المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الواحدِ العظيم الجبَّار القدير القويَّ القَهَّار، المُتَعالِي عن أنْ تُدركهُ الخواطر والأبْصار، يسمعُ أنين المريض يَشْكو ما بِه مِنَ الأضْرار، ويُبْصِر دبيبَ النملةِ السوداءِ في الليلةِ الظَّلماءِ على الغَار، ويعلم خَفِيَّ الضَّمائرِ ومكنونَ الأسْرار، صفاتُه كذاته والمُشبِّهةُ كفَّار، نُقرُّ بما وصف به نفسه على ما جاء في القرآنِ والأخبار،
أحْمدُه سبحانَه على المَسَارِّ والمَضَارِّ، وأشهد أنْ لا إِله إِلّا الله وحدَه لا شريكَ لَهُ المتفردُ بالْخلقِ والتدبير ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [سورة القصص/ الآية 68]، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسولهُ أفضلُ الأنبياءِ الأطهارِ، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكر رفيقِه في الْغَار، وعلى عُمرَ قامِع الكُفَّار، وعلى عثمانَ شهيدِ الدَّار، وعلى عليٍّ القائمِ بالأسْحار، وعلى آلِهِ وأصْحابهِ خصوصًا المهاجرينَ والأنْصار، اللَّهُمَّ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أما بعد:
الحديث
رَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِىُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمٰنِ عَزَّ وَجَلَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ)).
الشرح
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَلِمَتَانِ العرب يطلقون لفظ كلمة وكلام على كل ما أعطى معنًى مفيدا ويحسن السكوت عليه عند السامع والمتكلم.
العرب عندهُم شيء بِعُرفِهِم يُسمونهُ “كلمة” بل أحيانًا إذا واحد خطب خُطبة يقولون ألقى “كلمة”،
الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في البخاري: ((أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ)) ماذا قال عنهُ الرسول ((أصدقُ كلمةٍ)) معناهُ ليست كلمةً مُفردة ومع ذلك الرسول قال عنها أصدقُ كلمة.
الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول شعرًا لكن قد يذكُرُ شعرًا ألّفه شخص هذا مدحٌ من الرّسول لبيتٍ من الشعر. الشّاعر لا يُذَّم لمجرّد الشّعر إنّما هناك شعر ممدوح وهناك شعر مذموم، النّبي ليس شاعرًا ولا يؤلّف شعرًا ولكن قد ينقُلُ شعرًا عن شخص ألّف شعرًا يمدحُهُ أو يذُمُهُ، قال القُرطبيُّ وابنُ المُلقِّن وغيرُهما: “فأَمَّا أنْ يَحفَظ ما قال النّاسُ فلَيسَ بمُمْتَنِعٍ علَيه”،
وَقد حَرَّم الله تعالى على نبيِّه ﷺ خاصّةً إنشاؤُه الشِّعْرَ وصُنعُه إيّاهُ، أمّا أن يَنقُل ما قاله الشّاعِرُ فإنّه جائِزٌ مِن غيرِ إيهامِ أنّه مِن إنشائِه، والأصلُ في ذلك قولُه: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ [سورة يس/ الآية 69]، وفيه دليلٌ على أنّه ﷺ لم يَكُن شاعِرًا، لكنّه لا شَكَّ كان يُميِّزُ فصِيحَ الكلامِ مِن ركِيكِه، بل هو ﷺ أفصحُ النّاسِ كلامًا.
أمّا ما جاء في رواية البخاري في قولِه ﷺ: ((اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ)) وأشباهُ هذا الحديثِ وإنْ كان قريبًا مِن الكَلامِ المَوزونِ إلّا أنّه ليسَ شِعرًا أنشأَه ﷺ.
وكذلك قوله ﷺ في غزوة حُنَينٍ: ((أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ)) ليسَ شِعرًا وإنْ خرَج موزونًا في الكلامِ.
قالَ الحافظُ النّوويُّ: “الشّاعِر إنّما سُمِّيَ شاعِرًا لوُجوهٍ: مِنها أنّه شَعَرَ القَولَ وقصَدَه وأرادَه واهتَدَى إليه وأتَى بِه كَلامًا مَوزُونًا علَى طَرِيقةِ العرَبِ مُقَفًّى، فإِنْ خَلَا مِن هذه الأَوصافِ أو بَعضِها لَم يَكُن شِعرًا ولا يَكونُ قائِلُه شاعِرًا”.
خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ أَيْ تَجْرِيَانِ عَلَيْهِ بِالسُّهُولَةِ. وهذا اللسان نعمة إذا استخدمته في طاعة الله وذكر الله وتجنبت به معصية الله وإلا سيكون وبالا عظيما، وأشد ما يصدر منه هو الكفر بالله، فالكفر منه ما يكون باللسان ومنه ما يكون بالجوارح ومنه ما يكون بالقلب، فإنَّ هُنَاكَ اعْتِقَادَاتٍ وَأَفْعَالًا وَأَقْوالًا تَنْقُضُ الشَّهَادَتَيْنِ وَتُخْرِجُ مِنَ الإِسْلامِ وَتُوقِعُ فِى الْكُفْرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ كُفْرٌ اعْتِقَادِىٌّ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ [الآية 15] أَىْ لَمْ يَشُكُّوا وَالشَّكُّ يَكُونُ بِالْقَلْبِ.
وَكُفْرٌ فِعْلِىٌّ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ فُصِّلَتْ ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ﴾ [الآية 37].
وَكُفْرٌ لَفْظِىٌّ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّوْبَةِ: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾ [الآية 74].
وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الأَنْوَاعِ الثَّلاثَةِ يُوقِعُ فِى الرِّدَّةِ أَىِ الْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ بِمُفْرَدِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ نَوْعٌ ءَاخَرُ وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا.
فالكُفْرُ الاعْتِقَاديٌّ: كَنَفْيِ وجودِ اللهِ تَعَالَى، أو اعْتِقَادِ أن الله عَاجِزٌ أو جَاهِلٌ أو اعتِقَادِ أنَّ اللهَ جِسْمٌ أوْ ضَوْءٌ أو رُوحٌ أو أنّه يَتَّصفُ بصفةٍ من صِفاتِ الخَلْقِ والعِيَاذُ بِاللهِ تَعالى، أو اعتِقَادِ أنّ شُرْبَ الخَمْرِ حَلالٌ أو أنّ السَّرِقَةَ حَلالٌ، أو اعْتقَادِ أنَّ اللهَ لَمْ يَفْرِض الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ أو صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، أو الزَّكَاةَ أو الحَجَّ.
الكُفْرُ الفِعْلِيُّ: كإلْقَاءِ المصْحَفِ أوْ أوْرَاقِ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ عَمْدًا فِي القَاذُورَاتِ، أو السُّجُودِ لِصَنَمٍ أوْ لِشَمْسٍ أوْ مَخْلُوقٍ آخَرَ على وَجْهِ العِبَادَةِ لَهُ، وَكَكِتَابَةِ الآيَاتِ القُرآنِيَّةِ بِالبَوْلِ.
الكُفْرُ القَوْليٌّ: كَسَبّ اللهِ تَعَالى أوْ سَبّ نَبِيّ مِنَ الأنْبِيَاءِ أو مَلَكٍ مِنَ الملائِكَةِ أوْ سَبّ الإسْلامِ أو القُرْآنِ أو الاسْتِهْزاء بالصَّلاةِ أو الصّيَامِ، أو الاعتراض على اللهِ.
قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ)) رواهُ الترمذيُّ.
أيْ مَسَافَةَ سَبْعِينَ عَامًا في النُّزُولِ وَذَلِكَ مُنْتَهَى قَعْرِ جَهَنَّمَ وَهُوَ خَاصٌّ بالكُفَّارِ، وَهَذَا الحَدِيثُ دَلِيلٌ على أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ في الوُقُوعِ في الكُفْرِ مَعْرِفَةُ الحُكْمِ ولا انْشِرَاحُ الصَّدْرِ ولا اعْتِقَادُ مَعْنَى اللَّفْظِ ولا نيّة الكفر.
وَقَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أكثرُ خطايا ابنِ ءادَمَ مِنْ لِسَانِهِ)) رواهُ الطبراني في المعجم الكبير.
وَالقَاعِدَةُ: أنَّ كُلَّ اعتقادٍ أوْ فِعْلٍ أوْ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ بِاللهِ أوْ كُتُبِهِ أوْ رُسُلِهِ أوْ مَلائِكَتِهِ أوْ شَعَائِرِهِ أوْ مَعَالِمِ دِينِهِ أوْ أحْكَامِهِ أوْ وَعْدِهِ أوْ وَعِيدِهِ كُفْرٌ فَلْيَحْذَرِ الإنْسانُ من ذلكَ جَهْدَهُ.
وليُعلَم أنَّ مَنْ كَفَرَ لا يَرجِعُ إلى الإسلامِ إلا بالنُّطقِ بالشهادتين بعد رجوعه عن الكفر، فلا يرجع الكافر إلى الإسلام بقول “أستغفِرُ اللهَ” بل يَزيده ذلك كفرًا، ولا تنفعه الشَّهادتان ما دام على كفرِه لم يرجِع عنه.
شهوةُ الكلام من أقوى الشهوات التي هي عند الإنسان لذلك ينبغي على المسلم أن يدرب نفسه أن يكثر الصمت إلا من خير،
روى أبو نعيم في الحِلية عن الفضيل بن عياض رضي الله عنه أنه قال: “لا حجَّ ولا رباطَ ولا جهادَ أشدُ من حبس اللسان على العباد”.
يعني عند أغلب الناس هذا شاقٌّ عليهم أشقُّ عليهم من المشقّة التي يجدونها في الحجّ ومن المشقّة التي يجدونها في الرّباط ومن المشقّة التي يجدونها في الجهاد.
ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ أَيْ: بِالْمَثُوبَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلسُّهُولَةِ، شَبَّهَ سُهُولَةَ جَرَيَانِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا يَخِفُّ عَلَى الْحَامِلِ مِنْ بَعْضِ الْحُمُولَاتِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ وَأَرَادَ الْمُشَبَّهَ بِهِ، وَأَمَّا الثِّقَلُ فَعَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَجَسَّمُ عِنْدَ الْمِيزَانِ. اهـ
وهذا الحديث فيه إثبات الميزان، وقال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 47] وَالْمِيزَانُ أَىْ مِيزَانُ الآخِرَةِ حَقٌّ وَهُوَ جِسْمٌ مَحْسُوسٌ كَمِيزَانِ الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ تَرْكِيبُهُ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ حَيْثُ حَجْمُهُ لَهُ قَصَبَةٌ وَعَمُودٌ وَكَفَّتَانِ كَفَّةٌ لِلْحَسَنَاتِ وَكَفَّةٌ لِلسَّيِّئَاتِ تُوزَنُ بِهِ الأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَظْهَرَ مَنْ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ عَذَابَ النَّارِ وَالَّذِى يَتَوَلَّى وَزْنَهَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلامُ.
وَمَا الَّذِى يُوزَنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ بَعْضُ العلماء: الأَعْمَالُ نَفْسُهَا يُحَوِّلُهَا اللَّهُ أَجْسَامًا فَتُوزَنُ، وَقَالَ ءَاخَرُونَ إِنَّمَا هُوَ الصَّحَائِفُ الَّتِى كُتِبَ عَلَيْهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَتُوضَعُ صَحَائِفُ الْحَسَنَاتِ فِى كَفَّةٍ وَصَحَائِفُ السَّيِّئَاتِ فِى كَفَّةٍ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ مِنَ أَهْلِ النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ،
وَمَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنَ الطَّبَقَةِ الأُولَى وَأَرْفَعُ مِنَ الثَّالِثَةِ وَهَؤُلاءِ هُمْ أَهْلُ الأَعْرَافِ وَهُوَ سُورُ الْجَنَّةِ يَمْكُثُونَ مُدَّةً عَلَيْهِ ثُمَّ يَدْخُلُونَهَا،
وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ وَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ مُدَّةً فِى النَّارِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَرْجَحُ كَفَّةُ سَيِّئَاتِهِ لا غَيْرُ لِأَنَّهُ لا حَسَنَاتِ لَهُ فِى الآخِرَةِ لِأَنَّهُ أُطْعِمَ بِحَسَنَاتِهِ فِى الدُّنْيَا كَمَا صَحَّ مَرْفُوعًا فِى حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَابْنِ حِبَّانَ وَاللَّفْظُ لَهُ: ((فأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِى الدُّنْيَا فإِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا)).
حَبِيبَتَانِ تَثْنِيَةُ حَبِيبَةٍ وَهِيَ الْمَحْبُوبَةُ، لِأَنَّ فِيهِمَا الْمَدْحَ والتعظيم لربّ العزّة سبحانه وتعالى.
إِلَى الرَّحْمٰنِ وهوَ مِنَ الأسماءِ الخاصةِ باللهِ، ومعناهُ أنَّ اللهَ شمِلَتْ رحمتُه المؤمنَ والكافرَ في الدنيا، وهوَ الذي يَرْحَمُ المؤمنينَ فقط في الآخِرَةِ، فاللهُ تعالى أخبرَنا أنَّ رحمتَه في الآخرَةِ خاصةٌ بالمؤمنينَ، قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة الأعراف/ الآية 156]، وهذهِ الآيةُ دليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى يَرْحَمُ المؤمنينَ والكافرينَ في الدنيا، ومعنى رحمَتُهُ للكافرينَ: أنْ يُعطيَهم الصحةَ والرزقَ والهواءَ العليلَ والماءَ الباردَ وما أشبَهَ ذلك. أمَّا في الآخرَةِ فهيَ خاصةٌ بالمؤمنينَ، ومعنى قولِه تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي في الدنيا ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أي في الآخرة ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ يجتنبونَ الشِّرْكَ وجميعَ أنواعِ الكفرِ، فرحمةُ اللهِ وسِعَتْ في الدنيا المؤمنَ والكافرَ لكنَّها في الآخرةِ خاصةٌ لمنِ اتَّقى الشركَ وسائرَ أنواعِ الكفرِ.
فمِنْ هنا علمنا أنَّ اللهَ تعالى لا يرحمُ الكافرَ يومَ القيامَةِ إنّما يَرحَمُه في هذه الدنيا، فلا يَجوزُ أنْ يُتمسَّكَ بالجزءِ الأوَّلِ مِن هذه الآيةِ وهوَ قولُه تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، ويُظَنَّ أنَّ ذلكَ شاملٌ للدنيا والآخرةِ، إنَّما رحمةُ الله تعُمُّ وتشملُ المؤمنَ والكافرَ في هذه الدنيا فقط أما في الآخرةِ فلا يَرحَمُ الكافرَ، وهذا التفسيرُ هوَ الموافقُ للحديثِ الذي رواه الطبراني في المعجم الكبير عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ عنْ رسولِ اللهِ ﷺ قالَ: ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الْإِيمَانَ))،
فاللهُ تباركَ وتعالى فضلًا منهُ وكرمًا جعلَ رحمتَه في الدنيا عامَّةً شاملةً للمؤمنينَ والكافرينَ، وجَعَلَهَا خاصةً في الآخرةِ بالمؤمنينَ دونَ الكافرينَ عدلًا منهُ لأنَّه تباركَ وتعالى ليسَ مُلْزَمًا بشىءٍ،
واسمُ اللهِ الرحمنُ مِن الأسماءِ الخاصةِ باللهِ تعالى التي لا يُسمَّى بها غيرُ اللهِ تعالى، فلا يجوزُ أن يُسمِّيَ شخصٌ نفسَه أو ابنَه رحمانًا أمَّا عبدُ الرحمن فلا يَخفى أنَّه جائزٌ. ومِنْ خواصِّ اسمِ اللهِ “الرحمنِ”: صرفُ المكروهِ عن ذاكرِهِ وحاملِه، ويُذكرُ مائةَ مرةٍ بعدَ كلِّ صلاةٍ في جماعةٍ وخَلوةٍ فَيُخْرِجُ الغَفْلَةَ والنسيانَ.
عَزَّ أَيْ: غَلَبَ كَلِمُهُ وَأَمْرُهُ وَجَلَّ أَيْ: مِنْ أَنْ يُشْرِكَهُ أَحَدٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ التسبيح معناه التنزيه لله، والتنزيه لله أي عن النقائص وصفات المخلوقات وعن الشبيه والمثيل والجسم والمكان وكلِّ ما هو من صفات المخلوقات، فَمَعْنَاهُ تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، أَيْ أَنَّنَا نُنَزِّهُ اللَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَالْجَهْلِ وَالْخَوْفِ وَالتَّغَيُّرِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ لِأَنَّ صِفَاتِ الْخَلْقِ حَادِثَةٌ، فالله تعالى إذًا لا يحتاج إلى شيء من خلقه ولا يشبههم فهو موجود أزلًا وأبدًا بلا جهة ولا مكان.
وَأَمَّا مَا فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: ((ائْتِنِى بِهَا)) فَأَتَاهُ بِهَا. فَقَالَ لَهَا: ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) قَالَتْ: فِى السَّمَاءِ، قَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: ((أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) اﻫ
فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فِى الْعَقِيدَةِ؛ لِأَنَّهُ لا بُدَّ لِلِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ فِى أُمُورِ الِاعْتِقَادِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الْمَشْهُورِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْعَقَائِدَ تُبْنَى عَلَى الْقَطْعِيَّاتِ لا عَلَى الظَّنِّيَّاتِ اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الْمَشْهُورِ وَعِنْدَ الْبَقِيَّةِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ثَابِتًا بِلا خِلافٍ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: الأَوَّلُ لِلِاضْطِرَابِ عَلَى فَرْضِ تَسَاوِى رِوَايَاتِهِ فِى الْقُوَّةِ لِأَنَّهُ رُوِىَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَبِلَفْظِ في صحيح ابن حبان: ((مَنْ رَبُّكِ؟)) فَقَالَتِ: اللَّهُ. وَبِلَفْظِ عند أحمد: ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ. وَبِلَفْظِ في موطأ مالك: ((أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟)) قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: ((أَتَشْهَدِينَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ؟)) قَالَتْ: نَعَمْ.
هَذَا إِذَا حُمِلَتْ رِوَايَةُ ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَمَّا إِذَا حُمِلَتْ عَلَى أَنَّهَا سُؤَالٌ عَنِ الْمَكَانَةِ لا عَنِ الْمَكَانِ وَأَنَّ قَوْلَهَا فِى السَّمَاءِ مَعْنَاهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا فَيَنْتَفِى التَّعَارُضُ عِنْدَئِذٍ وَتَصِيرُ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْوِيَّةً بِالْمَعْنَى مُفَسِّرَةً بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَلَيْسَ فِيهَا أَدْنَى مُتَمَسَّكٍ لِلْمُشَبِّهَةِ.
وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ فِى الْقُوَّةِ وَهُوَ الْوَاقِعُ فَرِوَايَةُ ((أَتَشْهَدِينَ)) إِلَى ءَاخِرِهِ أَقْوَى مِنْ رِوَايَةِ ((أَيْنَ اللَّهُ)) فَتَكُونُ هِىَ الرَّاجِحَةَ وَرِوَايَةُ ((أَيْنَ اللَّهُ)) مَرْجُوحَةً لا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا.
وَالأَمْرُ الثَّانِى أَنَّ رِوَايَةَ ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) مُخَالِفَةٌ لِلأُصُولِ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الشَّخْصَ لا يُحْكَمُ لَهُ بِقَوْلِ “اللَّهُ فِى السَّمَاءِ” بِالإِسْلامِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا الأَصْلُ الْمَعْرُوفُ فِى شَرِيعَةِ اللَّهِ مَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِى نَصَّ عَلَى تَوَاتُرِهِ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَغَيْرُهُ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ)) رواه البخاري ومسلم أحمد وابن ماجه وغيرهم، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَدِيثَ الآحَادِ إِذَا خَالَفَ الأُصُولَ الْقَطْعِيَّةَ يُرَدُّ وَلا يُقْبَلُ فَهُنَا كَذَلِكَ فَتَكُونُ رِوَايَةُ ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) شَاذَّةً مُخَالِفَةً لِلأُصُولِ فَلا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا لَفْظُ رِوَايَةِ مَالِكٍ الأُخْرَى: ((أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) إِلَى ءَاخِرِهِ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلأُصُولِ فَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَكُونُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) فَقَالَتْ: فِى السَّمَاءِ إِلَى ءَاخِرِهِ مَرْدُودَةً مَعَ إِخْرَاجِ مُسْلِمٍ لَهَا فِى كِتَابِهِ وَكُلُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَوْسُومٌ بِالصِّحَّةِ؟!!
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنَ الأَحَادِيثِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ صَحِيحٌ لَكِنَّ عَدَدًا مِنْ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ رَدَّهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَذَكَرَهَا الْمُحَدِّثُونَ فِى كُتُبِهِمْ كَحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: ((إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِى النَّارِ)) مَعَ مَا تَقَرَّرَ فِى الأُصُولِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ لَيْسُوا مُعَذَّبِينَ فِى الآخِرَةِ.
وَحَدِيثِ إِنَّهُ يُعْطَى كُلُّ مُسْلِمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدَاءً لَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعَ مَا تَقَرَّرَ فِى الأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يُعَذَّبُونَ فِى نَارِ الآخِرَةِ
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ ((صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا لا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)) مَعَ نَصِّ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِى الصَّلاةِ وَنَصَّ قِسْمٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهَا ءَايَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ يُجْهَرُ بِهَا فِى مَوْضِعِ الْجَهْرِ وَيُسَرُّ بِهَا فِى مَوْضِعِ الإِسْرَارِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ وَلا الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ فَأَمَّا الأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ فَضَعَّفَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ فِى أَكْثَرِ مِنْ تَصْنِيفٍ لَهُ وَالثَّانِى رَدَّهُ الْبُخَارِىُّ وَنَاهِيكَ بِهِ عِلْمًا وَتُقًى وَاتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ وَالثَّالِثُ ضَعَّفَهُ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَدَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ غَيْرُهُ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ إِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَاطِلٌ لِمُعَارَضَتِهِ الْحَدِيثَ الْمُتَوَاتِرَ الْمَذْكُورَ وَالْحَدِيثُ الْمُتَوَاتِرُ قَطْعِىُّ الثُّبُوتِ لِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ فَهُوَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ وَالأُصُولِيُّونَ فَحَدِيثُ الْجَارِيَةِ مَهْمَا قِيلَ فِى تَصْحِيحِهِ أَوْ تَضْعِيفِهِ هُوَ حَدِيثُ ءَاحَادٍ أَىْ هُوَ ظَنِىُّ الثُّبُوتِ لا قَطْعِيُّهُ وَمَا كَانَ ظَنِّىَّ الثُّبُوتِ لا يُؤْخَذُ بِهِ وَلا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ إِذَا عَارَضَ الثَّابِتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ بِحَيْثُ لا يَكُونُ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْخَطِيبُ فِى الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَّقِهِ وَالنَّوَوِىُّ فِى التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِى الْوَرَقَاتِ وَغَيْرُهُمْ.
لَكِنْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوَّلُوهُ أَىْ أَوَّلُوا حَدِيثَ الْجَارِيَةِ وَحَمَلُوهُ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ بِحَيْثُ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ تَعَارُضٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ.
وَأَخْذًا بِالِاعْتِبَارِ لِتَأْوِيلِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّحَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، قَالُوا: مَعْنَى ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) سُؤَالٌ عَنْ تَعْظِيمِهَا لِلَّهِ؛ أَي أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهَا مَاذَا تَعْتَقِدِينَ فِى اللَّهِ مِنَ الْمَكَانَةِ فَإِنَّ لَفْظَةَ “أَيْنَ” يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنِ الْمَكَانَةِ كَمَا يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنِ الْمَكَانِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَيْنَ الثُرَيَّا وَأَيْنَ الثَّرَى وَأَيْنَ مُعَاوِى وَأَيْنَ عَلِي.
أَمَّا أَخْذُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سَاكِنٌ السَّمَاءَ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ الْمُوهِمَ لِلتَّحَيُّزِ وَالتَّجْسِيمِ ظَاهِرُ الْفَسَادِ فَإِنَّ مَنْ تَبِعَ ظَاهِرَهُ الْمَذْكُورَ وَاعْتَقَدَهُ لَزِمَهُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ: “اللَّهُ فِى السَّمَاءِ” يُحْكَمُ لَهُ بِالإِيمَانِ وَهَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَقُولُهَا النَّصْرَانِىُّ وَيَقُولُهَا الْيَهُودِىُّ بَلْ قَالَ مِثْلَهَا فِرْعَوْنُ وَلَمْ يُحْكَمْ لِأَىٍّ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ الِاعْتِقَادِ فِى اللَّهِ بِذَلِكَ.
وَحَمَلَ الْمُشَبِّهَةُ فِى عَصْرِنَا رِوَايَةَ مُسْلِمٍ عَلَى ظَاهِرِهَا كَأَسْلافِهِمْ مِنْ مُجَسِّمَةِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فَضَلُّوا وَوَقَعُوا فِى التَّنَاقُضِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ لا نُأَوِّلُ بَلْ نَحْمِلُ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِى الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَحَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا!!!
ثُمَّ تَنَبَّهُوا أَنَّهُمْ إِذَا حَمَلُوا حَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ ذَلِكَ إِقْرَارًا مِنْهُمْ بِأَنَّ السَّمَاءَ ظَرْفٌ لِلَّهِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِيهَا فَيَتَنَاقَضُ ذَلِكَ مَعَ مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ فَقَالُوا نَحْمِلُ عِبَارَةَ فِى السَّمَاءِ عَلَى مَعْنَى عَلَى السَّمَاءِ أَىْ فَوْقَهَا فَأَوَّلُوا الْكَلامَ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ ظَاهِرِهِ وَأَنْكَرُوا عَلَيْنَا ذَلِكَ فَتَنَاقَضُوا وَظَهَرَ تَحَكُّمُهُمْ وَكَانَ تَأْوِيلُهُمْ مُخَالِفًا لِمُحْكَمِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ فَبَطَلَ وَكَانَ تَأْوِيلُ مَنْ أَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُوَافِقًا لِمُحْكَمِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ وَلا حَرَجٌ.
سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ العظيم من أسماء الله معناه عَظِيمُ الشَّأْنِ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ، فَالله أُعْظِمُ قَدْرًا مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ، قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ﴾ [سورة البقرة/ الآية 255]، وقال بعض الصالحين: أَجْمَعَ المسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَظِيمٌ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ، وَمَعْنى العَظَمَةِ وَالعُلُوِّ وَالعِزَّةِ وَالرِّفْعَةِ وَالفَوْقِيَّةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ اِسْتِحْقَاقُ نُعُوتِ الجَلَالِ وَذَلِكَ تَقَدُّسُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ المَخْلُوقيْنَ وَتَنَزُّهُهُ عَنْ سِمَاتِ المحَدَثِينَ وَعَنِ الحَاجَةِ وَالنَّقْصِ وَاِتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الإلٰهية كَالقُدْرَةِ الشَّامِلَةِ للمقدوراتِ وَالإِرَادَةِ النَّافِذَةِ فِي المراداتِ وَالعِلْمِ المحِيطِ بِجَمِيعِ المعْلُومَاتِ وَالرَّحْمَةِ الوَاسِعَةِ وَالنِّعْمَةِ السَّابِغَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالقَوْلِ القَدِيمِ.اهـ
فَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ قَدْرًا وَعَظَمَةً وَرُتْبَةً وَشَأنًا وَمَنْزِلَةً وَلَيْسَ حَجْمًا وَلَا جُثَّةً وَلَا كَمِّيَّةً إِذْ أَنّ مَنْ وَصَفَ اللهَ بالحجميةِ وَالجِسْمِيَّةِ أَوْ عُلُوِّ المكَانِ وَالمسَافَةِ أَوْ الجِهَةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاللّهِ العَظِيمِ جَاهِلٌ بِهِ،
وَمَعْنى سُبْحانَ رَبِّيَ الأَعْلى وَسَبحَانَ رَبَّيَ العَظِيمِ تَقْدِيسٌ وَتَمْجِيدٌ وَتَعْظِيمٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ الكُفَّارُ مِنْ نِسْبَةِ المكَانِ أَوِ الحَجْمِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَلَيْسَ عِظَمُ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الجِسْمِيَّةُ وَالتَّرْكِيبُ مِنْ أَجْزَاءَ، فَالْمُرَكَّبُ مُحْتَاجٌ لِمَنْ رَكَّبَهُ وَمُحْتَاجٌ لِمَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الحَدِّ وَمُحْتَاجٌ لِمَنْ قَدَّرَهُ بِمِقْدَارِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلًا وَكُلُّ مَخْلُوقَاتِ اللهِ تَعَالَى مَحْدُودَةٌ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَدَّهَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سورة الرعد/ الآية 8]، وقال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11]، فَمَنْ نَظَرَ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ عَلِمَ أَنَّ العَالَمَ وَمَا فِيهِ لَهُ حَدٌّ وَمِقْدَارٌ مِنْهُ العَظِيمُ المِقْدَارِ وَمِنْهُ القَلِيلُ المِقْدَارِ وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ لَا كَبِيرٌ وَلَا قَلِيلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَان لَهُ مِقْدَارٌ لِكَانَ شَبَهًا لِأَجْزَاءِ العَالَمِ المقَدَّرَةِ المحْدُودَةِ.
وفي مسند أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلا اللهُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، لَا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) ثُمَّ يَدْعُو، وَمَعْنَى حَزَبَهُ أَصَابَهُ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ.
وقد ورد دُعَاءٌ نَافِعٌ لِلحِفْظِ مِنَ السِّحْرِ بِإِذْنِ اللهِ رواه مالك في الموطأ: ((أَعُوذُ بِوَجْهِ اللهِ العَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَىءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ وَبِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَبِأَسْمَاءِ اللهِ الْحسْنى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ)).
مِنْ خَوَاصِّ اِسْمِ اللهِ “العَظِيمِ“: وَجُودُ العَافِيَةِ وَالبُرْءِ مِنَ المَرَضِ لِمَنْ يُكْثِرُ مِنْ ذِكْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ حَضَرَ أَجَلُهُ.
والله تعالى أعلم وأحكم