٌ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ لَم تَقطَعْ إِبهَامَكَ هَلَكْتَ فَقَطَعْتُ إِبهَامِي، ثُمَّ ضَرَبتُ عَلَى يَدِي فَلَمْ أُطِقِ النَّومَ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ وَالوَجَعِ فَقِيلَ لِي اقْطَعْ كَفَّكَ فَقَطَعتُهَا! وَانتَشَرَ الأَلَمُ إِلَى السَّاعِدِ وَآلَمَنِي شَدِيدًا وَجَعَلْتُ أَستَغِيثُ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ فَقِيلَ لِي: اقْطَعْهَا مِنَ المِرفَقِ، فَقَطَعْتُهَا فَانتَشَرَ الأَلَمُ إِلَى العَضُدِ وَضَرَبَتْ عَلَيَّ عَضُدِي أَشَدَّ مِنَ الأَلَمِ الأَوَّلِ. فَقِيلَ لِي: اقطَعْ يَدَكَ مِنْ كَتِفِكَ وَإِلَّا سَرَى الأَلَمُ إِلَى جَسَدِكَ كُلِّهِ فَقَطَعْتُهَا! فَقَالَ لِي بَعضُ النَّاسِ مَا سَبَبُ أَلَمِكَ فَذَكَرتُ لَهُ قِصَّةَ السَّمَكَةِ، فَقَالَ لَو كُنتَ رَجَعْتَ فِي أَوَّلِ مَا أَصَابَكَ الأَلَمُ إِلَى صَاحِبِ السَّمَكَةِ فَاستَحلَلْتَ مِنهُ وَاستَرضَيتَهُ وَلَا قَطَعْتَ مِنْ أَعضَائِكَ عُضوًا فَاذهَبْ إِلَيهِ الآنَ وَاطلُبْ رِضَاهُ قَبلَ أَنْ يَصِلَ الأَلَمُ إِلَى بَدَنِكَ. قَالَ: فَرُمْتُ فِي طَلَبِهِ فِي البَلَدِ حَتَّى وَجَدْتُهُ فَوَقَعْتُ عَلَى قَدَمَيهِ أُقَبِّلُهُمَا وَأَبكِي، فَقُلتُ يَا سَيِّدِي سَأَلتُكَ بِاللهِ إِلَّا عَفَوتَ عَنِّي فَقَالَ لِي مَنْ أَنتَ؟ فَقُلتُ أَنَا الَّذِي أَخَذْتُ مِنكَ السَّمَكَةَ غَصْبًا، وَذَكَرتُ لَهُ مَا جَرَى عَلَيَّ وَأَرَيتُهُ يَدِي كَيفَ قُطِعَت فَبَكَى حِينَ رَآهَا! وَقَالَ يَا أَخِي قَدْ أَحلَلْتُكَ مِنهَا فَقُلتُ: يَا سَيِّدِي سَأَلْتُكَ بِاللهِ هَلْ كُنتَ دَعَوتَ عَلَيَّ لَمَّا أَخَذْتُهَا مِنكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلتُ اللهم هَذَا يَقوَى عَلَيَّ بِقُوَّتِهِ عَلَى ضَعفِي فَأَخَذَ مِنِّي مَا رَزَقتَنِي (أَيْ مِنَ الصَّيدِ) فَأَرِنِي فِيهِ قُدْرَتَكَ.

وَلِذَلِكَ قَالَ الفُقَهَاءُ: لَا يَجُوزُ الإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة:2] فَالآيَةُ دَلِيلٌ لِتَحْرِيمِ مُعَاوَنَةِ شَخْصٍ لِشَخْصٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ كَحَمْلِ إِنْسَانٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى إِلَى مَحَلٍّ يُعْبَدُ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ لِمُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُوَافَقَتِهِمْ لِعِبَادَةِ ذَلِكَ الصَّنَمِ وَذَلِكَ كُفْرٌ أَوْ لِمَا دُونَ ذَلِكَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ مُعَاوَنَةٌ فِي الْمَعْصِيَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ إِعَانَةُ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا لَكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَلِوَصْفِهِ لِلْعَصَبِيَّةِ بِأَنَّهَا مُنْتِنَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَغَيْرُهُمَا فَمَعْنَى نَصْرِهِ إِنْ كَانَ ظَالِمًا مَنْعُهُ عَنِ الظُّلْمِ وَنَهْيُهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَبِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، والنَّبِيُّ ﷺ قال: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقَ». فَيَدخُلُ تَحتَ ذَلِكَ تَحرِيمُ بَيعِ العِنَبِ لِمَنْ يَعلَمُ أَنَّهُ يَعصِرُهُ خَمرًا وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ فِي كِتَابِ البُيُوعِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَعَنَ فِي الخَمرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا وَمُعتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا. وَحَامِلَهَا وَالمَحمُولَةَ إِلَيهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالمُشتَرِيَ لَهَا وَالمُشتَرَاةَ لَهُ.

وَبِالعُمُومِ يَحْرُمُ بَيْعُ الْحَلالِ الطَّاهِرِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ لِلْمَعْصِيَةِ كَبَيعِ الْخَشَبِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ ءَالَةَ لَهْوٍ مُحَرَّمٍ أَوْ صَنَمًا، وَبَيْعِ السِّلاحِ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى قِتَالٍ مُحَرَّمٍ فِى شَرْعِ اللهِ، وَالْحَشِيشَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُخَدِّرَاتِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا لِلْمَعْصِيَةِ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَيْعُ الدِّيكِ لِمَنْ يُهَارِشُ بِهِ وَالثَّوْرِ لِمَنْ يُنَاطِحُ بِهِ وَهَذَا الْحُكْمُ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَمَّا الشَّاكُّ فَلا يَحْرُمُ عَلَيْهِ.اﻫ

السؤال الفقهي
ما حكم استعمال القطرة في العين والأذن في نهار الصيام؟
القَطرَةُ فِي العَينِ لا تُفَطِّرُ فِي مَذهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَلَو شَعَرَ بِطَعمِهَا فِي حَلقِهِ، وَأَمَّا الأُذُنُ فَقَدِ اختَلَفَ أَصحَابُ الشَّافِعِيِّ هَل هِيَ مَنفَذٌ مَفتُوحٌ أَم لا، فَمِنهُم مَن قَالَ مَا دَخَلَ الأُذُنَ وَجَاوَزَ الظَّاهِرَ إِلَى بَاطِنِهَا، أَي جَاوَزَ خَرقَ الأُذُنِ، مِن مَاءٍ أَو دَوَاءٍ أَو دُهنٍ فهو مُفَطِّرٌ، وَمِنهُم مَن قَالَ لا يُفَطِّرُ لِأَنَّهُ كَتَشَرُّبِ المَسَامِّ.

مختارات من الأدعية والأذكار
ما يقال عند الحاجة
أَخرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ وَالمُستَغفِرِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَن سُمرَةَ بنِ جُندُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَن قَالَ إِذَا أَصبَحَ وَإِذَا أَمسَى: اللهم أَنتَ خَلَقتَني وَأَنتَ تَهدِينِي، وَأَنتَ تُطعِمُني وَأَنتَ تَسقِينِي، وَأَنتَ تُمِيتُنِي وَأَنتَ تُحيِينِي، لَم يَسأَلِ اللهَ شَيئًا إِلَّا أَعطَاهُ إِيَّاهُ»، فَلَقِيَهُ عَبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتُ كَانَ اللهُ قَد أَعطَاهُنَّ لِمُوسَى وَكَانَ يَدعُو بِهِنَّ في كُلِّ يَومٍ سَبعَ مَرَّاتٍ فَلَا يَسأَلُ اللهَ شَيئًا إِلَّا أَعطَاهُ إِيَّاهُ.

الدعاء الختامي
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِي رَسُولِ اللهِ…

لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرشِ العَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأَرضِ وَرَبُّ العَرشِ الكَرِيمُ…

اللهم يَا اللهُ يا اللهُ أَذهِبِ الضِّيقَ وَالغُمُومَ عَنَّا، وَأَبعِد كَدَرَ الدُّنيَا وَالهُمُومَ عَن قُلُوبِنَا، وحَسِّن بِفَضلِكَ سِيرَتَنا، وَجَمِّل في الدُّنيَا هَيئَتَنَا، وَسَدِّد في الخَيرِ مَسِيرَتَنَا، وَانشُر بَينَ الملائِكَةِ ذِكرَنَا، وَاحفَظ بَينَ الخَلقِ كَرَامَتَنَا، وَعَطِّر بَينَ النَّاسِ سُمعَتَنَا، وَارفَع بَينَ الحُسَّادِ مَهَابَتَنَا، وَإِلى جَنَّاتِ الخُلدِ أَدخِلنَا، وَفي الدَّرجَاتِ العَالِيَةِ أَنزلنَا، وَيَسِّر أُمُورَنَا، وَطَهِّر قُلُوبَنا، وَاحَفَظ فُرُوجَنَا، وَسَدِّد خُطَانَا، وَأَلهِمنَا الطَّاعَاتِ فِي مَحيَانَا، وَأَسعدنَا فِي دُنيَانَا وَأُخرَانَا يَا اللهُ يَا اللهُ…

اللهم اكفِنَا بِحَلَالِكَ عَن حَرَامِكَ وَأَغنِنَا بِفَضلِكَ عَمَّن سِوَاكَ…

اللهم احجِبنَا مِن شَرِّ الأَشرَارِ وكَيدِ الفُجَّارِ وَمِن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ وَظَالِمٍ وَسَارِقٍ وَفَاجِرٍ وَبَاغٍ وَحَاسِدٍ وَشَيطَانٍ مَّارِدٍ…

اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ، فَاعفُ عَنَّا…

اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ، فَاعفُ عَنَّا…

اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ، فَاعفُ عَنَّا…

اللهم أَعتِق رِقَابَنَا، وَرِقَابَ آبَائِنَا، وَرِقَابَ أُمَّهَاتِنَا مِنَ النَّارِ…

اللهم أَعتِق رِقَابَنَا، وَرِقَابَ آبَائِنَا، وَرِقَابَ أُمَّهَاتِنَا مِنَ النَّارِ…

اللهم أَعتِق رِقَابَنَا، وَرِقَابَ آبَائِنَا، وَرِقَابَ أُمَّهَاتِنَا مِنَ النَّارِ…

اللهم احفَظنَا مِنَ الفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَاحفَظنَا مِنَ الفَوَاحِشِ وَبِدَعِ الضَّلَالِ…

اللهم ارزُق أَهلَ فِلَسطِينَ الثَّبَاتَ وَالنَّصرَ وَالتَّمكِينَ، وَبَارِك فِي إِيمَانِهِم وَصَبرِهِم. اللهم احفَظ أَهلَ فِلَسطِينَ وَالمَسجِدِ الأَقصَى مِن كَيدِ الظَّالِمِينَ وَأَيِّدهُم بِنَصرِكَ وَقُوَّتِكَ.

اللهم ارفَعِ البَلَاءَ وَالوَبَاءَ وَالأَمرَاضَ عَنِ المُسلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرضِ وَمَغَارِبِهَا إِكرَامًا لِوَجهِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم تَوَفَّنَا عَلَى كَامِلِ الإِيمَانِ وَارزُقنَا شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَمَوتًا فِي بَلَدِ نَبِيِّكَ ﷺ، وَاحشُرنَا عَلَى نُوقٍ رَحَائِلُهَا مِن ذَهَبٍ آمِنِينَ مُطمَئِنِّينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.

اللهم اجعَلنَا مِن عُتَقَاءِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَمِنَ المَقبُولِينَ يَا أَكرَمَ الأَكرَمِينَ، اللهم أَعتِقنَا فِيهِ مِنَ النِّيرَانِ يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ.

اللهم إِنَّا دَعَونَاكَ فَاستَجِب لَنَا دُعَاءَنَا وَاغفِرِ اللهم لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا وَارزُق كُلَّ مَن حَضَرَ وَاستَمَعَ لِلدَّرسِ سُؤلَهُ مِنَ الخَيرِ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ وَسَلِّم تَسلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَومِ الدِّينِ.

وَآخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

 

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …