دعاء اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري – شرح شامل وتذكير بالموت

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا، وَلم يكن لَهُ شريك فِي الْملك، وَخلق كل شَيْء فقدّره تَقْديرا، وَالْحَمْد لله الَّذِي نزّل الْفرْقَان على عَبده ليَكُون للْعَالمين نذيرا، الَّذِي عجز الحامدون على الْقيام بأَدَاء شكر نِعْمَةٍ من نِعَمِهِ، وَكَلَّتْ أَلْسِنَةُ الواصفين عَن بُلُوغ كُنْهِ عَظَمته.

ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك، وَله الْحَمد، وَهُوَ على كل شَيْء قدير، ونشهد أَنّ مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله البشير النذير، الدَّاعِي إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ، السراج الْمُنِير، أرْسلهُ بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدَّين كُله، وَلَو كره الْمُشْركُونَ.

وَالْحَمْد لله الَّذِي أعظم علينا الْمِنَّة بِالْإِسْلَامِ وَالسّنة، ووفقنا بفضله لِلِاتِّبَاعِ، وعصمنا برحمته من الابتداع، وَصلى الله على مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين، وَإِمَام الْمُتَّقِينَ، وَخَاتم النَّبِيين فِي كل سَاعَة ولحظة، على دوَام الْأَبَد مَا لَا يدْخل تَحت الْعدَد، وَلَا يَنْقَطِع عَنهُ المدد، وعَلى إخوانه من النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ وَالْمَلَائِكَة المقربين، وعَلى أَزوَاجه وَذريته، وَأَصْحَابه وعترته، وعَلى متبعي سنته، وَأهل إِجَابَة دَعوته بمنّه وفضله وسعة رَحمته، أما بعد:
الحديث

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِى دِينِى الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِى وَأَصْلِحْ لِى دُنْيَاىَ الَّتِى فِيهَا مَعَاشِى وَأَصْلِحْ لِى ءَاخِرَتِى الَّتِى فِيهَا مَعَادِى وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِى فِى كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِى مِنْ كُلِّ شَرٍّ)).
الشرح والتعليق على هذا الحديث

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أبو هريرة رضي الله عنه، اختُلِفَ على اسمه على ستة وثلاثين قولا، ولكن المشهور بين الحفّاظ أنه عبد الرحمن بن صخر الدّوسي. وكان أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ فَوَجَدْتُ رَجُلا مِنْ بَنِي غِفَارَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى بِسُورَةِ مَرْيَمَ وفي الثانية بـ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ [سورة المطففين/ الآية 1]. وَقَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَــا عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجـَـــــتْ

قال: وأبق – أي هرب – مني غلام في الطريق فلمّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعته فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلامُكَ. فَقُلْتُ: هُوَ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَأَعْتَقْتُهُ.

وقال أَبو هُرَيْرَةَ: نَشَأْتُ يَتِيمًا وَهَاجَرْتُ مِسْكِينًا وَكُنْتُ أَجِيرًا لِبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي وعقبة رجلي. فكنت أخدم إذا نزلوا وأحدو إِذَا رَكِبُوا فَزَوِّجْنِيهَا اللَّهُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قِوَامًا وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا.

وروي في البخاري عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: تَمَخَّطَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مِنْ كَتَّانٍ مُمْشَقٍ – مطرز بلون أحمر – فَتَمَخَّطَ فِيهِ – أي استنثر وطهر أنفه، ومنه المخاط ماء يسيل من الأنف، وتمخطه: إما لحاجته إلى ذلك، أو ازدراء بهذين الثوبين اللذين حصل عليهما بعد مفارقة الحبيب صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ – بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا مَعَ التَّنْوِينِ، وَكَرَّرَ لِلْمُبَالَغَةِ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: هِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَجِّبُ مِنَ الشَّيْءِ، وَتُقَالُ عِنْدَ الْمَدْحِ وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ، فَإِنْ وُصِلَتْ خُفِضَتْ وَنُوِّنَتْ – يَتَمَخَّطُ أبو هريرة في الكتان. لقد رأيتني أَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ. يَجِيءُ الْجَائِي يَرَى أَنَّ بِي جُنُونًا وَمَا بِي إِلا الْجُوعُ.

وَقَدِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ فَسَارَ إِلَى خَيْبَرَ حَتَّى قَدِمَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ.

وجاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَ سِنِينَ مَا كُنْتُ سَنَوَاتٍ قَطُّ أَعْقَلَ مِنِّي وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَعِيَ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي فِيهِنَّ.

وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه قَالَ: وَاللَّهِ لا يَسْمَعُ بِي مُؤْمِنٌ وَلا مُؤْمِنَةٌ إِلا أَحَبَّنِي. قَالَ قُلْتُ: وَمَا يُعَلِّمُكَ ذَاكَ؟ قَالَ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ. قَالَ فَدَعَوْتُهَا ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الإِسْلامِ فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَأَنَا أَبْكِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى الإِسْلامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ وَإِنِّي دَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى الإِسْلامِ. فَفَعَلَ فَجِئْتُ ثُمَّ قَالَتْ: ادْخُلْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَدَخَلْتُ فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله. فَجِئْتُ أَسْعَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنَ الْحُزْنِ. فَقُلْتُ: أَبْشِرْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَكَ. قَدْ هَدَى اللَّهُ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى الإِسْلامِ. ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي وَأُمِّيَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَإِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ.

فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ. فَلَيْسَ يَسْمَعُ بِي مُؤْمِنٌ وَلا مؤمنة إلا أحبني.

وروي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزهري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ لِصُحْبَتِهَا.

وجاء في مسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ((لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَلا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أحدٌ أَوَّلَ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنَ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ. إِنَّ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مخلصا من قِبَل نفسه)).

يروي عنه كما قال البخاري أكثر من ثمانمائة ما بين صحابي وتابعي، وله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثمائة، وانفرد البخاري بثلاثة وسبعين.

وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ فِي آخِرِ خِلافَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَانَ لَهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَهُوَ صَلَّى عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَهُوَ صَلَّى عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعِ وَخَمْسِينَ. فَصَلَّى عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فِي شَوَّالٍ ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّنَّةِ.

قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ببعض الدعوات تشريعًا لأمّته، ولا يعني أنّه قد يحصل منه هذا المذكور في الحديث. قال ابن هبيرة: هذا الحديث يشتمل على دعاء شامل، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي أَيْ عَنِ الْخَطَأِ دِينِي فإنه بدأ بالأهم، وهو الدّين، ثمّ وصفه بأنه عصمة الأمر في الدنيا من الهلكة، وفي الآخرة من النار.

الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي العصمة: الحِفْظُ؛ يعني اللهم احفظْ ديني عن الخَطَأِ والزَّلَل والرِّياء، وعمّا لا يليقُ ولا تُحِبُّه، فإنه عِمادُ أمري، فمَن فَسَدَ دينهُ فَسَدَ جميعُ أموره وخابَ وخَسِر. وقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 103] أَيْ بِعَهْدِهِ وَهُوَ الدِّينُ، وقوله: عصمة أمري؛ أَي بِهِ أستمسك، وَأُعوّل عَلِيهِ فِي نجاتي،

فنعمة الإيمان والتوحيد هي أعظم النعم التي أعطانا الله إياها،

قال بعض أهل العلم: “نِعمَةُ الإسلامِ هِي أَقوَى رَابِطَةٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تُوَازِي رَوَابِطَ أُخْرَى، فَمِنْ هُنَا يَكُونُ مُتَحَتِّمًا عَلَينَا أَنْ نَتَحَابَّ ونَتَوَاصَلَ ونَتَزَاوَرَ وَنَتَنَاصَحَ”.

وقالوا: “إِنَّ أَعْظَمَ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ هُوَ الإِسْلَامُ، فَمَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا وَفَّقَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ سُوْءًا لَمْ يُوَفِقْهُ لِلْإِسْلَامِ”.

“الإِسْلَامُ أَفْضَلُ نِعْمَةٍ يُؤْتَاهَا الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا”. “مَنْ لَمْ يَخْسَرْ رَأْسَ مَالِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَخْسَرْ، رَأْسُ مَالِ الْمُسْلِمِ العَقِيْدَةُ، عَقِيْدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهِيَ بِحَمْدِ اللهِ مَوْجُوْدَةٌ فِيْنَا، الْجُمْهُورُ بَعْدُ عَلَى تِلْكَ الْعَقِيْدَةِ وَإِنْ قَصَّرْنَا فِي الْأَعْمَالِ، نَحْمَدُ اللهَ عَلَى ذَلِكَ”. وقالوا: “أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَنْ يَرْزُقَهُ اللهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ فَيَتَوَفَّاهُ مُؤْمِنًا”.

وقالوا: “الْإِيمَانُ، اللهُ تَعَالَى جَعَلَهُ نُورًا وَوَضَعَهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَكُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ”.

“مَنْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا وَلَمْ يُعْطَ الْإِيمَانَ فَكَأَنَّمَا لَمْ يُعْطَ شَيْئًا وَمَنْ أُعْطِيَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يُعْطَ الدُّنْـيَا فَكَأَنَّمَا مَا مُنِعَ شَيْئًا”.

أعظم نعمة أنعم الله بها علينا هي الإسلام وأن جَنّبنا الكفر، والحمد لله رب العالمين، فنعمةُ الإيمانِ أفضلُ مِنْ نعمةِ الصحةِ والمالِ، وقدِ اعتادَ بعض المسلمين قولَ كلمةٍ حُلوةٍ هيَ: “الحمدُ للهِ على نعمةِ الإسلامِ وكفَى بها من نعمَةٍ”.

يقول ﷺ: ((وإِنَّ الله عَزَّ وجلَّ يُعْطِي الدُّنْيا مَنْ يُحِبُّ ومَنْ لا يُحِبُّ، ولا يُعْطِي الدِّينَ إِلاَّ مَنْ أَحَبَّ، فمنْ أَعطاهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحبَّهُ)) رواه أحمد.

والإيمان هو الاعتقاد الجازم بوجوده تعالى على ما يليق به مع الإقرار برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، المؤمن هو من وصف الله بصفات الكمال اللائقة به مع تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، المؤمن هو من اعتقد أن الله موجود أزلا وأبدا، وجودا منزّها عن التقطع والزوال، المؤمن من عظَّم خالقَه ونزّهه عن مشابهة المخلوقات، المؤمن من اعتقد أنّ الله خلق كل شيء ولا يحتاج إلى شيء من خلقه، المؤمن من اعتقد أنّ الله غني عن العالمين، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [سورة فاطر/ الآية 15]، الله تعالى غنيّ عنّا، غنيّ عن الملائكة لا يحتاج إلى الملائكة ولا إلى الأنبياء ولا إلى الإنس ولا إلى الجان، ولا يحتاج إلى العرش فلا يوصف بالجلوس والاستقرار على العرش، غني عن السماء فلا يسكن السماء، غني عن المكان خلق المكان وكان موجودا قبل المكان بلا مكان، ولمّا خلق المكان لم يتغير فهو موجود أزلا وأبدا بلا كيف ولا مكان ولا يجري عليه زمان، لا يوصف بالجسمية ولا بصفات الأجسام لا يوصف بالاتصال ولا بالانفصال ولا بالحدود ولا بالنهايات، ولا يوصف بصفات البشر، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا، ومَن وَصف الله بمعنًى من معاني البشر – أي بصفة من صفات البشر – فقد كفر، فمن أبصر هذا اعتبر وعن مثل قول الكفار انزجر وعلم أنّه بصفاته ليس كالبشر.

النّبي صلى الله عليه وسلم دعا هذا الدعاء كما قلنا حتى يعلمنا أن ندعوَ به؛ أي أن ندعو بالثبات على الإيمان، فإنه يجب علينا الثبات عليه فمن عزم على الكفر كفر في الحال، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 102].

فكلنا مأمور بالثبات على هذا الدين، كما ثبت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على دينهم، فإننا نعلم مَا قَاسَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ بِمجاوَرَةِ الْكُفَّارِ حَتَّى أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ،

وروي عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَعْتَقَ مِمَّنْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللهِ سَبْعَةً ومِنْهُمْ الزِّنِّيرَةُ، قَالَ: فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَكَانَتْ مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِي اللهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَتَأْبَى إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا أَصَابَ بَصَرَهَا إِلَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى، فَقَالَتْ: كَلَّا وَاللهِ مَا هُوَ كَذَلِكَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا.اهـ

وثبت أَنَّ سُمَيَّةَ أُمَّ عَمَّارٍ عَذَّبَهَا هَذَا الْحَيُّ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهِيَ تَأْبَى حَتَّى قَتَلُوهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِعَمَّارٍ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ بِالْأَبْطَحِ فِي رَمْضَاءِ مَكَّةَ فَيَقُولُ: ((صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

ونحن نقول كما جاء في القرآن: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [سورة الفاتحة/ الآية 6] أي ثبتنا على الصراط المستقيم. فالنبي يذكر دعاء أو ذكرا معينا أحيانا ويراد منه التعليم لأمته صلى الله عليه وسلم وإلا فهو أهدى الناس وأتقى الناس وأعف الناس وأغناهم قلبًا صلى الله عليه وسلم.

روى البيهقي عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: وَجَّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَيْشًا إِلَى الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسَرَهُ الرُّومُ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَتَنَصَّرَ وَأُشِرِكُكَ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: “لَوْ أَعْطَيْتَنِي جَمِيعَ مَا تَمْلِكُ، وَجَمِيعَ مَا مَلَكَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى أَنْ أرْجِعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، مَا فَعَلْتُ”، قَالَ: إِذًا أَقَتُلُكَ، قَالَ: “أَنْتَ وَذَاكَ”، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَقَالَ لِلرُّمَاةِ: ارْمُوهُ قَرِيبًا مِنْ يَدَيْهِ، قَرِيبًا مِنْ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَأْبَى، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ، ثُمَّ دَعَا بِقِدْرٍ وَصَبَّ فِيهَا مَاءً حَتَّى احْتَرَقَتْ، ثُمَّ دَعَا بِأَسِيرَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا فَأُلْقِيَ فِيهَا وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ وَهُوَ يَأْبَى، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا، فَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بَكَى فَظَنَّ أَنَّهُ رَجَعَ، فَقَالَ: رُدُّوهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ فَأَبَى، قَالَ: فَمَا أَبْكَاكَ؟ قَالَ: “أَبْكَانِي أَنِّي قُلْتُ هي نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تُلْقَى هَذِهِ السَّاعَةَ فِي هَذَا الْقِدْرِ فَتَذْهَبُ، فَكُنْتُ أشْتَهِي أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَعَرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تَلْقَى هَذَا فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ”، قَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تُقَبِّلَ رَأْسِي وَأُخَلِّيَ عَنْكَ؟ قَالَ عَبْدُ اللهِ: “وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ؟” قَالَ: وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: “فَقُلْتُ فِي نَفْسِي عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ أُقَبِّلُ رَأْسَهُ ويُخَلِّي عَنِّي وَعَنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ لَا أُبَالِي.” قال: فَدَنَا مِنْهُ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْأُسَارَى، فَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى عُمَرَ فَأُخْبِرَ عُمَرُ بِخَبَرِهِ، فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ، وَأَنَا أَبْدَأُ فَقَامَ عُمَرُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ.

ولكن بعض الناس بسبب تركهم لهذا الصبر قد يكفر بالله والعياذ بالله تعالى كما حصل مع جبلة بن الأيهم وكان ملك نصارى العرب في الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم في زمن عمر بن الخطاب فقد كتب إلى عمر رضي الله عنه يُعلمه بإسلامه ويستأذنه في الوفود عليه فسُرَّ بذلك هو والمسلمون فكتب إليه عمر: أنْ أقدم فلك ما لنا وعليك ما علينا، ثم حضر الموسمَ من عامه ذلك، فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطِىء على إزاره رجل من فَزارة فَحَلَّه، فالتفت إليه جبلة مُغضَبًا ولطمه فهشم أنفه فاستعدَى عليه إلى عمر رضي الله عنه فبعث إليه يقول ما دعاك إلى أن لطَمت أخاك فهشمت أنفه؟ قال إنه وطِئ إزاري فحلّه فلولا حرمةُ البيت لأخذت الذي فيه عيناه. فقال له عمر: أمّا أنت فقد أقررت فإمّا أن تُرضيَه وإلاّ أقَدْتهُ منك. قال أتُقِيدُه مني وأنا ملك وهو سُوقة؟ قال عمر: يا جَبَلة إنه قد جمعك وإياه الإسلام فما تفضلُه إلاّ بالعافية. قال: والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية. قال عمر: هو ذاك. فقال جبلة: أخّرْني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين. قال: ذلك لك، فلمّا كان الليل خرج هو وأصحابه فلم يلبث أن دخل قُسطنطينية على هرقلَ فتنصّر، فأعظمَ قدومَه وسُرَّ به وأقطعه الأموال والأرضين.

وكان جبلة بعد ذلك يقول وهو في القسطنطينية:
تَنَصَّرتِ الأشراف من عار لطمةٍ وما كان فيها لو صبرتُ لها ضَرَرْ
تكَنَّفَني منهــــا لَجــــــاجٌ ونخــوةٌ وبِعتُ لهـا العَيْنَ الصحيحة بالعَوَرْ
فيا ليــت أمـــــي لم تلدني وليتني رجعت إلى القول الذي قالـــه عمر
ويا ليتني أرعــى المَخاضَ بقفرةٍ وكنت أسيرًا في ربيعــــة أو مضر

وَأَصْلِحْ لِى دُنْيَايَ والدنيا صفة لموصوف محذوف، والمحذوف هو الحياة، فإذا قلت الدنيا؛ فمعناه الحياة الدنيا، فلما أضافها صلى الله عليه وسلم فقال: (دنياي) أضاف الصفة إليه صلى الله عليه وسلم، فإصلاح أمر دنياه يعينه على عبادة ربه وطاعته.

ثم ذكر العذر في سؤاله إصلاحها؛ بأن قال: الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي يعني التي أعيش فيها لأعبدك، ومن المعاش الكسب والسعي في الأرض لاستجلاب الرزق وذلك قد يكون عبادة لله عز وجل، قِيلَ مَعْنَاهُ: احْفَظْ مِنَ الْفَسَادِ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، ثم عقب ذلك بأن قال: وَأَصْلِحْ لِى ءَاخِرَتِي الَّتِى فِيهَا مَعَادِي مَصْدَرُ عَادَ إِذَا رَجَعَ، أَيْ وَفِّقْنِي لِلطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ إِصْلَاحُ مَعَادِي. فرتَّب صلى الله عليه وسلم الآخرة بعد الدنيا من حيث إنها بعدها زمانا ووقتا، ثم ذكرها صلى الله عليه وسلم ليكون ذكره لها إيمانا بها وإقرارا بالمعاد إليها، ثم طلب صلى الله عليه وسلم ليكون ذكره بعد ذلك كله، أن يجعل الله سبحانه وتعالى الحياة زيادة له في كل خير؛ لأن الحياة إنما يقصد بها المؤمنون أن يزدادوا من الخير عند ربهم جل جلاله.

وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً أَيْ سَبَبَ زِيَادَةٍ لِي فِى كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِى مِنْ كُلِّ شَرٍّ فأراد صلى الله عليه وسلم أن يجعل الموت راحة له من كل شر، لا من عبادة الله سبحانه وطاعته، فإنّ العبادة خير. وقوله: وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِى مِنْ كُلِّ شَرٍّ: أَيْ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى شَهَادَةٍ وَاعْتِقَادٍ حَسَنٍ وَتَوْبَةٍ، حَتَّى يَكُونَ مَوْتِي سَبَبَ خَلَاصِي عَنْ مَشَقَّةِ الدُّنْيَا وَحُصُولِ رَاحَةٍ فِي الْعُقْبَى. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: إِصْلَاحُ الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكَفَافِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ حَلَالًا وَمُعِينًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِصْلَاحُ الْمَعَادِ اللُّطْفُ وَالتَّوْفِيقُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَطَلَبُ الرَّاحَةِ بِالْمَوْتِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ وَهَذَا هُوَ النُّقْصَانُ الَّذِي يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ فِي الْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ.

ليس كلّ ميّت يكون موته راحة له، فبعض الناس يكون موته نقمة وبلاء شديدا عليه، وفي هذا روى البيهقي في شعب الإيمان، وفي مصنف عبد الرزاق عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: ((‌مُسْتَرِيحُ، ‌أَوْ ‌مُسْتَرَاحٌ ‌مِنْهُ)) قَالَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مُسْتَرِيحُ وَمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: ((الْعَبْدُ الصَّالِحُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَهَمِّهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)).

قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي: وقلّما يبكى على الْجِنَازَة إِلَّا أَهلهَا تألما لفراقها لَا لنَفس الْمَوْت كبكاء الصَّبِي وَالْمَرْأَة اللَّذين لَا يعقلان وَلَا يعلمَانِ وَلَو كَانُوا يعلمُونَ لَكَانَ بكاؤهم على أنفسهم لَا على ميتهم؛ لِأَن ميتهم قد مَاتَ وهم ينتظرون الْمَوْت،

وَاعْلَم أَن الْجِنَازَة تمر بالإنسان وَلَا يدْرِي حَالهَا وَلَا يتَبَيَّن حَقِيقَة مصيرها وَإِنَّمَا يُرْجَى لَهَا بِحَسب مَا ظهر مِنْهَا من الطَّاعَات وَيخَاف عَلَيْهَا بِحَسب مَا بدا مِنْهَا من المخالفات وَإِن لَهَا كلَاما لَو سَمعه الْإِنْسَان لانصدع لَهُ حجاب قلبه وشغله عَن بنيه وَأَهله بل أذهله عَن النّظر فِي خَاصَّة نَفسه،

ذكر البُخَارِيّ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: ‌قَدِّمُونِي ‌قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ)).

وهما ميتان؛ فميت يستريح من تَعب هَذِه الدَّار ويفضي إِلَى رَاحَة دَار الْقَرار، وميت يستريح مِنْهُ الْبِلَاد والعباد ويفضي إِلَى سوء الْمصير وَبئسَ المهاد، وَرُبمَا يكون منا من يَهْتَز عِنْد رُؤْيَة الْجِنَازَة ويرتاع عِنْد مشاهدتها ثمَّ لَا يلبث أَن يعود إِلَى حَاله إِلَّا بِمِقْدَار مَا يكون بَين يَدَيْهِ أَو سَاعَة تمر عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: جَلَست إِلَى جرير وَهُوَ يملي على كَاتبه شعرًا فاطلعت جَنَازَة فَأمْسك وَقَالَ: شيبتني وَالله هَذِه الْجَنَائِز. وَأَنْشَأَ يَقُول:
تُرَوِّعُنا الجَنائِــــــــــــزُ مُقبِلاتٍ فَنَلهــــو حينَ تَذهَبُ مُدبِراتِ
كَرَوعَــــــــةِ هَجمَةٍ لَمغارِ سَبعٍ فَلَمّـــــا غابَ عادَت راتعاتِ

وَكَأن هَذَا البائس الغافل لم يسمع بِرَجُل قد شيع جَنَازَة ثمَّ مَاتَ المشيع بعد جُمُعَة وَرُبمَا كَانَ بعد يَوْم وَاحِد أَو أقل من يَوْم أَو كَأَنَّهُ لم يعلم أَن هَذَا الْمَيِّت كَانَ طَوِيل الأمل ممتد الرَّجَاء يطْمع فِي الْعَيْش ويحرص على الْبَقَاء حَتَّى هجم عَلَيْهِ ملك الْمَوْت فِي الْوَقْت الَّذِي لم يكن يظنّ بِهِ وَقَامَ مَعَه من الْمَكَان الَّذِي لم يكن يحسبه فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون.

وَقد كَانَ السّلف الصَّالح رضي الله عنهم بِخِلَاف هَذَا، كَانُوا إِذا رَأَوْا الْجَنَائِز نظرُوا إِلَيْهَا نظر المعتبرين وَتَكَلَّمُوا عِنْدهَا بِكَلَام الموفقين وَكَانُوا يَقُولُونَ القَوْل ويعملون بِمُقْتَضَاهُ.

ويروى عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَنه كَانَ إِذا رأى جَنَازَة قَالَ: امْضِ وَنحن على أثرك.

وَمَرَّتْ بالْحسنِ الْبَصْرِيّ رحمه الله جَنَازَة فَقَالَ: يَا لَهَا موعظة مَا أبلغهَا وأسرع نسيانها، يَا لَهَا موعظة لَو وَافَقت من الْقُلُوب حَيَاة. ثمَّ قَالَ: يَا غَفلَة شَامِلَة للْقَوْم كَأَنَّهُمْ يرونها فِي النّوم ميتُ غَدٍ يدْفن ميتَ الْيَوْم.

وَلما مَاتَ أَخُو مَالك بن دِينَار خرج مَالك فِي جنَازَته فَوقف على قَبره وَبكى ثمَّ قَالَ: وَالله يَا أخي لَا تَقُر عَيْني بعْدك حَتَّى أعلم إِلَى مَا صرت إِلَيْهِ وَلَا وَالله لَا أعلم ذَلِك مَا دمتُ حَيا.

وَقَالَ الْأَعْمَش كُنَّا نشْهد الْجِنَازَة وَلَا نَدْرِي من المعزى فِيهَا لِكَثْرَة الباكين وَإِنَّمَا بكاؤهم على أنفسهم لَا على الْمَيِّت.

وَقَالَ ثَابت الْبنانِيّ كُنَّا نشْهد الْجِنَازَة فَلَا نرى إِلَّا باكيا.

وَرَأى عبد الله بن مَسْعُود صَاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يضْحك فِي جَنَازَة فَقَالَ أتضحك وَأَنت فِي جَنَازَة وَالله لَا أُكَلِّمك أبدا.

وَلما مَاتَ ذَرُ بن عمر بن ذَر وَوضِعَ فِي قَبره، قَالَ أَبوهُ عمر: يَا ذَر لقد شغلنا الْحزن لَك عَن الْحزن عَلَيْك فليت شعري مَاذَا قلت وماذا قيل لَك. ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن هَذَا وَلَدي ذَر متعتني بِهِ مَا متعتني ووفيته أَجله ورزقه وَلم تنقصه حَقه، اللَّهُمَّ وَقد كنت ألزمته طَاعَتك وطاعتي وَإِنِّي قد وهبت لَهُ مَا فرط فِيهِ من طَاعَتي فَهَب لَهُ مَا فرط فِيهِ من طَاعَتك، اللَّهُمَّ وَمَا وَعَدتنِي عَلَيْهِ من الْأجر فِي مصيبتي فقد وهبت ذَلِك لَهُ، فلَا تعذبه وَأَنت أَجود الأجودين وَأكْرم الأكرمين.

والله تعالى أعلم وأحكم

شاهد أيضاً

شرح حديث “الدعاء هو العبادة” ومسائل التوسل والقضاء والقدر

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لم يزل عظيما عليّا، يخذل عدوّا وينصر …