الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى ءاله وصحبه ومن والاه وبعد فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ في القرءانِ الكريم: ﴿ما يلفظُ من قولٍ إلا لديهِ رقيبٌ عتيدٌ﴾. إنَّ اللهَ تعالى إن أرادَ بإنسانٍ خيرًا كبيرًا يُفَقِّهْهُ في الدينِ، ومن لم يرِدْ بهِ خيرًا لا يُفقِّهْهُ في الدينِ بل يعيشُ جاهلاً فمن تعلَّمَ القدرَ الضروريَّ في العقيدةِ ثم الصلاةَ والطهارةَ وتعلَّمَ معاصي القلبِ واليدِ والرجلِ واللسانِ والبطنِ والبدنِ فتَجَنَّبَ المحرماتِ كلَّها وأدَّى الواجباتِ كلَّها وأكثرَ من السننِ يصيرُ وليًا أما بدونِ هذا لا يصيرُ وليًا، بمجرَّدِ الذكرِ لا يصيرُ وليًا، الإنسانُ الذي لم يتعلَّمْ علمَ الدينِ الضروريَّ هو كالإناءِ الفارغِ، الإناءُ الفارغُ يقبلُ ما يُصبُّ فيهِ إِن كان شيئًا طاهرًا وإن كان شيئًا نجسًا. بالعلمِ يُعرفُ العملُ الذي يحبهُ اللهُ والعملُ الذي لا يحبهُ الله. أفضلُ الأعمالِ العلمُ، أفضلُ شىءٍ ينفعُ في الآخرةِ العلمُ فهو سبيلُ النجاةِ في الآخرةِ وأما هؤلاء الذين يقولونَ نحنُ أهلُ الحقيقةِ وأنتم أهلُ الشريعةِ نحنُ أهلُ الباطنِ وأنتم أهلُ الظاهرِ وهم لا يعملونَ بالشريعةِ يُقالُ لهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم قالَ: “كلُّ عملٍ ليس عليهِ أمرُنا فهو ردٌ” فيُفهمُ من هذا الحديثِ أن كلَّ ما يفعلُه الإنسانُ إذا لم يوافقْ شريعةَ الرسولِ فهو مردودٌ. الحقيقةُ والشريعةُ واحدٌ، الحقيقةُ باطنُ الشريعةِ هما شىءٌ واحدٌ ليسا متضادَّينِ، لا يصلُ إلى الحقيقةِ إلا من تمسَّكَ بالشريعةِ، الكراماتُ والكشوفاتُ لا يصلُ إليها إلا من عمِلَ بالشريعةِ على التمامِ، بدونِ الشريعةِ مستحيلٌ أن يصلَ إلى ذلك. الجنيدُ سيدُ الطائفةِ الصوفيةِ رضي اللهُ عنه المُتوفَّى سنةَ مائتينِ واثنتينِ وتسعينَ قالَ: “ما أخَذْنا التصوُّفَ بالقالِ والقيلِ ولكن أخذناهُ بالسهرِ والجوعِ وتركِ المألوفاتِ والمُستَحْسَنات” لأنَّ التصوفَ صفاءُ المعاملةِ كما قالَ حارثةُ رضيَ اللهُ عنهُ: “عزفت نفسي عنِ الدنيا أسهَرْتُ ليلي وأظمأتُ نهاري فكأنِّي بعرشِ ربي بارزاً وكأني بأهلِ الجنةِ يتزاوَرونَ فيها وكأنِّي بأهلِ النارِ يتعاوون فيها”. فمعنى كلامِ الجنيدِ رضي الله عنه أن التصوفَ ليس بالقالِ والقيلِ قالَ أبو يزيدٍ كذا قال الحلاجُ كذا، قال فلانٌ كذا. قال: ولكن أخذناهُ بالسهرِ والجوعِ، معناهُ نصومُ كثيرًا من النوافِلِ ونقومُ الليلَ، بعضُهم يقومُ نصفَ الليلِ وبعضُهم ثُلثَه أو أقلَّ أو أكثرَ على حسبِ نشاطِ الشخص. قال ولكن أخذناهُ بالسَّهرِ والجوعِ وتركِ المألوفاتِ والمستحسناتِ، أي تركِ هوى النفس. وأما قولُه: “التصوُّف صفاءُ المعاملة” أي أن يعامِلَ العبدُ ربَّهُ معاملةً صافيةً، هذا هو التصوُّف. أما هؤلاء الذين عندهم التصوفُ هو الأناشيدُ وحملُ المسبحة وقالَ فلان كذا وقال فلان كذا فهؤلاءِ كسالى يدَّعونَ التصوُّفَ ولا يعملونَ بطريقةِ أولئكَ كالجنيد. هذا الجنيدُ رضي الله عنهُ كان عالمًا متبحِّرًا حتى قالَ: “ما جعلَ اللهُ سبيلاً لخلقِهِ إلى علمٍ إلا أعطاني حظًا من ذلك” يعني كلُّ فنونِ العلمِ من الحديثِ والفقهِ والنحوِ والبلاغةِ والحسابِ والفرائضِ وغيرِ ذلك اللهُ أعطاني من كلِّ ذلك حظًا. ما كان جاهلاً كهؤلاءِ الذين لو سُئِلوا عن أحكامِ الوضوءِ ما عرفوا. لكن لا يُشترطُ أن يكونَ الشخصُ كالجنيدِ أخذَ من كلِّ علمٍ حظًا وافرًا، يكفي أن يتعلمَ الشخصُ علمَ الدينِ الضروريَّ ما يصحِّحُ به صلاتَهُ وصيامَه وما يحلُّ أكلُه وما يحرُمُ وأحكامَ البيعِ لأنَّ القرءانَ ما نزلَ بالعباداتِ فقط فيهِ عن البيعِ وأحكامِ الشراءِ وعِدةِ النساءِ والجناياتِ أي حكمِ القاتِلِ عمدًا وحكمِ القاتلِ خطأً، من تعلمَ القدرَ الضروريَّ الذي لا بد منه لتصحيحِ صلاتِه وصيامِه وعقيدتِه ومعرفةِ المالِ الحلالِ ومعرفةِ المالِ الحرامِ مع تعلُّمِه أحكامَ الصلاةِ والطهارةِ وما يتبعُ ذلك فهذا إذا جدَّ في العملِ صارَ صوفيًا، هذا يستحقُّ أن يعطيَهُ اللهُ الحقيقةَ، أما هؤلاءِ الذين ما تعلَّموا علمَ الدينِ الضروريَّ إنما حظُّهم أنهم يعرفون استعمالَ المسبحة والأناشيدَ وألفاظَ الذكرِ فهيهاتَ هيهاتَ أن يكونوا صوفية، مستحيلٌ أن يكونوا صوفيةً. وأساسُ هذا كلِّه التوحيدُ معرفةُ اللهِ كما يجبُ. رجلٌ يقال له حارثةُ ابنُ مالكٍ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ لقيَهُ الرسولُ عليه الصلاة والسلام فقالَ له “كيف أصبحتَ يا حارثةُ” فقالَ: أصبحتُ مؤمنًا حقا، فقال الرسولُ عليه الصلاةُ والسلام: “أنظر ما تقولُ فإنَّ لكلِّ مقالٍ حقيقةً فما حقيقةُ مقالِك” قال: عزَفت نفسي عن الدنيا، يعني قطَعْتُ نفسي عن التعلُّقِ بالدنيا أسهَرْتُ ليلي وأظمَأْتُ نهاري، أي أقومُ الليلَ وأصومُ النهار، وكأني بعرشِ ربي بارزاً، أي كأني أشاهدُ العرشَ عِيانًا من شدةِ اليقينِ الذي صارَ عندي، وكأني بأهلِ الجنةِ يتزاورونَ فيها، أي كأنِّي أرى أهلَ الجنةِ يتزاورون فيها، وكأني بأهلِ النار يتعاوون فيها، أي كأني أرى أهلَ النار يتعاوون فيها أي يصرُخونَ من الألم، فقالَ له الرسولُ صلى الله عليه وسلم: “أصبحتُ مؤمنًا حقا، الزمْ، عبدٌ نوَّرَ اللهُ الإيمانَ في قلبِه”. هؤلاء الصوفيةُ، هؤلاء اللهُ يمنحُهم الكراماتِ ويخرقُ لهم العادات. أبو مسلمٍ الخولانيُّ رضي اللهُ عنه كان من أهلِ اليمنِ وُلدَ في زمنِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ولم يرَه، وفي زمانِه قبلَ وفاةِ الرسولِ ادعى شخصٌ النبوةَ يقال له الأسود العنسي، فصارَ أبو مسلمٍ يُكذِّبُه ويقولُ للناسِ هذا كذابٌ فعرفَ بهِ الأسودُ العَنْسِيُّ بلغَهُ الخبرُ فقالَ إيتُوا بهِ فتكلَّمَ معه فكذَّبهُ أبو مسلمٍ في دعواهُ أنه رسولُ الله، فقالَ أشعِلوا نارًا فأشعَلوا نارًا فرمَوْه فيها فما أحرَقَتْهُ، ثم في اليومِ الثاني فعلَ مثلَ ذلك فلم تُحرِقْهُ النارُ ثم في اليومِ الثالثِ فعلَ مثلَ ذلك فلم تُحرِقْهُ النارُ فقالَ له جماعتُه الذين ءامنوا بهِ أخرِجْ هذا الرجلَ من أرضِك حتى لا يُفسِدَ عليك الناسَ فنفاهُ. هذا أبو مسلمٍ بلغَ خبرُه سيدَنا عمرَ ثم سيدُنا عمرُ عرفَه لما رءاهُ بالكشفِ وذلك لما حضرَ أبو مسلمٍ إلى المدينةِ قال له أنتَ أبو مسلمٍ الخوْلانيُّ قالَ نعم فقامَ سيدُنا عمرُ فقبَّلَه بين عينَيهِ وقال الحمدُ لله الذي جعلَ في أمةِ محمدٍ مثلَ خليلِ الرحمن إبراهيم. هذا أبو مسلمٍ في بعضِ الأيامِ نامَ وهو يذكُرُ فصارتِ السبحةُ تدورُ على يدِه وتذكُرُ وهو نائمٌ. هذا لولا أنهُ متمسِّكٌ بالشريعةِ ما حصلَ له ذلك. هؤلاءِ هم الذين جمعوا بينَ الحقيقةِ والشريعة. الخضرُ عليهِ السلامُ نبيٌ وموسى عليهِ السلامُ نبيٌ وكلاهُما يتكلَّم على حسبِ الوحيِ، بحسبِ الظاهرِ كان الحقُّ مع موسى لكن في الباطنِ كان الحقُّ مع الخضرِ وموسى لو نظرَ إلى الباطنِ يرى ما يفعلُهُ الخضرُ صوابًا إنما هذا اختلافٌ ظاهرِيٌ. ولما أظهرَ لهُ الخضرُ الوجهَ الباطنَ الذي علَّمَهُ اللهُ وافقَهُ موسى. الشيخُ سليمٌ البشريُّ شيخُ الجامعِ الأزهرِ قبلَ نحوِ ثمانينَ سنةً قالَ حضورُ مجالسِ هؤلاء الذين يحرفونَ اسمَ اللهِ حرامٌ. في الشامِ بعضُ مدِّعي التصوفِ يعملونَ حلقاتِ ذكرٍ يبدأونَ باللفظِ الصحيحِ ثم يتماسكونَ بأيديهِم وُقوفًا، يعملونَ حلقةً فيرقُصونَ ويُغيِّرونَ لفظَ الذِّكرِ بدلَ أن يقولوا الله الله يقولونَ ءاه، ويكونُ في وسطِ الحلقةِ واحدٌ يرتِّبُ لهم الحركاتِ والنَّغَمات. مرةً حكى واحدٌ كانَ من هؤلاءِ فقالَ: مرةً جاءت جاليةٌ فرنسيةٌ فقالوا: ما هذا، فقال: استحَيْنا أن نقولَ لهم هذا ذكرٌ فقلنا لهم: هذا دنس عربي. إذا واحدٌ ذَكر أمامَهم ذِكرًا صحيحًا يقولونَ له: وَحِّدِ الله كأنهُ عملَ غلطًا. إنا لله وإنا اليه راجعون.
