شرح دعاء “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين” وفضله في تفريج الكربات

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ، الْقَاهِرِ الظَّاهِرِ الْمُبِينِ، لا يَعْزُبُ عَنْ سَمْعِهِ أَقَلُّ الأَنِينِ، وَلا يَخْفَى عَلَى بَصَرِهِ حَرَكَاتُ الْجَنِينِ، ذَلَّ لِكِبْرِيَائِهِ جَبَابِرَةُ السَّلاطِينِ، وَقَلَّ كَيْدُ الشَّيَاطِينِ، قَضَى قَضَاءَهُ كَمَا شَاءَ عَلَى الْخَاطِئِينَ، وَسَبَقَ اخْتِيَارُهُ لَمَّا اخْتَارَ الْمَاءَ وَالطِّينَ، فَهُؤَلاءِ أَهْلُ الشِّمَالِ وَهَؤُلاءِ أَهْلُ الْيَمِينِ، جَرَى الْقَدَرُ بِذَلِكَ قَبْلَ عَمَلِ الْعَامِلِينَ، أَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَأَسْأَلُهُ مَعُونَةَ الصَّابِرِينَ، وَأُصَلِّي على رسوله المقدَّمِ على التبيين، وعلى آله وصحبه الشاكرين، ومن اقتفى أثرهم واستَنَّ بسنتهم ليوم الفصل والدين، أما بعد:
الحديث

وَرَوَى التِّرْمِذِىُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِى وَقَّاصٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَا رَبَّهُ وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ)).
الشرح والتعليق على الحديث الحادي عشر

وَرَوَى التِّرْمِذِىُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِى وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لم نترجم سابقا لسعد بن أبي وقاص في هذا الدرس، فلذلك نذكر ترجمة مختصرة له هنا: هو سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص واسم أبي وقاص مَالِكِ بْنِ وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كلاب بْن مُرَّة ويكنى أَبَا إِسْحَاق. وأمه حمنة بِنْت سُفْيَان.

وروي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقْبَلَ سَعْدٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَقَالَ: ((‌هَذَا ‌خَالِي، فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ)) رواه الحاكم في المستدرك.

وروي عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلامِ. وَقَالَ: لَقَدْ أَسْلَمْتُ يَوْمَ أَسْلَمْتُ وَمَا فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَوَاتَ، وَأَسْلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.

وروي عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي الإِسْلامِ بِسَهْمٍ. خَرَجْنَا مَعَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ سِتِّينَ رَاكِبًا سَرِيَّةً. وفي البخاري قَالَ سَعْدٌ: ((إِنِّى لأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ، مَا لَهُ خِلْطٌ)) اهـ

وروى أحمد في مسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْدِي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ إِلا سَعْدًا فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: ((ارْمِ سَعْدُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي)).

وروي عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ:
أَلا هَلْ أَتَى رَسُـولَ اللَّهِ أَنِّي حَمَيْتُ صِحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي
أَذُودُ بِهَـــــــا عَدُوَّهُمُ ذِيَادًا بِكُلِّ حُزُونَــــــــــةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ
فَمَا يُعْتَدُّ رَامٍ مِنْ مَعَــــــــدٍّ بِسَهْمٍ مَعْ رَسُــــــــولِ اللَّهِ قَبْلِي

وثبت أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِسَعْد: ((اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لَهُ إِذَا دَعَاكَ)) رواه الحاكم في المستدرك.

وَشَهِدَ سَعْدُ بَدْرًا وأحدا وثبت يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ولّى النّاس. وَشَهِدَ الْخَنْدَقَ وَالْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ وَفَتِحَ مَكَّةَ. وَكَانَتْ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِحْدَى رَايَاتِ الْمُهَاجِرِينَ الثَّلاثُ. وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِنَ الرُّمَاةِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وروى ابن سعد في الطبقات أَنَّ سَعْدًا كَانَ يُسَبِّحُ بِالْحَصَى – وهذا يدل على جواز استعمال السبحة، وهذا الأمر مروي عنه وعن أبي هريرة وبعض أمهات المؤمنين من الصحابة، وألّف السيوطي رسالة في إثبات السبحة وأنها لا ضرر فيها ولا موضع إنكار وليست بدعة منكرة كما يقول البعض ممن خالف أهل السنة والجماعة-.

وجاء عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ رَأْسُ أَبِي فِي حِجْرِي وَهُوَ يَقْضِي. قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَايَ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ أَيْ بُنَيَّ؟ فَقُلْتُ: لِمَكَانِكَ وَمَا أَرَى بِكَ. قَالَ: فَلا تَبْكِ عَلَيَّ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُنِي أَبَدًا وَإِنِّي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ – لبشارة النبي له بالجنة، ولهذا لا يجوز أن ينقل عن عمر أو غيره أنه قال: لو دخلت رجلي اليمنى الجنة ما اطمأننت حتى تدخل الثانية. فهؤلاء بشرّهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة فلا يجوز أن يشكوا في بشارة النبي لهم في الجنة رضي الله عنهم أجمعين-.

ثمّ إِنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ مَاتَ بِالْعَقِيقِ فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِهَا. وروى مسلم في صحيحه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ. فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ فَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ وَخُرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ. فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: مَا كَانَتِ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ. عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ – كثير من الناس ينكرون على بعض أبناء المسلمين أنهم يفعلون أمورا وهي لا تكون مخالفة للشرع بل تكون موافقة للشرع فلا وجه لإنكار هؤلاء وإنما لجهلهم ينكرون، فينبغي التنبه لهذا ولا ننكر إلا المنكر، وهو مخالفة ما أجمعت عليه الأمة أي مخالفة الكتاب والسنة الثابتة-.

وروي عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: مَاتَ أَبِي، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ عَلَى عَشْرَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى رِقَابِ الرِّجَالِ وَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَالِي الْمَدِينَةِ. وَذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. وَكَانَ يَوْمَ مَاتَ ابْنَ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.

وقالت عائشة بنتُ سعدٍ: أَرْسَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بِزَكَاةِ عَيْنِ مَالِهِ خَمْسَةِ آلافِ دِرْهَمٍ. وَتَرَكَ سَعْدٌ يَوْمَ مَاتَ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.اهـ

وأخباره في الشجاعة والشدّة في دين الله واتباع السنّة والزهد والورع وإجابة الدعوة والصدق والتواضع شهيرة.

روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائتان وسبعون حديثًا.

اتفق على خمسة عشر حديثًا، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بثمانية عشر. وكان آخر المهاجرين موتًا بالمدينة ولما حضرته الوفاة دعا بجبَّة بالية له فقال: كفنوني فيها، فإني كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر وكنت أخبؤها لهذا اليوم. وإنما قال ذلك لبركتها من يوم بدر وأنه شهد بها موطنا مباركا مذكورا في كتاب الله، يلتمس البركة.

قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعْوَةُ ذِي النُّونِ ذُو النُّونِ هُوَ سَيِّدُنَا يُونُسُ بنُ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 87].

يقولُ الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ [سورة الصافات/ الآية 139-142]، الذي عُلم من نَسَبه من الحديث ومن كُتُب التفسير والتاريخ أنه يونس بن متى، ويتصل نسبه بـ بنيامين وهو أخو يوسف عليه السلام من أبيه وأمه. ذُكر نبيُّ الله يونس بن متى باسمه «يونس» في القرءان الكريم أربع مرات في سور النساء والأنعام ويونس والصافات، وذكر بوصفه ولقبه «ذي النون» و«صاحب الحوت» في موضعين من سُورتي «الأنبياء» و«القلم» قال الله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 87-88]، وقال تعالى في سورة القلم: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [سورة القلم/ الآية 48-50]، جعل الله تبارك وتعالى عَبْدَه يونس بن متى نبيًّا ورسولا وأرسله إلى أهل نينوى الذين كانوا في أرض الموصل بالعراق ليدعوهم إلى دين الإسلام ويعبدوا الله وحده، وكان أهل نينوى عددهم أكثر من مائة ألف قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [سورة الصافات/ الآية 147]. وكانت قد دخلت فيهم الوثنية وانتشرت فيهم عبادةُ الأصنام وكان لهم صَنمٌ يعبدونه يسمى «عشتار»، فذهب نبي الله يونس عليه السلام إلى نينوى في العراق امتثالا لأمر الله وليبلغ رسالة الله فدعا هؤلاء المشركين إلى دين الإسلام وعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، فكذبوه وتمردوا وأصروا على كفرهم ولم يستجيبوا لدعوته، وبقي يونس عليه الصلاة والسلام بَينَهم صابرا على الأذى يدعُوهم إلى الإسلام ويذكرهم ويعظهم، ولكنه مع طول مُكثه معهم لم يلق منهم إلا عنادًا وإصرارًا على كفرهم ووجد فيهم ءاذانا صُمَّا وقلوبًا غلفا. وقيل: أقام فيهم ثلاثًا وثلاثين سنة يدعوهم إلى الإسلام ولم يؤمن به خلال هذه المدة غير رجلين، ولما أصروا على كفرهم وعبادة الأصنام ووقفوا معارضين لدعوة نبي الله يونس عليه السلام، أيس يونس عليه الصلاة والسلام منهم بعدما طال ذلك عليه من أمرهم وخرج من بين أظهرهم ءايسًا منهم ومغاضبا لهم لكفرهم قبل أن يأمره الله تعالى بالخروج وظنَّ أن الله تعالى لن يؤاخذه على هذا الخروج من بينهم ولن يضيق عليه بسبب تركه لأهل هذه القرية وهجره لهم قبل أن يأمره الله تبارك وتعالى بالخروج. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 87]، وقوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ﴾ يعني يُونس بن متى عليه السلام و«النون» أي الحوت وأضيف عليه السلام إليه لابتلاعه إياه، وقوله تعالى: ﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ أيْ ذهب مُغاضبًا لقومه أهل نينوى لأنّهم كذّبوه ولم يؤمنوا بدعوته وأصروا على كفرهم وشركهم وأبطؤوا عن تلبية دعوته والإيمان به وبما جاء به من عند الله.

لا يجوز أن يعتقد أن نبيّ الله يونس عليه السلام ذهب مُغاضبًا لربه فإن هذا كفر وضلال ولا يجوزُ في حقّ أنبياء الله الذين عصمهم الله وجعلهم هُداةً مُهتدين عَارفين بربهم، فمن نسب إلى يونس عليه السلام أنّه ذهب مغاضبًا لله فقد افترى على نبي الله ونَسَب إليه الجهل بالله والكفر به وهذا يستحيل على الأنبياء لأنّهم معصومون من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها، وأمَّا قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أي ظنَّ أنّ الله تعالى لن يُضيق عليه بتركه لقومه قبل أن يؤمر بذلك، ولا يجوز أيضًا أن يعتقد أن نبيَّ الله يونس عليه السلام ظن أن الله تعالى لا يستطيع عليه لأن هذا مما لا يعذر فيه أحد العوامّ فضلا عن نبي كريم. فأنبياء الله تعالى جميعهم عارفون بالله وهم أفضل خلق الله وقد عصمهم الله تعالى من الجهل به ومن كل فعل وقول واعتقاد ينافي العصمة، ومن نسب إلى نبي الله أنه ظن أن الله تعالى لا يستطيع عليه فقد نسب إليه الكفر والجهل بالله، وهذا لا يجوز في حق الأنبياء للعصمة الواجبة في حقهم. فجميع الأنبياء منذ نشأتهم كانوا عارفين بالله، وقد أفاض الله تبارك وتعالى على قلوبهم معرفته، فكانوا مؤمنين مسلمين معصومين من الكفر والضلال، فهم لا يعتقدون ما ينافي العقيدة الصحيحة التي أمرهم باتباعها وتعليمها للناس.

حذّر يونس أهل نينوى من العذاب إن لم يؤمنوا به ويتبعوا دين الإسلام، ثم خرج مغاضبًا لهم لإصرارهم على كفرهم وعدم اتباعهم دعوته، ولما خرج عليه السلام وهو ءايسٌ منهم تَغشاهم صباحًا العذاب وصار قريبًا جدًّا منهم، وقيل: ظهرت السُّحُب السَّوداء في السماء وثار الدخان الكثيف وهبطت السُّحُب بدخانها حتى غَشيت مدينتهم واسودت سطوحهم ولما أيقنوا بالهلاك والعذاب أنه واقع بهم طلبوا يونس عليه السلام فلم يجدوه، وألهمهم الله التوبة والإنابة فأخلصوا النية في ذلك وقصدوا شيخًا وقالوا له: قد نزل بنا ما ترى فماذا نفعل؟ فقال لهم: ءامنوا بالله وتوبوا.

عند ذلك ءامنوا بالله وبرسوله يونس عليه السلام وكانوا خرجوا من القرية ولبسوا المُسُوح وهي ثياب من الشعر الغليظ، وحثوا على رءوسهم الرماد، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، ثم عجوا ورفعوا أصواتهم في الدعاء إلى الله وتضرعوا وبكى النساء والرجال والبنون والبنات وجأرت وصاحت الأنعام والدواب، وكانت ساعة عظيمة هائلة وعجوا إلى الله بالتوبة الصادقة وردوا المظالم جميعا حتى إنه كان أحدهم ليقلع الحجر من بنائه فيرده إلى صاحبه فاستجاب الله منهم وكشف عنهم بقدرته ورحمته العذاب الشديد الذي كان قَد دار على رءوسهم وصار قريبًا جدًّا منهم كَقِطع الليل المظلم، ويقال إن توبتهم في يوم عَاشُوراء يَوم الجمعة، يقول الله عز وجل: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [سورة يونس/ الآية 98].

لمّا وَعَدَ يونس بن متى قومَه بالعذاب بعد ثلاثة أيام إن لم يؤمنوا وخرج من بينهم مغاضبًا لهم بسبب كفرهم وإصرارهم وتماديهم في غَيّهم وضلالهم سار حتى وصل إلى شاطئ البحر فوجد قومًا في سفينة في البحر، فطلب من أهلها أن يركبوه معهم فتوسموا فيه خيرًا فأركبوه معهم في السفينة، وسارت بهم السفينة تَشقُّ عُباب البحر فلمّا توسطوا البحر جاءت الرياح الشديدة وهاج البحر بهم واضطرب بشدة حتى وَجلت القلوب فقال من في السفينة: إنّ فينا صاحب ذنب فأسهموا واقترعوا فيما بينهم على أنّ من يقع عليه السهم يلقونه في البحر، فلمَّا اقترعوا وقع السهم على نبيِّ الله يونس عليه الصلاة والسلام، ولكن لما توسموا فيه خيرًا لم يسمحوا لأنفسهم أن يلقوه في البحر، فأعادوا القرعة ثانيةً فوقعت عليه أيضًا، فشمَّر يونس عليه السلام ليلقي بنفسه في البحر فأبوا عليه ذلك لما عرفوا منه خيرًا، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت القرعة عليه أيضًا، فما كان من يونس عليه السلام إلا أن ألقى بنفسه في البحر المظلم وتحت ظلمة الليل الحالك، وكان إلقاؤه بنفسه في البحر لأنه كان يعتقد أنه لا يصيبه هلاك بالغرق فلا يجوز أن يظن أن ذلك انتحار منه؛ لأن الانتحار أكبر الجرائم بعد الكفر وذلك مستحيل على الأنبياء وعلى هذا يحمل ما ورد في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتر الوحي عنه في أوائل البعثة همَّ أن يلقي بنفسه من ذِروة الجبل ولم يكن همّه بذلك إلا لتخفيف شدة الوَجدِ الذي حصل له من إبطاء الوحي عليه لا للانتحار فإنّه حصل لكثير من الأولياء أنهم مشوا على الماء ولم يغرقوا، فمن حمل ما ورد في البخاري من هذه القصة أن الرسول أراد أن ينتحر فقد كفر.

وعندما ألقى يونس عليه السلام بنفسه في البحر وكّل الله تبارك وتعالى به حوتًا كبيرًا فالتقمه وابتلعه ابتلاء له على تركه قومه الذين أغضبوه دون إذن، فدخل نبي الله يونس عليه السلام إلى جوف الحوت تحفُّهُ عنايةُ الله حتى صار وهو في بطن الحوت في ظلمات حالكة ومدلهمة ثلاث وهي ظلمةُ الليل وظُلمةُ البحر وظلمةُ بطن الحوت. ثم إن الحوت بقدرة الله تعالى لم يضر يونس ولم يجرحه ولم يخدش له لحمًا ولم يَكسر له عَظمًا، وسار الحوت وفي جوفه يونس عليه السلام يشق به عباب البحر حتى انتهى به إلى أعماق المياه في البحر، وهُناك سمع يونس عليه الصلاة والسلام وهو في بطن الحوت حِسًّا وأصواتًا غريبة فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وَهُو في بطن الحوت: إنَّ هذا تسبيح دواب البحر، فما كان من نبي الله يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت وفي تلك الظلمات المدلهمة إلا أن أخذ يدعو الله عز وجل ويستغفره ويسبّحه، قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 87] وسَمِعت ملائكة السماء تَسبيحه لله عز وجل وسألوا الله تعالى له أن يُفرّجَ الضيق عنه، واستجاب الله تعالى دعاءه ونجاه من الغمِّ والكرب والضيق الذي وقع فيه لأنه كان من المُسبِـّحين له في بطن الحوت والذاكرين، وأَمَرَ الله تعالى الحوت أن يلقيَه في البرِّ فألقاهُ الحوت بالعراء وهو المكان القفر الذي ليس فيه أشجار والأرض التي لا يُتوارى فيه بشجر ولا بغيره، ويونس عليه السلام مريض ضعيف.

وقد مكث نبيُّ الله يونس عليه الصلاة والسلام في بَطن الحوت ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل غير ذلك. ولولا أنه سبّح الله وهو في بطن الحوت وقال ما قال من التسبيح والتهليل للبث في بطن الحوت إلى يوم القيامة ولبُعث من جوف الحوت، قال الله تَبَارَك وتعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [سورة الصافات/ الآية 139-148].

إذا قيل: ما الفائدة في إنباتِ شجرة اليَقطين عليه دون غيرها؟ فالجواب: أنَّ يونسَ عليه السلام خرج من بطن الحوت ضعيفًا مريضًا وهزيلا في بدنه وجِلده، فأدنى شىء يمرُّ به يُؤذيه، وفي ورق اليَقْطين – القرع – خاصِيّةٌ وهو أنه إذا تُرك على شىء لم يَقرَبه ذباب، فأنبته الله سبحانه وتعالى على يونس ليغطيه ورقُها ويمنع الذبابَ ريحُه أن يسقط عليه فيؤذيه. وفي إنبات القرع عليه حكمٌ كثيرة منها: أنَّ ورقه في غاية النعومة، وأهمية تظليل ورقه عليه لكبره ونعومته، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى ءاخره نِيئًا ومَطْبوخًا وبقشره وببذره أيضًا، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل منه.

وقد سَخّر الله تبارك وتعالى لنبيّه يونس عليه السلام بعد أن ألقاه الحوت من بطنه أُرْوِيّة – وهي الأنثى من الوعول – يستفيد من لبنها فكانت تَرعى بالبرية وتأتيه بكرةً وعشية ليتغذى بلبنها وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى وعنايته بنبيه يونس عليه الصلاة والسلام.

عودةُ نبيّ الله يونس عليه الصلاة والسلام إلى قومِه: ولَمّا أصاب نبيّ الله يونس عليه الصلاة والسلام ما أصابه من ابتلاع الحوت له، علم عليه السلام أنَّ ما أصابه حصل له ابتلاء له بسبب استعجاله وخروجه عن قومه الذين أُرسل إليهم بدون إذن من الله تعالى، وعاد عليه الصلاة والسلام إلى قومه أهل نينوى في العراق فوجدهم مؤمنين بالله تائبين إليه منتظرين عودة رسولهم يونس عليه السلام ليأتمروا بأمره ويتبعوه، فَمَكَث عليه الصلاة والسلام مَعَهم يعلمهم ويرشدهم، ومتّعَ الله تعالى أهلَ نينوى في مدينتهم مدة إقامة يونس فيهم وبعده ءامنين مُطمئنين إلى حين، ثم لمّا ضلوا بعد ذلك عن الصراطِ المستقيم الذي جاءهم به نبيُّهم وتولوا عن الإيمان دَمّرَ الله تعالى لهم مدينتهم وأنزل عليهم العذابَ وَصَارت مدينتهُم عِبرةً للمعتبرين، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [سورة الصافات/ الآية 147-148]، ويقال: إن سيدنا يونس دفن على ساحل البحر قبل مدينة صيدا، وقيل: هذا الموضع الذي ألقاه فيه الحوت، والله أعلم بصحة ذلك.

فائدة: قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [سورة الصافات/ الآية 139]، وروى البخاري وغيره بالإسناد عن عبد الله بن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى)). قال القرطبي: في تفسير الآية: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سورة الحديد/ الآية 4] وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ وَبَيْنَ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ وَالْأَخْذُ بِالظَّاهِرَيْنِ تَنَاقُضٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ التَّأْوِيلِ اعْتِرَافٌ بِالتَّنَاقُضِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لَمْ يَكُنْ بِأَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عز وجل مِنْ ‌يُونُسَ ‌بْنِ ‌مَتَّى حِينَ كَانَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ.

إِذْ دَعَا رَبَّهُ وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ هذا يدل على أن كل الأنبياء جاؤوا بالتوحيد وكانوا يعتقدونه، فيونس في هذا الحديث ومما جاء في القرآن قال التوحيد، لا إله إلا أنت، فكلهم دعا إلى دين الإسلام فهو دين جميع الأنبياء، ويَكُونُ باخْتِصار مَعنَى قَوْلِنا “لا إِلٰه إِلا الله”: لا خالِقَ إِلّا الله. وَهذا التَّفْسِير لِكَلِمَةِ “لا إِلٰه إِلّا الله” نَصَّ عَلَيْهِ إِمامُ أَهْلِ السُّنَّة الإِمام أَبُو الحَسَن الأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الحافِظُ البَيْهَقِيّ فِى كِتابِهِ الاعْتِقاد وَهُوَ أَيْضًا مِنْ كلامِ الإِمامِ أُبِي مَنْصُورٍ الماتريدِي، فَلِذلِك أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلٰه إِلا الله أَيْ أَنْ تَعْتَرِفَ بِلِسانِكَ مَعَ التَّصْدِيقِ بِقَلْبِك أَنَّهُ لا إِلٰه إِلّا الله. لا خالِقَ لِشىءٍ مِنَ الأَشْياءِ سِواه، وَأَنَّهُ تعالى هُوَ المَوْجُود الذي لا يُشْبِهُ المَوْجُودات وَأَنَّهُ سُبْحانَه لَيسَ بِذِي صُورَة وَلا هَيْئَة وَلا كَمِّيَّة أَيْ حَجْم وَمِقْدار وَلا كَيْفِيَّة. الكَيْفِيَّةُ هِيَ عِبارَةٌ عَنْ تَغَيُّرِ الأَحْوالِ عَلَى المَخْلُوقِين. الكَيْفِيّة كلِمَة قَدْ تَسْمَعُونَها فِى عِباراتِ عُلماءِ التَّوْحِيدِ – العَقِيدَة – كَثِيرًا. ما مَعْنَى الكَيْفِيّة التي هِيَ عَنِ اللهِ تعالى وَعَنْ صِفاتِهِ مَنْفِيَّة؟ مَعناهُ لا يَجوزُ أَنْ نَصِفَ اللهَ بِها. الكَيْفِيّة هِيَ عِبارَةٌ عَنِ السُّؤالِ عَنِ تَغَيُّرِ أَحْوالِ المَخْلُوقِين. مثلًا أَسْأَلُكَ: كيف يجْلِس فُلان فَتَقُولُ لِي: يَجْلِس مُتَرَبِّعا. واللهُ تَعالى خالِق وَليسَ بِمَخْلُوق، فَلِذلِك لا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ السُّؤالُ بِكَيْف. اللهُ تعالى لا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ بِـ”كَيْف”. لِذلِكَ قالَ الإِمام أَبُو سُلَيْمانَ الخَطّابِيّ وَهُوَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَة: “إِنَّ الذي يَجِبُ عَلَيْنا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَه أَنَّ اللهَ سُبْحانَه لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ وَلا هَيْئَة” لأَنَّ الصُّورَةَ تَحْتاج إِلَى جِسم، فَيُصَوَّر هذا الجِسم بالصُّورة. وَأَنا أُمَيِّزُ فُلان عَنْ فُلان عَنْ فُلان بِصُورَتِهِ التي هُوَ عَلَيْها. اللهُ تعالى هُوَ الذي خَلَقَنا عَلَى صُوَرِنا. قالَ تعالى: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [سورة الانفطار/ الآية 8] وَالْمُصَوِّر اسْم مِنْ أَسْماءِ الله تعالى وَمَعْناهُ خالِقُ الصُّوَر، فَخالِقُ صُوَرِنا، رَبُّنا سبحانَهُ وَتعالى ليسَ بِذِي صُورَة لأَنَّ الخالِقَ لا يُشْبِهُ المَخْلُوق. لِذلِكَ قالَ الإِمام أَبُو سُلَيْمانَ الخَطّابِيّ: “إِنَّ الذي يَجِبُ عَلَيْنا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَه أَنَّ اللهَ سُبْحانَه لَيسَ بِذِي صُورَةٍ وَلا هَيْئَة لأَنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الكَيْفِيّة وَالكَيْفِيّةُ عَنِ اللهِ وَعَنْ صِفاتِهِ مَنْفِيَّة”، مَنْفِيَّة مَعناهُ لا يَجُوزُ أَنْ نَصِفَ اللهَ تعالى بِالكَيْفِيّة وَلا بِالصُّورَة وَلا بِالهَيْئَة. واللهُ لا يَحتاجُ إِلَى شىءٍ مِنْ مَخْلُوقاتِهِ ولا إِلَى أَرْضِهِ وَلا إِلَى كُرْسِيِّهِ وَلا إِلَى عَرْشِهِ. خَلَقَ الخَلائِقَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُم أَزَلًا وَأَبَدا وَكُلُّ الخَلائِقِ مُحْتاجُونَ إِلَى الله فِى دَقِيقِ الأُمُورِ وَعَظِيمِها. والله لا يَنْتَفِعُ بِطاعاتِنا، لا بِصَلاتِنا وَلا بصيامِنا وَلا يَنْضَرُّ بِمعاصِينا. لا يَزْدادُ كَمالُهُ بِطاعَةِ عِبادِهِ وَلا يَنْقُصُ كَمالُهُ بِمَعْصِيَتِهِم لأَنَّ الزِّيادَةَ والنُّقْصان مِنْ صِفات المَخْلُوقات وَليسَت مِنْ صِفاتِ الخالِق. فَكَمالُ اللهِ لا يَزِيد وَلا يَنْقُص. كُلُّ مُغَيِّرٍ مُحْتاجٌ إِلَىْ مَنْ يُغَيِّرُهُ والمحتاجُ لا يَكونُ إِلٰهًا.

سُبْحَانَكَ أَسْنَدَ النَّحَّاسُ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَعْنَى “سُبْحَانَ اللَّهِ” فَقَالَ: ((تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ السُّوءِ)). ومنه قول الملائكة: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ [سورة البقرة/ الآية 30] أَيْ نُنَزِّهُكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِصِفَاتِكَ. وَالتَّسْبِيحُ فِي كَلَامِهِمُ التَّنْزِيهُ مِنَ السُّوءِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّبْحِ وَهُوَ الْجَرْيُ وَالذَّهَابُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾ [سورة المزمل/ الآية 7] فَالْمُسَبِّحُ جَارٍ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَبْرِئَتِهِ مِنَ السُّوءِ. والمعنى أي تنزّه الله وتبارك عمّا لا يليق به من الوصف بصفات المخلوقات كالجسم والجوارح والمكان والتغير والجلوس والنزول الحقيقي ونحوه فالتسبيح كما قال الزبيدي وغيره التنزيه أي تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات.

فالله تعالى هو الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ يَلِيقُ بِهِ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فِي حَقِّهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11]، وَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ يَلِيقُ بِهِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ بِلَفْظِ يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ الْكَمَالَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَمَالًا فِي حَقِّ اللَّهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ() كَالْعِلْمِ أَوْ لا كَالْوَصْفِ بِالْجَبَّارِ مَدْحٌ فِي حَقِّ اللَّهِ وَذَمٌّ فِي حَقِّ الإِنْسَانِ، وَكَالْوَصْفِ بِرَجَاحَةِ الْعَقْلِ مَدْحٌ فِي حَقِّ الإِنْسَانِ وَلا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ فِي حَقِّهِ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ أَيْ مَا لا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَاللَّوْنِ وَالْحَدِّ وَالتَّحَيُّزِ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ الْمُتَوَفَّى فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ فِي عَقِيدَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا بَيَانُ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي وَمُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَبَكَ عِبَارَتَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى أُسْلُوبِ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ الثَّلاثَةِ لا لِأَنَّ مَا يَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةُ الثَّلاثَةُ: “لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ” مَعْنَاهُ لا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا. وَالْمَحْدُودُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَا لَهُ حَجْمٌ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا، كَثِيفًا كَالإِنْسَانِ وَالشَّجَرِ أَوْ لَطِيفًا كَالنُّورِ وَالظَّلامِ، فَإِذًا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْجُلُوسِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا، وَالْمَحْدُودُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ وَلا يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّ نَفْسَهُ بِحَدٍّ يَكُونُ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الشَّىْءَ لا يَخْلُقُ نَفْسَهُ.

أَمَّا الآيَةُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/ الآية11] فَهِيَ أَصْرَحُ ءَايَةٍ فِي الْقُرْءَانِ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى التَّنْزِيهَ الْكُلِيَّ، وَالْكَافُ فِي ﴿كَمِثْلِهِ﴾ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، فَفِي الآيَةِ نَفْيُ مَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَنِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فَفِيهِ إِثْبَاتُ مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، السَّمْعُ صِفَةٌ لائِقَةٌ وَالْبَصَرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ التَّنْزِيهَ حَتَّى لا يُتَوَهَّمَ أَنَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ كَسَمْعِ وَبَصَرِ غَيْرِهِ. فَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ مِنَ اللَّطَائِفِ كَالنُّورِ وَالرُّوحِ وَالْهَوَاءِ وَمِنَ الْكَثَائِفِ كَالشَّجَرِ وَالإِنْسَانِ، وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ مَا لا يُضْبَطُ بِالْيَدِ وَالْجِسْمُ الْكَثِيفُ مَا يُضْبَطُ بِالْيَدِ أَيْ مَا يُجَسُّ بِالْيَدِ. وَهُوَ تَعَالَى لا يُشْبِهُ الْعُلْوِيَّاتِ وَلا السُّفْلِيَّاتِ – الْعُلْوِيَّاتُ مَا كَانَ فِي السَّمَوَاتِ وَالسُّفْلِيَّاتُ مَا كَانَ فِي الأَرْضِ-.

وَقَدْ يَأْتِي بَعْضُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ كَالشَّاذِلِيَّةِ الْيَشْرُطِيَّةِ الْمُنْحَرِفَةِ عَنِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ نُورِ الدِّينِ الْيَشْرُطِيِّ بِلَفْظٍ مُتَنَاقِضٍ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ عَيْنُ كُلِّ شَىْءٍ”، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : “بِأَنَّهُ عَيْنُ الأَشْيَاءِ” يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جُمْلَةُ الْعَالَمِ وَأَفْرَادَ الْعَالَمِ أَجْزَاءٌ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: “أَنَا جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ”، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ أَحْيَانًا لِشَخْصٍ: “أَنْتَ اللَّهُ وَهَذَا الْجِدَارُ اللَّهُ” فَهَؤُلاءِ لا تَأْوِيلَ لِكَلامِهِمْ وَلا يَجُوزُ الشَّكُّ فِي كُفْرِهِمْ، وَمِثْلُهُمْ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: [الْمُتَقَارِب] وَمَا فِي الْوُجُودِ سِوَى وَاحِـــدٍ وَلَكِنْ تَكَثَّرَ لَمَّـــــا صَفَـــــا

مَعْنَى كلامهم الْعَالَمُ هُوَ اللَّهُ – والعياذ بالله -، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ مَنْسُوبَةٍ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيِّ فِي الدِّيوَانِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ وَلا يَجُوزُ اعْتِقَادُ هَذَا، وَلا نَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ [الْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ وَالْفَيْضِ الرَّحْمَانِيِّ] أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ انْحَلَّ مِنْ شَىْءٍ أَوِ انْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ كَفَرَ، وَهَذَا ضِدُّ هَذَا الْبَيْتِ.

وَقَالَ بَعْضُ التِّجَّانِيَّةِ: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ عَيْنِ ذَاتِكَ الْغَيْبِيَّةِ” وَيُرَدُّ عَلَى هَؤُلاءِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ الْفَاتِحَة/2] فَإِنَّ اللَّهَ أَثْبَتَ بِذَلِكَ وُجُودَ ذَاتِهِ وَوُجُودَ الْعَالَمِ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ خَالِقُهُ وَفِي ذَلِكَ نَفْيُ الْحُلُولِ وَالْوَحْدَةِ، وَهَؤُلاءِ لَيْسُوا صُوفِيَّةً بَلِ الصُّوفِيُّ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ سَيِّدِ الصُّوفِيَّةِ الْجُنَيْدِ الْبَغْدَادِيِّ [الرِّسَالَة الْقُشَيْرِيَّة]: “التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْقَدِيمِ مِنَ الْمُحْدَثِ”، قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الأَزَلِيُّ الَّذِي لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ حَادِثٌ.

إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وَيُرَادُ هُنَا الْمَدْعُوُّ بِهِ مَعَ التَّوَسُّلِ فِيهِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِجَابَتِهِ. ومعنى هذه الألفاظ وهي قوله: الظالمين وغير ذلك مما ذكر ليس معناه أنهم يقعون بالكفر أو بالكبائر أو بالرذائل، فليسَ في قولِ آدمَ عليهِ السلامُ: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [سورة الأعراف/ الآية 23] أنَّه وقعَ في كبيرةٍ وهيَ الظلمُ أو أنَّه يخشَى عليهِ أنْ يكونَ مِن الْمُعَذَّبِيْنَ الخاسرينَ في الآخرةِ هذا مستحيلٌ على الأنبياءِ، إنما هو مِنْ قبيلِ التضرعِ والتواضعِ لربِّه لأنَّه أكلَ مِنَ الشجرةِ بغير إذنٍ مِن الله وليسَ في ذلكَ خسةٌ ولا دناءةٌ إنما هيَ صغيرةٌ دونَ ذلكَ ثمَّ تابَ فتابَ اللهُ عليهِ وهكذا كلُّ مَا وردَ في القرءانِ إخبارًا عنِ الأنبياءِ أو في الأدعيةِ والأذكارِ فلْيُتَنَبَّهْ لذلكَ، فقدْ قَالَ مُوسَى عليهِ السلامُ: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ [سورة القصص/ الآية 16]، وَقَالَ يُونُسُ عليهِ السلامُ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 87].اهـ

يقولُ اللهُ تعالى في محكمِ التنزيلِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 33]، قالَ المفسرونَ: اصطفَاهم اللهُ بالنبوةِ، ومَن اصطفاهُ اللهُ بالنبوةِ عصَمَهُ مِنَ الكفرِ والكبائرِ وصغائرِ الخسةِ لأنَّها منفِّرَةٌ للناسِ منهم، أما المعاصي الصغيرةُ التي ليسَ فيها خسةٌ ودناءةُ نفسٍ تجوزُ على الأنبياءِ ولكنهم يتوبونَ قبلَ أنْ يقتديَ بهم فيها غيرُهم، ونقولُ بجوازها عليهم كما قالَ جمهورُ الفقهاءِ لِمَا ثبتَ في القرآنِ الكريمِ ولولا ورودُ النصِّ بثبوتِها لَمَا قلنَا بها، فمَا أثْبَتَه الشرعُ أثبتْنَاهُ وما نفاهُ نفينَاه.

ومِمَّا يدلُّ على ما قلناهُ مِن عصمةِ الأنبياءِ: قولُه تعالى في سورةِ الأنعامِ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [سورة الأنعام/ الآية 124]، هذهِ الآيةُ في كتابِ اللهِ دليلٌ على عصمةِ الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ كَمَا ذكرْنَا، فمَنْ نَسَبَ الكُفْرَ أَوِ الكَبَائِرَ أَوِ الصَّغَائِرَ الَّتِي فِيهَا خِسَّةٌ وَدَنَاءَةُ نَفْسٍ لِأَنْبِيَاءِ الله تَعَالَى فَهَذَا عارض مَبْدَأَ إِرْسَالِهِمْ وَهَذَا كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ الله تَعَالَى أَرْسَلَ مَنْ هُوَ لَيْسَ أَهْلًا لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ وَفِي هَذَا مُعَارَضَةٌ لمبدأ إِرْسَالِهِمْ وَفِيهِ نِسْبَةُ السفهِ إِلَى اللهِ أَيِ التَّصَرُّفِ بِخِلَافِ الحِكْمَةِ فَمِنْ حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ جَعَلَ الأَنْبِيَاءَ مَوْصُوفِينَ بِصِفَاتٍ تَلِيقُ بِهِمْ كَالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ والفَطَانَةِ والعفةِ وبرَّأَهُمْ مِنَ الكُفْرِ وَالكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ الَّتِي فِيهَا خِسَّةٌ وَدَنَاءَةُ نَفْسِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا لِأَنَّهُمْ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِهَذِهِ النُّبُوَّةِ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾، فَمَنْ نَسَبَ لِأَنْبِيَاءِ اللهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ فَهَذَا خالفَ هذهِ الآيةَ كأنَّه يقولُ إنَّ اللهَ لا يعلمُ أينَ يجعلُ رسالتَه لأنَّه جعلَها بمَنْ هوَ ليسَ أهلًا لَهَا والعياذُ باللهِ تعالى. وَالحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ نُعَظِّمَ أَنْبِيَاءَ اللهِ تَعَالَى وَنَعْرِفَ قَدْرَهُمْ وَمَا جُعِلَ مِنْ رِفْعَةِ شَأْنِهِمْ وَأَنْ نَبْتَعِدَ عَنْ نِسْبَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ إِلَيْهُمْ فَإِنَّهُ مِنْ المهْلِكَاتِ.

فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا أَيْ: بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ، أَوْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ أَيْ: مِنَ الْحَاجَاتِ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ أي اللهُ لَهُ)) وَلَعَلَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 88].

وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلمُ كلمةً لا يقولُها مكروبٌ إلا فرّج الله عنه: كلمة أخي يونس صلى الله عليه وسلم: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87])) رواه أبو يعلى الموصلي في المعجم وابن السني في عمل اليوم والليلة.

والله تعالى أعلم وأحكم

شاهد أيضاً

شرح حديث “الدعاء هو العبادة” ومسائل التوسل والقضاء والقدر

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لم يزل عظيما عليّا، يخذل عدوّا وينصر …