المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للَّهِ أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ وَأَكْرَمِ الرَّازِقِينَ، مُكْرِمِ الْمُوَفَّقِينَ وَمُعَظِّمِ الصَّادِقِينَ، وَمُجِلِّ الْمُتَّقِينَ، وَمُذِلِّ الْمُنَافِقِينَ، أَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الذَّاكِرِينَ، وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ سَابِقِ الْمُبَكِّرِينَ، وَعَلَى عُمَرَ سَيِّدِ الآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكِرِينَ، وَعَلَى عُثْمَانَ الشَّهِيدِ بِأَيْدِي الْمَاكِرِينَ، وَعَلَى عَلِيٍّ إِمَامِ الْعُبَّادِ الْمُتَفَكِّرِينَ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَبِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، صلاة تنجينا بها من هول يومِ الدين، وتدخلنا بها الفردوس مع السالمين، أمّا بعد:
الحديث
رَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَأَبِى سَعِيدٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ وَتَغَشَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَنْ عِنْدَهُ)).
الشرح والتعليق على ألفاظ الحديث
رَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ تكلمنا في ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه سابقا وَأَبِى سَعِيدٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا هو أَبُو سَعِيْدٍ الخُدْرِيُّ سَعْدُ بنُ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ الإِمَامُ، المُجَاهِدُ، مُفْتِي المَدِيْنَةِ، اسْتُشْهِدَ أَبُوْهُ مَالِكٌ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشَهِدَ أَبُو سَعِيْدٍ الخَنْدَقَ، وَبَيْعَةَ الرُّضْوَانِ وَحَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَكْثَرَ، وَأَطَابَ، وَعَنْ: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَطَائِفَةٍ وَكَانَ أَحَدَ الفُقَهَاءِ المُجْتَهِدِيْنَ، حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَنَسٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَقْرَانِهِ وخلق كثير غيرهم، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي سَعِيْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: عُرِضْتُ يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَجَعَلَ أَبِي يَأْخُذُ بِيَدِي، وَيَقُوْلُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! إِنَّهُ عَبْلُ العِظَامِ وَجَعَلَ نَبِيُّ اللهِ يُصَعِّدُ فِيَّ النَّظَرَ، وَيُصَوِّبُهُ، ثُمَّ قَالَ: رُدَّهُ، فَرَدَّنِي.
وَرَوَى: حَنْظَلَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَشْيَاخِهِ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَحْدَاثِ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ مِنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ.
وقال أبو سعيد: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَيْكَ بِالجِهَادِ، فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَةُ الإِسْلَامِ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ، فَإِنَّهُ رُوْحُكَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، وَذِكْرُكَ فِي أَهْلِ الأَرْضِ، وَعَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إِلَاّ فِي حَقٍّ، فَإِنَّكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ.
وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أَتَى عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ ضَعَفَةِ المُسْلِمِيْنَ، مَا أَظُنُّ رَسُوْلَ اللهِ يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُم، وَإِنَّ بَعْضَهُم لَيَتَوَارَى مِنْ بَعْضٍ مِنَ العُرْيِ. فَقَالَ: ((بِمَا كُنْتُم تُرَاجِعُوْنَ؟)) قَالُوا: هَذَا رَجُلٌ يَقْرَأُ لَنَا القُرْآنَ، وَيَدْعُو لَنَا قَالَ: ((فَعُوْدُوا لِمَا كُنْتُم فِيْهِ)). ثُمَّ قَالَ: ((لِيُبشِرْ فُقَرَاءُ المُؤْمِنِيْنَ بِالفَوْزِ يَوْمَ القِيَامَةِ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِمِقْدَارِ خَمْسِمائَةِ عَامٍ، هَؤُلَاءِ فِي الجَنَّةِ يُنَعَّمُونَ، وَهَؤُلَاءِ يُحَاسَبُوْنَ)) حلية الأولياء لأبي نعيم.
وَقَدْ رَوَى: بَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ فِي مُسْنَدِهِ الكَبِيْرِ لأَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ بِالمُكَرَّرِ أَلْفَ حَدِيْثٍ وَمائَةً وَسَبْعِيْنَ حَدِيْثًا.
مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِيْنَ.
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ الْقَوْمُ غَلَب عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وسُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَوَّامون عَلَى النِّسَاءِ بِالْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَقُمْن بها يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى وهذا الحديث فيه ردّ صريح على من يحرم الاجتماع على ذكر الله أي يحرمون الذكر الجماعي ويقولون هو بدعة ضلالة والعياذ بالله، فكلامهم هذا مردود عليهم وهذا الحديث يرد عليهم، فالإمام مسلم روى هذا الجزء من الحديث في صحيحه في باب سماه: بَابُ فَضْلِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى الذِّكْرِ.اهـ وهذا رد صريح عليهم.
إذًا فتحريم الذكر الجماعي أو تحريم الاجتماع على الذكر مخالف للدين معارض لما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي في بيان استحباب ذكر الله جماعة ما رواه مسلم والترمذي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((مَا يُجْلِسُكُمْ؟)) قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ لِمَا هَدَانَا لِلإِسْلَامِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ. فقال: ((إِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ)).
فكيف يكون ما مدحه الرسول صلى الله عليه وسلم بدعة سيئة؟
وكذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ)). قال الإمام السيوطي: والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر.
وأخرج الأئمة أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن السائب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالإِهْلَالِ وَالتَّلْبِيَةِ)).
وأخرج الإمام أحمد في الزهد عن ثابت البنابي قال: إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله، واللهِ وأن عليهم من الآثام أمثالَ الجبال وأنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شىء.
قالَ البيهقيُّ: “عنْ أبي موسى الأشعريِّ قالَ: كنَّا معَ النبيِّ ﷺ كلَّمَا أَشْرَفْنَا على وادٍ هَلَّلْنَا وَسَبَّحْنَا وارتفعتْ أصواتُنا فقالَ النبيُّ ﷺ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوْا عَلَى أَنْفُسِكِمْ إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ، إِنَّ الذِيْ تَدْعُوْنَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنِقِ رَاْحِلَتِهِ))، قالَ الخطابيُّ: معناهُ أَنَّه قريبٌ بعلمِه مِنْ خلقِه قريبٌ مِمَّنْ يدعوهُ بالإجابةِ”.اهـ
هذا الحديث يستفاد منه فوائد: منها أنّ الاجتماع على ذكر الله كان في زمن الصحابة، فقد كانوا في سفر فوصلوا إلى وادي خيبر فصاروا يهللون ويكبرون بصوت مرتفع فقال رسول الله ﷺ شفقة عليهم: ((ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) أي هونوا على أنفسكم ولا تجهدوها برفع الصوت كثيرا، ((فإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ)) أي اللهُ تعالى يسمع بسمعه الأزلي كل المسموعات قوية كانت أم ضعيفة في أي مكان كانت،
وأما قوله ((وَلَا غَائِبًا)) فمعناه أنه لا يخفى عليه شىء،
وقوله: ((إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيْعًا قَرِيْبًا، وَالذِيْ تَدْعُوْنَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ))،
ليس معناه القربَ بالمسافة لأنّ ذلك مستحيل على الله فالعرش والفرش الذي هو أسفل العالم بالنسبة إلى ذات الله على حد سواء ليس أحدهما أقربَ من الآخر إلى الله بالمسافة، وإنما معناه أن الله أعلم بالعبد من نفسه وأن الله مطلع على أحواله.
قال الإمام النووي ما مختصرُه: والجهر أفضل في غير خوف الرياء أو التشويش على المصلي أو إيذاء النائم، لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم. انتهى
وفي هذا أبين البيان أن الجهر بالذكر جماعة هو ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه، وبهذا يندفع القول بأن تسمية ابن مسعود له بدعةً لأنه ثبت مرفوعا فلا يكون بدعة ويكون قد غاب عنه كما غاب عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى سنة الضحى، وقال بدعة وهي أحب ما أحدثه الناس إلى قلبي.
ومن الأدلة على الذكر الجماعي قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ … قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)). رواه البخاري
هذا الحديث شوكة في حلق كل مبتدع يحرم ما أحله الله من المشبهة والمجسمة،
والدليل عليه: قال أمير المؤمنين في الحديث الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: “ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس الذكر وأنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرهما وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، وفي دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته” انتهى كلامه.
ولكن ينبغي أن يُعلم أننا لا نحرم ذكرَ الله ذكرا صحيحا، ولكن ليس كبعض الجاهلين الذي يأتون ويجتمعون ليذكروا الله عز وجل فيقعون بالحرام يُحرِّفون لفظ الجلالة والعياذ بالله فيقولون: اللا أو آه، والعياذ بالله تعالى.
فلَا يَجُوْزُ ذِكْرُ اللهِ بِلَفْظِ “ءَاهٍ” وَلَا بِنَحْوِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الأَنِيْنِ وَالتَّوَجُّعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى فَلْيَذْكُرْهُ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي القُرْءَانِ الكَرِيْمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيْفَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [سورة الأعراف/ الآية 180]، وَكَيْفَ يَصِحُّ كَوْنُ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الشِّكَايَةِ وَالعَجْزِ وَالتَّوَجُّعِ اسْمًا للهِ، حَاشَا، فَمَا كَانَ كَذَلِكَ مِنَ الأَسْمَاءِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيْلُ أَنْ يَكْوُنْ اسْمًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَا نَحْنُ نُبْطِلُ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ فِي أَنَّ “ءَاهٍ” مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى.
أَوَّلًا: مُخَالَفَةُ دَعْوَاهُمُ القُرْءَانَ الكَرِيْمَ
أَمَّا مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِم مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّ لَهُ الأَسْمَاءَ الدَّالَّةَ عَلَى الكَمَالِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾، وَمَعْنَى الحُسْنَى الدَّالَّةُ عَلَى الكَمَالِ، فَلَا يَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى دَالًّا عَلَى خِلَافِ الكَمَالِ.
قَالَ أَبُو البَرَكَاتِ النَّسَفِيُّ فِي تَفْسِيْرِهِ: “وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [سورة الأعراف/ الآية 180]، أَيِ اتْرُكُوا تَسْمِيَةَ الَّذِيْنَ يَمِيْلُوْنَ عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيْهَا فَيُسَمُّوْنَهُ بِغَيْرِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى وَمِنَ الإِلْحَادِ تَسْمِيَتُهُ بِالجِسمِ وَالجَوْهَرِ وَالعَقْلِ وَالعِلَّةِ” اهـ،
فَتَبَيَّنَ أنّ منْ الإِلْحَادِ فِي الأَسْمَاءِ مَا يَصِلُ بِهِ الشَّخْصُ إِلَى حَدِّ الكُفْرِ كَمَنْ سَمَّى اللهَ تَعَالَى جِسْمًا أَوْ جَوْهَرًا أَوْ عَقْلًا أَوْ عِلَّةً أَوْ رُوْحًا أَوْ مُسْتَحْيِيًا أَوْ مُضِلًّا، وَتَسْمِيَةُ اللهِ بِالعِلَّةِ أَشَدُّ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالسَّبَبِ لِأَنَّ العِلَّةَ فِي اللُّغَةِ التَّغَيُّرُ،
وَأَمَّا مَا لَا يُكَفَّرُ بِتَسْمِيَتِهِ لَكِنَّهُ لَا يَجُوْزُ هُوَ كَمَنْ قَالَ عَنِ اللهِ “يَا كَامِلُ، يَا قَاضِي” فَهَذَا لَا يَكْفُرُ مُطْلِقُهُ عَلَى اللهِ، لَكِنَّ إِطْلَاقَهُ هَذَا عَلَى اللهِ مِنْ بَابِ الاسْمِ لَا يَجُوْزُ لِأَنَّهُ لَم يَرِدْ.
ثانيًا: مُخَالَفَتُهُ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ الشَّرِيْفَةَ.
وَأَمَّا مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِم مِنْ حَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّه قَالَ: ((وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: آهْ آهْ إِذَا تَثَاءَبَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ فِي جَوْفِهِ)) وفي رواية: ((وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَقُولَنَّ: هَاهْ هَاهْ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ يَضْحَكُ مِنْهُ)) رَوَاهُما التِّرْمِذِيُّ، وَرواية الحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُولُ: آهْ آهْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ)).أَوْ قَالَ: ((يَلْعَبُ مِنْهُ)) فَلَوْ كَانَ لَفْظُ ءَاهٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى كَمَا يَزْعَمُوْنُ لَم يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ)).
والحَدِيْثَ الَّذِي يَسْتَنِدُوْنَ إِلَيْهِ مَرْدُوْدٌ مَوْضُوْعٌ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الحُفَّاظِ، وهو مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الفِرْدَوْسِ وَالرَّافِعِيُّ فِي تَارِيْخِ قَزْوِيْنَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَنَا مَرِيْضٌ يَئِنُّ فَقُلْنَا لَهُ: اسْكُتْ فَقَدْ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعُوْهُ يَئِنُّ فَإِنَّ الأَنِيْنَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى يَسْتَرِيْحُ إِلَيْهِ العَلِيْلُ))، وَهُوَ حَدِيْثٌ مَوْضُوْعٌ جَزْمًا أَيْ مَكْذُوْبٌ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَاشَا أَنْ يَقُوْلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ،
قال الحَافِظُ أَحْمَدُ بنُ الصِّدِّيْقِ الغُمَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُغِيْرِ عَلَى الجَامِعِ الصَّغِيْرِ مَا نَصُّهُ: “أَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّيْلَمِيُّ مِنْ طَرِيْقِ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيْهِ مُحَمَّدُ بنُ أَيُّوْبَ بنِ سُوَيْدٍ الرَّمْلِيُّ وَهُوَ مُتَّهَمٌ بِوَضْعِ الحَدِيْثِ، وَلِي فِي بَيَانِ وَضْعِهِ جُزْءٌ مُسْتَقِلٌّ” اهـ.
وَمِمَّنْ رَدَّهُ أَيْضًا الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الجَامِعِ الصَّغِيْرِ فَقَالَ مَا نَصُّهُ: “لَكِنْ هَذَا لَم يَرِدْ فِيْهِ حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ وَلَا حَسَنٌ، وَأَسْمَاؤُهُ تَعَالَى تَوْقِيْفِيَّةٌ” اهـ.
وَقَدْ أَفْتَى شَيْخُ الأَزْهَرِ الشَّيْخُ سَلِيْمٌ البِشْرِيُّ الْمَالِكِيُّ فَتْوَتَيْنِ بِتَحْرِيْمِ الذِّكْرِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِلَفْظِ “أَحْ أَحْ” حَتَّى إِنَّهُ أَفْتَى بِتَحْرِيْمِ حُضُوْرِ مَجَالِسِهِم لِأَنَّهُ يَحْرُمُ الجُلُوْسُ فِي مَكَانٍ مَعَ مُشَاهَدَةِ المُنْكَرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَيَجِبُ تَغْيِيْرُ ذَلِكَ بِاليَدِ لِمَنْ قَدَرَ فَإِنْ لَم يَقْدِرْ بِاليَدِ فَبِالِّلسَانِ فَإِنْ لَم يَقْدِرْ فَبِالقَلْبِ فَقَالَ فِي الفَتْوَى الأُوْلَى: “لَا يَكُوْنُ الذِّكْرِ إِلَّا كَمَا وَرَدَ فِي القُرْءَانِ الْمَجِيْدِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرِيْعَةِ وَالحَقِيْقَةِ لِأَنَّ الحَقِيْقَةَ مَا جَاءَتْ إِلَّا مِنَ الشَّرْعِ،
وَأَمَّا (ءَاهٍ) فَلَمْ يثبت مِنْ طَرِيْقٍ صَحِيْحٍ أَنَهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَلَم تَضِقْ أَسْمَاءُ اللهِ عَنِ الذِّكْرِ بِهَا حَتَّى يُذْكَرَ بِغَيْرِهَا”.
وَجَاءَ فِي الفَتْوَى الثَّانِيَةِ: “وَكُلُّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نَطَقَ بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى أن قال: وَرُبَّمَا لَم تَسْمَعْ إِلَّا أَصْوَاتـًا سَاذِجَةً أَوْ شَيْئـًا يُشْبِهُ نَهِيْقَ الحِمَارِ أَوْ هَدِيْرَ الطَّائِرِ، وَيَرْحَمُ اللهُ الأَخْضَرِيَّ حَيْثُ قَالَ فِي مَنْظُوْمَتِهِ فِيْهِم:
وَيَنْبَحُوْنَ النَّبْـحَ كَالكِــــلَابِ طَرِيْقُـهُم لَيْسَتْ عَلَى الصَّوَابِ
وَلَيْسَ فِيْهِم مِن فَتًى مُطِيْــعِ فَلَعْنَــــــةُ اللهِ عَلَى الجَمِيْــــــعِ
وينبحون: قَالَ فِي تَاجِ العَرُوْسِ: يَنْبَحُ ويَنْبِح نَبْحًا بِفَتْح فَسُكُونٍ، ونَبِيحًا كأَمير، ونُبَاحًا بالضّمّ، كِلَاهُمَا مَشْهُورٌ فِي الأَصْوَاتِ.
فَهَؤُلَاءِ يُخْشَى عَلَيْهِم مِنْ تَقْطِيْعِ أَسْمَاءِ اللهِ وَتَحْرِيْفِ أَذْكَارِهِ إِنَّهُم يَذْكُرُوْنَهُ وَهِيَ تَلْعَنُهُم عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ: “رُبَّ قَارِئٍ لِلْقُرْءَانِ وَالقُرْءَانُ يَلْعَنُهُ(1)” اهـ.
وَلِلشَّيْخِ مُحَمَّدٍ أَبِي الْفَضْلِ شَيْخِ الأَزْهَرِ فَتْوَتَانَ بِالتَّحْرِيْمِ؛ الأُوْلَى مُوْجَزَةٌ أَجَابَ بِهَا عَلى سُؤَالٍ رُفِعَ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ شَيْخَ عُلَمَاءِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَالأُخْرَى مُسْهَبَةٌ أَجَابَ بِهَا عَلى سُؤَالٍ رُفِعَ إِلَيْهِ وَهُوَ شَيْخُ الأَزْهَرِ.
وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ ظَافِرٌ الْمَدَنِيُّ شَيْخُ شُيُوْخِ شَاذِلِيَّةِ عَصْرِهِ ابْنُ الأُسْتَاذِ الشَّيْخِ مُحَمَّد ظَافِرٍ الْمَدَنِيِّ نَصَّ عَلَى عَدَمِ اسْمِيَّةِ “ءَاهٍ” للهِ وَحُرْمَةِ الذِّكْرِ بِهِ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ: “الرِّسَالَةِ الظَّافِرِيَّةِ فِي ءَادَابِ الطَّرِيْقَةِ الشَّاذِلِيَّةِ”(2).
ثالِثًا: مُخَالَفَتُهُ لِأَقْوَالِ الفُقَهَاءِ
وَأَمَّا مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِم مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ الفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الأَوْسَطِ أَنَّ الأَنِيْنَ – وَهُوَ قَوْلُ “ءَاهٍ” وَ”أُوْهٍ” وَفِيْهَا لُغَاتٌ كَثِيْرَةٌ – يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمُغِيْرَةَ وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
ثُمَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ أَفْسَدَ وَإِلَّا فَلَا،
وَقَالَ العِمْرَانِيُّ فِي البَيَانِ: “فَإِنْ تَنَحْنَحَ أَوْ أَنَّ أَوْ تَنَفَّسَ أَوْ نَفَخَ فَإِنْ تَبَيَّنَ مِنْهُ حَرْفَانِ مِثْلُ أَنْ يَقُوْلَ: “ءَاهٍ” أَوْ “وَاهٍ” أَوْ “أُف” بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ كَلَامًا”،
وَقَالَ الْمَقْدِسِيُّ الحَنْبَلِيُّ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ الكَبِيْرِ مَا نَصُّهُ: “وَلَم أَرَ عَنْ أَحْمَدَ فِي التَّأَوُّهِ شَيْئًا وَلَا فِي الأَنِيْنِ، وَالأَشْبَهُ بِأُصُوْلِنَا أَنَّهُ مَتَى فَعَلَهُ مُخْتَارًا أَفْسَدَ صَلَاتَهُ”،
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالحَنَفِيَّةَ قَالُوا: الأَنِيْنُ وَالتَّأَوُّهُ إِنْ كَانَ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ أَوْ خَوْفِ النَّارِ أَوِ العَذَابِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَإِلَّا فَسَدَتْ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ بَعْضُ شُرَّاحِ مُخْتَصَرِ خَلِيْلٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ كَالخَرْشِيِّ وَمُحَمَّدٍ علَّيْشٍ، وَبَعْضُ الحَنَفِيَّةِ كالطَّحْطَاوِيِّ.
ثُمَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهَا اليَمِيْنُ وَكَذَا لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ بَعْضِ الجُهَّالِ: “وَاللَّا” بِدُوْنِ هَاءٍ بَلْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُ حَرَّفَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى.
فَبَعْدَ هَذَا كَيْفَ يَكُوْنُ “ءَاه” اسْمًا للهِ تَعَالَى وَهُوَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؟! فَإِنَّهُ لَم يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنَ الفُقَهَاءِ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَلْفَاظِ الأَنِيْنِ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ،
بَلْ قَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ وَمِنْ فُضَلَاِء أَهْلِ التَّصَوُّفِ الحَقِيْقِيّ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ، وَمِنْهُم طَاوُوسٌ وَالفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ وَذُو النُّوْنِ الْمِصْرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُم أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: “إِنَّ أَنِيْنَ الْمَرِيْضِ وَتَأَوُّهَهُ مَكْرُوْهٌ”، وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُهُم كَالنَّوَوِيِّ بِقَوْلِهِ: اشْتِغَالُهُ بِالذِّكْرِ أَوْلَى، وَهِيَ مَسْئَلَةٌ مَشْهُوْرَةٌ بَيْنَ الفُقَهَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَم يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُم إِنَّ “ءَاهٍ” مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى.
رابِعًا: مُخَالَفَتُهُ لِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ
وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِم مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، إِيْرَادُ الحَافِظِ اللُّغَوِيِّ الفَقِيْهِ مُحَمَّدٍ مُرْتَضَى الزَّبِيْدِيِّ فِي شَرْحِ القَامُوْسِ جُمْلَةً مِنْ أَلْفَاظِ الأَنِيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: “فَهُنَّ اثْنَتَانِ وَعِشْرُوْنَ لُغَةً، كُلُّ ذَلِكَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الشِّكَايَةِ أَوِ التَّوَجُّعِ وَالتَّحَزُّنِ” اهـ. وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ لِسَانِ العَرَبِ، وَبِنَحْوِهِ قَالَ الفَيُّوْمِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ.
فَالعَجَبُ كَيْفَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ بِزَعْمِهِم حَضْرَةَ ذِكْرٍ عِنْدَ وُقُوْفِهِم وَقِيَامِهِم مُتَمَاسِكِيْنَ بِالأَيْدِي وَاهْتِزَازِهِم مَعَ التَّثَنِّي وَالتَّكَسُّرِ، وَاخْتَارُوا لَفْظَ “ءَاهٍ” مِنْ بَيْنِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِيْنَ لَفْظًا ذَكَرَهَا الحَافِظُ الزَّبِيْدِيُّ فِي شَرْحِ القَامُوْسِ وَالَّتِي كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الشِّكَايَةِ وَالتَّوَجُّعِ وَالعَجْزِ وَالأَنِيْنِ، وَهُم يَزْعُمُوْنَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُم حَدِيْثُ الأَنِيْنِ الَّذِي رَدَّهُ العُلَمَاءُ،
وَالطَّرِيْقَةُ الشَّاذِلِيَّةُ الْمُسْتَقِيْمَةُ الصَّحِيْحَةُ بَرِيْئَةٌ مِنْ هَذَا وَمِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي الحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، [فماذا بعد الحق إلا الضلال] فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الحَقِّ وَالضَّلَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ وَأَقْدَرَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى إِبْطَالِ البَاطِلِ، وَالحَمْدُ للهِ.
إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ أَحْدَقُوا وَأَحَاطُوا بِهِمْ، أَوْ دَارُوا حَوْلَهُمْ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَدِرَاسَتَهُمْ وَيَحْفَظُونَهُمْ مِنَ الْآفَاتِ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِمْ، أَي أَحاطَت بِهِم الملائِكَة وَاقْتَرَبَت مِنْهُم بِحَيثُ لا يسْتَطِيع أَنْ يَدْخُلَ الشيْطانَ عَلَيْهِم. ما هذا الخَير العَظِيم!
وَتَغَشَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ أَيْ: أَتَتْهُمْ وَعَلَتْهُمْ وَغَطَّتْهُمْ، وهذه من الرحمات الخاصة التي تنزل على الذاكرين ربَّهم عز وجل؛ أَيْ غَطَّتْهُم، عَمَّتْهُم كُلُّهُم. والمقصُودُ هُنا الرّحمَة الخاصَّة، اللهُ تعالى يَجْعلُها لَهُم، وَإِلّا كُلّ واحِد مِنّا الله رَحِمَهُ بِأَنْواع مِنَ الرَّحَمات. وَعنْدَما قال تعالَى في الحديث الذي ذكرناه سابقًا: ((أُشْهِدُكُم أَنِّي قدْ غَفَرْتُ لَهُم)) أَي أَنَّ هذه الرّحمَة تَعُمُّهُم بِحَيثُ تَسْتَوْعِبُ جَمِيع ذُنُوبِهِم فَتُغْفَرُ لَهُم.
فلا يَنبَغِي أَنْ يُضَيِّعَ الإِنْسان المَجِيئَ إِلَى مَجْلِسِ الخَير، مَجلِس العِلْم بِالنِّيَّة الصالِحَة. لَوْ لَمْ يَسْتَفِد إِلّا هذا، هذا فَضْلٌ عَظِيم! كمْ منَ الناس يُضَيِّعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم بِالكَسَل هذا الفَضل العَظِيم الذي جَعَلَهُ اللهُ لمن يحضر مجالِسَ الخير، ذِكر الله وَمِنْ أَصل مجالِس الذِّكر، مَجالِسُ عِلْمِ الدِّين. هذه رِياضُ الجَنَّة، لا يَنبَغِي أَنْ يُفَوِّتَها الإِنْسان.
وَهذا الأَمْرُ لا يَخْتَصُّ بِهِم. بَلْ إِذا جاءَ إِنْسان فَجَلَسَ مَعَهُم، تُدْرِكُهُ هذه الرَّحْمَة الخاصّة التي تُدْرِكُهُم. تَصِلُهُ المنْفَعَة وَالبَرَكَة بِجُلوسِهِ مَعَهُم. إِذا كانَ هذا الذي جالَسَهُم هذا حالُهُ فماذا يَكُونُ حالُهم هُم؟؟
وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ قال ملا علي القاري: وَالسَّكِينَةُ هِيَ الْوَقَارُ وَالْخَشْيَةُ؛ يَعْنِي الشَّيْءَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ سُكُونُ الْقَلْبِ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ وَنُزُولُ الْأَنْوَارِ.
وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أي أَثْنَى اللهُ عَلَيْهِم فِيمَنْ عِنْدَهُ أَيْ اللهُ تَعالَى أَبْلَغَ الْمُعَظَّمِينَ عِنْدَهُ (الملائِكَة) أَنَّهُ راضٍ عَنْ فِعْلِهِم.
وَكَلِمَةُ (عِنْدَ) لِلتَّشْرِيفِ لَيْسَ لإِثْبَاتِ تَحَيُّزِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّ عِنْدَ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الْمَكَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [سورة هود/ الآية 82-83] إِنَّمَا تَدُلُّ (عِنْدَ) هُنَا أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ مُجَاوِرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ.
فَمَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِ كَلِمَةِ عِنْدَ لإِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالتَّقَارُبِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ نَزَلَتْ مِنَ الْعَرْشِ إِلَيْهِمْ وَكَانَتْ مُكَوَّمَةً بِمَكَانٍ فِي جَنْبِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ عَلَى زَعْمِهِمْ!!!
الإِنسان إِذا ترَقَّى حَتّى أَحَبَّهُ الله، إِذا وَصَلَ إِلَى حال صارَ مَرْضِيًّا عِنْدَ الله، اللهُ يُعْلِمُ جِبريل أَنَّهُ يُحِبُّه وَبَعدَ هذا لا يَتغَيَّرُ حالُهُ، لا يَنقَلِبُ عَدُوًّا لله. وَجِبرِيل يُعْلِمُ الملائِكَة: اللهُ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ وَيُلْقَى لَهُ المَحَبَّةُ فِى الأَرْضِ بينَ الصالِحِين. هذا فَضْلٌ عَظِيم يُعْطِيهِ اللهُ مَنْ يشاء.
وهؤلاءِ القَوم الذينَ يَجْتَمِعُونَ لِهذا العَمَلِ الحَسَن مِنْ ذِكْرِ الله وَتَدارُسِ كِتابِ اللهِ، وَتَدارُسِ عِلْمِ الدِين، اللهُ تعالَى يُعْلِمُ مَلائِكَتَهُ أَنَّهُ راضٍ بِفِعْلِهِم. وَليْسَ فقط يُعْلِمُ اللهُ تعالَى مَلائِكَتَهُ، بلْ يُعْلِمُ اللهُ تعالَى غَيرُ الملائِكَة.
النبيُّ ﷺ قال فيما رواه البزار في مسنده: ((حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ)) قال الزرقاني في شرحه على الموطأ: “رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ”. فَهذه الأَعْمالُ الحَسَنَة تُعْرَضُ أَيْضًا عَلَى نبيِّنا ﷺ وَهُو فِى قَبْرِهِ الشّرِيف، اللهُ تعالَى يُعلِمُ بِها مَنْ شاء مِنْ أَهْلِ المرتَبَةِ العالِية عِنْدَهُ.
وَهذه المجالِس، كانت عادَةُ بَعْضُ بِلادِ المسلِمينَ مِنَ السّلف أَنْ يَجْتَمِعُوا لَها بَعدَ صَلاة الصُّبح لِتَدارُسِ القُرءان وَتَذاكُرِهِ وَالتَّفَقُّهِ فِى الدِّين والسُّؤالِ عَمّا لا يَعْرِفُون. ما كانُوا كَسُولِين مِثلَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ زَمانِنا، إِنّما كانُوا يُبادرون إلى الصلاة. أَهلُ الشّام وَأَهْلُ مَكّة وَأَهْلُ البَصْرَة، هذه كانت عادَتُهُم أَيامَ السلَف. كُلَّ يَوْم، بَعدَ صَلاة الصُّبح، يَجْتَمِعُوا لِتِلاوَةِ كِتابِ الله وَتَدارُسِ عِلْمِ الدّينِ فِيما بَيْنَهُم.
والله تعالى أعلم وأحكم
الحاشية
1-أَوْرَدَهُ السُّيُوْطِيُّ فِي الجَامِعِ مَرْفُوْعًا، وَوَقَفَهُ الغَزَالِيُّ عَلَى أَنَسِ بنِ مَالِكٍ فِي الإِحْيَاءِ.
2-وقد قَرَّظَ الرسالة المذكورة كثير من العلماء على اختلاف مذاهبهم ومن تلك التقاريظ: عبد الله دراز المالكي وكيل معهد علماء الإسكندرية، ومحمد تاج الدين الحنفي، وعبد الهادي الضرغامي المالكي، ومصطفى صفوت المالكي، وأمين سرور الشافعي المدرسين بمشيخة الإسكندرية، وإسماعيل حسين أمين الشاذلي، وعلي الشايب وكلاهما من مشايخ الأزهر، وإبراهيم السيد من مشايخ الجامع الأحمدي.