فضل قول “سبحان الله وبحمده” مائة مرة يوميًّا – شرح حديث عظيم هو سبب لمغفرة الذنوب

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَصَبَ مِنْ كُلِّ كَائِنٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بُرْهَانًا، وَتَصَرَّفَ فِي خَلقِه كَمَا شَاءَ عِزًّا وَسُلْطَانًا، وَاخْتَارَ الْمُتَّقِينَ فَوَهَبَ لَهُمْ بِنِعْمَتِهِ عِلمًا وَإِيمَانًا، وعَمَّ بعضَ الْمُذْنِبِينَ بِرَحْمَتِهِ عَفْوًا وَغُفْرَانًا، وَلَمْ يَقْطَعْ أَرْزَاقَ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ جُودًا وَامْتِنَانًا، حَكَمَ فِي بَرِيَّتِهِ فَأَمَرَ وَنَهَى، وَأَكْرَمَ الْمُؤْمِنَ إِذْ كَتَبَ الإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ، وَأَيْقَظَ بِمَوْعِظَتِهِ مَنْ غَفَلَ وَسَهَا، وَدَعَا الْمُذْنِبَ إِلَى تَوْبَةٍ لِغُفْرَانِ ذَنْبِهِ.

خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ فجعلَه سَمِيعًا بَصِيرًا، وأَنْشَرَ زَرْعًا لَمْ يَكُنْ مَنْشُورًا، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَالْقَمَرَ نُورًا بَيْنَ شَرْقِهِ وَغَرْبِهِ.

لَيْسَ بِجِسْمٍ فَيُشْبِهُ الأَجْسَامَ، وَلا بِمُتَجَوِّفٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، وَلا تَحْدُثُ لَهُ صِفَةٌ فَيَتَطَرَّقُ عَلَيْهَا انْعِدَامٌ، نَصِفُهُ بما وصَفَ نَفسَه مِنْ غَيْرِ كَيْفَ وَالسَّلامُ،

أَحْمَدُهُ حَمْدَ عَبْدٍ مُعتَرفٍ بذَنْبِهِ، وَأُقِرُّ بِتَوْحِيدِهِ إِقْرَارَ مُخْلِصٍ مِنْ قَلْبِهِ، وَأُصَلِّي وأُسَلِم عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَءالِهِ وَصَحْبِهِ، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ضَجِيعِهِ فِي تُرْبِهِ، وَعُمَرَ الَّذِي لا يَسِيرُ الشَّيْطَانُ فِي سَرْبِهِ، وَعُثْمَانَ الشَّهِيدِ لا فِي صَفِّ حَرْبِهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ مُعِينِهِ وَمُغِيثِهِ فِي كَرْبِهِ.

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ كُلا مِنَّا بِإِصْلاحِ قَلْبِهِ، وَأَنْعِمْ عَلَيْهِ بِغُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وَانْفَعْنِي وَكُلَّ مستَمِعٍ بِجَسَدِهِ وَلُبِّهِ. ءامين، أما بعد:
الحديث

رَوَى الْبُخَارِىُّ وَالتِّرْمِذِىُّ وَالطَّبَرَانِىُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ)).
الشرح والتعليق على الحديث

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ تكلمنا في ترجمته رضي الله عنه في دروس سابقةٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَالَ قال ذلك بلسانه وهو يعتقده حقًّا، يعتقد تعظيم الله وقال بلسانه مخلصا بقلبه سُبْحَانَ اللَّهِ قال ابن حجر في شرح البخاري: التسبيح: يَعْنِي قَوْلَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمَعْنَاهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، فَيَلْزَمُ نَفْيُ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَجَمِيعِ الرَّذَائِلِ، وَيُطْلَقُ التَّسْبِيحُ وَيُرَادُ بِهِ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الذِّكْرِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ صَلَاةَ النَّافِلَةِ.

وَأَمَّا صَلَاةُ التَّسْبِيحِ فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ التَّسْبِيحِ فِيهَا.

وَسُبْحَانَ: اسْمٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ سَبَّحْتُ اللَّهَ سُبْحَانًا كَسَبَّحْتُ اللَّهَ تَسْبِيحَةً، وَلَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إِلَّا مُضَافًا،

وكنا قد تكلمنا في معنى التسبيح في عدة دروس سابقة، فَمَعْنَاهُ تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، أَيْ أَنَّنَا نُنَزِّهُ اللَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَالْجَهْلِ وَالْخَوْفِ وَالتَّغَيُّرِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ لِأَنَّ صِفَاتِ الْخَلْقِ حَادِثَةٌ كَمَا أَنَّ ذَوَاتِهِمْ حَادِثَةٌ أَيْ وُجِدَتْ بَعْدَ الْعَدَمِ السَّابِقِ وَاللَّهُ ذَاتٌ لَمْ يَسْبِقْهُ الْعَدَمُ وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ مِنْ حَيَاةٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ وَعِلْمٍ وَكَلامٍ وَبَقَاءٍ لَمْ يَسْبِقْهَا عَدَمٌ فَمَنِ اعْتَقَدَ خِلافَ هَذَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِخَالِقِهِ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا بَيَانُ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: “وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ”. وَمَعَانِي الْبَشَرِ كَثِيرَةٌ، كُلُّهَا مَنْفِيَّةٌ عَنِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]. وَقَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ يُكَفِّرُونَ الْمُجَسِّمَ أَيْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لَطِيفٌ أَوْ كَثِيفٌ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، بَلْ قَالَ أَحْمَدُ: “مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ كَافِرٌ”.

وَليعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أَىْ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلا يَحْتَاجُ إِلَى مَكَانٍ يَتَحَيَّزُ فِيهِ أَوْ شَىْءٍ يَحُلُّ بِهِ أَوْ إِلَى جِهَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ، لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا وَلا حَجْمًا لَطِيفًا وَالتَّحَيُّزُ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ فَالْجِسْمُ الْكَثِيفُ مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةٍ وَمَكَانٍ وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةٍ وَمَكَانٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الآية 33] فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلٍّ مِنَ الأَرْبَعَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمَا لَطِيفَانِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَهُمَا كَثِيفَانِ التَّحَيُّزَ فِى فَلَكِهِ وَهُوَ الْمَدَارُ الَّذِى يَجْرِى فِيهِ وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودًا قَبْلَ خَلْقِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ بِلا مَكَانٍ وَلا زَمَانٍ وَلا حَيِّزٍ وَلا جِهَةٍ وَبَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ سُبْحَانَهُ وَهُوَ غَنِىٌّ عَنْهَا وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى نَفْىِ الْحَدِّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِكَلِمَاتٍ صَرِيحَةٍ.

وَمِنْ جُمْلَةِ مَا رُوِىَ عَنِ السَّلَفِ فِى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: “مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ” اهـ

وَمَا رَوَاهُ الزَّبِيدِىُّ عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَلِىِّ بنِ الْحُسَيْنِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: “سُبْحَانَكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ لا يَحْوِيكَ مَكَانٌ لا تُحَسُّ وَلا تُمَسُّ وَلا تُجَسُّ” اﻫ

وَيَكْفِى فِى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [الآية 11] لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَكَانٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ وَأَبْعَادٌ؛ طولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا مُحْتَاجًا لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وَبِهَذَا الْعَرْضِ وَبِهَذَا الْعُمْقِ.

هَذَا الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْءَانِ أَمَّا مِنَ الْحَدِيثِ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحِهِ وَابْنُ الْجَارُودِ فِى الْمُنْتَقَى وَالْبَيْهَقِىُّ فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ)).اهـ وَالْمَكَانُ هُوَ غَيْرُ اللَّهِ قَطْعًا فَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ هُوَ أَصْلُ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ “كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَان” وَمَعْنَاهُ أَىِ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِى الأَزَلِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ لا مَاءٌ وَلا هَوَاءٌ وَلا أَرْضٌ وَلا سَمَاءٌ وَلا كُرْسِىٌّ وَلا عَرْشٌ وَلا إِنْسٌ وَلا جِنٌّ وَلا مَلائِكَةٌ وَلا زَمَانٌ وَلا مَكَانٌ وَلا جِهَاتٌ وَلا مَلاءٌ وَلا فَرَاغٌ فَهُوَ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الْمَكَانَ فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِهِ الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ: اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِى نَفْىِ الْمَكَانِ عَنْهُ تَعَالَى بِقَوْلِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَىْءٌ)) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَىْءٌ وَلا دُونَهُ أَىْ تَحْتَهُ شَىْءٌ لَمْ يَكُنْ فِى مَكَانٍ اﻫ.

وَأَمَّا مَعْنَى الظَّاهِرِ الَّذِى جَاءَ فِى الْحَدِيثِ فَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَيْثُ الدَّلائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَىْءٍ إِلَّا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَأَمَّا الْبَاطِنُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ الَّذِى يَعْلَمُ حَقَائِقَ الأُمُورِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ بَعْضٌ الْبَاطِنُ هُوَ الَّذِى لا تُدْرِكُهُ الأَوْهَامُ وَالتَّصَوُّرَاتُ وَقَدْ قَالَ سَيِدُنَا عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ: “كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَان وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَان” رَوَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ فِى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مَوْضِعُ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ.

وَلَيْسَ مِحْوَرُ الِاعْتِقَادِ عَلَى الْوَهْمِ أَىْ أَنَّ الِاعْتِقَادَ لا يُبْنَى عَلَى الْوَهْمِ وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَمْ يَرَهُ عَلَى مَا رَءَاهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَقَدْ يَكُونُ تَخَيُّلًا كَمَا قَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ بَلْ يُبْنَى الِاعْتِقَادُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الَّذِى هُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ أَىْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْدُودَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ فَلا يَكُونُ إِلَهًا فَلَزِمَ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ ذَاتٌ لَيْسَ لَهُ كَمِّيَّةٌ وَلا حَدٌّ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ اللَّائِقَةِ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْوَهْمُ يَعْجِزُ عَنْ تَصَوُّرِ ذَلِكَ فَالْعِبْرَةُ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَهُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ.

وَهَذَا أَىِ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ لا يَكُونُ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى كَمَا زَعَمَتِ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلَى التَّجْسِيمِ فِى هَذَا الْعَصْرِ وَيُقَالُ لَهُمْ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ هَلْ يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ دَاخِلَهُ أَوْ خَارِجَهُ أَوْ فِى جِهَةٍ مِنْهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقُولُوا لا فَيُقَالُ لَهُمْ كَمَا صَحَّ عَقْلًا وُجُودُهُ تَعَالَى قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلا خَارِجَهُ وَلا فِى جِهَةٍ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَهُ أَوْ خَارِجَهُ أَوْ فِى جِهَةٍ مِنْهُ وَلا يَكُونُ هَذَا نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى.

وَمَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِى كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِى جَمِيعِ الأَمَاكِنِ يكون خارجًا عن الإسلام؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِى نِسْبَةِ التَّمَكُّنِ فِى الأَمَاكِنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. هَذَا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مَعْنَى مَا يَقُولُ أَىْ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَعْنَاهَا فِى اللُّغَةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ مُنْبَثٌّ أَىْ مُنْتَشِرٌ أَوْ حَالٌّ فِى الأَمَاكِنِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لا يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِىَّ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِ بِاللُّغَةِ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ تَعَالَى مُسَيْطِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ فَلا يخرج عن الإسلام. وَهَذَا قَصْدُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَلْهَجُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ أَىْ يُكْثِرُ اسْتِعْمَالَهُمَا فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ لِجَهْلِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى فِى اللُّغَةِ فَيَقْصِدُونَهُ عِنْدَ النُّطْقِ وَيَجِبُ النَّهْىُ عَنْهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا صَادِرَتَيْنِ عَنِ السَّلَفِ فَلَيْسَ لَهُمَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِى اللُّغَةِ.

وَاعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْبَثٌّ فِى كُلِّ مَكَانٍ هُوَ عَقِيدَةُ الْجَهْمِيَّةِ فَإِنَّ جَهْمَ بنَ صَفْوَانٍ قَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَىْءٍ وَفِى كُلِّ شَىْءٍ وَلا يَخْلُو مِنْهُ شَىْءٌ اﻫ

فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الرِّدَّةِ.

وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَعْضَاء فَهُوَ عَابِدُ صَنَمٍ لِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مَخْلُوقٌ وَعِبَادَةَ الْمَخْلُوقِ كُفْرٌ وَعِبَادَةُ الصَّنَمِ إِنَّمَا كَانَتْ كُفْرًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَانَ مَخْلُوقًا لِأَنَّهُ جِسْمٌ فَمَنْ عَبَدَ جِسْمًا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الأَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَالْخَلَفِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ كَثِيفًا كَالْجِبَالِ الصُّمِّ الصِّلابِ أَمْ لَطِيفًا كَالضَّوْءِ وَالْهَوَاءِ قَالَهُ الْغَزَالِىُّ فِى إِلْجَامِ الْعَوَامِّ.

وَنَرْفَعُ الأَيْدِىَ فِى الدُّعَاءِ لِلسَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَثِيرٌ وَلَيْسَ لِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِى السَّمَاءِ.

وَمَعْنَى مَدِّ الْيَدَيْنِ فِى الدُّعَاءِ إِلَيْهَا اسْتِنْزَالُ الرَّحْمَةِ مِنْهَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يُخَيِّبُ الْقَاصِدِينَ بِحَقٍّ، فَالسَّمَاءُ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ كَمَا أَنَّنَا نَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ الشَّرِيفَةَ فِى الصَّلاةِ فَهِىَ قِبْلَةُ الصَّلاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَنَّ لَهَا مِيزَةٌ وَخُصُوصِيَّةٌ بِسُكْنَى اللَّهِ فِيهَا.

وَيُرَدُّ عَلَى الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةِ الْعُلْوِ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُشَبِّهَةِ وَمُحْدَثِيهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِذَلِكَ تُرْفَعُ الأَيْدِى عِنْدَ الدُّعَاءِ بِمَا ثَبَتَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَسْقَى أَىْ طَلَبَ الْمَطَرَ وَجَعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إِلَى الأَرْضِ وَظَاهِرَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ كَمَا فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُصَلِّىَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ فِى الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَحَيِّزًا فِى جِهَةِ الْعُلْوِ كَمَا تَظُنُّ الْمُشَبِّهَةُ مَا نَهَانَا عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِنَا فِى الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ الْمُسَبِّحَةَ عِنْدَ قَوْلِ “إِلَّا اللَّهُ” فِى التَّحِيَّاتِ وَيَحْنِيهَا قَلِيلًا فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ مَا كَانَ يَحْنِيهَا بَلْ كَانَ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَكُلُّ هَذَا ثَابِتٌ حَدِيثًا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَمَاذَا تَفْعَلُ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ.

وَنُسَمِّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتَ اللَّهِ لا لِأَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا بَلْ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ مُعَدَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ فَالإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لا إِضَافَةُ حُلُولٍ وَمُلابَسَةٍ أَىْ مُخَالَطَةٍ وَيُقَالُ فِى الْعَرْشِ إِنَّهُ جِرْمٌ أَىْ حَجْمٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لِيَطُوفَ بِهِ الْمَلائِكَةُ كَمَا يَطُوفُ الْمُؤْمِنُونَ فِى الأَرْضِ بِالْكَعْبَةِ لا لِيَتَّخِذَهُ مَكَانًا لَهُ أَوْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يخرج من الإسلام مَنْ يَقُولُ اللَّهُ يَسْكُنُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ كَمَا يَلْهَجُ بِهَذَا الْقَوْلِ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ. هَذَا إِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهُ الْحُلُولَ أَمَّا إِنْ كَانَ لا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِى أَنَّ حُبَّ اللَّهِ يَسْكُنُ قُلُوبَ الأَوْلِيَاءِ فَلا يَكْفُرُ وَلَكِنَّهُ يُنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ.

وَبِحَمْدِهِ قال ملا علي القاري: الْبَاءُ فِيهِ لِلْمُقَارَنَةِ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، أَيْ: أُسَبِّحُهُ تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِحَمْدِهِ، فِى يَوْمٍ أَيْ: فِي أَجْزَائِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فِي يَوْمٍ مُطْلَقٍ لَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ فَلَا يُقَيَّدُ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِائَةَ مَرَّةٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمِعَةً، فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ آخِرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى جَمْعُهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. اهـ

قال ابن حجر: ذَكَرَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مُتَوَالِيًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَفِي أَوَّلِ اللَّيْلِ،

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ ‌زَبَدِ ‌الْبَحْرِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ حُطَّتْ أَيْ: سَقَطَتْ وَأُزِيلَتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ قال ملا علي القاري: أَيِ الصَّغِيرَةُ، وَيُحْتَمَلُ الْكَبِيرَةُ، لعموم اللفظ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ أَيْ: كَمِّيَّةٌ أَوْ كَيْفِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ كِنَايَةٌ يُعَبِّرُ بِهَا عَنِ الْكَثْرَةِ عُرْفًا.

وفي هذا الحديث بيان عظيم رحمة الله بعباده المؤمنين وأنه سبحانه الغفور الرحيم، وأنه سبحانه يجازي بالعمل القليل الأجرَ الكثير، فلا ينبغي بعد هذا أن ييأس العبد المؤمن من رحمة ربه عز وجل، وأن يقلل من عمل الصالحات والخيرات، بل لِيُسَارعِ المؤمن إلى التوبة لله تعالى ولا يؤخرْها أبدا، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ﴾ [سورة التوبة/ الآية 112] وأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بِالتَّوْبَةِ فَقَالَ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [سورة النور/ الآية 31] وَوَعَدَ الْقَبُولَ فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [سورة الشورى/ الآية 25] وفتح باب الرجاء فقال: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [سورة الزمر/ الآية 53]،

إِخْوَانِي: الذُّنُوبُ تُغَطِّي عَلَى الْقُلُوبِ، فَإِذَا أَظْلَمَتْ مِرْآةُ الْقَلْبِ لم يبن فيها وَجْهُ الْهُدَى، وَمَنْ عَلِمَ ضَرَرَ الذَّنْبِ اسْتَشْعَرَ النَّدَمَ.

وقال بعض الصالحين: “مِنَ الاغْتِرَارِ أَنْ تُسِيءَ فَيُحْسَنَ إِلَيْكَ فَتَتْرُكَ التوبة توهما أنك تسامح في الهفوات”!.

فوا عجبا لِمَنْ يَأْمَنُ وَكَمْ قَدْ أُخِذَ آمِنٌ مِنْ مَأْمَنٍ، وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي الذُّنُوبِ عَلِمَ أَنَّ لَذَّاتِ الأَوْزَارِ زَالَتْ وَالْمَعَاصِيَ بِالْعَاصِي إِلَى النَّارِ آلَتْ، وَرُبَّ سَخَطٍ قَارَنَ ذَنْبًا فَأَوْجَبَ بُعْدًا وَأَطَالَ عُتْبًا، وَرُبَّمَا بُغِتَ الْعَاصِي بِأَجَلِهِ وَلَمْ يَبْلُغْ بَعْضَ أَمَلِهِ، وَكَمْ خَيْرٍ فَاتَهُ بِآفَاتِهِ، وَكَمْ بَلِيَّةٍ فِي طَيِّ جِنَايَاتِهِ. قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لا تُؤَخِّرِ التَّوْبَةَ فَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً. وقد قيل:

قَائِدُ الْغَفْلَةِ الأَمَلُ … وَالْهَوَى رَائِدُ الزَّلَلْ

قَتَلَ الْجَهْلُ أَهْلَهُ … وَنَجَا كُلُّ من عقل

فاغتم دَوْلَةَ الشَّبِيبَةِ وَاسْتَأْنِفِ الْعَمَلْ

أَيُّهَا الْمُبْتَنِي الْحُصُونَ وَقَدْ شَابَ وَاكْتَهَلْ

أَخْبَرَ الشَّيْبُ عَنْكَ أَنَّكَ فِي آخِرِ الأَجَلْ

فَعَلامَ الْوُقُوفُ فِي عَرْصَةِ الْعَجْزِ وَالْكَسَلْ

مَنْزِلٌ لَمْ يَزَلْ يَضِيقُ وَيَنْبُو بِمَنْ نَزَلْ

أَنْتَ فِي مَنْزِلٍ إِذَا حَلَّهُ نَازِلٌ رَحَلْ

وقال بعض الصالحين:
سَبِيلُكَ فِي الدُّنْيَا سَبِيلُ مُسَافِرٍ ولا بد من زاد لكل مسافـر

وروى ابن الجوزي عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ، قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا مَارًّا مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ فِي صَحْرَاءَ، إِذْ أَتَيْنَا عَلَى قَبْرٍ مُسَنَّمٍ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ وَبَكَى. فَقُلْتُ: قَبْرُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا قَبْرُ حُمَيْدِ بْنِ جَابِرٍ أَمِيرِ هَذِهِ الْمُدُنِ، كَانَ غَرِيقًا فِي بِحَارِ هَذِهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهَا، لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ سُرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِشَيْءٍ مِنْ مَلاهِي دُنْيَاهُ ثُمَّ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَنَامَ مَعَ مَنْ يَخُصُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، فَرَأَى رَجُلا وَاقِفًا عَلَى رَأْسِهِ بِيَدِهِ كِتَابٌ، فَنَاوَلَهُ إِيَّاهُ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: تُؤْثِرُونَ فَانِيًا عَلَى بَاقٍ، وَلا تَغْتَرَّ بِمُلْكِكَ وَسُلْطَانِكَ وَعَبِيدِكَ وولَدك، فَإِنَّ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ جَسِيمٌ لَوْلا أَنَّهُ عَدِيمٌ، وهو مُلك لولا أنّ بعده هُلك، وَهُوَ فَرح وَسُرُورٌ لَوْلا أَنَّهُ لَهْوٌ وَغُرُورٌ، وَهُوَ يومٌ لَوْ كَانَ يُوثَقُ فِيهِ بغدٍ، فَسَارِعْ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 133]، فَانْتَبَهَ فَزِعًا مَرْعُوبًا وَقَالَ: هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَوْعِظَةٌ. فَخَرَجَ مِنْ مُلْكِهِ لا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ وَقَصَدَ هَذَا الْجَبَلَ فَتَعَبَّدَ فِيهِ، فَلَمَّا بَلَغَنِي أَمْرُهُ قَصَدْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَحَدَّثَنِي بِبَدْءِ أَمْرِهِ وَحَدَّثْتُهُ بِبَدْءِ أَمْرِي فَمَا زِلْتُ أَقْصُدُهُ حَتَّى مَاتَ، وَهَذَا قَبْرُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وينبغي على المؤمن أن يبادر للتوبة ولصلاح العمل قبل الموت وقبل فوات الفوت وقبل طلوع الشمس من مغربها فإن ذلك وقت لا تقبل فيه توبة أحد، قال كثيرٌ ابن مرّة، ويزيدُ بن شريح، وغيرهما من السَّلف: إذا طلعت الشمس من مغربها طُبِع على القلوب بما فيها، وتُرفع الحفظة والعمل. فالواجبُ على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أنْ لا يقدِرَ عليها ويُحال بينه وبينها، إمَّا بمرضٍ أو موت، أو بأنْ يُدركه بعضُ هذه الآيات التي لا يُقبل معها عمل.

ومتى حِيلَ بين الإنسان والتوبة لم يبق له إلا الحسرةُ والأسفُ عليه، ويتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعُهُ الأمنية. قال تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة الزمر/ الآية 54-58] وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [سورة المؤمنون/ الآية 99-100] وقال عز وجل: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة المنافقون/ الآية 10-11] فإذا كان الأمرُ على هذا فيتعيَّنُ على المؤمن اغتنامُ ما بقي من عمره، ولهذا قيل: إنَّ بقية عمر المؤمن لا قيمة له (أي لا يُقَدَّرُ بقيمة يباع فيها فهو غالٍ).

وقال سعيدُ بن جُبير: كلّ يوم يعيشه المؤمن غنيمة،

وقال بكر المزني: ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: يا ابنَ آدم، اغتنمني لعلَّه لا يومَ لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابنَ آدم، اغتنمني لعلَّه لا ليلة لك بعدي. ولبعضهم:
اغتَنِمْ في الفراغ فَضْلَ رُكـوعٍ فعسى أنْ يكونَ موتُك بَغتة
كم صَحيحٍ رأيتَ من غيرِ سُقم ذهَبتْ نفسُهُ الصحيحة فلتَـة

وقال بعض الصالحين:
مَضَى أَمسُكَ الماضي شَهيدًامُعدّلًا وأَعْقَبَهُ يَومٌ عَليكَ جَديــدُ
فإنْ كُنتَ بالأمــسِ اقترفتَ إســاءةً فَثَنِّ بإحسَانٍ وأنتَ حَميـدُ
ولا تُرجِ فِعلَ الخيرِ يومــًا إلى غَدٍ لَعلَّ غَدًا يَأتِي وأَنْتَ فَقِيـدُ

وليتذكر العاقل أنه قد يصبح عاصيا فيموت قبل توبته أو أنه قد يمسي عاصيا فيموت قبل توبته، فكم من شخص قال سأتوب غدا فنام ولم يستيقظ، وكم من شخص قال: سأتوب عند المساء فمات من يومه، فوطِّن قلبك بما جاء عن ابنِ عَمَر حيث كان يَقولُ: إذا أَمسيتَ، فَلا تَنتَطِر الصَّباح، وإذا أَصْبَحْتَ فلا تَنتَظِرِ المساءَ.

وهذا يعلمنا أنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر: يُهَيِّئُ جهازَه للرحيل. وينبغي أن لا يؤخّر توبته، ولا ينتظر إرضاء شهوة النفس أولا. كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ‌((مَالِي ‌وَلِلدُّنْيَا وَمَا لِلدُّنْيَا وَمَالِي، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)) رواه البيهقي في شعب الإيمان، ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنَّه قال لهم: اعبُروها ولا تَعمُرُوها. ورُوي عنه أنَّه قال: من ذا الذي يبني على موجِ البحر دارًا، تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قرارًا.

ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنَّا نرى بيتَك بيتَ رجلٍ مرتحلٍ، فقال: أمرتحلٌ؟ لا، ولكن أُطْرَدُ طردًا.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: “ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ”.

وقال بعضُ الحكماء: عجبتُ ممَّنِ الدُّنيا موليةٌ عنه، والآخرة مقبلةٌ إليه يشغتلُ بالمدبرة، ويُعرِض عن المقبلة.

وقيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحتَ؟ قال: ما ظَنُّك برجل يرتَحِلُ كلَّ يومٍ مرحلةً إلى الآخرة.

وقال الحسن: إنَّما أنت أيامٌ مجموعة، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك.

وقال بعض الصالحين: إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلة زادًا لِما بَينَ يديها، فافعل، فتزوَّد لسفرك، واقض ما أنتَ قاضٍ من أمرك، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتك.

قال الحسن البصري: اجتمع ثلاثةٌ من العلماء، فقالوا لأحدهم: ما أَمَلُكَ؟ قال: ما أتى عليَّ شهرٌ إلا ظننتُ أنِّي سأموتُ فيه، قال: فقال صاحباه: إنَّ هذا لأمل طويل، فقالا لأحدهم: فما أَمَلُكَ؟ قال: ما أتت عليَّ جمعة إلا ظننتُ أنِّي سأموتُ فيها، قال: فقال صاحباه: إنَّ هذا لأمل طويل، فقالا للآخر: فما أملُك؟ قال: ما أَمَلُ من نفسُه في يد غيره.

وقال بعضُ السَّلف: ما نمتُ نومًا قط، فحدثتُ نفسي أنِّي أستيقظ منه.

وكان حبيبٌ أبو محمد يُوصي كُلَّ يومٍ بما يوصي به المحتضِرُ عند موته من تغسيله ونحوه، وكان يبكي كلَّما أصبح أو أمسى، فسُئِلَت امرأته عن بكائه، فقالت: يخاف – والله – إذا أمسى أنْ لا يُصبح، وإذا أصبح أنْ لا يُمسي.

وكان محمد بن واسع إذا أراد أنْ ينام قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلَّها أنْ تكون منيتي التي لا أقوم منها فكان هذا دأبَه إذا أراد النوم.

وقد أنشد بعضُ السَّلف:
إنَّـــا لنفــــرحُ بالأيَّــــامِ نقطعُهــــا وكُلُّ يومٍ مضى يُدني من الأجلِ
فاعمَلْ لِنَفسِكَ قبلَ المــوتِ مُجتهدًا فإنَّما الرِّبْحُ والخُسرانُ في العَمَلِ

وقال عمر رضي الله عنه: اجلسوا إلى التوّابـين فإنهم أرقّ أفئدة.

والله تعالى أعلم وأحكم

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …