المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ، الْقَاهِرِ الظَّاهِرِ الْمُبِينِ، لا يَعْزُبُ عَنْ سَمْعِهِ أَقَلُّ الأَنِينِ، وَلا يَخْفَى عَلَى بَصَرِهِ حَرَكَاتُ الْجَنِينِ، ذَلَّ لِكِبْرِيَائِهِ جَبَابِرَةُ السَّلاطِينِ، وَقَلَّ عِنْدَ دِفَاعِهِ كَيْدُ الشَّيَاطِينِ، قَضَى قَضَاءَهُ كَمَا شَاءَ عَلَى الْخَاطِئِينَ، وَسَبَقَ اخْتِيَارُهُ لَمَّا اخْتَارَ الْمَاءَ وَالطِّينَ، فَهُؤَلاءِ أَهْلُ الشِّمَالِ وَهَؤُلاءِ أَهْلُ الْيَمِينِ، جَرَى الْقَدَرُ بِذَلِكَ قَبْلَ عَمَلِ الْعَامِلِينَ، ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 45]، أَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَأَسْأَلُهُ مَعُونَةَ الصَّابِرِينَ، وَأُصَلِّي على رسوله المقدم على النبيين، وَعَلَى صَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ أَوَّلِ تَابِعٍ لَهُ عَلَى هذا الدِّينِ، وَعَلَى الْفَارُوقِ عُمَرَ الْقَوِيِّ الأَمِينِ، وَعَلَى عُثْمَانَ زَوْجِ ابْنَتِيهِ وَنِعْمَ الْقَرِينُ، وَعَلَى عَلِيٍّ بَحْرِ الْعُلُومِ الأَمين، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ ذِي الْفَخْرِ الْقَوِيمِ وَالنَّسَبِ الصَّمِيمِ، وأُسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
الحديث
فقد وصلنا إلى حديث عظيم من أحاديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما رَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ)).
في هذا الحديث العظيم فوائد كثيرة في التوحيد والتعظيم لربّ العزة عزّ وجلّ.
ترجمة راوي الحديث: عبادة بن الصامت
روى الْبُخَارِيُّ ومسلم في صحيحيهما عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه: هو عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ بنِ قَيْسِ بنِ أَصْرَمَ الأَنْصَارِيُّ الإِمَامُ، القُدْوَةُ، أَبُو الوَلِيْدِ الأَنْصَارِيُّ، أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ، وَمِنْ أَعْيَانِ البَدْرِيِّيْنَ، سَكَنَ بَيْتَ المَقْدِسِ، حَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو أُمَامَةَ البَاهِلِيُّ، وَأَنَسُ بنُ مَالِكٍ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الخَوْلَانِيُّ الزَّاهِدُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي تَسْمِيَةِ مَنْ شَهِدَ العَقَبَةَ الأُوْلَى: عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ، شَهِدَ المَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسَوَلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وروي عن عبادة بن الصامت أنه قال: خَلَوْتُ بِرَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أَيُّ أَصْحَابِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ حَتَّى أُحِبَّهُ قَالَ: ((اكْتُمْ عَلَيَّ حَيَاتِي: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عثمان ثم عَلِيٌّ))، ثُمَّ سَكَتَ، فَقُلْتُ: ثُمَّ مَنْ يَا رَسُوْلَ اللهِ قَالَ: ((مَنْ عَسَى أَنْ يَكُوْنَ إِلَاّ الزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو أَيُّوْبَ، وَأَنْتَ يَا عُبَادَةَ، وَأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَابْنُ عَوْفٍ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ مِنَ المَوَالِي: سَلْمَانُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ)).
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: جَمَعَ القُرْآنَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمْسَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ: مُعَاذٌ، وَعُبَادَةُ، وَأُبَيٌّ، وَأَبُو أَيُّوْبَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ.
جاء في كتاب الكنى والأسماء للدولابي وتاريخ دمشق لابن عساكر: كَانَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَقَامَ خَطِيْبٌ يَمْدَحُ مُعَاوِيَةَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، فَقَامَ عُبَادَةُ بِتُرَابٍ فِي يَدِهِ، فَحَشَاهُ فِي فَمِ الخَطِيْبِ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَهُ عُبَادَةُ: إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا حِيْنَ بَايَعْنَا رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالعَقَبَةِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَمَكْسَلِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَاّ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُوْمَ بِالحَقِّ حَيْثُ كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِيْنَ – أي الذين يمدحون للعجب والفخر وطلب الدنيا -، فَاحْثُوا فِي أَفْوَاهِهِمُ التُّرَابَ)).
كَانَ عُبَادَةُ رَجُلًا طُوَالًا، جَسِيْمًا، جَمِيْلًا.
مَاتَ: بِالرَّمْلَةِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِيْنَ، وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ سَنَةً. وَقَالَ ضَمْرَةُ: عَنْ رَجَاءِ بنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَبْرُ عُبَادَةَ بِبَيْتِ المَقْدِسِ.
سَاقَ لَهُ بَقِيٌّ فِي مُسْنَدِهِ مائَةً وَأَحَد وَثَمَانِيْنَ حَدِيْثًا، وَلَهُ فِي البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: سِتَّةٌ وَانْفَرَدَ البُخَارِيُّ: بِحَدِيْثَيْنِ، وَمُسْلِمٌ: بِحَدِيْثَيْنِ.
الشرح
قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ شَهِدَ أي من قالها معتقدا معناها، فإنه لا بُدَّ لِلدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ مِنَ الإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الِاعْتِقَادِ بِمَعْنَاهُمَا بِالْقَلْبِ وَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَقَلَ الْحَافِظُ النَّوَوِىُّ الإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.
وَعِبَارَةُ النَّوَوِىِّ فِى شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِى النَّارِ بِالإِجْمَاعِ اﻫـ أَىْ وَلَمْ يَنْطِقْ بِاللَّفْظِ الصَّحِيحِ.
وَقَبْلَهُ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَاضِى عِيَاضٌ فَقَالَ: وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُرْتَبِطَةٌ بِالشَّهَادَتَيْنِ لا تَنْفَعُ إِحْدَاهُمَا وَلا تُنْجِى مِنَ النَّارِ دُونَ الأُخْرَى.
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
أولًا أقول: إن فهم معنى الشهادتين هو أساس الدين وأصله، والأولوية تكون في نشره بين الناس وهذه طريقة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، معاذ بن جبل حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لليمن وبلاد الشام، وكان عالما شابا صالحا تقيا شجاعا، ماذا قال له؟؟ روى البخاري عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلّم لمَّا بَعثَ مُعاذًا رضيَ اللهُ عنهُ على اليمنِ قال: ((إنكَ تَقْدَمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فلْيكُنْ أولَ ما تدَعوهم إليهِ عِبادةُ اللهِ، فإذا عَرفوا اللهَ فأخبرهم: أنَّ اللهَ قد فرضَ عليهم خمس صلواتٍ في يومِهم وليلتِهم، فإذا فَعلوا، فأخبرهم: أنَّ اللهَ فرضَ عليهم زكاةً مِن أموالِهم وتُرَدُّ على فُقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخُذْ منهم، وتَوَقَّ كرائمَ أموالِ الناسِ)).
هذا الحديث يدل على أمور كثيرة، وهي: أنّ الشخص مهما كان يعبد غير الله فهو ليس موحدا، فهم يدَّعون أنهم أهل توحيد وأنهم يعبدون الله ولكن النبي نفى عنهم ذلك. وقوله: أول ما تدعوهم إليه عبادة الله أي إلى توحيد الله فإذا هم عبدوا الله وتركوا الكفر ودخلوا الإيمان صاروا عابدين لله بالنطق بالشهادتين مع اعتقاد معناهما. والنبي لم يقل له هؤلاء يعبدون الله، لا، لم يقل له هؤلاء أهل كتاب فعلمهم الصلاة، لا، بل قال: فإن هم أجابوا لذلك أي إن أسلموا فعلمهم الصلاة.
فالأصل الأول هو عبادة الله وحده، فالأمور على حسب أولوياتها في الشرع ليس على ما يظنه الجاهل، بعض المجسمة يظن نفسه من عباد الله المخلصين وهم في الحقيقة لم يعبدوا الله بل عبدوا جسما توهموه.
ومن هذا الحديث نعلم أن الأولويات على حسب ما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم ليس على ما يظنه هؤلاء الجاهلون، بعض الناس يقول لك أهم شيء أن أعرف تلاوة القرآن أو أن أحفظ القرآن أو أن أشتغل بقيام الليل أو بالذكر اللساني ونحو ذلك، وهذا الحديث يبين الأولويات ويرد على كل هؤلاء، ممن لم يعرفوا الأولويات في دين الله فالذي يقرر الأولويات هو النبي صلى الله عليه وسلم لا الهوى والتشهي وماذا يريد فلان وماذا يريد فلان. فمعرفة الله والرسول هي الأساس، ومن الأساس بل أعظم ما يجب التحذير منه هو الكفر بالله، بعض الناس يقول نحذر من الاختلاط المحرم بزعمهم، وبعضهم يقول نحذر من الغش في البيع والشراء، نقول لهم هذه كلها منكرات يجب التحذير منها لكن الأولى في التحذير منه هو الكفر بالله والعياذ بالله تعالى وهذا هو نهج محمد صلى الله عليه وسلم.
فالرسول عندما بعث في مكة كم كان هناك من عادات خبيثة فاسدة التي انتشرت بين الناس مثل وأد البنات والزنا والربا وغيرها، أول ما بدأهم الرسول عليه السلام التوحيد لم يقل لهم تعلموا الاستنجاء أو فرائض الغسل أو الحجاب، بل بدأهم بالعقيدة وبعد ذلك صارت الأحكام تنزل تباعا وغالب الأحكام نزلت في المدينة وفي مكة التركيز على توحيد الله، والنبي كان يمر بهم وهم مجتمعون بالموسم فيقول لهم أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
وهذا الذي ركز عليه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم لو بقوا على الكفر وعملوا صور هذه العبادات ظاهرا لا تنفعه عند الله ولا تصح منه ولا تقبل منه. النبي عليه السلام كم أوذي لأجل هذه الدعوة الشريفة. ثم صار الإسلام يدخل إلى بيوت أهل مكة يسلم هذا العبد يسلم هذا الرجل وهذه المرأة ثم انتشر الإسلام وتوسع.
ثم أمر آخر أذكره: بلال رضي الله عنه أوذي كل هذا الأذى لأي شيء؟ هل لمجرد أنه يصدق في الحديث؟! أو لأنه كان أمينا؟! لا، لأجل التوحيد لأجل الإسلام، لأنه صار يعتقد أن الله أحد. لأجل هذا ضربوه وعذبوه لأنه كان يقول أحد أحد لأنه صار يعتقد أن الله ليس له شريك والذي ليس له شريك يكون أزليا لا يكون حادثا والأزلي لا يكون جسما ولا متحيزا في مكان فالأماكن حادثة مخلوقة والأزلي لا يتخصص بالمخلوقات. وتلك الأصنام التي عبدها الكفار ولو كانوا علقوها على الكعبة هي ليست آلهةً تُعبد لأن الألوهية لا تصلح لمن كان جسما والعياذ بالله تعالى. هذا هو الأساس وهذه هي الأولويات وهذا هو الأهم في دين الله.
في هذه الشهادة أي كلمةِ التوحيد إثباتُ الوحدانية لله تعالى وإفراده عز وجل بالألوهية فهو سبحانه واحد في ذاته واحد في صفاته، لا ذاتُه يشبه الذوات ولا صفاته تشبه الصفات ولا فعله يشبه الأفعال، فهو سبحانه ليس جسما ولا يوصف بصفات الأجسام وليس حجما كبيرا ولا صغيرا لا يوصف بالكيفية ولا بالصورة ولا بالتغير ولا بالانتقال ولا بالكون في مكان، بل هو سبحانه خلق المكان والزمان والجهاتِ ولا يتحيز فيها، وهو موصوف بصفات لائقة به عز وجل،
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِىَ:
الْوُجُودُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ لا شَكَّ فِى وُجُودِهِ
وَالْوَحْدَانِيَّةُ أَىْ أَنَّهُ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ
وَالْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ
وَالْبَقَاءُ أَىْ أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ لا يَمُوتُ وَلا يَهْلِكُ وَلا يَتَغَيَّرُ
وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ أَىْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ
وَالْقُدْرَةُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ أَىْ عَلَى كُلِّ مُمْكِنٍ عَقْلِىٍّ وَهُوَ مَا يَجُوزُ عَقْلًا وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً أُخْرَى
وَالإِرَادَةُ أَىِ الْمَشِيئَةُ وَهِىَ تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِىِّ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ
وَالْعِلْمُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ يَعْلَمُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ شَامِلٍ لِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ لا يَتَجَدَّدُ وَلا يَتَغَيَّرُ وَلا يَنْقُصُ وَلا يَزِيدُ
وَالسَّمْعُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ الأَزَلِىِّ الَّذِي لَيْسَ كَسَمْعِ غَيْرِهِ فَسَمْعُ اللَّهِ قَدِيمٌ وَسَمْعُ غَيْرِهِ حَادِثٌ يَسْمَعُ اللَّهُ بِسَمْعِهِ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى أُذُنٍ وَلا ءَالَةٍ أُخْرَى
وَالْبَصَرُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَرَى بِرُؤْيَتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ كَرُؤْيَةِ غَيْرِهِ فَبَصَرُ اللَّهِ قَدِيمٌ وَبَصَرُ غَيْرِهِ حَادِثٌ، يَرَى رَبُّنَا بِبَصَرِهِ كُلَّ الْمُبْصَرَاتِ فَيَرَى ذَاتَهُ وَمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حَدَقَةٍ وَلا ءَالَةٍ أُخْرَى
وَالْحَيَاةُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَىٌّ بِحَيَاةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لا تُشْبِهُ حَيَاتَنَا لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ وَعَصَبٍ وَمُخٍّ
وَالْكَلامُ أَىْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ وَاحِدٍ أَزَلِىٍّ أَبَدِىٍّ لا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً، قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ: “وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلاتِ وَالْحُرُوفِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِلا ءَالَةٍ وَلا حُرُوفٍ وَالْحُرُوفُ مَخْلُوقَةٌ وَكَلامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ”
وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ أَىْ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَمَعْنَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ وَهِىَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ وَأُصَدِّقُ وَأُذْعِنُ بِقَلْبِى وَأَعْتَرِفُ بِلِسَانِى أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَىِ الْمَنْسُوبَ إِلَى أَشْرَفِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ قُرَيْشَ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَىْ يَتْبَعُ الإِيـمَانَ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَأُمُّهُ هِىَ ءَامِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ مِنْ بَنِى زُهْرَةَ مِنْ قُرَيْش وَبُعِثَ بِهَا أَىْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ بِالنُّبُوَّةِ وَهُوَ مُسْتَوْطِنٌ فِيهَا وَكَانَ حِينَئِذٍ فِى غَارِ حِرَاءٍ وَهَاجَرَ أَىْ فَارَقَ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَاتَ وَدُفِنَ فِيهَا فِى حُجْرَةِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا.
وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَيْضًا اعْتِقَادَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِى جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ وَلا يُخْطِئُ فِى ذَلِكَ أَبَدًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الأُمَمِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ أَمْ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ أَمْ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِى الْمُسْتَقْبَلِ أَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ وَحْىٍ فَكَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيهِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَىْ فَمِمَّا يَجِبُ الإِيـمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ جَزْمًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَذَابُ الْقَبْرِ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ كَعَرْضِ النَّارِ عَلَى الْكَافِرِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أَوَّلَ النَّهَارِ وَمَرَّةً ءَاخِرَ النَّهَارِ يَتَعَذَّبُ بِنَظَرِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِمَقْعَدِهِ الَّذِي يَقْعُدُهُ فِى الآخِرَةِ وَكَالِانْزِعَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَوَحْشَتِهِ وَنَعِيمُهُ أَىْ نَعِيمُ الْقَبْرِ كَتَوْسِيعِ الْقَبْرِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَكَتَنْوِيرِهِ بِنُورٍ يُشْبِهُ نُورَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ.
وَسُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فَيُسْأَلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَنِ اعْتِقَادِهِ الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ فَيُجيبُ كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا السُّؤَالِ النَّبِىُّ وَالطِّفْلُ وَهُوَ الَّذِي مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ وَشَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ
وَالْبَعْثُ وَهُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِحْيَائِهِمْ
وَالْحَشْرُ وَهُوَ أَنْ يُجْمَعَ الْخَلْقُ وَيُسَاقُوا بَعْدَ بَعْثِهِمْ إِلَى الْمَحْشَرِ
وَالإِيمَانُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُهُ مِنْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ.
وَالْحِسَابُ وَهُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ
وَالثَّوَابُ وَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُجَازَاهُ الْمُؤْمِنُ فِى الآخِرَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِمَّا يَسُرُّهُ
وَالْعَذَابُ وَهُوَ مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْمَعَاصِى
وَالْمِيزَانُ وَهُوَ مَا تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالنَّارُ أَىْ جَهَنَّمُ وَهِىَ الدَّارُ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِتَعْذِيبِ الْكَافِرِينَ وبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَهِىَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ وَلا تَزَالُ بَاقِيَةً إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ.
وَالصِّرَاطُ وَهُوَ جِسْرٌ يُمَدُّ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ فَيَرِدُهُ النَّاسُ وَتَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالطَّرَفُ الآخَرُ فِيمَا يَلِي الْجَنَّةَ بَعْدَ النَّارِ
وَالْحَوْضُ وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ
وَالشَّفَاعَةُ فَيَطْلُبُ الشُّفَعَاءُ فِى الآخِرَةِ مِنَ اللَّهِ إِسْقَاطَ الْعِقَابِ عَنْ بَعْضِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهِىَ لا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالْجَنَّةُ وَهِىَ مَكَانٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لِتَنْعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِىَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ وَلا تَزَالُ بَاقِيَةً إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ
وَالرُّؤْيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِى الآخِرَةِ أَىْ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَهَذَا خَاصٌّ بالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ وَلا تَشْبِيهٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ: “وَاللَّهُ تَعَالَى يُرَى فِى الآخِرَةِ، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُؤُوسِهِمْ بِلا تَشْبِيهٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ وَلا كَمِيَّةٍ وَلا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ” أَىْ لا كَمَا يُرَى الْمَخْلُوقُ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِ لِأَنَّ الْمَرْئِىَّ عِنْدَئِذٍ يَكُونُ فِى جِهَةٍ مِنَ الرَّائِى وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ فِى مَكَانِهِمْ فِى الْجَنَّةِ فَيَرَوْنَ اللَّهَ وَاللَّهُ بِلا مَكَانٍ.
وَالْخُلُودُ فِيهِمَا أَىْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَخْلُدُونَ فِى الْجَنَّةِ والكافرينَ يَخْلُدُونَ فِى النَّارِ وَأَنَّهُ لا مَوْتَ بَعْدَ ذَلِكَ
وَالإِيمَانُ بِمَلائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَىْ بِوُجُودِهِمْ وَأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَهُمْ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلا إِنَاثًا لا يَأْكُلُونَ وَلا يَشْرَبُونَ وَلا يَنَامُونَ وَلا يَتَوَالَدُونَ.
وَرُسُلِهِ أَىْ أَنْبِيَائِهِ مَنْ كَانَ رَسُولًا أُرْسِلَ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ ومَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَالنَّبِىُّ غَيْرُ الرَّسُولِ هُوَ إِنْسَانٌ أُوحِىَ إِلَيْهِ لا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ بَلْ بِاتِّبَاعِ شَرْعِ الرَّسُولِ الَّذِي قَبْلَهُ وَأَوَّلُ رُسُلِ اللَّهِ هُوَ سَيِّدُنَا ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَءَاخِرُهُمْ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكُتُبِهِ وَأَشْهَرُهَا أَرْبَعَةٌ الْقُرْءَانُ وَالتَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ
وَيَجِبُ أَيْضًا الإِيـمَانُ بِالْقَدَرِ أَىِ الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الرِّضَا بِتَقْدِيرِهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فِى تَقْدِيرِهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْحُلْوَ وَالْمُرَّ فَإِنَّ الْمَقْدُورَ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ يَحْصُلُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَمَا كَانَ مِنْهُ خَيْرًا نُحِبُّهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ شَرًّا نَكْرَهُهُ.
وَيَتَضَمَّنُ الإِيمَانُ بِرِسَالَةِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا اعْتِقَادَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَلا نَبِىَّ بَعْدَهُ وَلا نَاسِخَ لِشَرِيعَتِهِ وَأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ أَجْمَعِينَ فَهُوَ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَعْلاهُمْ رُتْبَةً وَمَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ.
وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وفي هذا ردٌّ على من يقول إنه ابن الله والعياذ بالله وردٌّ على اليهود النافين لنبوة عيسى عليه السلام.
وعيسى اسمٌ أعجميٌّ غير منصرف. وقيل: اشتقاقه من العَيَس وهو البَياضُ، وقيل من العَوْس وهو السّياسة، وأَصله عِوْسًا قُلبت الواو ياءً لكسرة ما قبلها، وقالوا عِيسى لأَنَّه ساسَ نفسه بالطَّاعة، وساس قَلْبَه بالمحبّة، وساس أُمَّته بالدّعوة إِلى ربّ العزَّة.
أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ نَزَّهَ رَبَّهُ تَعَالَى وبرأه عَنِ الْوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [سورة مريم/ الآية 30-31] هَذَا أَوَّلُ كَلَامٍ تَفَوَّهَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ، فَنَزَّهَ اللَّهَ عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، بَلْ هُوَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ، ثُمَّ بَرَّأَ أُمَّهُ مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ، وَقَذَفُوهَا بِهِ وَرَمَوْهَا بِسَبَبِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي النُّبُوَّةَ مَنْ هُوَ كَمَا زَعَمُوا – أي هو نبي الله كما قال عيسى نفسه وليس ابنًا لله كما زعموا- لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء/ الآية 156]. وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالُوا: إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنْ زِنًا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ عَنْهَا أَنَّهَا صِدِّيقَةٌ، وَاتَّخَذَ وَلَدَهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا، أَحَدَ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْكِبَارِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَزَّهَ ربَّهُ عَنِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ مِنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
فائدة تستفاد من هذه الآيات:
وأول قول تكلم به نبي الله عيسى في هذه الدنيا قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾، فمن تفكر في هذا علم أن دينَ عيسى هو دين محمد صلى الله عليهما وسلم وهو دين الإسلام، وهو توحيد الله والدعوة إلى أن تكون عبدا لله عز وجل، وتفرده سبحانه بالعبودية ولا تتوجه بالعبادة لغيره سبحانه، وهذا ما دلت عليه آيات هذه القصة التي ذكرنا وما دلت عليه آيات كتاب الله عموما، فلا دين سماوي إلا الإسلام.
من هنا فإن الأديان كثيرة، فيقال للإسلام دين ولغير الإسلام من الأديان الفاسدة دين لقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [سورة الكافرون/ الآية 6]. أما العبارة المقيّدة بالسماوي فلا يصح ذلك إلا عن الإسلام لأن كل الأنبياء جاءوا بالإسلام من أولهم ءادم عليه الصلاة والسلام إلى ءاخرهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فهؤلاء جاؤوا بدين واحد وشرائع سماوية مختلفة لذا يقال شرائع سماوية؛ لأن الشرائع قد تختلف من رسول لآخر بعض الاختلافات في الفروع أما في الأصول أي الاعتقاد فلا خلاف بين نبي وآخر على الإطلاق فكلهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
وأما تفاصيل الفروع كالأحكام فقد حصل اختلاف بين بعض الشرائع فمثلًا الصلاة كانت من سيدنا ءادم إلى سيدنا يعقوب صلاة واحدة في اليوم والليلة ومن سيدنا يعقوب إلى سيدنا عيسى صلاتين وأما سيدنا محمد فقد فرضت عليه خمس صلوات في اليوم والليلة. ومن الاختلافات أيضًا أن الثوب إذا أصابه بول أيام بني إسرائيل كان لا يطهر الثوب حتى يقص الموضع المتنجس وكانت الصلاة فيما مضى لا تصح إلا في موضع مخصوص، أما في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأينما أدركتك الصلاة تصلي. ومثال ذلك: أنه كان جائزًا في شرع سيدنا ءادم أن يتزوج الأخ من أخته إن لم تكن توأمًا له لأن حواء رضي الله عنها ولدت أربعين بطنًا كل مرة ذكرًا وأنثى وكان حرامًا عليه أن يتزوج الأخ بأخته التي هي توأمة له ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بعد موت ءادم وحرم زواج الأخ بأخت إن كانت توأمة له أو لم تكن. وكان جائزًا في شرع سيدنا يعقوب عليه السلام أن يجمع الرجل في الزواج بين المرأة وأختها وهو محرم في شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وكان جائزًا في الشرائع القديمة أن يسجد المسلم للمسلم للتحية وهو محرم في شرعنا، فقد صحّ أنّ معاذ بن جبل لما قدم من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَا هَذَا؟)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِمْتُ الشَّامَ، فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ وَأَسَاقِفَتِهِمْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ، قَالَ: ((فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي لَوْ أَمَرْتُ شَيْئًا أَنْ يَسْجُدَ لِشَيْءٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)) رواه ابن حبان وابن ماجه وغيرهما.
والدليل من القرءان الكريم على أن الأنبياء كلهم يدينون بالإسلام قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 19] وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 85] وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 67] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ)) رواه البخاري واحمد وغيرهما، أي دينهم الإسلام وشرائعهم مختلفة. وقال تعالى حاكيًا عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران: الآية 52]. وقال حاكيًا عن سيدنا سليمان: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [سورة النمل/ الآية 30-31]. وقال حاكيًا عن سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101] وهنالك ءايات كثيرة تثبت ذلك أيضًا عن أنبياء ءاخرين،
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أي بشارته التي بشرتها به الملائكة كما سبق وذكرنا القصة في ذلك وَرُوحٌ مِنْهُ أي روح عيسى من عند الله خلقا وتكوينا أي هو سبحانه خلق روح عيسى وأوجدها في مريم دون أبٍ فهي روح مشرف عنده، ولما كان خلق هذه الروح ليس كما جرت عليه العادات بين البشر أضافها الله لنفسه تشريفا لها، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ [سورة التحريم/ الآية 12]، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالْفَرْجِ هُنَا الْجَيْبَ لِأَنَّهُ قَالَ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا نَفَخَ فِي جَيْبِهَا وَلَمْ يَنْفُخْ فِي فَرْجِهَا. وَكُلُّ خَرْقٍ فِي الثَّوْبِ يُسَمَّى جَيْبًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [سورة ق/ الآية 6]، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا وَنَفَخَ الرُّوحَ فِي جَيْبِهَا. وَمَعْنَى فَنَفَخْنا أَرْسَلْنَا جِبْرِيلَ فَنَفَخَ فِي جَيْبِهَا مِنْ رُوحِنا أَيْ رُوحًا مِنْ عندنَا وَهِيَ رُوحُ عِيسَى. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا، فَحَمَلَتْ مِنْ فَوْرِهَا، كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ جِمَاعِ بَعْلِهَا. وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَخَ فِيهَا، وَلَمْ يُوَاجِهِ الْمَلَكُ الْفَرْجَ، بَلْ نَفَخَ فِي جَيْبِهَا فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا، فَانْسَلَكَتْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ وَلَجَتْ فِيهِ، لَا فِي فَمِهَا، وَلَا فِي صَدْرِهَا،
وَالْجَنَّةَ حَقٌّ أي لا بد من الإيمان بالجنة وأن المؤمنين يساقون إليها وأنهم لا بد سيدخلونها، وفي هذا ردٌّ على المعتزلة الذين ينكرون وجود الجنة الآن وردٌّ على الملاحدة الذين ينكرون البعث بعد الموت،
وَالنَّارَ حَقٌّ وهذا فيه إثبات لوجود النار وأنها موئل الكافرين ومقرُّهم ويعذَّبُ فيها من شاء الله عذابه من عصاة المسلمين من أهل الكبائر الذين ماتوا من غير توبة ويخرجون بعد ذلك للجنة أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ أي وفَّق اللهُ من قال هذه الشهادةَ بتمامها معتقِدًا ما فيها لعمل صالحٍ يموت عليه فيدخل به الجنة بإذن الله ومشيئته.
وفي رواية زَادَ: ((مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ)).
فالنبي صلى الله عليه وسلم شهد لمن قالها بالجنة بإذن الله، ومعناه من اعتقد ما فيها وداوم على ذكرها وكما قلت، ولو مرة واحدة كل يوم، وهو ذِكْرٌ قليل من حيث اللفظُ كبيرٌ من حيث الفائدةُ والنفعُ،
قال ابن حجر: وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ يُدْخِلُهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ مِنَ الْبَابِ الْمُعَدِّ لِعَامِلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ.اهـ
نسأل الله أن يختم لنا على اعتقاد أهل الحق ويثبتنا على معاني هذه الشهادة العظيمة.
والله تعالى أعلم وأحكم