المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ جَامِعِ الشَّتَاتِ وَمُحْيِي الْأَمْوَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً تَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَتَمْحُو السَّيِّئَاتِ، وَتُنَجِّي مِنَ الْمُهْلِكَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمَاتِ، الْآمِرُ بِالْخَيْرَاتِ، النَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرَاتِ. صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ صَلَاةً دَائِمَةً بِدَوَامِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَبَعْدُ:
بَابٌ فِى فَضْلِ قَوْلِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: مُرْ أُمَّتَكَ فَلْيُكْثِرُوا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ وَأَرْضَهَا وَاسِعَةٌ، قَالَ: وَمَا غِرَاسُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)). قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
الشرح والتعليق على هذا الحديث
قال: (بَابٌ فِى فَضْلِ قَوْلِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) وردت لفظة “لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم” في أحاديث كثيرة وفي ألفاظ كثيرة، مرة بلفظ: “العلي العظيم” ومرة بدونها، ومن ذلك:
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَنْ قَرَأَ هَذَا الذِّكْرَ بِمَرَضِهِ وَمَاتَ بِهَذَا الْمَرَضِ لَا يَمَسُّ جَسَدَهُ النَّارُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ))، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ في عمل اليوم والليلة وفي السنن الكبرى.
وفِي كتابِ «ذيلِ تاريخِ بغدادَ» عن عبيدِ اللهِ بنِ مُحمدِ بنِ حفصٍ العيشيِّ يقولُ: سَمِعتُ أَبِي يقولُ: لَما قَبَضَ ولدُ العباسِ خزائِنَ بنِي أُميةَ وجدُوا سَفْطًا مَختومًا ففتحُوهُ فإذا فيهِ وَرَقٌ مكتوبٌ عليهِ شفاءٌ بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ: فَفَتَحَ فإذَا هُوَ (بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اسْكُنْ أَيُّهَا الْوَجَعُ سَكَنْتَ بِالَّذِي لَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اسْكُنْ أَيُّهَا الْوَجَعُ بِالَّذِي يُمسِكُ السماءَ أَنْ تَقَعَ على الأرضِ إلَّا بإذنِهِ إنَّ اللَّهَ بالنَّاسِ لرؤوفٌ رحيمٌ، بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اسْكُنْ أَيُّهَا الْوَجَعُ بِالَّذِي إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اسْكُنْ أَيُّهَا الْوَجَعُ سَكَنْتَ بِالَّذِي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا). قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قَالَ لِي: فمَا احتَجْتُ بعدَهُ إلى علاجٍ ولا دواءٍ.
كذلك مَن قَالَ هذا الذكر صَبَاحًا يُحفَظُ إلى المساءِ ومن قاله مساءً يُحفَظُ إلى الصباحِ: ((إِنَّ رَبِّيَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأُ لَمْ يَكُنْ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، أَعُوذُ باللَّهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ رَبِّي ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)). روي في مسند الحارث.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ ابن عباس: ((يَلْتَقِي الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ كُلَّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ وَيَتَفَرَّقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللهِ ما شاءَ الله لا يَسُوقُ الخيرَ إلا الله، بِسْمِ اللهِ ما شاءَ الله لا يَصْرِفُ السُّوءَ إلا الله، بِسْمِ اللهِ ما شاءَ الله ما كانَ من نعمةٍ فمن الله، بِسْمِ الله ما شاءَ الله لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله)). قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنَّ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ آمَنَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالسَّرَقِ. قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ.
قَالَ أحد الصالحين عن كلمة [لا حول ولا قوة إلا بالله]: هذهِ الْكَلِمَةُ وَرَدَ في ثوابِهَا عن رسولِ اللَّهِ ثوابٌ ونفعٌ كبيرٌ، أمَّا ثوابُهَا فقد وَرَدَ فِي الحديثِ الصحيحِ – الذي رواه أحمد في مسنده – أَنَّهَا ((كَنْزٌ تَحْتَ العرشِ)) أَيْ ذُخْرٌ كبيرٌ مِن الثَّوَابِ يدَّخِرُهُ اللهُ تعالى للمؤمنِ الذي يقولُ هذهِ الْكَلِمَةَ الشَّرِيفَةَ، يَدَّخِرُهَا لَهُ إلى الْآخرةِ يكونُ مَحفوظًا تَحتَ العرشِ.
فأَمَّا فائدتُهَا فهِيَ أنَّهَا تُزِيلُ الهَمَّ، إذَا إنسانٌ مُصابٌ بالهَمِّ فمِنْ أَفْضَلِ مَا يشْتَغِلُ بِهِ هذهِ الْكَلِمَةُ، وهذهِ الْكَلِمَةُ أيضًا تَنفَعُ لِمَنْ ابْتُلِيَ بالْوَسْوَسَةِ حَتَّى صَارَ في نَفْسِهِ وحشةٌ وضيقٌ شديدٌ. هذهِ تفيدُهُ بإذنِ اللَّهِ، إنْ وَاظَبَ وثَبَتَ عليهَا فلا بُدَّ أَنْ يَرَى الفَرَجَ ويَنقَلِبَ عسرُهُ يُسرًا، اللهُ تعالَى جَعَلَ لَهَا سِرًّا كبيرًا ونفعًا عظيمًا.
وأمَّا معناهَا فتوحيدٌ وهُوَ أنَّهُ لا أحدَ يَستَطِيعُ أَنْ يَفعَلَ الخيرَ والطاعةَ إلا بعونِ اللَّهِ وأنَّهُ لا يستطيعُ أحدٌ أَنْ يُعْصَمَ مِنَ الشَرِّ إلَّا بِحِفْظِ اللَّهِ، فمَهمَا كانَ الإنسانُ نَشِيطًا فِي عَمَلِ الخَيرِ فإِنَّ هذا النشاطَ هو نعمةٌ مِنَ اللهِ.
فليَحْمَدِ اللَّهَ تعالَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ للخيرِ، فليَحْمَدِ اللَّهَ ولا يأخذْهُ العُجْبُ بنفسِهِ بَلْ يَنظُر إلى أنَّ اللَّهَ هو الذي قدَّرَهُ أنْ يَعمَلَ هذهِ الحسناتِ، فلولَا تقديرُ اللَّهِ لَمَا استطاعَ أَنْ يَفعَلَ هذهِ الحسناتِ فإِنْ لاحَظَ أنَّ هذا الخيرَ الذي يَعمَلُهُ هو بتقديرِ اللَّهِ ابتعدَ عن الرّياءِ وكانَ قريبًا مِنْ حَالِ الْمُخْلِصِينَ للهِ تَعَالَى لِأَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلًا مِنَ الحسناتِ بنيةٍ خَالِصَةٍ للهِ تعالى ليسَ فيهَا رِيَاءٌ فالقليلُ عندَ اللَّهِ يُجازِيهِ بالكثيرِ.
((لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ)) فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَغَّبَ فِيهِ، وَوَرَدَ عَنْهُ هَذَا اللَّفْظُ بِكَمَالِهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَثَبَتَ عَنْهُ بِدُونِ زِيَادَةِ ((الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ)) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا بِزِيَادَةِ ((الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.
وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَنْ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، كَانَ دَوَاءً مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاءً أَيْسَرُهَا الْهَمُّ)).
وَمَعْنَى لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ ((لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ)) كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ مِنَ الشَّرِّ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَالَّذِي يَعْمَلُ الشَّرَّ فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَالَّذِي يَعْمَلُ الْخَيْرَ فَبِمَشِيئَةِ اللهِ، لَكِنْ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ عَمَلَهُ وَأَمَّا مَنْ يَعْمَلُ شَرًّا فَلا يُحِبُّ اللَّهُ عَمَلَهُ.
أما حديثنا الذي يروى هنا وهو: رَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ راوي الحديث هو أَبُو أَيُّوْبَ الأَنْصَارِيُّ خَالِدُ بنُ زَيْدِ بنِ كُلَيْبٍ الخَزْرَجِيُّ، النَّجَّارِيُّ، البَدْرِيُّ، السَّيِّدُ الكَبِيْرُ، الَّذِي خَصَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنُّزُوْلِ عَلَيْهِ فِي بَنِي النَّجَّارِ، إِلَى أَنْ بُنِيَتْ لَهُ حُجْرَةُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ سَوْدَةَ، وَبَنَى المَسْجِدَ الشَّرِيْفَ.
لَهُ عِدَّةُ أَحَادِيْثَ، فَفِي مُسْنَدِ بَقِيٍّ: لَهُ مائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَخَمْسُوْنَ حَدِيْثًا؛ فَمِنْهَا فِي البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: سَبْعَةٌ، وَفِي البُخَارِيِّ: حَدِيْثٌ، وَفِي مُسْلِمٍ: خَمْسَةُ أَحَادِيْثَ.
وَفِي سِيْرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ أَمِيْرًا عَلَى البَصْرَةِ لِعَلِيٍّ، وأَنَّ أَبَا أَيُّوْبَ قَدِمَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ البَصْرَةَ، فَفَرَّغَ لَهُ بَيْتَهُ، وَقَالَ: لأَصْنَعَنَّ بِكَ كَمَا صَنَعْتَ بِرَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَمْ عَلَيْكَ؟ قَالَ: عِشْرُوْنَ أَلْفًا. فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِيْنَ أَلْفًا، وَعِشْرِيْنَ مَمْلُوْكًا، وَمَتَاعَ البَيْتِ.
وروى أحمد في مسنده عَنْ أَبِي أَيُّوْبَ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: ((مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً دَخَلَ الجَنَّةَ)).
وَعنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْن أَبِي أَيُّوْبَ، وَمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ.
وشَهِدَ أَبُو أَيُّوْبَ بَدْرًا، والمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو أيوب فيما رواه أحمد في مسنده: يَا رَسُوْلَ اللهِ، كُنْتَ تُرْسِلُ بِالطَّعَامِ، فَأَنْظُرُ، فَإِذَا رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعَكَ، وَضَعْتُ فِيْهِ يَدِي [وهذا ليتبرك بموضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام].
وفي مسند أحمد عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: أَقْبَلَ مَرْوَانُ يَوْمًا فَوَجَدَ رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا تَصْنَعُ؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَبُو أَيُّوبَ، فَقَالَ: نَعَمْ، جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ آتِ الْحَجَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((لَا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ، وَلَكِنْ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ)).
وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه أنه قال: ((مَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))،
وروى ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ((لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ)).
وروى الحاكم في المستدرك على الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: ((شَهِدْتُ يَوْمَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَلَمْ أَرَ يَوْمًا أَحْسَنَ وَلَا أَضْوَأَ – أنور – مِنْهُ)).
فلم يمرّ رسول الله ﷺ بدار من دور الأنصار إلا قالوا: هلمّ يا رسول الله إلى العزّ والمنعة والثروة – كثرة المال-. فيقول لهم خيرا ويدعو ويقول: ((إنها مأمورةٌ خلّوا سبيلها))، فمرّ ببني سالم فقام إليه عتبان – بكسر العين المهملة- ابن مالك، ونوفل بن عبد الله بن مالك وهو آخذ بزمام راحلته، فقال: يا رسول الله انزل فينا فإن فينا العدد والعشيرة ونحن أصحاب الفضاء والحدائق، يا رسول الله قد كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفا فيلجأ إلينا فنقول له: قَوْقِلْ حيث شئت – أي سر حيث شئت فإنك آمن-. فجعل رسول الله ﷺ يتبسّم ويقول: ((خلّوا سبيلها فإنها مأمورة))،
فقام إليه عبادة بن الصامت، وعباس بن عبادة، فجعلا يقولان: يا رسول الله انزل فينا، فيقول النبي ﷺ: ((بارك الله عليكم إنها مأمورة)) فلما أتت موضع مسجده بركت وهو عليها وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي. ثم وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله ﷺ واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه – وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ -، ثم وضعت جرانها – الجران: بكسر الجيم؛ مقدّم عنق البعير من مذبحه إلى منحره-.
وجعل جبّار بن صخر ينخسها رجاء أن تقوم فتنزل في دار بني سلمة فلم تفعل. فنزل رسول الله ﷺ عنها وقال: ((هنا المنزل إن شاء الله)).
﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ [سورة المؤمنون/ الآية 29].
ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ؛ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً، حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا وجاء أبو أيوب فكلّمه في النزول عليهم فقال رسول الله ﷺ: ((أي بيوت أهلنا أقرب))؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي وقد حططنا رحلك فيها. قال: ((فانطلق فهيّئ لنا مقيلا)) – أي مكانا ننزل فيه من بيتك-، فذهب فهيّأ لهما مقيلا.
وروى البيهقي في دلائل النبوة عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ جَاءَتِ الْأَنْصَارُ بِرِجَالِهَا وَنِسَائِهَا، فَقَالُوا: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: ((دَعُوا النَّاقَةَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ))، فَبَرَكَتْ عَلَى بَابِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: فَخَرَجَتْ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ وهن يقلن:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارْ*** يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((أَتُحِبُّونِي))؟ فَقَالُوا: إِي وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، قال: ((أنا وَاللهِ أُحِبُّكُمْ، وَأَنَا وَاللهِ أحبكم، أنا وَاللهِ أُحِبُّكُمْ)).
وذكر ابن إسحاق في المبتدأ وابن هشام في التيجان أن بيت أبي أيوب الذي نزل فيه رسول الله ﷺ بناه تبّع الأول واسمه أسعد، وإنّما سمّي تبّعًا لأنه تبع من قبله وكان معه أربعمائة حبر، فتعاقدوا على ألّا يخرجوا منها أي المدينة. فسألهم تبّع عن سرّ ذلك، فقالوا: إنا نجد في كتبنا أن نبيّا اسمه محمد هذه دار هجرته، فنحن نقيم لعلنا نلقاه.
فأراد تبّع الإقامة معهم، ثم بنى لكل واحد من أولئك دارا واشترى له جارية وزوّجها منه وأعطاه مالا جزيلا وكتب كتابا فيه إسلامه ومنه:
شهــدت على أحمــــدَ أنّــه رســـول من الله باري النّسم
فلـــو مدّ عمري إلى عمره لكنت وزيـــرا لــه وابنَ عم
وجاهـدت بالسّيـف أعداءه وفرّجت عن صدره كـلّ هم
وختمه بالذهب ودفعه إلى كبيرهم وسأله أن يدفعه إلى النبي ﷺ إن أدركه وإلا فمن أدركه من ولده أو ولد ولده، وبنى للنبي ﷺ دارا ينزلها إذا قدم المدينة، فتداول الدّار – «الدّار»: هنا القبيلة وكل قبيلة اجتمعت في محلّة سمّيت تلك المحلّة دارا، وسمّي ساكنوها بها مجازا، أي أهل الدّار – الملّاك إلى أن صارت لأبي أيوب، وهو من ولد ذلك العالم، وأهل المدينة ويقال إن الكتاب الذي فيه الشّعر كان عند أبي أيوب حتى دفعه إلى رسول الله ﷺ، فما نزل رسول الله ﷺ إلا في بيته.
وذكر ابن أبي الدنيا أنه حُفِر قبر بصنعاء في الإسلام، فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين، وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حبي ولميس – ابنتي تُبَّع -، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئًا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما .
قال قتادة: ذكر لنا أن كعبًا كان يقول في “تُبَّع”: نُعِت نَعْت الرجل الصالح، ذم الله تعالى قومه ولم يذمه، قال: وكانت عائشة تقول: لا تسبوا “تُبَّعًا”؛ فإنه قد كان رجلا صالحًا.
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّفْلِ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعِلْوِ، قَالَ: فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً، فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((السُّفْلُ أَرْفَقُ))، فَقَالَ: لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُلُوِّ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ.
وروى ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: لمَّا نزل عليَّ رسولُ الله ﷺ في بيتي، نزل في السُّفل وأنا وأمّ أيوب في العُلو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمّي، إني لأكره أن أكون فوقك وتكون تحتي، فأظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السّفل، فقال: ((إنّ أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت)). فلم يزل أبو أيوب يتضرّع إلى النبي ﷺ حتى تحوّل رسول الله ﷺ في العلو وأبو أيوب في السّفل.
وروى البيهقي في دلائل النبوة عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: صَنَعْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ طَعَامًا وَلِأَبِي بَكْرٍ قَدْرَ مَا يَكْفِيهِمَا، فَأَتَيْتُهُمَا بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اذْهَبْ فَادْعُ لِي بِثَلَاثِينَ مِنْ أَشْرَافِ الْأَنْصَارِ))، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ وَقُلْتُ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ أَزِيدُهُ، فَدَعَوْتُهُمْ فَجَاءُوا فَقَالَ: ((اطْعَمُوا)) فَأَكَلُوا حَتَّى صَدَرُوا، ثُمَّ شَهِدُوا أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَبَايَعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا، ثُمَّ قَالَ: ((ادْعُ لِي سِتِّينَ)) قَالَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَأَكَلَ مِنْ طَعَامِي ذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ.
قال أبو أيوب: وكنّا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا ردّ علينا فضله تيمّمت – قصدت – أنا وأمّ أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة.
وَعَنِ الأَصْمَعِيِّ: عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ أَبَا أَيُّوْبَ قُبِرَ مَعَ سُوْرِ القُسْطِنْطِيْنِيَّةِ، وَبُنِي عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا، قَالَتِ الرُّوْمُ: يَا مَعْشَرَ العَرَبِ، قَدْ كَانَ لَكُمُ اللَّيْلَةَ شَأْنٌ!! قَالُوا: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا، وَاللهِ لَئِنْ نُبِشَ، لَا ضُرِبَ بِنَاقُوْسٍ فِي بِلَادِ العَرَبِ فَكَانُوا إِذَا قَحَطُوا، كَشَفُوا عَنْ قَبْرِهِ، فَأُمْطِرُوا.
وقالَ الخازنُ في تفسيرِ لُبابِ التَّأويلِ في معاني التنـزيلِ: ماتَ أبو أيوبٍ في آخرِ غزوةٍ غزاها بأرضِ قُسْطَنْطِينية ودُفِنَ في أصْلِ سُورِها فَهُمْ يَتبرَّكونَ بقبرِه ويَسْتَسْقونَ بِهِ. وقيل: مَاتَ سَنَةَ خَمْسِيْنَ. وقيل: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ.
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ الإسراء والمعراج معجزة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم وخاصة به دون الأنبياء، فسبحان من خص نبينا بالإسراء، سُبْحَانَ مَنْ أَسْرَى بِعَبْدِهِ فَأَصْبَحَ الْحُسَّادُ أَسْرَى، قَصَرَتْ دَوَلْتُهُ قَيْصَرَ وَكَسَرَتْ هَيْبَتُهُ كِسْرَى،
أَقَامَهُ بِاللَّيْلِ مِنْ وِطَائِهِ وَدِثَارِهِ، وَرَفَعَهُ فوق السماوات بِقُوَّتِهِ وَاقْتِدَارِهِ، وَأَرَاهُ مَا فِي جَنَّتِهِ وَمَا فِي نَارِهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنْ أَسْرَارِهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي اللَّيْلِ إِلَى مَسْكَنِهِ وَقَرَارِهِ، وَجَاوَزَ أُفُقَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَعَلا عَلَى الْمَلائِكَةِ وَالْبَشَرِ، وَمَا حَضَرَ أَحَدٌ قَطُّ حَيْثُ حَضَرَ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَالأَمْلاكِ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ أَهْلٌ لِذَاكَ،
طَيَّبَهُ بِأَزْكَى الْخَلائِقِ ثُمَّ رَفَعَهُ فَوْقَ السَّبْعِ الشِّدَادِ الطَّرَائِقِ، فَيَا فَخْرَ ذَاكَ الْمُقَدَّمِ السَّابِقِ رَجْلا وَخَيْلا ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [سورة الإسراء/ الآية 1]
عَاشَ فِي الدُّنْيَا بِالْقَنَاعَةِ، وَصَبَرَ عَلَى الْفَقْرِ وَالْمَجَاعَةِ، وَيَكْفِيهِ فَخْرًا شَرَفُ الشَّفَاعَةِ، وَشَغَلَهُ ذِكْرُ الْقِيَامَةِ وَالسَّاعَةِ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا أَوْ قَيْلا ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾
سُبْحَانَ مَنْ شَرَّفَنَا بِهَذَا الرَّسُولِ، وَرَزَقَنَا مُوَافَقَةَ الْمَنْقُولِ، فَنَحْنُ أَهْلُ السُّنَّةِ لا أَهْلُ الْفُضُولِ، لا نَزَالُ عَلَى الصِّرَاطِ وَلا نَزُولُ، مَا نَعْرِفُ مَيْلا ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾
فَخْرُ نَبِيِّنَا أَجَلُّ وَأَعْلَى، وَمَنَاقِبُهُ مِنَ الشَّمْسِ أَجْلَى، وَذِكْرُهُ فِي قُلُوبِنَا وَاللَّهِ أَحْلَى عِنْدَ قَيْسٍ مِنْ لَيْلَى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾.
ويرحم الله تعالى من قال:
سَـــادَ الأَنَـــامَ مُحَمَّدٌ خَيْرُ الوَرَى بِفَضَائِـلٍ جَلَّتْ عَنِ الإِحْصَاءِ
وَجَوَامِــعُ الكَلِــــمِ الَّـتِي مَـا نَالَهَا أَحَــدٌ مِــنَ الفُصَحَاءِ وَالبُلَغَاءِ
وَلَــهُ الشَّفَاعَـــةُ وَالوَسِيْلَةُ فِيْ غَدٍ وَمَقَامُهُ السَّامِيْ عَلَى الشُّفَعَاءِ
يَــا كَـنْــزَ مُـــفْتَقِرٍ وَمَـــلْجَأَ عَائِذٍ يَــا أَفْضَلَ الأَجْوَادِ وَالكُرَمَاءِ
أَنْــتَ الوَسِيْــــــلَةُ لِلْإِلَـهِ فَسَلْ لَنَا عَــفْوًا عَنِ الزَّلَّاتِ وَالأَهْوَاءِ
وَدُخُـــــولَنَا الجَـــنَّاتِ أَوَّلَ وَهْـلَةٍ وَشَـفَـاعَـــةً لِلْـمُفْسِدِ الخَـطَّـاءِ
بِــــكَ نَسْتَغِيْثُ وَنَسْتَجِيْرُ وَنَلْتَجِيْ مِـنْ ذِي البَلَاءِ وَفِتْنَةِ الأَهْوَاءِ
وَنَرُوْمُ فَضْـلًا مِنْ جَنَــابِكَ سَيِّدِيْ وَشَفَـــــاعَةً يَـا سَيّــِدَ الشُّفَعَاءِ
مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ورد في بعض روايات حديث الإسراء كما في كتاب سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد: وبينا هو يسير إذ لقيه خلق من خلق الله، فقالوا: السلام عليك فقال جبريل: اردد السلام، فردّ، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: إبراهيم وموسى وعيسى. ومرّ على موسى وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر – الكثيب التل من الرمل-، رجل طوال سَبط – مسترسل – آدم – فيه سمرة أي أسمر، وليس المراد أنه أسود قاتم ينفر منه الناس – كأنه من رجال شنوءة – «شنوءة» حيّ من اليمن- وقال: من هذا معك يا جبريل؟ فقال: هذا أحمد، فقال: مرحبًا بالنبي العربيّ الذي نصح لأمته ودعا له بالبركة وقال: سل لأمتك اليسر.
ومرّ على شجرة عظيمة، تحتها شيخ وعياله، فرأى مصابيح وضوءا. فقال: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم. فسلّم عليه فردّ عليه السلام. وقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا ابنك أحمد. فقال: مرحبًا بالنبي العربيّ الذي بلّغ رسالة ربّه ونصح لأمّته، يا بنيّ إنك لاق ربّك الليلة – أي ستناجي ربك-، وإنّ أمّتك آخر الأمم، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلّها في أمتك فافعل. ودعا له بالبركة.
ثم تذاكروا أمر الساعة، فردّوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: “لا علم لي بها” فردوا أمرهم إلى موسى فقال: “لا علم لي بها” فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: “أما وجبتها – قيامها – فلا يعلمها إلا الله، وفيما عهد إليّ ربي إن الدجال خارج، ومعي قضيبان، فإذا رآني ذابَ كما يذوب الرصاص، فيهلكه الله تعالى إذا رآني، حتى أن الحجر ليقول: يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله، فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج. وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم لا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم يرجع الناس فيشكونهم إليّ، فأدعو الله تعالى عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى ينتشر ريحهم، فيُنزل الله تعالى المطر، فيجرف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر. ففيما عهد إليّ ربيّ أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتمّ لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها ليلًا أو نهارًا”.
وأخذ النبي ﷺ من العطش أشد ما أخذه، فأتي بقدحين أحدهما عن اليمين والآخر عن الشّمال في أحدهما لبن والآخر خمر ليس كخمر الدنيا بل خمر الجنة فتناول اللبن فشرب منه حتى روي، قال جبريل: أصبت الفطرة – أي الهدى والاستقامة -.
ثم رفع إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يصعد من تحتها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها. وهي شجرة أصلها في السماء السادسة تمتد الى السابعة. وإذا ثمرها مثل قلال هجر – يريد أن ثمر السّدرة في الكبر مثل القلال – وإذا ورقها كآذان الفيلة على كل ورقة ملك، تغشاها ألوان لا يدري ما هي، فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيّرت، وفي رواية: تحوّلت ياقوتا وزبرجدا فما يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها، فيها فراش من ذهب.
وإذا في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات.
وفي رواية: فإذا في أصلها عين تجري يقال لها السلسبيل، ينشقّ منها نهران: أحدهما الكوثر، كثير الماء مثل السّهم، عليه خيام وعليه طيور خضر أنعم طير، رأى فيه آنية الذهب والفضة، تجري على حصى من الياقوت والزمرد، ماؤه أشدّ بياضا من اللبن، فأخذ من آنية، فاغترف من ذلك الماء، فشرب فإذا هو أحلى من العسل، وأشدّ ريحا من المسك، فقال له جبريل: هذا هو النهر الذي حباك به ربّك، والنهر الآخر نهر الرحمة فاغتسل فيه، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر.
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه ﷺ رأى جبريل عند السدرة له ستمائة جناح، جناح منها قد سد الأفق، تتناثر من أجنحته التهاويل: الدرّ والياقوت مما لا يعلمه إلا الله تعالى.
ثم دخل الجنة وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فرأى على بابها مكتوبا: الصّدقة بعشر أمثالها. فاستقبلته جارية فقال: لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة.
ورأى الجنّة من درّة بيضاء وإذا فيها قباب من اللؤلؤ، فقال: يا جبريل، إنهم يسألوني عن الجنة. فقال: أخبرهم أنها قِيعان – وهو المكان المستوي من الأرض- ترابها المسك، فسار فإذا هو بأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى، وإذا رمّانها كالدّلاء – جمع دلو-، وإذا بطيرها كالبخاتي – البختية: وهي جمال طِوال الأعناق- فقال أبو بكر: يا رسول الله إن تلك الطير لناعمة. قال: وإني لأرجو أن تأكل منها.
ثم عرضت عليه النار ولو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها، ورأى رجلا أحمر أزرق فقال: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا عاقر الناقة. ورأى مالكا خازن النار، ثم تأخّر جبريل، ثم عرج به حتى ارتفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام.
ورأى رجلا مُغَيّبا في نور العرش فقال: من هذا؟ مَلك، قيل: لا، قال: نبي، قيل: لا، قال: من هو؟ قيل: هذا رجل كان في الدنيا لسانه رطب من ذكر الله، وقلبه معلّق بالمساجد،
وكلّمه ربه تعالى في تلك الليلة.
ففي تلكَ الليلةِ المباركةِ أزالَ اللهُ عن سمع سيدنا محمد ﷺ الحجابَ فسمع كلام اللهِ الأزليّ الأبديّ الذي ليسَ ككلامِ العالمينَ.
وفهم الرسول منه الأوامر التي أمر بها والأمور التي بلّغها. أسمَعَهُ اللهُ بقدرتِهِ كلامَهُ في ذلكَ المكان الذي فوقَ سدرةِ المنتهى،
لأنه مكانُ عبادةِ الملائكةِ للهِ تعالى، وهو مكانٌ لم يُعْصَ اللهُ فيهِ، وليسَ مكانًا ينتهي إليه وجودُ اللهِ كما في بعضِ الكتبِ المزيفةِ لأن اللهَ موجودٌ بلا مكانٍ.
ففهمَ رسُول الله ﷺ مِنْ كلامِ اللهِ الذاتيّ فرْضيةَ الصلواتِ الخمسِ.
وفهم أيضًا أنه يُغْفَرُ لأمتِهِ كبَائرُ الذنوبِ لمنْ شاءَ اللهُ لَهُ ذلكَ.
أما الكافرُ فلا يُغْفَرُ له مهما كانتْ معاملتُهُ للناسِ حسنةً، ولا يرحمُه اللهُ بعدَ الموتِ ولا يدخِلُهُ الجنةَ أبدًا إن ماتَ على كفرِهِ. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة النساء/ الآية 48].
وفهمَ أيضًا من كلامِ اللهِ الأزليّ الأبديّ أنّ مَنْ عَمِلَ حَسنةً واحدةً كُتِبَتْ له بعشرةِ أمثالِها، ومن هَمَّ بحسنةٍ ولم يَعْمَلْها كُتِبَتْ لهُ حَسنةً، ومن هَمّ بسيئةٍ وعَمِلَها كُتِبَتْ عليهِ سيئةً واحدةً.
فائدة: من المعلوم لدى أهلِ الحقّ أَن كلامَ اللهِ الذي هو صفة ذاته قديم أزلي لا ابتداء له، ليسَ ككلامِنا الذي يُبدأُ ثم يُختَمُ، فكلامه تعالى أزليٌّ ليس بصوتٍ ولا حَرْفٍ ولا لغةٍ؛ لأن اللغات والحروف والأصوات مخلوقة ولا يجوز على الله أن يتصف بصفة مخلوقة.
فلذلك نعتقدُ أن سَيّدنا محمدًا سمعَ كلامَ اللهِ الذاتيَّ الأزليَّ بغيرِ صوتٍ ولا حرفٍ ولا حلولٍ في الأذن.
تنبيهٌ: على كل مَنِ اعتقدَ أَنَّ اللهَ جسمٌ وأَنهُ متحيزٌ في مكانٍ أو أنه دَنا مِنَ الرسولِ بذاتِهِ أو أنه جالس على العرش الرجوعُ عن هذا والنطقُ بالشهادتينِ، لأنهُ يكونُ بذلكَ قَدْ شَبَّهَ اللهَ بخَلْقِهِ وكَذّبَ القرءانَ قالَ تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11] وقالَ أبو جعفرٍ الطحاويُّ السَّلفي: تعالى – يعني اللهَ – عن الحدودِ والغاياتِ، والأركانِ والأعضاءِ والأدواتِ.
ومعنى تعالى: تنزه الله. عن الحدود: الحدّ هو الحجم فالله لا يوصف بأنه حجم، لا حجم كبير ولا حجم صغير. والغايات: النهايات، وهذا من صفات الأجسام والله منزّهٌ عنها. والأركان: الجوانب وهذا أيضًا من صفات الخلق. والأعضاء: الأجزاء الكبيرة كالرأس واليد الجارحة والرِّجل الجارحة فكل ذلك الله منزه عنه. والأدوات: الأجزاء الصغيرة كاللسان والأضراس والأسنان. وهذا تنزيه صريح صرح به إمام من أئمة السلف أئمة أهل السنة والجماعة الإمام أبو جعفر الطحاوي الذي كان أدرك جزءًا من القرن الرابع وعشرات من السنين من القرن الثالث الهجري في عقيدته التي هي عقيدة أهل السنة أي الذين هم على ما عليه الرسول والجماعة أي الذين هم مع جمهور الأمة العاملون بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ)) رواه أحمد في مسنده. وبقوله: ((فَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ)) رواه النسائي في السنن الكبرى، ويكون من خالف ذلك شاذًّا ومن شذ شذ في النار.
أما اعتقادُ بعضِ الضالينَ أن الرسولَ وَصَلَ إلى مكانٍ هو مركزٌ للهِ تعالى فهذا ضلالٌ مبينٌ لأن اللهَ موجودٌ بلا مكانٍ، ولا عبرة بما هو مكتوبٌ في بعضِ الكتبِ الفاسدة الكثيرةِ الانتشارِ والذائعةِ الصيتِ التي فيها ما ينافي تنزيهَ اللهِ عن المكانِ والتي يَتَدَاوَلُها بعضُ العوامّ، والتحذيرُ منها وَاجِبٌ، ومنها الكتابُ الذي عُنوانُهُ: كتابُ المعراجِ المنسوبُ كَذِبًا للإمامِ ابنِ عباسٍ فيجبُ التحذيرُ منهُ ومِنْ أمثالِهِ.
فالعرش المجيد لا مناسبة بينه وبين الله عزَّ وجلَّ إنما خلقه الله تعالى ليكون كالكعبة بالنسبة للملائكة الحافين حوله وهم أكثر من كل الملائكة بل أكثر من عدد حبات المطر وأكثر من عدد حبات الرمال هؤلاء يطوفون حول العرش ويتوجهون إليه كما أننا نحن المؤمنين من أهل الأرض نتوجه إلى الكعبة في صلاتنا ونطوف حولها ونعظمها ولا مناسبة بين الكعبة وبين الله عزَّ وجلَّ كما أنه لا مناسبة بين الله وبين العرش، وكذلك الجهات كلها من خلق الله تعالى، والله تعالى كان موجودًا قبل الجهات وقبل كل شىء.
فمن هذا يقول بعضهم كذبا: إن الرسول حين عرج به إلى السماوات العلى فارقه جبريل، وأن جبريل قال له: إذا أنا تجاوزت احترقت، وأن الله – والعياذ بالله من الكفر والتشبيه – صار يناديه بصوت أبي بكر الصديق حتى لا يستوحش. وهذا الكلام مكتوب في كتاب السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون،
ويزعمون أن الله تعالى فوق السماء السابعة بذاته والعياذ بالله تعالى! والجواب على ذلك أن يقال: إنه ليس المقصود من المعراج وصولَ النبي إلى مكان هو مركز الله تعالى والعياذ بالله تعالى؛ وإنما المقصود من المعراج تشريف الرسول ﷺ بإطلاعه على عجائب العالم العلوي وتعظيم مكانته، فالله تعالى قال: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ [سورة الإسراء/ الآية 1] ولم يقل ليجتمع بنا أو ليصل إلى مكان نحن فيه!، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11] قال الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات ما نصه: “واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي ﷺ: أنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان”، وقد نقل الحافظ أبو منصور البغدادي في كتاب الفرق بين الفرق الإجماع على أن الله تعالى لا يحويه مكان، ولا يجري عليه زمان، وأن الإمام عليًا رضي الله تعالى عنه قال: “إن الله تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته”. وأنه قال: “كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان”. والأدلة على ذلك كثيرة.
وأما قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [سورة النجم/ الآية 8-9] فالمقصود بهذه الآية جبريل، والمراد أن جبريل عليه السلام اقترب من سيدنا محمد ﷺ فتدلى إليه فكان ما بينهما من المسافة بمقدار ذراعين بل أقرب، وإنما تدلى جبريل من النبي ﷺ ودنا منه فرحا به.
وليس الأمر كما يفتري بعض الناس أن الله تعالى دنا بذاته من محمد فكان بين محمد وبين الله تعالى كما بين الحاجب والحاجب أو قدر ذراعين؛ لإن إثبات المسافة لله تعالى إثبات للمكان وهو من صفات الخلق،
وقد روى مسلم والبخاري عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: فأين قوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ قالت: ”ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ الْأُفُقَ”.
فمن أعلم بما حصل مع النبي ﷺ هم أم الصديقة عائشة رضي الله عنها؟! وكذا فسرها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، وكذا فسرها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وليعلم أن قوله ﷺ فيما رواه البخاري وأحمد: ((فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ)) ليس المراد منه ارجع لمكان موجود به الله، فإن الله تبارك وتعالى منزه عن المكان، بل المعنى ارجع إلى المكان الذي تتلقى به الوحي، أي المكان الذي تسمع به كلام الله تعالى، قال الحافظ النووي في شرحه على صحيح مسلم ما نصه: “فرجعت إلى ربي، معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته منه أولا، فناجيته فيه ثانيا، وقوله ﷺ: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى ﷺ معناه بين موضع مناجاة ربي“.
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ومعنى إبراهيم: أب رحيم، لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون إلى يوم القيامة، وكنيته أبو الضيفان.
وإبراهيم نبي كريم من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، ولقد كان نبي الله إبراهيم عليه السلام مفعم النفس بالإيمان بربه وعارفًا به ممتلىء الثقة بقدرة الله وأن الله تعالى قادر على كل شيء لا يعجزه شيء، وكان غير شاك ولا مرتاب بوجود الله سبحانه مؤمنًا بما أوحي إليه من بعث الناس بعد موتهم يوم القيامة وحسابهم في الحياة الأخرى على أعمالهم وما قدموا في هذه الحياة الدنيا.
وذكر أهل التواريخ أن إبراهيم انطلق بزوجته سارة وابن أخيه لوط فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين وهي بلاد بيت المقدس، فنزلوا حرّان وكان أهلها يعبدون الكواكب السبعة، فقام الخليل إبراهيم عليه السلام يدعو قومه إلى دين الله وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وكان أول دعوته لأبيه ءازر الذي كان مشركًا يصنع الأصنام ويعبدها ويبيعها للناس ليعبدوها فدعاه إلى عبادة الله وحده وإلى دين الحق الإسلام بألطف عبارة وبأحسن بيان وبالحكمة والموعظة الحسنة، قال الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [سورة مريم/ الآية 41-45]، وقال تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سورة الأنعام/ الآية 74]. ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات ما كان جرى بين إبراهيم وأبيه من المحاورة والجدال إلى عبادة الله وحده، وكيف دعا أباه إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيَّن له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه، فكيف تغني عنه شيئًا أو تفعل به خيرًا من رزق أو نصر فهي لا تضر ولا تنفع، وأعلمه بأن الله قد أعطاه من الهدى والعلم النافع فدعاه إلى اتباعه وإن كان أصغر سنًّا من أبيه لأنّ اتباعه ودخوله إلى الإسلام وعبادة الله وحده هو الطريق المستقيم السويّ الذي يفضي به إلى الخير في الدنيا والآخرة.
ثم بيَّن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه أنه بعبادته للأصنام يكون منقادًا للشيطان الخبيث الفاجر الذي لا يحب للناس الخير بل يريد لهم الهلاك والضلال ولا يستطيع أن يدفع عنه عذاب الله ولا يردّ عنه عقوبته وسخطه يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [سورة فاطر/ الآية 6].
لم يقبل ءازر نصيحة نبي الله إبراهيم ولم يستجب لدعوته بل استكبر وعاند وتوعد وهدد ابنه إبراهيم بالشر والرجم والقتل وقال له ما أخبرنا الله تعالى عنه في القرءان: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [سورة مريم/ الآية 46] فعندها قال له إبراهيم ما حكاه الله عنه: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [سورة مريم/ الآية 47] أي: سلام عليك لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى، وزاده بأن دعا له بالخير فقال: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [سورة مريم/ الآية 47].
هذه الغلظة والاستكبار من والد إبراهيم عليه السلام لم تقعده وتمنعه من متابعة دعوته إلى الله سبحانه وتعالى ولم يُثنه عدم استجابة أبيه لنصحه ودعوته إلى عبادة الله وحده عن متابعة دعوته لقومه إلى هذا الدين الحق وترك عبادة الكواكب والأصنام.
وأراد إبراهيم عليه السلام أن يبين لقومه أنّ عبادة الكواكب باطلة وأنها لا تصلح للعبادة أبدًا لأنها مخلوقة مسخرة متغيرة تطلع تارة وتغيب تارة أخرى، وأنها تتغير من حال إلى حال وما كان كذلك لا يكون إلهًا، لأنها بحاجة إلى من يغيرها وهو الله تبارك وتعالى الدائم والباقي الذي لا يتغير ولا يزول ولا يفنى ولا يموت، لا إله إلا هو ولا رب سواه، فبين إبراهيم لقومه أولًا أن الكوكب لا يصلح للعبادة ثم انتقل إلى القمر الذي هو أقوى ضوءًا منه وأبهى حسنًا، ثم انتقل إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء ونورًا، فبين أنها ذات حجم وحدود وأنها متغيرة تشرق وتغرب وإذا كانت متغيرة فلا تصلح للألوهية لأنها بحاجة إلى من يغيرها ويحفظ عليها وجودها وهو الله تبارك وتعالى خالق كل شيء ومدبر أمر هذا العالم.
وأما معنى قول سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الكوكب حين رءاه: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [سورة الأنعام/ الآية 76] فهو على تقدير الاستفهام الانكاري فكأنه قال: أهذا ربي كما تزعمون، لذلك لما غاب قال: ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ أي لا يصلح أن يكون هذا الكوكب ربًّا لأنه يأفل ويتغير فكيف تعتقدون ذلك، ولما لم يفهموا مقصوده وظلوا على ما كانوا عليه، قال حين رأى القمر مثل ذلك فلمّا لم يجد منهم بغيته أظهر لهم أنه بريء من عبادته أي من عبادة القمر لأنه لا يصلح للعبادة ولا يصلح للربوبية، ثم لما أشرقت الشمس وظهرت قال لهم مثل ذلك، فلما لم ير منهم بغيته أيضا وأنهم أصحاب عقول سقيمة وقلوب مظلمة مستكبرة أيِسَ منهم وأظهر براءته من هذا الإشراك الذي وقعوا به وهو عبادة غير الله تعالى، وأما إبراهيم عليه السلام فهو رسول الله ونبيه فقد كان مؤمنًا عارفا بربه كجميع الأنبياء لا يشك بوجود الله طرفة عين، وكان يعلم أنّ الربوبية لا تكون إلا لله وأنه لا خالق إلا الله ولا معبود بحق إلا الله.
ولم يكن كما يفتري عليه بعض أهل الجهل والضلال من قولهم إنه مر بفترات وأوقات شك فيها بوجود الله، لأن الأنبياء والرسل جميعهم يستحيل عليهم الكفر والضلال قبل النبوة وبعدها، لأنهم بُعثوا هداة مهتدين ليعلموا الناس الخير وما أمرهم الله بتبليغه، فقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل مناظرته لقومه وإقامة الحجة عليهم وقبل دعوتهم إلى الإسلام والإيمان يعلم علما يقينًا لا شكّ فيه أنّ له ربًّا وهو الله تبارك وتعالى الذي لا يشبه شيئًا وخالق كل شيء، وأن الألوهية والربوبية لا تكون إلا لله خالق السموات والأرض وما فيهما وهو مالك كل شيء وقادر على كل شيء وعالم بكل شيء ونافذ المشيئة في كل شيء، والدليل على ذلك من القرءان قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 51]، وقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة الأنعام/ الآية 83]، وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم بعد أن أقام إبراهيم الحجة على قومه وأفحمهم: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة الأنعام/ الآية 79].
أراد قوم إبراهيم عليه السلام أن ينتقموا من إبراهيم عليه السلام لما كسر أصنامهم وحطمها وأهانها، فلمَّا غلبهم بحجته القوية الساطعة أرادوا مع ملكهم هذا أن ينتقموا منه ويحرقوه في نار عظيمة فيتخلصوا منه قال تعالى مخبرًا عن قولهم: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [سورة الصافات/ الآية 97]، وقال: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 68]، فشرعوا يجمعون الحطب من جميع ما يمكنهم من الأماكن ليلقوه بها وجعلوا ذلك قربانًا لآلهتهم -على زعمهم- حتى قيل إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملنَّ حطبًا لحريق إبراهيم، وهذا يدلّ على عظم الحقد المتأجج في صدورهم ضد إبراهيم عليه السلام.
ثم عمدوا إلى حفرة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأضرموا النار فيها فتأججت والتهبت وعلا لها شرر عظيم لم ير مثله، وكانوا لا يستطيعون لقوة لهبها أن يتقدموا منها، ثم لما كانوا لا يستطيعون أن يمسكوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأيديهم ويرموه في هذه النار العظيمة لشدة وهجها، صنعوا المنجنيق ليرموه من مكان بعيد، فأخذوا يقيدون إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو عليه الصلاة والسلام متوكل على الله حقّ توكله، فلما وضعوه عليه السلام في كفة هذا المنجنيق مقيدًا مكتوفًا وألقوه منه إلى وسط النار قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) كما روى ذلك البخاري عن ابن عباس.
فلما ألقي إبراهيم لم تحرقه النار ولم تصبه بأذى ولا ثيابه، لأن النار لا تحرق بذاتها وطبعها وإنما الله يخلق الإحراق فيها، قال الله: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 69]. فكانت هذه النار الهائلة العظيمة بردًا وسلامًا على إبراهيم فلم تحرقه ولم تحرق ثيابه، وقيل: لم تحرق سوى وثاقه الذي وثقوا وربطوا به إبراهيم عليه السلام.
ويروى عن بعض السلف أنّ جبريل عليه السلام عرض له في الهواء فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. ولما خبا سعير هذه النار العظيمة وانقشع دخانها وجدوا إبراهيم سليمًا معافى لم يصبه أي أذى فتعجبوا لأمره ونجاته، ومع أنهم رأوا هذه المعجزة الباهرة ظلوا على كفرهم وعنادهم ولم يؤمنوا بنبي الله إبراهيم عليه السلام، لقد أرادوا أن ينتصروا لكفرهم فخذلوا، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 70]، وقال: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ [سورة الصافات/ الآية 97-98].
وصحّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا، قَالَ: ((حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ))، قَالَهَا إِبرَاهيمُ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُلقِيَ في النَّارِ، وَقَالَها مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 173]. رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ آخر قَول إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: ((حَسْبِي الله ونِعْمَ الوَكِيلُ)).
مُرْ أُمَّتَكَ قال الفيروزأبادي: الأُمَّة لغة: الرّجُل الجامع للخير، والإِمام، وجماعةٌ أَرسل إِليهم رَسُول، والجيل من كل حيّ، والجنس، ومَن هو على الحقّ، ومُخالف لسائر الأَديان، والحِين، والقامة، والأُمُّ، والوجه، والنشاط، والطَّاعة، والعالِم، ومن الوجه: مُعظمُه، ومن الرجل قومه فَلْيُكْثِرُوا أي يكثروا من قول هذه الكلمة التي يصير لقائلها غرسة في الجنة جزاء على قولها بنية حسنة لله عز وجل.
مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ وَأَرْضَهَا وَاسِعَةٌ، الجنةُ هيَ دارُ السلامةِ مِنَ الأوجاعِ والآلامِ ودارُ السلامةِ مِنَ المشقةِ والنكدِ والهمِّ والغمِّ وَقَدْ أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَجَعَلَها لَهُم دَارَ القَرَارِ الأَبَدِيِّ بَعْدَ الحَيَاةِ الفَانِيَةِ، وَهِيَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا بِمَسَافَةٍ بَعِيْدَةٍ وَلَها أَرْضُهَا الْمُسْتَقِلَّةُ وَسَقْفُهَا العَرْشُ العَظِيْمُ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ فِي الحَدِيْثِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ: ((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَسَلُوْهُ الفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْـمـَنِ)). ومِنْ صفةِ أهلِهَا كمَا أخبرَ بذلكَ النبيُّ ﷺ مَا رواهُ الطبراني في المعجم الأوسط عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ، قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَلَى مَنْ تَحْرُمُ النَّارُ غَدًا؟ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ)). قالَ اللهُ تعالى في وصفِهَا: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [سورة القصص/ الآية 83]، ويقولُ تعالى: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الأعراف/ الآية 43].
أمَّا صفةُ أهلِهَا: فهُمْ عَلَى صُوْرَةِ أَبِيْهِم ءَادَمَ سِتُّوْنَ ذِرَاعًا طُوْلًا فِي عَرْضِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، جُرْدٌ مُرْدٌ فِي عُمُرِ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِيْنَ عَامًا، لَا تَنْبُتُ لَهُم لِحْيَةٌ وَلَيْسَ عَلَى أَذْرِعَتِهِم وَلَا عَلَى بُطُونِهِم وَلَا عَلَى سِيْقَانِهِم شَعَرٌ إِلَّا شَعَرَ الرَّأْسِ وَالحَاجِبِ وَالأَهْدَابُ. فَهُم حِسَانُ الوُجُوْهِ، وَأَقَلُّهُم جَمَالًا كَجَمَالِ يُوْسُفَ الصِّدِّيْقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُعْطِيْهِ اللهُ شَبَهًا بِيُوْسُفَ فِي الجَمَالِ. وَيَجْعَلُ اللهُ تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم عَلَامَةً تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ هَذَا هُوَ فُلَانٌ حَتَّى إِنْ زَارَهُ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا يَعْرِفُهُ تِلْكَ السَّاعَةَ، وإنَّ أهلَ الجنَّةِ يتزاورونَ وتزاورُهُمْ يحصلُ إمَّا بأنْ يطيرَ بالشخصِ سريرُهُ حتى ينزلَ بهِ أمامَ سريرِ الذي يريدُ زيارَتَهُ فيجلسانِ متقابِلَيْنِ لأنَّهُ مِنْ سهولةِ السيرِ هناكَ السريرُ الذي عليهِ الشخصُ بمجردِ اشتياقِهِ لصاحِبِهِ الذي يريدُ رؤيَتَهُ يطيرُ بِهِ بقدرةِ اللهِ تعالى حتى ينزلَ بهِ أمامَ سريرِ ذلكَ الشخصِ فيتجالسانِ ويتحدثانِ، ثمَّ يطيرُ بهِ إذا أرادَ الرجوعَ إلى منزلِهِ وهذا هوَ معنى الآيةِ: ﴿عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [سورة الحجر/ الآية 47]، وأمَّا قولُهُ تعالى: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ [سورة الغاشية/ الآية 13]، قالَ ابنُ عباسٍ: ألواحُهَا مِنْ ذهبٍ مُكَلَّلَةٌ بالزبرجدِ والدرِّ والياقوتِ مرتفعةٌ ما لمْ يجئْ أهلُهَا، فإذا أرادَ أنْ يجلسَ عليها أصحابُهَا تواضعتْ لهمْ حتى يجلسُوا عليها، ثمَّ ترتفعُ إلى موضِعِهَا، وأحيانًا يركبونَ خيولًا مِنْ ياقوتٍ لها أجنحةٌ مِنْ ذهبٍ تطيرُ بهمْ.
وقدْ روى مسلمٌ عنِ النبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ((لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا)) ومعناهُ لَا يدخلُ الجنةَ إلَّا مؤمنٌ وفي الترمذيِّ عنْ رسولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ:((وَلا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ))، فَيُعْلَمُ مِنْ هذا أَنَّ الذي ماتَ كافرًا أصليًا أوْ مرتَدًا بأنِ ارتَدَّ عنِ الإسلامِ لَا يدخلُ الجنةَ والعياذُ باللهِ تعالى، والكافرُ الذي لا يدخلُ الجنةَ هوَ الذي وقعَ في أيِّ نوعٍ مِنْ أنواعِ الكفرِ والعياذُ باللهِ تعالى.
وقدْ ذَكَرَ العلماءُ أنَّ الكفرَ يُقسَمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ فَمِنْهُ مَا هوَ قوليٌ كَمَنْ يَسُبُّ اللهَ والعياذُ باللهِ أو يَسُبُّ دينَ الإسلامِ أو نبيًّا مِنَ الأنبياءِ أو مَلَكًا مِنَ الملائكةِ الكرامِ أو يستهزئُ بشرعِ اللهِ وبشريعتِهِ وبمعالمِ دينِهِ أو يستخفُّ بعذابِ جهنمَ فإنَّهُ أشدُّ عذابٍ خَلَقَهُ اللهُ تعالى، والقسمُ الثاني مِنْ أقسامِ الكفرِ هوَ الفعليُّ كالذي يُلْقِيْ المصحفَ في القاذوراتِ أو يسجدُ للشمسِ والقمرِ، والقسمُ الثالثُ هوَ الكفرُ الاعتقاديُّ كالذي يعتقدُ خلافَ عقيدةِ المسلمينَ كالذي يعتقدُ أنَّ للهِ ولدًا أو زوجةً أو شريكًا أو يعتقدُ عقيدةَ اليهودِ أنَّ اللهَ خلقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ثمَّ تعبَ في اليومِ السابعِ واستراحَ جالسًا على العرشِ فنزلَ فيهمْ قولُهُ تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [سورة ق/ الآية 38] فاللهُ تعالى لا يوصفُ بالتعبِ ولا بالجلوسِ ولا بالجسميةِ ولا بالحدِّ ولا بالمكانِ ولا بالزمانِ فهوَ خالقُ المكانِ والزمانِ كانَ موجودًا قبلَهُمَا بدونِهِمَا وهوَ الآنَ على ما عليهِ كانَ، ليسَ كمثلِهِ شىءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ، مهمَا تصورتَ ببالكَ فاللهُ بخلافِ ذلكَ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَنْ وقعَ في أيِّ قسمٍ مِنَ الكفرِ فيجبُ عليهِ فورًا الرجوعُ للإسلامِ بالنطقِ بالشهادتينِ وتركِ ما صدرَ منهُ. نَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُجَنِّبَنَا الكفرَ وما يُقَرِّبُ إليهِ مِنْ قولٍ أو عملٍ أو اعتقادٍ.
وقدْ روى مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: ((يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا))، وَءاخرُ مَنْ يدخلُ الجنَّةَ مِنَ المؤمنينَ لهُ مثلُ الدنيا وعشرةِ أمثالِها. وقدْ وردَ ذلكَ في حديثٍ صحيحٍ رواهُ البخاريُّ وغيرُهُ.
والواحدُ مِنْ أهلِ الجنَّةِ أقلُّ ما يكونُ عندَهُ مِنَ الولدانِ المخلدينَ عشرةُ ءالافٍ، بإحدَى يديْ كلٍّ منهم صحيفةٌ مِنْ ذهبٍ وبالأخرى صحيفةٌ مِنْ فضةٍ قالَ تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ﴾ [سورة الزخرف/ الآية 71]، والأكوابُ جمعُ كوبٍ وهوَ إناءٌ مستديرٌ لا عروةَ لهُ أيْ لا أذنَ لهُ. وقالَ تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ [سورة الطور/ الآية 24]، أيْ يطوفُ للخدمةِ غلمانٌ كأنَّهم مِنَ الحُسْنِ والبياضِ لؤلؤٌ مكنونٌ أيْ لم تَمَسَّهُ الأيديْ.
قَالَ: “وَمَا غِرَاسُ الْجَنَّةِ؟” قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)) هذه الكلمة العظيمة قولها سنة واعتقاد معناها فرض من فروض الدين، يجب على المؤمن أن يعتقد بقلبه أن كل شيء بمشيئة الله تعالى، وقد ورد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، دَوَاءٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاءً أَيْسَرُهَا الْهَمُّ)) رواه الحافظ الطبراني رحمه الله في المعجم الأوسط.
وفي مسند البزار عن عبد الله بن مسعود قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تدري ما تفسيرها؟)) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ)) اﻫ.
لا حول ولا قوة إلا بالله معناها لا حول عن معصية الله إلا بحفظ الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله، والمعنى أن الله هو خالق أعمال العباد كلها، فمن وُفِّقَ إلى شىء من الخير فبتوفيق الله وإرادته وخلقه تعالى، ومن فعل شيئا من الحرام فبإرادة الله وخلقه كذلك، وكذلك من فعل الكفر أو الضلال فهو بخلق الله وبإرادته وخذلان الله له، لا يخلق أحد شيئا إلا الله تعالى الذي هو خالق كل شىء سبحانه سواء كان خيرا أو شرا، ولكن الله يرضى الخير ولا يرضى الشرّ. قال الله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [سورة الرعد/ الآية 16]. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
والله تعالى أعلم وأحكم