شرح حديث – أفضل الكلام لا إله إلا الله، وأفضل الذكر الحمد لله

المقدمة

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ، وَجَعَلَ أُمَّتَنَا خَيْرَ أُمَّةٍ، وَبَعَثَ فِينَا رَسُولًا مِنَّا يَتْلُو عَلَيْنَا آيَاتِهِ، وَيُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ الْجَمَّةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً تَكُونُ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهَا خَيْرَ عِصْمَةٍ،

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ لِلْعَالَمِينَ رَحْمَةً، وَفَرَضَ عَلَيْهِ بَيَانَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْنَا، فَأَوْضَحَ لَنَا كُلَّ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَخَصَّهُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَرُبَّمَا جَمَعَ أَشْتَاتَ الْحِكَمِ وَالْعُلُومِ فِي كَلِمَةٍ، أَوْ شَطْرِ كَلِمَةٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، صَلَاةً تَكُونُ لَنَا نُورًا مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:
الحديث

وَرَوَى التِّرْمِذِىُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:)) أَفْضَلُ الْكَلامِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ الْحَمْدُ لِلَّهِ (( قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
ترجمة راوي الحديث: جابر بن عبد الله

‌جَابِرُ ‌بنُ ‌عَبْدِ ‌اللهِ ‌بنِ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ السَّلِمِيُّ، الأَنْصَارِيُّ، الخَزْرَجِيُّ، المَدَنِيُّ، الفَقِيْهُ الإِمَامُ الكَبِيْرُ، المُجْتَهِدُ، الحَافِظُ، صَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنيته أَبُو عَبْدِ اللهِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ شَهِدَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ مَوْتًا،

رَوَى عِلْمًا كَثِيْرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ: عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَطَائِفَةٍ،

حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُ المُسَيِّبِ، وَعَطَاءُ بنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُوْسٌ، وَخَلْقٌ، وَكَانَ مُفْتِي المَدِيْنَةِ فِي زَمَانِهِ، عَاشَ بَعْدَ ابْنِ عُمَرَ أَعْوَامًا،

شَهِدَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ مَعَ وَالِدِهِ، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنَ النُّقَبَاءِ البَدْرِيِّيْنَ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدِ انْكَشَفَ عَنْهُ قَبْرُهُ إِذْ أَجْرَى مُعَاوِيَةُ عَيْنًا عِنْدَ قُبُوْرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَبَادَرَ جَابِرٌ إِلَى أَبِيْهِ بَعْدَ دَهْرٍ، فَوَجَدَهُ طَرِيًّا لَمْ يَبْلَ، وَكَانَ جَابِرٌ قَدْ أَطَاعَ أَبَاهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَعَدَ لأَجْلِ أَخَوَاتِهِ، ثُمَّ شَهِدَ الخَنْدَقَ وَبَيْعَةَ الشَّجَرَةِ،

رَوَى الترمذي في سننه عن حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: ((اسْتَغْفَرَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ البَعِيْرِ خَمْسًا وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً)).

ففي أثناء رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع، دار حوار بينه صلى الله عليه وسلم وبين جابر بن عبد الله رضي الله عنه، ظهر من خلاله حب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، واهتمامه بهم، ولطف حديثه معهم، وتفقّده لشؤونهم، ومواساته لهم بالمال والنصيحة.

فقد روى أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مُرْتَحِلًا عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَتِ الرِّفَاقُ تَمْضِي، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((مَا لَكَ يَا جَابِرُ؟)) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا. قَالَ: ((فَأَنِخْهُ))، وَأَنَاخَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: ((أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ – أَوْ قَالَ: اقْطَعْ لِي عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ -)) قَالَ: فَفَعَلْتُ. قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ((ارْكَبْ)) فَرَكِبْتُ، فَخَرَجَ وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً – يسابقها لسرعته-، قَالَ: وَتَحَدَّثَ مَعِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ؟)) قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلْ أَهَبُهُ لَكَ. قَالَ: ((لَا، وَلَكِنْ بِعْنِيهِ)) قَالَ، قُلْتُ: فَسُمْنِي بِهِ. قَالَ: ((قَدْ أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ))، قَالَ، قُلْتُ: لَا. إِذًا يَغْبِنُنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((فَبِدِرْهَمَيْنِ؟)) قَالَ، قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: فَقَدْ رَضِيتُ، قَالَ: ((قَدْ رَضِيتَ؟))، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: هُوَ لَكَ، قَالَ: ((قَدْ أَخَذْتُهُ)).

وفي رواية البخاري لما رجعوا للمدينة قال صلى الله عليه وسلم: ((ادْعُ لِيَ جَابِرًا))، قُلْتُ: الْآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الْجَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، قَالَ: ‌((خُذْ ‌جَمَلَكَ وَلَكَ ثَمَنُهُ))

فرجع جابر رضي الله عنه بأوقية الذهب، وبالجمل يقضي عليه حاجته على بغضه له.

لكن الجمل وقد مسته يد النبوة، قد غدا جملًا آخر في قوته ولين عريكته، وأثمر خيرًا وبركة للبيت كله كما قال جابر رضي الله عنه.

وعن جابر قال: فأقام الجمل عندي زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فعجز، فأتيت به عمر فعرف قصته فقال: اجعله في إبل الصدقة وفي أطيب المراعي، ففعل به ذلك إلى أن مات.

أمّا صاحب الجمل جابر بن عبد الله رضي الله عنه فيقول: ((لقد اسَتَغْفَرَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ البعير خمسا وعشرين مرة)) رواه الترمذي. ليلة البعير: هي التي اشترى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من جابر بن عبد الله جمله.

وروي عَنْ جَابِرٍ أنه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةٍ، لَمْ أَقْدِرْ أَنْ أَغْزُوَ حَتَّى قُتِلَ أَبِي بِأُحُدٍ، كَانَ يُخَلِّفُنِي عَلَى أَخَوَاتِي، وَكُنَّ تِسْعًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَا غَزَوْتُ مَعَهُ حَمْرَاءُ الأَسَدِ.

ورَحَلَ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ إِلَى مَكَّةَ فِي أَحَادِيْثَ سَمِعَهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المَدِيْنَةِ.

وَروى البخاري: أَنَّ جَابِرًا رَحَلَ فِي حَدِيْثِ القِصَاصِ إِلَى مِصْرَ، لِيَسْمَعَهُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أُنَيْسٍ. وهذا يدل على همته في طلب العلم وطلب الحديث، لأجل حديث واحد رحل مسيرة شهر، هو كان سمع هذا الحديث عن رجل عن عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن رحل شهرا للبحث عن علو الإسناد ليسمعه مباشرة من عبد الله بن أنيس ليكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم رجل واحد بدل اثنين وهذا يدل على الهمة العظيمة التي كانت عندهم لطلب العلم، وليس الأمر كحال كثير من الناس في زماننا حيث قصرت هممهم عن طلب العلم وعن نشره بين الناس.

مَاتَ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِيْنَ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِيْنَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ: أَبَانُ بنُ عُثْمَانَ، وَهُوَ وَالِي المَدِيْنَةِ.

وَقَالَ جَابِرٌ فيما رواه مسلم في صحيحه ومالك في الموطأ: قَالَ لَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ: ((أَنْتُمُ اليَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ)) وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَ مائَةٍ.

وَقَالَ جَابِرٌ: ((جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي – أي يزورني – وَأَنَا مَرِيضٌ ‌لَا ‌أَعْقِلُ – من شدة المرض ومن الحمى التي كانت علي –، فَتَوَضَّأَ، وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ – أي صبَّ عليَّ من ماء وضوئه للبركة –، فَعَقَلْتُ)) أي ذهب عنّي ما أجد من المرض بسبب بركة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث في البخاري يدلّ على جواز التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ النبي كان يُقِرُّ هذا ويعلم أنّ الله خلق فيه بركة عظيمة فكان صلى الله عليه وسلم يعين أصحابه أن ينالوا من هذه البركة.

مُسْنَدُهُ بَلَغَ أَلْفًا وَخَمْسَ مائَةٍ وَأَرْبَعِيْنَ حَدِيْثًا. اتَّفَقَ لَهُ الشَّيْخَانِ: عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِيْنَ حَدِيْثًا، وَانْفَرَدَ لَهُ البُخَارِيُّ: بِسِتَّةٍ وَعِشْرِيْنَ حَدِيْثًا، وَمُسْلِمٌ: بِمائَةٍ وَسِتَّةٍ وَعِشْرِيْنَ حَدِيْثًا.
الشرح

قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((أَفْضَلُ الْكَلامِ والكلام في العربية له معانٍ عدةٌ، في اللغة له معنى وفي النحو له معنى، وفي الفقه له معنى.

في اللغة يقولون هذا كلام عن كلّ ما أعطى معنى مفيدا كالإشارة وكعقد الأصابع وكحدود البلد وكالمحراب في المسجد كل هذا يعتبر كلامًا لأنّه يعطي معنى صحيحًا،

وفي النحو يقال كلام عن اللفظ المركّب المفيد فائدة يحسن السكوت عليها وأن يكون مقصودًا، قال ابن مالك:
‌كلامنا ‌لفظ ‌مفيد كاستقم واسم وفعل ثمّ حرفُ الكلم

وفي الفقه يقولون: من مبطلات الصلاة أن يتكلّم المصلي وهو ناسٍ أنه في الصلاة أكثر من ستّ كلمات عرفية، فهذا من مبطلات الصلاة، والستُّ كلمات هنا ما يحسن الوقوف عليه من المتكلم والسامع.

لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وهذه الكلمة هي أساس دين الإسلام لذلك كانت أفضل الكلام، وفي معناها يتضمن ما قاله بعض الفقهاء:

اعلم أرشدَنا اللهُ وإياكَ أنهُ يجبُ على كلِّ مكلّفٍ أن يعلمَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ واحدٌ في ملكِهِ، خلقَ العالمَ بأسرِهِ العلويَّ والسفليَّ والعرشَ والكرسيَّ، والسمـٰواتِ والأرضَ وما فيهمَا وما بينهُمَا.

جميعُ الخلائِقِ مقهورونَ بقدرتِهِ، لا تتحرَكُ ذرةٌ إلابإذنِهِ، ليس معهُ مُدَبّرٌ في الخلقِ ولا شريكٌ في الملكِ، حيّ قيومٌ لا تأخذُهُ سِنَةٌ ولا نومٌ، عالمُ الغيبِ والشهادةِ لا يخفى عليه شىء في الأرضِ ولا في السماءِ، يعلمُ ما في البرّ والبحرِ، وما تسقطُ من ورقةٍ إلا يعلمُهَا، ولا حبةٍ في ظلماتِ الأرضِ ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبينٍ.

أحاطَ بكلِ شىء علمًا وأحصَى كلّ شىءٍ عددًا، فعّالٌ لما يريدُ، قادرٌ على ما يشاءُ، له الملكُ وله الغِنى، وله العِزُّ والبقاءُ، وله الحكمُ والقضاءُ، وله الأسماءُ الحسنى، لا دافعَ لما قضَى، ولا مانعَ لما أعطَى، يَفْعَلُ في ملكِهِ ما يريدُ، ويَحْكُمُ في خَلْقِهِ بما يشاءُ، لا يَرجُو ثوابًا ولا يخافُ عقابًا، ليس عليهِ حقٌ يلزَمُهُ ولا عليهِ حُكْمٌ،

وكلُّ نِعْمةٍ منْهُ فَضْلٌ وكل نِقْمةٍ منه عَدْلٌ، لا يُسألُ عمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألونَ.

مَوجودٌ قبلَ الخَلْقِ، ليسَ لهُ قبلٌ ولا بعدٌ، ولا فَوقٌ ولا تحتٌ، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خلفٌ، ولا كلٌّ ولا بعضٌ، ولا يقالُ متَى كانَ ولا أينَ كانَ ولا كيفَ، كانَ ولا مكانَ، كوَّنَ الأكوانَ، ودبَّرَ الزمانَ، لا يتقَيَّدُ بالزمانِ، ولا يتخصَّصُ بالمكانِ، ولا يشغَلُهُ شأْنٌ عن شأْنٍ، ولا يلحقُهُ وهمٌ ولا يكتنِفُهُ عقلٌ، ولا يتخصَّصُ بالذّهنِ، ولا يتمثَّلُ في النفسِ، ولا يُتَصَورُ في الوهمِ، ولا يتكيفُ في العقلِ، لا تَلْحَقُهُ الأوهامُ والأفكارُ، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11].

معرفة الله أمر مهم فالله الواحدُ الأحدُ، الفردُ الصّمدُ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، الذي لم يتخذْ صاحبةً وليس له والدٌ ولا والدةٌ، الأولُ القديمُ الذي لا يُشبِه مخلوقَاته بوجهٍ من الوجوه، لا شبيهَ ولا نظيرَ له، ولا وزيرَ ولا مُشيرَ له، ولا مُعينَ ولا ءامِرَ له، ولا ضِدَّ ولا مُغالِبَ ولا مُكْرِهَ له، ولا نِدَّ ولا مِثلَ له، ولا صورةَ ولا أعضاءَ ولا جوارحَ ولا أَدواتَ ولا أَركانَ له، ولا كيفيةَ ولا كميةَ صغيرةً ولا كبيرةً له فلا حَجْمَ له، ولا مِقدارَ ولا مِقياسَ ولا مِساحةَ ولا مَسافةَ له، ولا امتدادَ ولا اتِّساعَ له، ولا جهةَ ولا حَيِّزَ له، ولا أَينَ ولا مكانَ له، كان الله ولا مكان وهو الآنَ على ما عليهِ كانَ بلا مكان.

تنزَّه ربّي عن الجلوسِ والقعودِ والاستقرارِ والمحاذاةِ، الرّحمـٰنُ على العرشِ استوى استواءً منزهًا عن المماسةِ والاعوجاجِ، خلقَ العرشَ إظهارًا لقدرتِهِ ولم يتَّخِذه مكانًا لذاتِهِ، ومن اعتقدَ أنَّ اللهَ جالسٌ على العرشِ فهو كافرٌ، الرّحمـٰنُ على العرشِ استوى كما أخبرَ لا كما يخطرُ للبشرِ، فهو قاهرٌ للعرشِ مُتَصرِّفٌ فيه كيف يشاءُ، تنزَّهَ وتقدَّسَ ربّي عن الحركةِ والسكونِ، وعن الاتصالِ والانفصالِ والقُربِ والبُعدِ بالحِسِّ والمسافةِ، وعن التَّحوُّلِ والزّوالِ والانتقالِ، جلَّ ربّي لا تُحيطُ به الأَوهامُ ولا الظُّنونُ ولا الأفهامُ، لا فِكرةَ في الرَّبِّ، لا إلـٰـه إلا هو، تقدَّسَ عن كلِّ صفاتِ المخلوقينَ وسِمَاتِ المحدَثينَ، لا يَمَسُّ ولا يُمَسُّ ولا يُحَسُّ ولا يُجَسُّ، لا يُعرَفُ بالحواسِّ ولا يُقاسُ بالناس، نُوَحِّدُه ولا نُبَعِّضُه، ليس جسمًا ولا يتَّصِفُ بصفاتِ الأجسام،

فالمجسِّم كافر بالإجماع وإن قال الله جسمٌ لا كالأجسام وإن صام وصلى صورةً، فالله ليس شبحًا، وليس شخصًا، وليس جوهرًا، وليس عَرَضًا، لا تَحُلُّ فيه الأعراضُ، ليس مؤلَّفًا ولا مُرَكَّبًا، ليس بذي أبعاضٍ ولا أجزاءٍ، ليس ضَوءًا وليس ظلامًا، ليس ماءً وليس غَيمًا وليس هواءً وليس نارًا، وليس روحًا ولا له روحٌ، لا اجتماعَ له ولا افتراقَ، لا تجري عليه الآفاتُ ولا تأخذُه السِّنَاتُ، منزّهٌ عن الطُّولِ والعَرْضِ والعُمْقِ والسَّمْكِ والتركيبِ والتأليفِ والألوانِ، لا يَحُلُّ فيه شىء، ولا يَنْحَلُّ منه شىء، ولا يَحُلُّ هو في شىء، لأنه ليس كمثله شىء، فمن زعم أنّ الله في شىء أو من شىء أو على شىء فقد أشرك، إذ لو كان في شىء لكان محصورًا، ولو كان من شىء لكان مُحدَثًا أي مخلوقًا، ولو كان على شىء لكان محمولًا، وهو معكم بعلمه أينما كنتم لا تخفى عليه خافية، وهو أعلم بكم منكم، وليس كالهواء مخالطًا لكم.

وكلَّم الله موسى تكليمًا، وكلامُه كلامٌ واحدٌ لا يتبعّض ولا يتعدد ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً، ليس مُبتَدَأً ولا مُختَتَمًا، ولا يتخلله انقطاع، أزليٌ أبديٌ ليس ككلام المخلوقين، فهو ليس بفم ولا لسان ولا شفاه ولا مخارج حروف ولا انسلال هواء ولا اصطكاك أجرام.

كلامُه صفةٌ من صفاتِه، وصفاتُه أزليةٌ أبديةٌ كذاتِه، وصفاته لا تتغيَّر لأنَّ التغيُّرَ أكبرُ علاماتِ الحدوثِ، وحدوثُ الصفةِ يستلزمُ حدوثَ الذاتِ، والله منزَّهٌ عن كل ذلك، مهما تصورت ببالك فالله لا يشبه ذلك، فصونوا عقائدَكم من التَّمَسُّكِ بظاهِرِ ما تشابه من الكتابِ والسنَّةِ فإنَّ ذلك من أصولِ الكفر، ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [سورة النحل/ الآية 74] ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [سورة النحل/ الآية 60] ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سورة مريم/ الآية 65] ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [سورة النجم/ الآية 42] وَمَن زَعَمَ أنّ إلـٰهنا محدودٌ فقد جَهِلَ الخالقَ المعبودَ، فالله تعالى ليس بِقَدْر العرش ولا أوسع منه ولا أصغر،

ولا تصِحُّ العبادة إلا بعد معرفة المعبود، وتعالى ربّنا عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، ومَن وصفَ الله بمعنى من معاني البشر فقد خرج من الإسلام وكفر.

﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الصافات/ الآية 96] ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [سورة الرعد/ الآية 16] ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [سورة الفرقان/ الآية 2] ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل ما دخل في الوجود من الأجسام والأجرام والأعمال والحركات والسّكنات والنّوايا والخواطر وحياةٍ وموتٍ وصحةٍ ومرضٍ ولذّةٍ وألمٍ وفرحٍ وحزنٍ وانزعاجٍ وانبساطٍ وحرارةٍ وبرودةٍ وليونةٍ وخشونةٍ وحلاوةٍ ومرارةٍ وإيمانٍ وكفرٍ وطاعةٍ ومعصيةٍ وفوزٍ وخُسرانٍ وتوفيقٍ وخذلانٍ وتحركاتِ وسكناتِ الإنس والجن والملائكة والبهائم وقطرات المياه والبحار والأنهار والآبار وأوراق الشجر وحبّات الرّمال والحصى في السهول والجبال والقفار فهو بخلق الله، بتقديره و علمه الأزلي، فالإنس والجن والملائكة والبهائم لا يخلقون شيئًا من أعمالهم، وهم وأعمالهم خلق لله، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الصافات/ الآية 96] ومن كذَّبَ بالقدر فقد كفر.

وقد قال أحد الصالحين: فَإِنَّ اْلعِلْمَ حَيَاةُ الْإِسْلَامِ، عِلْمُ الدِّينِ حَيَاةُ الْإِسْلَامِ وَلَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ مَا دَامَ عِلْمُ الدِّينِ مُنْتَشِرًا بَيْنَهُمْ، إِنَّمَا يَهْلِكُ النَّاسُ إِذَا ذَهَبَ الْعِلْمُ مِنْ بَيْنِهِمْ، أَوْ قَلَّ مَنْ يَعْلَمُ عِلْمَ الدِّينِ عِنْدَئِذٍ يَعْظُمُ الْهَلَاكُ. فَأَهَمُّ عِلْمِ الدِّينِ التَّوْحِيدُ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ بِهِ يُعْرَفُ اللهُ، ليْسَ الْعِبْرَةُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، إنَّمَا الْعِبْرَةُ بِفَهْمِ الْمَعْنَى، هَذَا أَسَاسُ الدِّينِ.

وقال أيضًا: إنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ لَا يَعْرِفُونَ خَالِقَهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بأَلْسِنَـتِهِمْ: لَا إِلَـه إِلَّا الله، ظَهَرَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللهَ ذَكَرٌ وَالْمَطَرُ بَوْلُـهُ، ظَهَرَ هذَا فِي سُورْيَا وَلُبْـنَان، وَهُمْ يَظُنُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ وُلِدَ مِنْ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُمْ لَا يَتَلَقَّوْنَ فِي مَدَارِسِهِمْ الْعَقِيدَةَ تَفَهُّمًا وَلَا ءاَبَاؤُهُمْ يُعلِّمُونَهُمْ، أَيِ الْأَغْلَبُ لَا يُعَلِّمُونَ أَبْنَاءَهُمْ الْعَقِيدَةَ.

وروي فِي كِتَابِ الأسماء والصفات لِلبَيْهَقِيِّ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً)) قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَمِنَ الْحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ؟ قَالَ: ((نَعم، هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ)) مِنْ فَضْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُمُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ بِبَعْضِ الْحَسَنَاتِ. الْكَبَائِرُ قَدْ تُغْفَرُ بِحَسَنَةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ كَمَا أَنَّ الصَّغَائِرَ تُمْحَى بِالْحَسَنَةِ مِنَ الْحَسَنَاتِ.

وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ الْحَمْدُ لِلَّهِ)) صحّ في الحديث عن أبي مَالِكٍ الْحَارِثِ بْنِ عَاصِم الأشْعريِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للَّه تَمْلأَ الْميزانَ وسُبْحَانَ الله والحَمْدُ للَّه تَمْلآنِ أَوْ تَمْلأ مَا بَيْنَ السَّموَات وَالأَرْضِ، وَالصَّلاَةُ نورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةُ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. كُلُّ النَّاس يَغْدُو، فَبِائِعٌ نَفْسَهُ فمُعْتِقُها، أَوْ مُوبِقُهَا)) رواه مسلم.

((وَالْحَمْدُ للَّه تَمْلأَ الْميزانَ)) الحَمْدُ للهِ مَعْناهُ هذه الكَلِمَة الطِّيبَة، ثَوابُها يَمْلأُ مِيزانَ الحَسَناتِ لِصاحِبِها يَوْمَ القِيامَة.

فِى اللغَة، كَلِمَةُ “الحَمْد” مَعْناها الثّناء بِاللِّسان عَلَى الجَمِيل الاخْتِيارِيّ. أَنْ تَثْنِيَ بِلِسانِك بِهذا العُضُو وَهذه الجارِحَة عَلَى مَنْ تَفَضَّلَ عَلْيك بِإِحْسان ليسَ واجِبًا عَلَيْهِ تُجاهَك، هذا يُسَمَّى فِى لُغَةِ العَرَب: “الحَمْد”.

الحَمْدُ شَىءٌ مُخْتَصٌّ بِاللِّسان، لا تُطْلَقُ عادَةً كَلِمَةُ الحَمْد عَلَى الثّناءِ بِغَيرِ اللسان.

قَدْ يَفْعَلُ الإِنْسانُ شُكْرًا؛ الشُّكْرُ أَوْسَعُ فِى الدِّلالَةِ وَالمَعنَى مِنْ كَلِمَةِ الحَمْد. الحَمْدُ مُخْتَصٌّ باللسان، وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنَ اللسانِ. قَدُ يُحْسِنُ الإَنْسانُ إِلَيْك فَتُهْدِي إِلَيْهَ هَدِيَّة، تُعْطِيهِ الهَدِيَّة بِيَدِك، إِذًا اسْتَعْمَلْتَ جارِجةً غَيرَ اللسان، هذا فِى لُغَة العَرَب يُسَمَّى شُكرًا وَلا يُسَمَّى حَمْدا. اللهُ تعالَى أَثْنَى علَى نَبِيِّهِ داود فقال: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سورة سبأ/ الآية 13]، لأَنَّ داودَ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى طَرِيقَتِه، كانُوا يَعْمَلُونَ حَسَناتٍ بِأَعْضائِهِم وَجَوارِحِهُمُ الْمُخْتَلِفَة، هذه الحَسَنات التي كانُوا يَعْمَلُونَ بِاليَد أَوْ بِالعَيْن أَوْ بِالرِّجْل، اللهُ تعالَى أَطْلَقَ عَلَيْها لَفْظَةَ الشُّكْرِ لأَنَّ كَلِمَةَ الشُّكْر لَيسَت مُخْتَصَةً بِاللسانِ بِخِلافِ الحَمْد.

فلِذلِكَ الحمد هُوَ الثّناء بِاللسان لا بِغَيرِهِ مِنَ الجوارِح عَلَى الجَمِيلِ الاخْتِيارِيّ، يَعْنِى عَلَى النِّعَم وَالإِحْسان الذي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْكَ فُلانٌ مِنَ الناسِ فَإِنْ كانَ رَدُّ الإِحْسان واجِبًا عَلَى الشَّخْص، فَلا يُسَمَّى حَمْدًا، يَعْنِى لَوْ أَنَّكَ مَثَلًا أَقْرَضْتَ إِنْسانًا مالًا، أَنتَ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، ثُمَّ حِينَ اسْتَطاعَ أَنْ يَرُدَّ لَكَ الدَّيْن، رَدَّهُ لَك. رَدُّ الدَّيْنِ لَك واجِبٌ عَلَيْهِ لأَنَّ هذا المال فِى الحَقِيقَة مالُكَ وَيَلْزَمُهُ فِى الشّرع أَنْ يَرُدَّ هذا الدَّيْنَ إِلَيْكَ. فِإِذًا رَدُّهُ هذا المالَ إِلَيْكَ، هذا لا يُسَمَّى جَمِيلًا اخْتِيارِيًّا إِنّما هُوَ واجِبٌ عَلَيْه، فَإِنْ أَثْنَى هُوَ عَلَيْكَ بِلِسانِهِ لا يُسَمَّى حَمْدًا لأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ هذا القَرْضَ لَكَ. حَتّى يُسَمَّى حَمْدًا لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا وَثَناءً بِاللسان عَلَى الجَمِيل الاخْتِيارِيّ، يَعْنِى عَلَى الإِحسان والنِّعَم التي يَفْعَلُها الإِنسانُ باخْتِيارِهِ مِنْ غَيرِ أَنْ تَكُونَ واجِبَةً عَلَيْهِ. هذا كُلُّهُ مِنْ حَيثُ اللغَةُ.

أَمّا مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ إِذا قالَ الواحِدُ مِنّا: “الحَمْدُ لله”، أَي الثَّناءُ باللسان ثابِتٌ للهِ تعالَى لأِنَّهُ مُتَفَضِّلٌ عَلَى عِبادِهِ جَمِيعِهِم بِالنِّعَم التي لا تَدْخُلُ تَحْتَ إِحْصائِنا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ إِحْسانُهُ إِلَيْنا أَوْ إِنْعامُهُ عَلَيْنا واجِبًا عَلَيْهِ سُبحانَهُ لأَنَّ اللهَ لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَىء البَتَّةَ!

بَعْضُ الطَّوائِف التي انْتَسَبَت إِلَى الإِسْلام كَذِبًا وَزُورا، ادَّعُوْا أَنَّه يَجِبُ عَلَى اللهِ أَشْياء وَمِنْهُم هذه الطّائِفَة التي تُسَمَّى المعتَزِلَة. كانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ يَجِبُ عَلَيْهِ ما هُوَ الأَصْلَحُ للعِباد وَهذا ضَلالٌ مُبِين. الأَصْلَحُ للعِبادِ ليسَ واجَبًا عَلَى الله! لَوْ أَدْخَلَ اللهُ عِبادَهُ النّارَ لَما كانَ ظالِمًا، وَإِنْ أَدْخَلَهُمُ الجَنّة، فَإِنَّما يُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ مِنْ غَيرِ أَنْ يَكُونَ إِدْخالُهُ للمؤْمِنِينَ الجنَّةَ واجِبًا عَلَيْهِ.

لا يجب عليه فعل ما هو الأصلح للعباد، لو كان يجب على الله فعل الأصلح كما يقول المعتزلة لخلق الناسَ في الجنة، أيش الأصلح للعباد؟! أن يُخلقوا في الجنة، لا أن يبتلَوا في الدنيا فيكفر من يكفر ويعصى من يعصى فيعاقب!!

الله خلق في الدنيا الموت والمرض والتعب والألم وفراقَ الأحبة إلى غير ذلك من المحن، الله جعل في القبر أهوالًا الله جعل في الآخرة أهوالًا عند الموقف والصراط والعرض للحساب والميزان هذا غير أنواع عذاب النار التي لا حصر لها، فكيف يقال الله يجب عليه أن يفعل ما هو الأصلح للعباد؟!! هم المعتزلة وصلت حماقتهم وعنادهم إلى درجة أنهم كابروا البديهة كابروا وردوا ما يعرف بالبديهة، قالوا: تعذيب الكفار بالنار أصلح لهم.

لهذا قالوا المبتدع لا بد أن يتناقض لأنه لا يتبع الدليل. كيف يكون أصلح للعبد أن يعذب إذا مات على الكفر أو على عدم التوبة. إنما هذا كما قلنا: البدعة إذا تمكّنت من قلب الشخص تعميه، الهوى يُعمِى ويُصِم.

اللهُ مُتَفَضِّلٌ عَلَى العِبادِ بِكُلِّ النِّعَم، الدُّنْيوِيّة وَالأُخْرَوِيَّة مِنْ غَيرِ أَنْ يَكُونَ إِحْسانُهُ إِلَينا أَوْ إِنْعامُهُ عَلَيْنا واجِبًا عَلَيْهِ.

فَلذلِكَ رَبُّنا مُسْتَحِقٌّ لِهذا الحَمْد وَلِذلِك هذه اللام فِى قَوْلِنا: “الحمدُ لله” إِمّا أَنْ تَكُونَ لامَ الاسْتِحْقاق وَإِما أَنْ تَكُونَ لامَ الْمِلْك. معنى لامِ الاسْتِحقاق: معناه “رَبُّنا سبْحانَهُ وَتعالَى يسْتَحِقُّ الحَمْدَ، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَد، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ”. فَلِذلِكَ قالُوا: هذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الاسْتِحقاق.

وَيَصِحُّ أَنْ تُسَمّى لامَ الْمِلْك لأَنَّ هذا الحَمْدَ اللهُ مالِكُه واللهُ مُدَبِّرُه واللهُ خالِقُه، فَهُوَ مِلْكُ الله.

إِذًا قَوْلُهُ: ((وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ))، أَيْ ثَوابُ هذه الكَلِمَة لِمَنْ كانَ يُرَدِّدُها وَيُكَرِّرُها عَلَى لِسانِهِ تَمْلأُ مِيزانَ الحَسَناتِ يَوْمَ القِيامَةْ، مِنْ عَظِيمِ ثَوابِها، لأَنَّ اللهَ تعالَى يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَحْمَدَه، أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ أَهْلٌ لِذلِك أي يستحقُّ ذلك.

وَهذا الشِّقُّ مِنْ كَلامِهِ ﷺ، فِيهِ إِثْباتُ المِيزان وَالمِيزانُ حَقٌّ أَيْ شىءٌ مَوْجُود، ثابِت، مُتَحَقِّق، وَهُوَ مِيزانٌ تُوزَنُ بِهِ أَعمالُ العِبادِ يَوْمَ القِيامَة، أَشْبَهُ ما يَكُون بِالموازِين التي كانت تُسْتَعْمَلُ فِى الدُّنيا وَفِى هذه الأَيام أَيْضًا، ما زالَت تُسْتَعْمَلُ فِى بَعْضِ النّواحِي.

﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 47]

المِيزان الذي لَهُ كَفَّتان وَعامود وَقَصبَة. الكَفَّةُ الواحِدَةُ مِنْ كَفَّتَيْ هذا المِيزان دارَتُها كَما بينَ السماءِ وَالأَرْض معناهُ هِيَ واسِعَةٌ جِدًا جِدًا.

تُوضَعُ الحسناتُ فِى كَفَّة من كَفَّتَى الميزان للمؤمِن، وتُوضَعُ سيئاتُهُ فِى كَفَّةٍ أُخْرى فَإِنْ رَجَحَت يَعنِى زادَت حَسَناتُهُ عَلَى سَيِّئاتِهِ، مِنْ حَيثُ العَدَد، يَدْخُلُ الجَنةَ مِنْ غَيرِ سابِقِ عَذاب. وَإِنْ رَجَحَت سَيِّئاتُهُ عَلَى حَسَناتِهِ، يَعْنِى كانت سيئاتُهُ أَكْثَرُ عَددًا مِنْ حَسناتِهِ، فَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ الله، إِنْ شاءَ عَذَّبَهُ زَمانًا فِى نارِ جَهَنَّم ثُمَّ لا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَإِنْ شاءَ عَفَى عَنْهُ وَغَفَرَ لهُ وَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ مِنْ غَير سابِقِ عَذاب.

وَهناكَ أُناسٌ تَتَساوَى حَسَناتُهُم وَسَيِّئاتُهُم فى كَفَّتيِ الميزان هؤلاءِ لا يَدخُلُون النار لكنْ لا يدخلونَ الجنةَ فَوْرًا عَقِبَ الميزان إِنّما يُؤَخَّرُ دُخُولُهُمُ الجَنَّةَ زمانًا، يَبْقُوْنَ عَلَى أَسْوارِ الجَنَّة زمانًا، ثُمَّ يُؤذَنَ لَهُم بالدُّخُولِ إِلَى الجَنّة. هؤلاءِ يُقالُ لَهُم أَهْلُ الأَعْراف. والأَعْرافُ هِيَ الأَسْوار التي تُحِيطُ بِالجَنَّة قال تعالَى: ﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾ [سورة الأعراف/ الآية 46] مَعناهُ يَبْقَى أُناسٌ عَلَى سُورِ الجَنَّة يَرَوْنَ الجَنَّة لكِنْ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ مِنْ بابٍ مِنْ أَبْوابِها إِنّما يَبْقَوْنَ عَلَى سُورِها زَمانًا، لأَنَّهُم تَساوَت حَسناتُهُم مَعَ سَيِّئاتِهِم، مِنْ حَيثُ العَدد. هذا يُفْهِمُنا شيْئًا مُهِمًّا وَهوَ أَنَّ الإِنْسانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الحَسنات وَأَنْ يَتَجَنَّبَ السَيِّئاتِ جَمِيعَها وَرُبَّما تَزِيدُ سيئاتُ الإِنْسان على حسَناتِهِ بِسَيّئَةٍ واحِدَة، فَيَكُونُ عَرَّضَ نَفْسَهُ بِسَببِ هذه السيّئَة إِلَى احْتِمالِ تَعْذِيبِ الله لَهُ فِى نارِ جَهَنَّم! لَوْ أَنَّهُ قالَ هذه الكَلِمَةَ الطيبَة “الحمدُ لله”، فَأَقَلُّ ما يَكْسِبُ مِنَ الحَسنات عَشر واللهُ تعالَى يُضاعِفُ لِقائِلِ هذه الكَلِمَة فِى الثّوابِ إِلَى أَضْعافٍ كَثِيرَة قَدْ يُعْطِي اللهُ تعالَى إِنْسانًا مؤمِنًا مُليون حَسَنَة وَأَكْثَر مِنْ ذلِك عَلَى مُجَرَّدِ أَنْ قالَ كَلِمَةَ الحمدُ لله إِنْ كانَ مُخْلِصًا فِى نِيّتِهِ فِى قَلبِهِ يَقِينٌ قَوِيّ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ تعالَى بِلِسانِهِ، فَقَدْ يُعْطِيهِ اللهُ مُليون حَسَنَة وَزِيادَة بِسَببِ هذه الكَلِمَة الطَّيبَة. فِلذلِكَ يَنبغي أَنْ يَكُونَ الإِنْسان مُتَّعِظًا بِهذا وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تعالَى فِى ليلِهِ وَفِى نَهارِهِ.

الإِنْسانُ يَكْسِبُ ثَوابَ الذِّكْرِ وَهُوَ ماشٍ إِلَى عَمَلِهِ، وَهُوَ يَقُودُ السيارَة، يستَطِيعُ أَنْ يَقُولُ بِلِسانِهِ: “سبْحانَ الله، والحَمْدُ لله، ولا إِله إِلا الله، واللهُ أَكْبَر“، أَوْ يَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ وِرْدًا كَأَنْ يَقُولَ كُلَّ يَوْمٍ مَثَلًا، فِى حَرَكاتِهِ وانْتِقالاتِهِ فِى عَمَلِهِ الدُّنْيَوِيّ أَلْفَ مَرَّةٍ: “لا إِله إِلا الله” أَوْ نحْوَها مِنْ أَلْفاظِ الذِّكْر، أَيْ يَبْقَى الإِنْسانُ رَطْبًا لِسانُهُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تعالَى.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

والله تعالى أعلم وأحكم

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …