اَلصَّبْرُ عَلَى الشَّدَائِدِ

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له من يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من بعثه الله رحمة للعالمين هاديا ومبشرا ونذيرا بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا من أنبيائه صلوات الله وسلامة عليه وعلى كل رسول أرسله أما بعد إخوة الإيمان، أوصي نفسيَ وإياكم بتقوى اللهِ العليِّ العظيم.

يقول الله تعالى في القرءانِ الكريم: ﴿ولَنبلُونَّكم بشىءٍ من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وبشِّرِ الصابرينَ الذينَ إذا أصابَتْهم مصيبةٌ قالوا إنا للهِ وإنا إليه راجِعون أُولئِك عَليهِم صَلواتٌ من ربِّهم ورحمةٌ وأولئكَ همُ المهتدون﴾.

إنَّ المؤمنينَ الذين يتصفونَ بهذه الصفةِ التي ذكرَها اللهُ تعالى وهي أنَّهم راضونَ عن اللهِ أي لا يتسخَّطونَ عليه ولا يتضَجَّرونَ من قضائِه وإن كانتِ المصائبُ تُقلقُهم وتحزِنُهم وتؤذيهم في أجسادِهم، لكنَّ قلوبَهم راضيةٌ عنِ اللهِ عز وجل، هؤلاء بشَّرهمُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بأنَّهم تنالُهم صلواتٌ منَ اللهِ أي تنالهُم الرحماتُ الخاصةُ التي تكونُ للمسلمينَ الذينَ قالوا “إنا لله” أي عرفوا واعتقدوا وجزموا بأَنَّهم ملكٌ للهِ تعالى له أن يفعلَ بهم ما يشاءُ “وإنا إليه راجعون” أي أن مآلهَم إلى اللهِ تبارك وتعالى الذي يجازِي الذين اتَّقَوْا وصبَروا بالحُسنى. والصبرُ ثلاثةُ أنواعٍ، أحدُها: الصبرُ على أداءِ الفرائضِ لأن الطاعاتِ تصادفُ أحياناً وقتَ البردِ فمن صبَرَ في ذلك الوقتِ وأدَّى الفرضَ كما أمرَ اللهُ فهو من الصابِرين، كذلكَ من صبَرَ على العطشِ والجوعِ في رمضانَ فحافَظَ على الصِّيام، هذا نوعٌ من الصبر. والنوعُ الثاني: الصبرُ عما حرَّمَ اللهُ أي كفُّ النفسِ عما حرَّمَ الله، فمنِ ابتعدَ عنِ المعاصي امتِثالاً لأمرِ الله ِعز وجل فإن اللهَ يجزلُ له الثوابَ ويُعظِمُ له الأجر. وكثيرٌ من الناسِ خصوصًا في أيامِ الصيفِ أيامِ الحرِّ يفعلونَ المنكراتِ بذريعةِ أنهم يُرفِّهونَ عن أجسامِهم فيكشفونَ عوراتِهم أمامَ الناس، وءاخَرون يقَعونَ في معصيةِ النظرِ المحرم، ناهيكُم عن الذينَ يرتادُونَ أماكنَ الفسقِ والمُجون، والذين يشربونَ الخمورَ ويأكلونَ الربا ويشهدونَ شهادةَ الزورِ ويفعلون غيرَ ذلك، هؤلاء لا يفكرونَ في الآخرةِ كما ينبغي، هذا الجسمُ مهما رُفِّهَ ومهما خُدمَ بعد موتِه بثلاثَةِ أيامٍ بنتفخُ ويطلعُ منهُ القيحُ، رائحتُه لا تُطاق، تكونُ أشدَّ من رائحةِ الغائطِ نُتنًا، مهما خُدِمَ هذا الجسمُ هذه نهايَتُه إلا الأنبياءَ وشهداءَ المعركةِ وبعضَ الأولياء. فهل يستحقُّ هذا الجسمُ أن يُعصى الإلهُ لأجلِه، لا واللهِ، فإنهُ لا خيرَ في لذةٍ محرمةٍ فانيةٍ تعقبُها نارُ عظيمةٌ حاميةٌ. والنوعُ الثالثُ: الصبرُ على المصائبِ والبلايا والشدائدِ، وهو مطلوبٌ لا سيما عند مفاجأةِ المصيبة، فعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ تبكِي على قبرٍ فقالَ: “اتقي اللهَ واصبِري”. ولم تكن هذه المرأةُ تعلمُ أن من يحدِّثُها هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إليكَ عنِّي فإنك لم تُصَبْ بِمُصيبتي. فقيلَ لها إنهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فأتتْ بابَ النبيِ صلى الله عليه وسلم فلم تجدْ عندهُ بوابينَ فقالت: لم أعرفْكَ، فقالَ: “إنما الصبرُ عند الصدمةِ الأولى” رواهُ البخاريُّ ومسلم. بعضُ الجاهلين إذا ماتَ لهم قريبٌ أو حصلَ لهم مكروهٌ لا يصبرون، ينفتِنون، يعترِضون على اللهِ فيكفرونَ والعياذُ الله. وصنفٌ من الخلقِ يقعونَ في المعصيةِ بتركِهُمُ الصبرَ على الشدائدِ فهؤلاء لو أنهم صبروا لكانَ خيراً لهم بدل كفرِهم وعصيانِهم لأن الذي يصبرُ على ما أصابهُ من البلاءِ فصبرُه هذا يفيدُه رفعَ درجاتٍ أو تكفيرَ سيئات. فقد قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “ما يصيبُ المسلمَ من نصَبٍ ولا وصبٍ (أي مرض) ولا همٍ ولا حَزَنٍ ولا أذًى ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّرَ اللهُ بها من خطاياه” رواه البخاري ومسلم. ومن جملةِ الصبرِ على المصيبةِ الصبرُ على أذى الناسِ والصبرُ على الأمراضِ والأوجاع، والصبرُ على الفقرِ، فالذي لا يمُدُّ يدَه إلى الحرامِ من أجلِ الفقرِ بل يصبرُ فله ثوابٌ عظيم، أو كان في سَعةٍ من العيشِ ثم افتقَرَ فصبرَ فله أجرٌ كبيرٌ أيضًا.

إنَّ من الجهلِ الشديدِ الفظيعِ أن بعضَ الناسِ إذا أقبلوا على الطاعةِ ثم أصابتهمُ المصائبُ يتشاءمونَ فيقولونَ: كنا في راحةٍ ونعيمٍ ولكن منذ بدأنا بالطاعةِ نزل علينا البلاء، يغرُّهمُ الشيطانُ فيعرضونَ عن الطاعاتِ ويعودونَ إلى ما كانوا عليهِ من الفسادِ والانغماسِ في المعاصي.أما من عرفَ دينَ اللهِ وتمسَّكَ به كما يجبُ لا تزيدُه كثرةُ المصائبِ والشدائدِ عليه إلا صبرًا والتزامًا بالعبادة، بل يصلُ إلى حدِّ أنه يكونُ فرحُه بالبلاءِ أكبرَ من فرحِه بالبَسطِ والرَّخاءِ، وهؤلاءِ همُ الأولياء، حتى قالَ بعضُ الصوفيةِ الصاقين: “وُرُودُ الفاقاتِ أعيادُ المريدين”. معناهُ ورودُ المصائبِ عيدٌ لطلابِ الآخرةِ المُقبِلينَ عليها، يعتبرونَه عيداً فيزيدونَ في الطاعةِ بدل أن ينقلِبوا أو يُخفِّفوا. يقولُ سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم: “من يرِدِ اللهُ به خيراً يُصِبْ منه” رواه البخاري. فمن أرادَ اللهُ به خيرًا كثيرًا يبتليهِ ويعينُه على الصبرِ وتحمُّلِ البلاء. وقد حُكيَ أن رجلاً من الصالحينَ كان مقطوعَ اليدينِ، مقطوعَ الرِّجلينِ، مصابًا بالعَمى، وفوقَ ذلك أُصيبَ بمرضٍ يُسمَّى الآكلةَ يُصيبُ الأطرافَ فيَسْوَدُّ العضوُ المصابُ ويتهرَّى ثم يتساقطُ، هذا المر ضُ يُعرفُ اليومَ باسمِ “الغرغرينا”، وبالإضافةِ إلى هذا كلِّهِ رماهُ الناسُ على الطريقِ فجاءتِ الدبابيرُ وصارت تأكلُ من رأسِه، وليسَ له يدانِ ليُبْعِدَها عنه ولا رجلانِ لِيُغَيِّرَ مكانَه وكان أعمى، فمرَّ من أمامِه بعضُ الأشخاصِ فلما رأَوْهُ قالوا: سبحانَ اللهِ كم يتحمَّلُ هذا الرجلُ، فسمِعَهم، فقالَ: الحمدُ للهِ الذي جعلَ قلبي خاشِعًا ولسانِي ذاكِرًا وبدنِي على البلاءِ صابرًا، إلهي لو صبَبْتَ عليَّ البلاءَ صبًّا ما ازدَدتُ فيكَ إلا حبًّا. نسألُ اللهَ تعالى أن يجعلَنا من الصابِرين المحتسبين.

يقول الله تعالى في القرءانِ الكريم: ﴿يا أيها الناسُ اتقوا ربَّكم إنَّ زلزلةَ الساعةِ شىءٌ عظيم، يوم ترَوْنَها تذهَلُ كلُّ مرضعةٍ عما أرضعت وتضعُ كلُّ ذاتِ حملٍ حملَها، وترى الناسَ سُكارى وما هم بسُكارى ولكنَّ عذابَ اللهِ شديد﴾.

إن من جملةِ الصبرِ على أداءِ الطاعاتِ أن يصبرَ الشخصُ على تعلُّمِ علمِ الدينِ ويقهرَ نفسَه على حضورِ مجالسِ علمِ الدينِ وحفظِ المعلوماتِ الشرعيةِ، فإنَّ علمَ الدينِ حياةُ الإسلامِ من أغفَلَهُ فهو ضائعٌ تائهٌ يميلُ مع كلِّ ريحٍ ويتبعُ كلَّ ناعقٍ. واسمعوا هذهِ القصةَ واعتبِروا يا عبادَ الله، وهذه القصةُ حصلت مؤخَّرًا، وهي أن بِنتًا ولها من العمرِ ثلاثَ عَشْرةَ سنةً، ثم وهي على فراشِ الموتِ تعانِي من ألمِ سكراتِ الموتِ طلبت والدَها لتُوصيهِ بأمرٍ، فبِمَ أوصَتْهُ يا تُرى! هل قالت له: انتبِه للبيتِ أو للسيارةِ أو للمَتاعِ كما يفعلُ كثيرٌ من الذينَ تعلَّقَتْ قلوبُهم بالدُّنيا، لا، بل أو أوصَته بشىءٍ ءاخرَ أهم من ذلك كلِّه لأنَّها تحبُّ لوالدِها النجاةَ يومَ القيامة، أوصتْهُ أن يتعلَّمَ علمَ الدين، أن يدرسَ كتابَ بغيةِ الطالبِ للعلامةِ الشيخِ عبدِ اللهِ الهرريِّ الحبشيِّ رضي اللهُ عنه ثم ماتت. فلنأخُذْ إخوةَ الإيمانِ من هذهِ القصةِ عبرةً وليكُن ذلك حافزًا لنا على الثباتِ على عقيدةِ أهلِ الحق.

شاهد أيضاً

التسوية بين الزوجات

ننتقل الآن للكلام على القَسْم بين الزوجات. والتسويةُ فى القسم بالنسبة للمبيت واجبةٌ بين الزوجات. …