الزهد والتقليل من التنعم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له من يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من بعثه الله رحمة للعالمين هاديا ومبشرا ونذيرا بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا من أنبيائه صلوات الله وسلامة عليه وعلى كل رسول أرسله أما بعد إخوة الإيمان، أوصي نفسيَ وإياكم بتقوى اللهِ العليِّ العظيم.

فهذِهِ رِسَالةٌ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَحْرِصُ على أن تَكونَ أنْفاسُهُ مُسْتَعْمَلَةً لأمرِ الآخِرَةِ ﴿وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وهَذِهِ النَّصِيحَةُ فيها ذِكرُ أمْرٍ مُهِمٍ لِلْمُسْلِمِ في دِينِهِ وَدُنيَاهُ وَخُلاصَتُهَا الدَّعْوَةُ إلى تَقْليلِ التَّنَعُمِ عِنْدَ وُجُودِ النِّعْمَةِ فَإنَّ تَقْليلَ التَّنَعُّمِ مِنْ صِفَاتِ الأنبِيَاءِ فَمَنْ نَظَرَ إلى طَريقِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَمُحَمَّدٍ عَلِمَ أنَّ عيسَى أكَلَ الشَّجَرَ وَلَبِسَ الشَّعرَ وَصَبَرَ على القليلِ وَسَاحَ في الأرْضِ دَاعِيَاً إلى اللهِ وَسَيِّدَنَا مُحَمَّداً كَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ وَلا تُوقَدُ نَارٌ في بَيْتِهِ وَكَانَ طَعَامُهُ الأسْوَدَيْنِ التَّمْرَ وَالمَاءَ وَقَدْ رَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرَاً مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ وَشِدَّةِ الجُوعِ وَمِنْ مَنَافِعِ التَّقْليلِ مِنَ التَّنَعُّمِ مَعَ وُجُودِ النِّعْمَةِ هُوَ القُوَّةُ علَى التَّحَمُّلِ وَقْتَ الشِّدَةِ وَقِلَّةِ النِّعْمَةِ فَكم مِن أُنَاسٍ عَوَّدُوا أنْفُسَهُمْ عَلَى التَّنَعُّمِ فَلَمَّا افْتَقَدُوا النِّعَمَ ارْتَكَبُوا الحَرَامَ لِلْحُصُولِ عَلَيْها وَقَدْ يَجُرُّهُمْ ذَلِكَ إلى الكُفْرِ وَهُوَ أعْظَمُ الذُّنوبِ عِنْدَ اللهِ وَلاَ تَنْظُرُوا إلى الكَافِرِ الذي يَعيشُ في بَحبُوحَةٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ فَإنَّ الدُّنيا سِجْنُ المُؤمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ كَمَا جَاءَ في الأثَرِ وَلا تَفْرَحُوا إلاَّ بِعِلْمٍ أوْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإنَّهُ الرَّفِيقُ في القَبْرِ حَيْثُ يَتَخَلَّفُ الأهْلُ وَالمَالُ وَالأصْدِقَاءُ وَالوَلَدُ وَبِالعَمَلِ الصَّالِحِ يُجْتَازُ الصِّرَاطُ. وَإنّي أُحِبُّ كُلَّ مَنْ مَشَى عَلَى هَذَا الدَّرْبِ طريقِ الآخِرَةِ إنْ حَفِظَ دِينَهُ وَقَامَ بِالوَاجِبِ وانْتَهَى عَنِ المَحَرَّمِ وَسَاحَ في الأرْضِ دَاعِيَاً إلى اللهِ مُحَذِّراً مِنْ أهْلِ الضَّلالِ هَمُّهُ الدَّعْوَةُ وَلاَ يُؤَثِّرُ فيهِ صُعُوبَةُ العَيْشِ وَمَرَارَةُ السَّفَرِ وانتِقَادُ القَريبِ لَهُ فَإنَّ الكَيِّسَ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ. وَتَعَوَّدُوا تَقْليلَ التَّنَعُّمِ فَإنَّ فيهِ خَيْرَ الدِّينِ وَالدُّنيا لأنَّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِالقَليلِ يَنْجَرُّ إلى الحََرَامِ وَيَبْتَعِدُ عَنْ مُوَاسَاةِ الفُقَرَاءِ وَصِلَةِ الرَّحْمِ، هَذَا مِن جُمْلَةِ التَّأدِيبِ الذي يَنْبَغِي أنْ يُعَلِّمَهُ الأبُ وَالأمُّ لأِوْلادِهِمَا.