فضل التسبيح والتحميد – سيرة أبي ذر الغفاري وشرح حديث أحبّ الكلام إلى الله

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لا ناقض لما بناه، ولا حافظ لما أفناه، ولا مانع لما أعطاه، ولا راد لما قضاه، ولا ساتر لما أبداه ولا مظهر لما أخفاه، ولا ضال لمن هداه، ولا هادي لمن أعماه،

والصلاة والسلام على رسول الهدى محمد الذي اختاره الله على العباد واصطفاه، وعلى صاحبه أبي بكر الذي رضي الله عنه وأرضاه، وعلى عمر الذي عدل بين العباد فتربت يداه، وعلى عثمان الذي استحت منه الملائكة فزانه حياه، وعلى عليّ الذي والى الله من والاه وعادى من عاداه. أما بعد:
باب فى فضل التسبيح والتحميد

رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِى ذَرٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الْكَلامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ((مَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)) مَعْنَاهُ بَعْدَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ: ((أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)).
الشرح والتعليق على الحديث

جاء في الحديث كذلك ما يحثّ على التسبيح والحمد وبيان ما فيهما من الأجر العظيم، حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: ((‌وَسُبْحَانَ ‌اللهِ ‌وَالْحَمْدُ ‌لِلَّهِ ‌تَمْلَآَنِ – أَوْ تَمْلَأُ – مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))، وَكَلِمَة “سُبحان الله” مَأْخُوذَةٌ مِنْ سَبَّحَ/ يُسَبِّحُ أَوْ أُسَبِّحُ وَالمَعْنَى أُبْعِدُ.

فِى اللُّغَةِ السَّبْحُ معناهُ الابْتِعادُ. فَإِذا قالَ المسْلِمُ: أُسَبِّحُ الله، أَيْ أُبْعِدُ الله أَي أُنَزِّهُ اللهَ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِهِ سُبْحانَه وَلا يَجوزُ فِى حَقِّهِ، مِنَ العَجْزِ، أَوِ الضَّعْفِ أَوِ النَّقْصِ أَوِ الاحتِياج إِلَى شىء أَوِ الشَّبَه بِشىءٍ مِنْ مَخْلُوقاتِهِ. اللهُ تعالَى مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ هذا، وَهُوَ المعْنَى المتعارَف عَلَيْهِ وَهُوَ التَّنْزِيه. وَكَلِمَة “سُبحانَ” هِيَ مَصْدَر: سَبَّحَ يُسَبِّحُ تَسْبِيحًا أَوْ سُبْحانًا فَهِيَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ فِى المعْنَى لأَنّها مُنْسَجِمَةٌ مَعَ قَوْلِهِ سبْحانَه فِى القرءان: ‌ ﴿لَيۡسَ ‌كَمِثۡلِهِۦ ‌شَيۡءٞۖ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11] فَكما أَنَّ هذه الآيَةَ تَنْفِي عَنِ الله المماثَلَةِ بِشىءٍ مِنْ خَلْقِه، كذلِكَ قَوْلُ المسْلِمِ: “سُبحان الله” مَعناهُ أُنَزِّهُ اللهَ عَنِ المَثِيل، أُبْعِدُ اللهَ عَنِ الشّبِيه، ليسَ للهِ تعالى زوْجِةٌ وَلا وَلَد، وَلا نَظِيرٌ وَلا ضِدَّ له وَلا نِدَّ لَه.

قالَ: “وَالْحَمْدُ لِلَّهِ” يَعْنِى جَمَعَ الإِنْسانُ فِى ذِكْرِهِ بَيْنَ التَّسبيح وَبَيْنَ الحَمد فَيَكُونُ ازْدادَ فِى الفَضْل، ازْدادَ فِى الشَّأْن، حَيثُ إَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ عَظِيمَتَينِ فِيهِما إِثْباتُ صِفاتِ الجَلالِ لله وفِيهِا أَيضًا إِثباتُ التَّنْزِيهِ لله تعالى عَنِ مُشابَهَةِ المخْلُوقات.

بَابٌ فِي فَضْلِ التَّسْبِيحِ روى النسفيُّ أنَّه وردَ في ‌تسبيحِ ‌الملائكةِ قولُهُم: سبوحٌ قدوسٌ ربُّ الملائكةِ والروحِ،

وروَى مسلمٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: ((‌سُبُّوحٌ ‌قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ)).

والتسبيحُ معناهُ التنزيهُ للهِ تعالى عنِ السوءِ والنقائصِ وصفاتِ الأجسامِ كالجلوسِ والمكانِ والزمانِ،

فقد روى الحاكمُ في المستدرك عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ تَفْسِيرِ سُبْحَانَ اللَّهِ قَالَ: ((هُوَ ‌تَنْزِيهُ ‌اللَّهِ ‌عَنْ كُلِّ سُوءٍ))، أي أنَّ اللهَ منزهٌ عنِ الجسميةِ وصفاتِ الأجسامِ كالمكانِ والزمانِ والقعودِ والجلوسِ والنزولِ الحقيقيِّ وسائرِ صفاتِ المخلوقاتِ.

وقال ابن حجر: التَّسْبِيح هو التَّنْزِيهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَجَمِيعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.اهـ

وفي رواية أبي نُعيم في حلية الأولياء أَنَّ أَهْلَ سَمَاءِ الدُّنْيَا سُجُودٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَقُولُونَ: ‌سُبْحَانَ ‌ذِي ‌الْمُلْكِ ‌وَالْمَلَكُوتِ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ رُكُوعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ قِيَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، فَهَذَا هُوَ تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ.

وَالتَّحْمِيدِ أي قول الحمد لله. وهذا ما نقوله كل يوم في كل صلاة لنا نصليها عند قراءة الفاتحة نقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الفاتحة/ الآية 2]: الْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الاختياري، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ لإِنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ وَهُوَ مَالِكُ الْعَالَمِينَ وَالْعَالَمُ هُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ سُمِّىَ عَالَمًا لِأَنَّهُ عَلامَةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ.
الفضائل والفوائد

روى الترمذي في سننه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، قَالَ اللَّهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِيَ المُلْكُ وَلِيَ الحَمْدُ)). وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا)).

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: ((مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ)). وَفِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: ((لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا بِحَذَافِيرِهَا في يَدِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَكَانَتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ)).

قَالَ بعضُهم: مَعْنَاهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُعْطِي عَلَى أَثَرِهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ حَتَّى نَطَقَ بِهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَفْضَلَ مِنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا، لِأَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ وَالْكَلِمَةَ بَاقِيَةٌ.

وروى الخرائطيُّ عن عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي، قَالَتْ: كَانَ بِمَرْوَ امْرَأَةٌ تَلِدُ الْبَنَاتَ، فَوَلَدَتْ تِسْعَ بَنَاتٍ، فَلَمَّا حَمَلَتِ الْعَاشِرَةَ، قَالَ لَهَا النِّسَاءُ: يَا فُلَانَةُ إِنْ وَلَدْتِ هَذِهِ الْمَرَّةَ ابْنَةً فَاحْمَدِي اللَّهَ، قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ ابْنَةً لَمْ أَحْمَدِ اللَّهَ. قَالَتْ: فَوَلَدَتْ خِنْزِيرَةً. قَالَتْ أُمِّي: فَأَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ إِلَى الْخِنْزِيرَةِ تَحْتَ ثِيَابِهَا فَعَاشَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَاتَتْ.

وروى الخرائطي في كتاب فضيلة الشكر لله على نعمته عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ يُعْجِبُهُ أَوْ يُحِبُّهُ قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْعِمِ الْمُفْضِلِ، اللَّهُمَّ بِنِعْمَتِكَ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ)) وَإِذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ يَكْرَهُهُ قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ)).

وكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ إِذَا ابْتَدَأَ حَدِيثَهُ: ‌‌”الْحَمْدُ لِلَّهِ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ كَمَا خَلَقْتَنَا، وَرَزَقْتَنَا، وَهَدَيْتَنَا، وَعَلَّمْتَنَا، وَأَنْقَذْتَنَا، وَفَرَّجْتَ عَنَّا، لَكَ الْحَمْدُ بِالْإِسْلَامِ، وَالْقُرْآنِ، وَلَكَ الْحَمْدُ بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْمُعَافَاةِ، كَبَتَّ عَدُوَّنَا، وَبَسَطْتَ رِزْقَنَا، وَأَظْهَرْتَ أَمْنَنَا، وَجَمَعَتْ فُرْقَتَنَا، وَأَحْسَنْتَ مُعَافَاتَنَا، وَمِنْ كُلِّ مَا سَأَلْنَاكَ رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ حَمْدًا كَثِيرًا، لَكَ الْحَمْدُ بِكُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيْنَا فِي قَدِيمٍ وَحَدِيثٍ، أَوْ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً، أَوْ خَاصَّةً أَوْ عَامَّةً، أَوْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، أَوْ شَاهِدٍ أَوْ غَائِبٍ، لَكَ الْحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى، وَلَكَ الْحَمْدُ إِذَا رَضِيتَ”،

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ كُلِّ شَاكِرٍ، وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ حِينَ عَطَسَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَقَالَ اللَّهُ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة المؤمنون/ الآية 28].

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [سورة إبراهيم/ الآية 39].

وَقَالَ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ: ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة النمل/ الآية 15].

وَقَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ [سورة الإسراء/ الآية 111].

وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [سورة فاطر/ الآية 34].

وكذلك قال تعالى حكاية عن أهل الجنة: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة يونس/ الآية 10] فَهِيَ كَلِمَةُ كُلِّ شَاكِرٍ.

رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ترجمة راوي الحديث رضي الله عنه: هو أَبُو ذَرٍّ جُنْدُبُ – ويقال جندَب، بفتح الدال وكسرها – بنُ جُنَادَةَ الغِفَارِيُّ، أَحَدُ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ، مِنْ نُجَبَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيْلَ: كَانَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فِي الإِسْلاَمِ. قال فيه أبو نعيم: رَابِعُ الْإِسْلَامِ، كَانَ مُتَوَحِّدًا مُتَعَبِّدًا،

رُدَّ إِلَى بِلاَدِ قَوْمِهِ، فَأَقَامَ بِهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَنْ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَ إِلَيْهِ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلاَزَمَهُ، وَجَاهَدَ مَعَهُ. وَكَانَ يُفْتِي فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ.

فَاتَتْهُ بَدْرٌ، وَقِيْلَ: كَانَ آدَمَ، ضَخْمًا، جَسِيْمًا، كَثَّ اللِّحْيَةِ.

وقال الأَحْنَفُ بنُ قَيْسٍ: قَدِمْتُ المَدِيْنَةَ، فَدَخَلْتُ مَسْجِدَهَا، فَبَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ طُوَالٌ، آدَمُ، أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَاتَّبَعْتُهُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَبُو ذَرٍّ.

وَكَانَ رَأْسًا فِي الزُّهْدِ، وَالصِّدْقِ، وَالعِلْمِ، وَالعَمَلِ، قَوَّالًا بِالحَقِّ، لاَ تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، عَلَى حِدَّةٍ فِيْهِ. وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ بَيْتِ المَقْدِسِ مَعَ عُمَرَ.

روى مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارَ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا، فَنَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا، فَأَكْرَمَنَا وَأَحَسَنَ إِلَيْنَا. فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ، فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي. فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَأبطأ عَلَيَّ، ثُمَّ جَاءَ. فَقُلْتُ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: لَقِيْتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ. قُلْتُ: فَمَا يَقُوْلُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُوْلُوْنَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ. قَالَ: وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ. فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الكَهَنَةِ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِهِم، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ، فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُوْنَ! قُلْتُ: فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ! فَأَتَيْتُ مَكَّةَ، فَرأيتُ رَجُلًا مِنْهُم، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي تَدْعُوْنَهُ الصَّابِئَ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَقَالَ: الصَّابِئُ. قَالَ: فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ، وَعَظْمٍ، حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَارْتَفَعْتُ حِيْنَ ارْتَفَعْتُ، فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ، فَغَسَلْتُ عَنِّي الدِّمَاءَ، وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا. وَلَقَدْ لَبِثْتُ ثَلاَثِيْنَ، بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، مَا لِي طَعَامٌ إِلاَّ مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي هزالة بسبب الجُوْع.

فَبَيْنَا أَهْلُ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ، جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتَلَمَ الحَجَرَ، ثُمَّ طَافَ بِالبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ، ثُمَّ صَلَّى، وَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلاَمِ. قَالَ: ((وعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ! مِنْ أَنْتَ؟)). قُلْتُ: مِنْ غِفَارَ. فَقَالَ: ((مَتَى كُنْتَ هَا هُنَا؟)). قُلْتُ: مُنْذُ ثَلاَثِيْنَ، مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ. قَالَ: ((فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟)). قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلاَّ مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ، وَمَا أَجِدُ عَلَى بَطْنِي سُخْفَةَ جُوْعٍ. قَالَ: ((إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ)) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! ائْذَنْ لِي فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ. فَانْطَلَقْنَا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيْبِ الطَّائِفِ، فَكَانَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا.

وَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ، لاَ أُرَاهَا إِلاَّ يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ؟ عسى اللهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ، وَيَأْجُرَكَ فِيْهِم؟)). قَالَ: فَانْطَلَقْتُ، فَلَقِيْتُ أُنَيْسًا. فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. قَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِيْنِكَ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. فَأَسْلَمَتْ أُمُّنَا، فَاحْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارَ، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُم، وَقَالَ نِصْفُهُم: إِذَا قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ المَدِيْنَةَ أَسْلَمْنَا. فَقَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمُ البَاقِي. وَجَاءتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِخْوَانُنَا، نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ. فَأَسْلَمُوا، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((غِفَارُ، غَفَرَ اللهُ لَهَا! وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ)).

وفي رواية البخاري أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُوْلَ اللهِ، اعْرِضْ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ. فَعَرَضَ عَلَيَّ، فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي، فَقَالَ لِي: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، اكْتُمْ هَذَا الأَمْرَ، وَارْجِعْ إِلَى بَلدِك! فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُوْرُنَا، فَأَقْبِلْ)).

فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.

فَجَاءَ إِلَى المَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيْهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلّا اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ. فَقَالُوا: قُوْمُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئ. فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لأَمُوْتَ! فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ، فَأَكَبَّ عَلَيَّ، وَقَالَ: وَيْلَكُم! تَقْتَلُوْنَ رَجُلًا مِنْ غِفَارَ، وَمَتْجَرُكُم وَمَمَرُّكُم عَلَى غِفَارَ! فَأَقْلَعُوا عَنِّي، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ، رَجَعْتُ، فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالأَمْسِ. فَقَالُوا: قُوْمُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئ! فَصُنِعَ بِي كَذَلِكَ، وَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ، فَأَكَبَّ عَلَيَّ. فَهَذَا أَوَّلُ إِسْلاَمِ أَبِي ذَرٍّ. ا.هـ

وكَانَ حَامِلَ رَايَةِ غِفَارَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَكَانَ يَقُوْلُ: أَبْطَأْتُ فِي غَزْوَةِ تَبُوْكٍ، مِنْ ضعف بَعِيْرِي.

وروى الحاكم في المستدرك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ جَعَلَ لَا يَزَالُ يَتَخَلَّفُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ فُلَانٌ، فَيَقُولُ: ((دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ)) حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بَعِيرِهِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، وَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((‌كُنْ ‌أَبَا ‌ذَرٍّ)) فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ – وَاللَّهِ – أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ)).

فمرَّ الدَّهر وَسُيِّرَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةَ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى امْرَأَتَهُ وَغُلَامَهُ إِذَا مُتُّ فَاغْسِلَانِي وَكَفِّنَانِي، ثُمَّ احْمَلَانِي فَضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّونَ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا بِهِ كَذَلِكَ فَاطَّلَعَ رَكْبٌ، فَمَا عَلِمُوا بِهِ حَتَّى كَادَتْ رَكَائِبُهُمْ تَطَأُ سَرِيرَهُ، فَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: جِنَازَةُ أَبِي ذَرٍّ. فَاسْتَهَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْكِي، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ))، فَنَزَلَ فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى دفنه.

وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، ‌إِنَّكَ ‌ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)).

وروى أحمد في مسنده عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَوْصَانِي حِبِّي بِخَمْسٍ: أَرْحَمُ ‌الْمَسَاكِينَ ‌وَأُجَالِسُهُمْ، وَأَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ تَحْتِي، وَلَا أَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَنْ أَقُولَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)).

وقال مَالِكُ بنُ دِيْنَارٍ فيما رواه ابن سعد في طبقاته: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَيُّكُمْ يَلْقَانِي عَلَى الحَالِ الَّذِي أُفَارِقُهُ عَلَيْهِ؟)). فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: أَنَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ، وَلاَ أَقَلَّتِ الغَبْرَاءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ! مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى زُهْدِ عِيْسَى فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ)).

وروي عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قِيْلَ لَهُ: حَدِّثْنَا عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِّثْنَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ. قَالَ: عَلِمَ العِلْمَ، ثُمَّ أَوْكَى، فَرَبَطَ عَلَيْهِ رِبَاطًا شَدِيْدًا. وفي رواية قال علي: أَبُو ذَرٍّ وِعَاءٌ مُلِئَ عِلْمًا، أَوْكَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى قُبِضَ.

وروى السيوطي في جمع الجوامع أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي ذَرٍّ، وَتُبْ عَلَيْهِ).

وفي مسند أحمد قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنْ أَصْحَابِي أَرْبَعَةً أَخْبَرَنِي ‌أَنَّهُ ‌يُحِبُّهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُحِبَّهُمْ)). قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((إِنَّ عَلِيًّا مِنْهُمْ، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ)).

قَالَ شَهْرُ بنُ حَوْشَبٍ: حَدَّثَتْنِي أَسْمَاءُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خِدْمَتِهِ، أَوَى إِلَى المَسْجِدِ، وَكَانَ هُوَ بَيْتَهُ.

مَاتَ رضي الله عنه سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ. وَيُقَالُ: مَاتَ فِي ذِي الحِجَّةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ الَّذِي دَفَنَهُ عَاشَ بَعْدَهُ نَحْوًا مِنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي ذَرٍّ، مَعَ قُوَّةِ أَبِي ذَرٍّ فِي بَدَنِهِ وَشَجَاعَتِهِ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيْفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيْمٍ)) رواه مسلم.

وَلَهُ مائَتَا حَدِيْثٍ وَواحَدٌ وَثَمَانُوْنَ حَدِيْثًا، اتَّفَقَا مِنْهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ حَدِيْثًا، وَانْفَرَدَ البُخَارِيُّ بِحَدِيْثَيْنِ، وَمُسْلِمٌ بِتِسْعَةَ عَشَرَ.

قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْكَلامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أي من أحب الكلام إلى الله تعالى، أو مَعْنَاهُ بَعْدَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ: ((أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) قَالَ: ((مَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَي اخْتَارَهُ واستخلصه لِنَفْسِهِ إطلاق كلمة النفس على الله على معنى لائقٍ به عز وجل،

قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر: وَهُوَ – أي الله – شَىْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ (مَعْنَاهُ يَجُوْزُ أَنْ يُقَالَ: اللهُ شَىْءٌ أَيْ مَوْجُوْدٌ، وَهَذَا مَعْنَىْ الشَّىْءِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَدَلِيْلُ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَىْ: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ﴾ [سورة الأنعام/ الآية 19] وَاللهُ شَىْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ أَيْ مَوْجُوْدٌ لَا كَالْمَوْجُوْدَاتِ).

وَمَعْنَىْ الشَّىْءِ في حق الله إِثْبَاتُهُ بِلَا جِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ، وَلَا حَدَّ لَه (أَيْ لَيْسَ لَهُ كَمِّيَّةٌ بِالْمَرَّةِ، لَا صَغِيْرَةٌ وَلَا وَسَطٌ وَلَا كَبِيْرَةٌ، وَمَنِ اعْتَقَدَهُ أَنَّهُ مُتَّسِعٌ وِمُمْتَدٌّ إِلَىْ غَيْرِ نِهَايَةٍ فَقَدْ كَذَّبَ الدِّيْنَ وَهُوَ كَمَنِ اعْتَقَدَهُ أَنَّهُ حَجْمٌ صَغِيْرٌ، فَقَدْ كَذَّبَ الدِّيْنَ أَيْضًا)، وَلَا ضِدَّ له (أَيْ لَا مُكْرِهَ وَلَا مُغَالِبَ وَلَا نَظِيْرَ لَهُ)، وَلَا نِدَّ (أَيْ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ وَلَا شَبِيْهٌ وَلَا مُسَاوٍ) لَهُ، وَلَا مِثْلَ لَهُ،

وَلَهُ يَدٌ وَوَجْهٌ وَنَفْسٌ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِيْ ‌الْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَأَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِصُوْرَةٍ، وَأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بجَارِحَةٍ، وَأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَتْ بِحَدَقَةٍ، وَإِنَّمَا هَذِهِ أَوْصَافٌ جَاءَ بِهَا التَّوْقِيْفُ، فَقُلْنَا بِهَا وَنَفَيْنَا عَنْهَا التَّكْيِيْفَ، فَقَدْ قَالَ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11]، وقال: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص/ الآية 4]، وقال: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سورة مريم/ الآية 65] كَمَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَىْ فِي الْقُرْءَانِ، فَمَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَىْ فِي الْقُرْءَانِ، مِنْ ذِكْرِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالنَّفْسِ فَهُوَ لَهُ صِفَاتٌ بِلَا كَيْفٍ، وَيَدُهُ صِفَتُهُ بِلَا كَيْفٍ، وَغَضَبُهُ وَرِضَاهُ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ بِلَا كَيْفٍ [أَيْ نُثْبِتُ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةَ بِلَا تَشْبِيْهٍ وَلَا عَلَىْ مَعْنَىْ الْجِسْمِيَّةِ].

قَالَ اللهُ تَعَالَىْ حكاية عن عيسى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [سورة المائدة/ الآية 116]، مَعْنَىْ هَذِهِ الْآيَةِ: تَعْلَمُ مَا فِيْ سِرِّيْ وَلَا أَعْلَمُ مَا فِيْ غَيْبِكَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَىْ أَنَّ اللهَ لَهُ نَفْسٌ بِمَعْنَىْ الرُّوْحِ، بَلِ اللهُ هُوَ خَالِقُ الرُّوْحِ وَخَالِقُ الْجَسَدِ، اللهُ لَيْسَ رُوْحًا وَلَا جَسَدًا وَلَا هُوَ رُوْحٌ فَقَطْ وَلَا هُوَ جَسَدٌ بِلَا رُوْحٍ، قَالَ تَعَالَىْ: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [سورة المائدة/ الآية 109]،

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِيْ تَفْسِيْرِهِ «الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْءَانِ»: أَيْ تَعْلَمُ مَا فِيْ غَيْبِيْ وَلَا أَعْلَمُ مَا فِيْ غَيْبِكَ.

وَقِيْلَ: الْمَعْنَىْ تَعْلَمُ مَا أَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ مَا تَعْلَمُ.

وَقِيْلَ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيْهِ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيْهِ.اهـ

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِيْ تَفْسِيْرِهِ: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ أَيْ عِلْمُكَ مُحِيْطٌ بِكُلِّ الْعُلُوْمِ، ﴿وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ أَيْ لَا أَطَّلِعُ عَلَىْ غَيْبِكَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا تُعَرِّفُنِيْ بِإِعْلَامِكَ.اهـ

وَفِيْ حَاشِيَةِ الشِّهَابِ عَلَىْ تَفْسِيْرِ الْبَيْضَاوِيِّ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيْهِ فِيْ نَفْسِيْ كَمَا تَعْلَمُ مَا أُعْلِنُهُ، وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيْهِ مِنْ مَعْلُوْمَاتِكَ.اهـ

وَقَالَ أَبُوْ حَيَّانَ الْأَنْدَلُسِيُّ فِيْ تَفْسِيْرِ الْبَحْرِ الْمُحِيْطِ: قِيْلَ الْمَعْنَىْ تَعْلَمُ مَا أُخْفِيْ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيْ.

ثُمَّ قَالَ: وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾، وَقَالُوْا النَّفْسُ هِيَ الشَّخْصُ وَذَلِكَ يَقْتَضِيْ كَوْنَهُ جِسْمًا تَعَالَىْ اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيْرًا.اهـ

سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)).

جاء في الحديث كذلك ما يحثّ على التسبيح والحمد وبيان ما فيهما من الأجر العظيم، حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: ((‌وَسُبْحَانَ ‌اللهِ ‌وَالْحَمْدُ ‌لِلَّهِ ‌تَمْلَآَنِ – أَوْ تَمْلَأُ – مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) وَمعنَى ذلِكَ أَنَّها عَظِيمة الثَّواب. لَوْ تُصُوِّرَ أَنَّ هذه الحَسَنات وَهذا الثَّواب أَجْرام حِسِّيَّة، لملأَت هذه الحَسَنات مِنْ كَثْرَتِها ما بيْنَ السمواتِ والأَرْض.

بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ المؤْمِن عَظِيمَ الثَّوابِ عَلى هذه الكلِمات، كَيف يَسَعُهُ أَنْ يُقَصِّرَ فِى إِعمالِ لِسانِهِ بِها؟ لَوْ قِيلَ للإِنسان قُل: “سُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ” نُعْطِيكَ عَشرة ءالاف دينار، أَليسَ يُبادِرُ بِسُرْعَة إِلَى النُّطْقِ بها؟؟ هذه الحَسَنات التي يَكْسِبُها المسلِم مِنْ هذا الذِّكْر أَعْظَمُ مِنْ كُنُوزِ الدُّنيا كُلِّها. حسَنَةٌ واحِدَة يَقبَلُها اللهُ مِنَ العَبد خَيرٌ مِنْ أَموالِ الدُّنيا كُلِّها! فَكَيف إِذًا يُقَصِّرُ بَعْدَ هذا، إِنْ لَمْ يَكُن مَعْذُورًا فَهُوَ فِى غَفْلَة!!

وَرَدَ فِى الحَدِيث الصَّحِيح المتفق عليه أَنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قالَ: ((‌كَلِمَتَانِ ‌خَفِيفَتَانِ ‌عَلَى ‌اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ))

((كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ عَلَى اللِّسانِ)) يَعْنِى لا تَحتاجان فِى النُّطْقِ بِهِما إِلَى تَعَب وَإِلَى مَشَقَّة وَإِلَى جُهد، ((ثَقِيلَتانِ فِى المِيزان)) أَيْ ثَوابُهُما يُثَقِّلُ كَفَّةَ الحَسَنات ((سُبْحانَ اللهِ بِحَمْدِهِ سُبْحانَ اللهِ العَظِيم)) قَوْلُ المسلِم: سبْحانَ الله وَبِحَمْدِه، أَيْ أُسَبِّحُ الله وَأَنا حامِدُه يَعْنِى فِى الوَقْتِ عَيْنِهِ، أُسبحُهُ وَأَنا مُتَلَبِّسٌ بِحَمْدِهِ، يَعْنِى قَرَنَ بيْنَ التَّقْدِيسِ وَالتَّحْمِيد.

وَوَرَدَ أَيْضًا فِى الحَدِيث الذي رواه ابن حبان في صحيحه: ((مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، ‌غُرِسَتْ ‌لَهُ ‌بِهِ ‌نَخْلَةٌ ‌فِي ‌الْجَنَّةِ)) تُغْرَسُ لَهُ شَجَرَة فِى الجَنَّة، ساقُها مِنْ ذَهَب. فَإِذا قالَها مَرَّتَين غُرِسَت لَهُ شَجَرَتان، فَإِذا قالَها ثلاثَ مرّات، تُغْرَسُ لَهُ ثَلاثُ أَشْجَار، وَهكذا. فَهذه الكَلِمَةُ الطيبَة: “سُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ“، لا ينبَغِي أَنْ يُغْفِلَها المسلِمُ لِما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها مِنَ النَّعِيم العَظِيم وَالثّوابِ الجَزِيل فِى الجَنّة.

الحميدُ: هو المستحقُّ للحمدِ والثناءِ والمدحِ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [سورة لقمان/ الآية 26].

والله تعالى أعلم وأحكم

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …