المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لا يَتَأَثَّرُ بِالْمَدَى، وَلا يَتَغَيَّرُ أَبَدًا، لَمْ يَزَلْ وَاحِدًا أَحَدًا، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا، اخْتَارَ مَنْ شَاءَ فَنَجَّاهُ مِنَ الرَّدَى، أَنْقَذَ أَهْلَ الْكَهْفِ وَأَرْشَدَ وَهَدَى، وَأَخْرَجَهُمْ بِقَلَقٍ رَاحَ بِهِمْ وَغَدَا، فَاجْتَمَعُوا فِي الْكَهْفِ يَقُولُونَ كَيْفَ حَالُنَا غَدَا، فَأَرَاحَهُمْ بِالنَّوْمِ مِنْ تَعَبِ التعبد مددًا، أَحْمَدُهُ مَا ارْتَجَزَ حَادٍ وَحَدَا،
وَأُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ مَتْبُوعٍ وَأَفْضَلِ مُقْتَدَى، وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الْمُتَخِّذِ بِإِنْفَاقِهِ عِنْدَ الإِسْلامِ يَدًا، وَعَلَى عُمَرَ الْعَادِلِ الَّذِي مَا جَارَ فِي وِلايَتِهِ وَلا اعْتَدَى، وَعَلَى عُثْمَانَ الصَّابِرِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى وَقْعِ المـدَى، وَعَلَى عَلِيٍّ مَحْبُوبِ الأَوْلِيَاءِ وَقَاهِرِ الْعِدَى. أمّا بعد:
الحديث
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِىُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ فِى الْيَوْمِ أَلْفَ حَسَنَةٍ)) قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ وَيُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ سَيِّئَةٍ)).
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِىُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هو سَعْدُ بنُ أَبِي وقاص، واسم أبي وقاص مَالِكِ بْنِ وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كلاب بْن مُرَّة ويكنّى أَبَا إِسْحَاق. وأمّه حَمنة بِنْت سُفْيَان بْن أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بن قصي.
وروي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقْبَلَ سَعْدٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَقَالَ: ((هَذَا خَالِي، فَلْيُرني امْرؤٌ خَالَهُ)) رواه الحاكم في المستدرك.
وروي عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلامِ. وَقَالَ: لَقَدْ أَسْلَمْتُ يَوْمَ أَسْلَمْتُ وَمَا فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَوَاتَ، وَأَسْلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وفي صحيح البخاري قَالَ سَعْدٌ: “إِنِّى لأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ، مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِى عَلَى الإِسْلاَمِ، خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِى”.اهـ
وروى أحمد في مسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْدِي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ إِلا سَعْدًا فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: ((ارْمِ سَعْدٌ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي)).
وروي عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ:
أَلا هَلْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ أَنِّــي حَمَيْتُ صِحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي
أَذُودُ بِهَــا عَدُوَّهُــــمُ ذِيَـــادًا بِكُــلِّ حُزُونَــةٍ وَبِكُـــلِّ سَهْـــلِ
فَمَــــا يُعْتَـدُّ رَامٍ مِـــنْ مَعَــدٍّ بِسَهْمٍ مَــعْ رَسُـــولِ اللَّــهِ قَبْلِي
وثبت أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ: ((اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لَهُ إِذَا دَعَاكَ)).
وَشَهِدَ سَعْدُ بَدْرًا وأحدًا وثبت يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ولى الناس.
وَشَهِدَ الْخَنْدَقَ وَالْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ وَفَتِحَ مَكَّةَ. وَكَانَتْ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِحْدَى رَايَاتِ الْمُهَاجِرِينَ الثَّلاثُ. وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِنَ الرُّمَاةِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى ابن سعد في الطبقات أَنَّ سَعْدًا كَانَ يُسَبِّحُ بِالْحَصَى.
وجاء عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ رَأْسُ أَبِي فِي حِجْرِي وَهُوَ يَقْضِي. قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَايَ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ أَيْ بُنَيَّ؟ فَقُلْتُ: لِمَكَانِكَ وَمَا أَرَى بِكَ. قَالَ: فَلا تَبْكِ عَلَيَّ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُنِي أَبَدًا وَإِنِّي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ – لبشارة النبي له بالجنة -.
ثم إِنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ مَاتَ بِالْعَقِيقِ فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِهَا. وروي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ.
فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ فَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ وَخُرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ. فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: مَا كَانَتِ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ. عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ.
مات فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. وَكَانَ يَوْمَ مَاتَ ابْنَ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وأخباره في الشجاعة والشدة في دين الله واتباع السنة والزهد والورع وإجابة الدعوة والصدق والتواضع شهيرة.
روي له عن النبي مائتان وسبعون حديثًا.
اتفق الشيخان له على خمسة عشر حديثًا، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بثمانية عشر. وكان آخر المهاجرين موتًا بالمدينة ولما حضرته الوفاة دعا بجبة خلقة له فقال: كفنوني فيها، فإني كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر وكنت أخبؤها لهذا اليوم.
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيَعْجِزُ بكسر الجيم أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ أي أن يحصل فِى الْيَوْمِ أَلْفَ حَسَنَةٍ مثل هذا الحديث الشريف يؤكّد لنا عظيم كرم الله عزّ وجلّ وأنّه يثيب على العمل القليل الكثيرَ من الأجر والثواب والحسنات، ألف حسنة تكتب لمن يقول هذا الذكر الذي يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من عظيم فضل الله وكرمه فهو أكرم الأكرمين سبحانه.
ويشير لنا هذا الحديث إلى أمر مؤكّد وهو أهمية أن يغتنم الواحد منّا كلّ نفس من أنفاسه ولا يضيع أنفاسه في هذه الدنيا سدًى بل يستغلّ أنفاسه في ذكر الله عزّ وجلّ والإكثار من الذكر،
وقد قال ابن الجوزي رحمه الله ناصحًا ولده وقال له في هذا المعنى: إنَّ الملَكينِ يُحصيانِ ألفاظَكَ ونظراتِكَ وإنَّ أنفاسَ الحيِّ خُطاهُ إلى أجلِهِ ومقدارَ اللَّبْثِ في الدنيا قليلٌ والحبسَ في القبورِ طويلٌ.اهـ
معناه: كلُّه مقدَّرٌ بِقَدَرٍ معلومٍ، فقد شَبَّهَ الأنفاسَ التي تخرجُ منَّا كالخَطواتِ التي نَجري بها إلى الأجلِ المحتومِ الذي لا بدَّ منه، ولا يخفَى ما في هذا التشبيهِ مِن بلاغةٍ وحكمةٍ ومحاسبةِ نفسٍ، فإنَّ مَن عَلِمَ كلَّ هذا الذِي ذَكَر كانَ قائمًا على محاسبةِ نفسِه على كلِّ نَفَسٍ من أنفاسِه، قال الامام الرفاعي: من لم يحاسب نفسه على كلّ نفس ويتهمها في جميع الأحوال، لا يكتب عندنا في ديوان الرجال.
قَالُوا أي الصحابة الذين سمعوا هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ وَيُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ سَيِّئَةٍ)) وهذا يبيّن أنّ أجر التسبيح أو التحميد أو ذكر الله عند الله تعالى عظيم وقد روى الطبراني في الدعاء عَنْ ثَوْبَانَ، رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((بَخٍ بَخٍ لِخَمْسٍ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فَيَحْتَسِبُهُ)).
وفي الدعاء أيضًا للطبراني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((خُذُوا جُنَّتَكُمْ، خُذُوا جُنَّتَكُمْ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ عَدُوٍّ حَضَرَ؟ قَالَ: ((لَا، وَلَكِنْ مِنَ النَّارِ، قُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْتَقْدِمَاتٍ وَمُجَنَّبَاتٍ، وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ)).
وفيه أيضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا لِعَبْدِي رَحْمَتِي كَثِيرًا. وَإِذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا لِعَبْدِي رَحْمَتِي كَثِيرًا. فَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: اكْتُبُوا لِعَبْدِي مَحَبَّتِي كَثِيرًا)).
وفيه أيضًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ كَانَتْ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً مُضَاعَفَةً، وَعِشْرُونَ سَيِّئَةً مُكَفَّرَةً)) وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَنْفُضُ الْخَطَايَا كَمَا تَنْفُضُ الشَّجَرُ وَرَقَهَا)).
وكذلك عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَجَرَةٍ يَابِسَةٍ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَجَعَلَ يَنْفُضُهُ وَيَتَحَاتُّ الْوَرقُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَلَا قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَيُحَتَّنَّ الْخَطَايَا كَمَا يَتَحَاتُّ وَرقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ)) وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((عَلَيْكِ بِالْقَرْمَنَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَحُطَّانِ الذُّنُوبَ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرَةِ)) قُلْتُ: وَمَا هُمَا؟ قَالَ: ((سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)).
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ عَمَلًا)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ عَمَلًا؟ قَالَ: ((كُلُّكُمْ يَسْتَطِيعُهُ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا؟ قَالَ: ((سُبْحَانَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ)).
وعَنْ عَلِيِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مَنْ قَالَهُنَّ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ عز وجل خَمْسَ مَسْأَلَاتٍ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَأَرْشِدْنِي، وَارْزُقْنِي)).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَفْسِيرِ ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [سورة الزمر/ الآية 63] فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ، تَفْسِيرُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْأَوَّلُ وَالْآخَرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَا عُثْمَانُ مَنْ قَالَهَا إِذَا أَصْبَحَ عَشْرَ مِرَارٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ عز وجل سِتَّ خِصَالٍ: أَمَّا أَوَّلُ خَصْلَةٍ فَيُحْرَسُ مِنْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَيُعْطَى قِنْطَارًا فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَيُرْفَعُ لَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الرَّابِعَةُ فَيُزَوِّجُهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَأَمَّا الْخَامِسَةُ فَيُعْطَى مِنَ الْأَجْرِ كَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فَقُبِلَ حَجُّهُ وَتُقُبِّلَتْ عُمْرَتُهُ فَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ خُتِمَ لَهُ بِطَابَعِ الشُّهَدَاءِ)).
وروى أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إنَّ نَبيَّ اللهِ نوحًا عليه السَّلامُ لمَّا حضَرتْه الوَفاةُ قال لابنِه: إنِّي قاصٌّ عليكَ الوَصيَّةَ، آمُرُكَ باثنتَينِ، وأنهاكَ عن اثنتَينِ، آمُرُكَ بـ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ السَّمَواتِ السَّبعَ والأَرَضينَ السَّبعَ لو وُضِعتْ في كِفَّةٍ، ووُضِعتْ لا إلهَ إلَّا اللهُ في كِفَّةٍ، رجَحَتْ بهنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولو أنَّ السَّمَواتِ السَّبعَ والأَرَضينَ السَّبعَ كُنَّ حَلقةً مُبهَمةً، قصَمَتْهنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وسُبحانَ اللهِ وبحَمدِه، فإنَّ بها صلاةَ كلِّ شيءٍ، وبها يُرزَقُ الخَلقُ، وأنهاكَ عن الشِّركِ والكِبرِ)).
وروى الطبراني في الدعاء عن نَافِع قال: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قُلْنَا: يَا أَبَا حَمْزَةَ ادْعُ لَنَا بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَشَاكِي وَمَا بُدٌّ مِنْ أَنْ أَدْعُوَ بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِهِنَّ لِأَهْلِ قُبَاءَ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ فِي بَلَائِكَ وَصَنِيعِكَ إِلَى خَلْقِكَ، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ فِي بَلَائِكَ وَصَنِيعِكَ إِلَى أَهْلِ بُيُوتِنَا، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ فِي بَلَائِكَ وَصَنِيعِكَ إِلَى أَنْفُسِنَا خَاصَّةً، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ بِمَا هَدَيْتَنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ بِمَا أَكْرَمْتَنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ بِمَا سَتَرْتَنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ بِالْقُرْآنِ، وَلَكَ الْحَمْدُ بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَلَكَ الْحَمْدُ بِالْمُعَافَاةِ، وَلَكَ الْحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى، وَلَكَ الْحَمْدُ إِذَا رَضِيتَ يَا أَهْلَ التَّقْوَى وَيَا أَهْلَ الْمَغْفِرَةِ – أي: هو أهل أن يخاف منه، وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب – اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَبَرَكَاتِكَ وَمَغْفِرَتَكَ وَرِضْوَانَكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ)).
وَروى أبو الليث السمرقندي في كتاب تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الْإِيمَانَ، فَمَنْ ضَنَّ بِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَخَافَ الْعَدُوَّ أَنْ يُجَاهِدَهُ، وَهَابَ اللَّيْلَ أَنْ يُكَابِدَهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ”.
وقد جُعِل هذا الأجر العظيم لمن يُسبح الله بنية حسنة وهو يعتقد معنى التسبيح الذي هو تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات واعتقاد التعظيم في حقّ الله وأنّه عزّ وجلّ لا يوصف بصفات البشر لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء وليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وفي هذا روى أبو نعيم الأصفهاني والإمام السيوطي وغيرهما عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُنْتُ بِالْكُوفَةِ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، دَارِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا نَوْفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَابِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنَ الْيَهُوَدِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلَيَّ بِهِمْ، فَلَمَّا وَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالُوا لَهُ: يَا عَلِيُّ صِفْ لَنَا رَبَّكَ هَذَا الَّذِي فِي السَّمَاءِ، كَيْفَ هُوَ، وَكَيْفَ كَانَ، وَمَتَى كَانَ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَاسْتَوَى عَلِيٌّ جَالِسًا وَقَالَ: مَعْشَرَ الْيَهُوَدِ اسْمَعُوا مِنِّي، وَلَا تُبَالُوا أَنْ لَا تَسْأَلُوا أَحَدًا غَيْرِي، إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْأَوَّلُ لَمْ يَبْدُ مِمَّا، وَلَا مُمَازَجٌ مَعْمَا، وَلَا حَالٌّ وَهْمَا، وَلَا شَبَحٌ يُتَقَصَّى، وَلَا مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى، وَلَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَيُقَالُ حَادِثٌ، بَلْ جَلَّ أَنْ يُكَيَّفَ الْمُكَيِّفُ لِلْأَشْيَاءِ كَيْفَ كَانَ، بَلْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ لِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، وَلَا لِتَقَلُّبِ شَأنٍ بَعْدَ شَانٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ حَبَلِ الْوَرِيدِ، وَأَبْعَدُ فِي الشَّبَهِ مِنْ كُلِّ بَعِيدٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ، وَلَا كُرُورُ لَفْظَةٍ، وَلَا ازْدِلَافُ رَبْوَةٍ، وَلَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ، فِي غَسَقِ لَيْلٍ دَاجٍ، وَلَا إِدْلَاجٍ، لَا يَتَغَشَّى عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ، وَلَا انْبِسَاطُ الشَّمْسِ ذَاتِ النُّورِ، بِضَوْئِهَا فِي الْكُرُورِ، وَلَا إِقْبَالُ لَيْلٍ مُقْبِلٍ، وَلَا إِدْبَارُ نَهَارٍ مُدْبِرٍ، إِلَّا وَهُوَ مُحِيطٌ بِمَا يُرِيدُ مِنْ تَكْوِينِهِ، فَهُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَكُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ، وَكُلِّ نَهَايَةٍ وَمُدَّةٍ، وَالْأَمَدُ إِلَى الْخَلْقِ مَضْرُوبٌ، وَالْحَدُّ إِلَى غَيْرِهِ مَنْسُوبٌ، لَمْ يَخْلُقِ الْأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَوَّلِيَّةٍ، وَلَا بِأَوَائِلَ كَانَتْ قَبْلَهُ بَدِيَّةً، بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ خَلْقَهُ، وَصَوَّرَ مَا صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ، فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ، وَلَا لَهُ بِطَاعَةِ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ انْتِفَاعٌ، إِجَابَتُهُ لِلدَّاعِينَ سَرِيعَةٌ، وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ لَهُ مُطِيعَةٌ، عَلِمُهُ بِالْأَمْوَاتِ الْبَائِدِينَ كَعِلْمِهِ بِالْأَحْيَاءِ الْمُتَقَلِّبِينَ، وَعِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، وَعِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا تُحَيِّرُهُ الْأَصْوَاتُ، وَلَا تَشْغَلُهُ اللُّغَاتُ، سَمِيعٌ لِلْأَصْوَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، بِلَا جَوَارِحَ لَهُ مُؤْتَلِفَةٍ، مُدْبِرٌ بَصِيرٌ عَالِمٌ بِالْأُمُورِ، حَيٌّ قَيُّومٌ.
سُبْحَانَهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا بِلَا جَوَارِحَ وَلَا أَدَوَاتٍ، وَلَا شَفَةٍ وَلَا لَهَوَاتٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تَكْيِيفِ الصِّفَاتِ، مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ، فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ، وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْأَمَاكِنَ بِهِ تُحِيطُ، لَزِمَتْهُ الْحِيرَةُ وَالتَّخْلِيطُ، بَلْ هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ مَكَانٍ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ الرَّحْمَنِ، بِخِلَافِ التَّنْزِيلِ وَالْبُرْهَانِ، فَصِفْ لِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ هَيْهَاتَ أَتَعْجِزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِكَ، وَتَصِفُ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ، لَهُ مَا فِي الْأَرَضِينَ وَالسَّمَوَاتِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
باب ما جاء فى الجوامع من التسبيح
أي جوامع الأحاديث التي وردت في فضل التسبيح:
رَوَى مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمَا عَنْ جُوَيْرِيَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهَا حِينَ صَلَّى الْغَدَاةَ أَوْ بَعْدَمَا صَلَّى الْغَدَاةَ وَهِىَ تَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَهِىَ كَذَلِكَ فَقَالَ: ((لَقَدْ قُلْتُ مُنْذُ قُمْتُ عِنْدَكِ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ هُنَّ أَكْثَرُ أَوْ أَرْجَحُ أَوْ أَوْزَنُ مِمَّا قُلْتِ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَى نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ)).
رَوَى مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمَا عَنْ جُوَيْرِيَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا هي جُوَيْرِيَةُ أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ بِنْتُ الحَارِثِ بنِ أَبِي ضِرَارٍ المُصْطَلِقِيَّةُ، سُبِيَتْ يَوْمَ غَزْوَةِ المُرَيْسِيْعِ، فِي السَّنَةِ الخَامِسَةِ، وَكَانَ اسْمُهَا: بَرَّةَ، فَغُيِّرَ، وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ.
وَيُقَالُ لَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَمَعَهُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَكَانَ بِذَاتِ الْجَيْشِ دَفَعَ جُوَيْرِيَةَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَدِيعَةً وَأَمَرَهُ بِالِاحْتِفَاظِ بِهَا، وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ الْمَدِينَةَ، فَأَقْبَلَ أَبُوهَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ بِفِدَاءِ ابْنَتِهِ فَلَمّا كَانَ بِالْعَقِيقِ نَظَرَ إلَى الْإِبِلِ الّتِي جَاءَ بِهَا لِلْفِدَاءِ فَرَغِبَ فِي بَعِيرَيْنِ مِنْهَا، فَغَيّبَهُمَا فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الْعَقِيقِ، ثُمّ أَتَى إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ أَصَبْتُمْ ابْنَتِي، وَهَذَا فِدَاؤُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ الْبَعِيرَانِ اللّذَانِ غَيّبْتهمَا بِالْعَقِيقِ، فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ الْحَارِثُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَنّك مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَاَللهِ مَا اطّلَعَ عَلَى ذَلِكَ إلّا اللهُ. فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ وَأَسْلَمَ مَعَهُ ابْنَانِ لَهُ وَنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ وَأَرْسَلَ إلَى الْبَعِيرَيْنِ فَجَاءَ بِهِمَا، فَدَفَعَ الْإِبِلَ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَدُفِعَتْ إلَيْهِ ابْنَتُهُ جُوَيْرِيَةُ فَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إسْلَامُهَا، فَخَطَبَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَبِيهَا، فَزَوّجَهُ إيّاهَا، وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
قالت عائشة:ولقَدْ أُعْتِقَ بِتَزْوِيجِهِ إيّاهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ عَلَى قَوْمِهَا بَرَكَةً مِنْهَا.اهـ
وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا بِنْتُ عِشْرِيْنَ سَنَةً. تُوُفِّيَتْ أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ جُوَيْرِيَةُ فِي سَنَةِ خَمْسِيْنَ. وَقِيْلَ: تُوُفِّيَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ رضي الله عنها. جَاءَ لَهَا سَبْعَةُ أَحَادِيْثَ، مِنْهَا عِنْدَ البُخَارِيِّ حَدِيْثٌ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ حَدِيْثَانِ.
وروى البخاري في صحيحه عَنْها رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: ((أَصُمْتِ أَمْسِ؟))، قَالَتْ: لَا، قَالَ: ((تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِينَ غَدًا؟)) قَالَتْ: لَا، قَالَ: ((فَأَفْطِرِي)).
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهَا حِينَ صَلَّى الْغَدَاةَ أَوْ بَعْدَمَا صَلَّى الْغَدَاةَ أي صلاة الغداة وهي صلاة الصبحوَهِىَ تَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَهِىَ كَذَلِكَ فَقَالَ: ((لَقَدْ قُلْتُ مُنْذُ قُمْتُ عِنْدَكِ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ هُنَّ أَكْثَرُ أَوْ أَرْجَحُ أَوْ أَوْزَنُ مِمَّا قُلْتِ وهذا يدل على أنه بالذكر اليسير القليل يُكتب الأجر العظيم سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِقال العيني: منصوب على المصدر، وكذلك البواقي، والمعنى: سبحته تسبيحًا مبلغ عدد خلقه، ويجوز أن يكون النصب بنزع الخافض، وهو الظاهر. أي بعدد مخلوقات الله، ومن يحصي خلق الله إلا هو سبحانه، فهو الخالق للعباد ولأعمالهم وخالق للخير والشر ولكل ما دخل في الوجود، ويدخل في ذلك ما لا ينتهي مثل أنفاس أهل الجنة في الجنة وأنفاس أهل النار في النار سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَى نَفْسِهِ أي: ما يقع منه سبحانه موْقع الرضا أو ما يرضاه لنفسه. قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر: وَهُوَ شَىْءٌ لَا كَالْأَشْيَاء. وَمَعْنَىْ الشَّىْءِ إِثْبَاتُهُ بِلَا جِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ، وَلَا حَدَّ لَه، وَلَا ضِدّ لَهُ، وَلَا نِدّ لَهُ، وَلَا مِثْلَ لَهُ،
وَلَهُ يَدٌ وَوَجْهٌ وَنَفْسٌ كَمَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَىْ فِي الْقُرْءَانِ، فَمَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَىْ فِي الْقُرْءَانِ، مِنْ ذِكْرِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالنَّفْسِ فَهُوَ لَهُ صِفَاتٌ بِلَا كَيْفٍ، وَيَدُهُ صِفَتُهُ بِلَا كَيْفٍ، وَغَضَبُهُ وَرِضَاهُ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ بِلَا كَيْف.اهـ
قَالَ اللهُ تَعَالَىْ حكاية عن عيسى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [سورة المائدة/ الآية 116]، مَعْنَىْ هَذِهِ الْآيَةِ: تَعْلَمُ مَا فِيْ سِرِّيْ وَلَا أَعْلَمُ مَا فِيْ غَيْبِكَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَىْ أَنَّ اللهَ لَهُ نَفْسٌ بِمَعْنَىْ الرُّوْحِ، بَلِ اللهُ هُوَ خَالِقُ الرُّوْحِ وَخَالِقُ الْجَسَدِ، اللهُ لَيْسَ رُوْحًا وَلَا جَسَدًا وَلَا هُوَ رُوْحٌ فَقَطْ وَلَا هُوَ جَسَدٌ بِلَا رُوْحٍ، قَالَ تَعَالَىْ: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [سورة المائدة/ الآية 109]، مَا كَانَ وَمَا يَكُوْنُ وَمَا لَمْ يَكُنْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِيْ تَفْسِيْرِهِ الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْءَانِ: أَيْ تَعْلَمُ مَا فِيْ غَيْبِيْ وَلَا أَعْلَمُ مَا فِيْ غَيْبِكَ. وَقِيْلَ: الْمَعْنَىْ تَعْلَمُ مَا أَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ مَا تَعْلَمُ. وَقِيْلَ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيْهِ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيْهِ.اهـ
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِيْ تَفْسِيْرِهِ: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ أَيْ عِلْمُكَ مُحِيْطٌ بِكُلِّ الْعُلُوْمِ، ﴿وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ أَيْ لَا أَطَّلِعُ عَلَىْ غَيْبِكَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا تُعَرِّفُنِيْ بِإِعْلَامِكَ.اهـ
وَفِيْ حَاشِيَةِ الشِّهَابِ عَلَىْ تَفْسِيْرِ الْبَيْضَاوِيِّ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيْهِ فِيْ نَفْسِيْ كَمَا تَعْلَمُ مَا أُعْلِنُهُ، وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيْهِ مِنْ مَعْلُوْمَاتِكَ.اهـ
وَقَالَ أَبُوْ حَيَّانَ الْأَنْدَلُسِيُّ فِيْ تَفْسِيْرِ الْبَحْرِ الْمُحِيْطِ: “قِيْلَ الْمَعْنَىْ تَعْلَمُ مَا أُخْفِيْ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيْ”. ثُمَّ قَالَ: “وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾، وَقَالُوْا النَّفْسُ هِيَ الشَّخْصُ وَذَلِكَ يَقْتَضِيْ كَوْنَهُ جِسْمًا تَعَالَىْ اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيْرًا”.اهـ
سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ أي: ما يوازنه في القدر والرزانة، يُقال: هو زنة الجبل أي: حذاءه في الثقل والرزانة. قال أحد الصالحين: مِنْ صِفَاتِ الإِلَهِ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مَكَانٍ يَسْتَقِرُّ أَوْ يَتَحَيَّزُ فِيهِ فَإِنَّهُ ليس إِلَهًا.
وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ” رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ. وَمَعْنَى كَلامِهِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ حَجْمٌ صَغِيرٌ وَلا كَبِيرٌ، لَيْسَ كَأَصْغَرِ حَجْمٍ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ، وَلا كَأَكْبَرِ حَجْمٍ كَالْعَرْشِ وَلَيْسَ حَجْمًا أَكْبَرَ مِنَ الْعَرْشِ وَلا كَمَا بَيْنَ أَصْغَرِ حَجْمٍ وَأَكْبَرِ حَجْمٍ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/ الآية 8] فَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمِقْدَارِ أَيْ الْحَدِّ وَالْكَمِيَّةِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ حَجْمٌ كَبِيرٌ بِقَدْرِ الْعَرْشِ أَوْ كَحَجْمِ الإِنْسَانِ فَقَدْ خَالَفَ الآيَةَ، كَمَا أَنَّهُ خَالَفَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/ الآية11] لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حَجْمٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ لا تُحْصَى وَلَوْ كَانَ مُتَحَيِّزًا فِي جِهَةِ فَوْقٍ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ لا تُحْصَى، فَالْجِهَاتُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ لِذَاتِ اللَّهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَلِذَلِكَ يُوصَفُ اللَّهُ بِالْقَرِيبِ فَلَوْ كَانَ مُتَحَيِّزًا فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ بَعِيدًا وَلَمْ يَكُنْ قَرِيبًا.
قَالَ الإِمَامُ زَيْنُ الْعَابِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلِيُّ بنُ الْحُسَيْنِ فِي الصَّحِيفَةِ السَّجَّادِيَّةِ: “سُبْحَانَكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ لا يَحْوِيكَ مَكَانٌ لا تُحَسُّ وَلا تُمَسُّ وَلا تُجَسُّ”، رَوَاهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي كِتَابِ إِتْحَافِ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ بِالإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ مِنْهُ إِلَى زَيْنِ الْعَابِدِينَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِيْ الْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اسْتِوَاءَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىْ لَيْسَ بِاسْتِوَاءِ اعْتِدَالٍ عَنِ اعْوِجَاجٍ وَلَا اسْتِقْرَارٍ فِيْ مَكَانٍ، وَلَا مُمَّاسَّةٍ لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، لَكِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ بِلَا كَيْفٍ بِلَا أَيْنَ، بَائِنٌ مِنْ جَمِيْعِ خَلْقِهِ، وَأَنَّ إِتْيَانَهُ لَيْسَ بِإِتْيَانٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَأَنَّ مَجِيْئَهُ لَيْسَ بِحَرَكَةٍ، وَأَنَّ نُزُوْلَهُ لَيْسَ بِنَقْلَةٍ، وَأَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَأَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِصُوْرَةٍ، وَأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بجَارِحَةٍ، وَأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَتْ بِحَدَقَةٍ، وَإِنَّمَا هَذِهِ أَوْصَافٌ جَاءَ بِهَا التَّوْقِيْفُ، فَقُلْنَا بِهَا وَنَفَيْنَا عَنْهَا التَّكْيِيْفَ، فَقَدْ قَالَ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/ الآية11]، وَقَالَ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص/ الآية 4]، وَقَالَ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سورة مريم/ الآية 65].اهـ
سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ)) قال العيني: مداد كلماته، المداد مصدر كالمدد، تقول: مددتُ الشيء أمدُّه مدّا ومدادًا، وقيل: يحتمل أن يكون جمع مُد، فإنه يجمع على مداد، وعلى هذا يكون المراد من المداد: المكيال والمعْيار، ومعناه: المبالغة في الكثرة، فيكون هذا مجازًا؛ لأن كلمات الله لا تحصى بعد ولا غيره، والمراد: المبالغة في الكثرة، لأنه ذكر أوّلا ما يحصرُه العدد الكثير من عدد الخلق، ثم زنة العرش، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك، وعبر عنه بهذا، أي: وما لا يحصيه عد كما لا تُحْصى كلمات الله تعالى.
ليُعلَم أَنَّ كَلَامَ اللهِ لَيسَ شَيئًا لَهُ أَبعَاضٌ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: ((كلمات)) بِلَفظِ الجَمعِ لِلتَّعظِيمِ، لَيسَ مَعنَاهُ أَنَّ لَهُ كَلَامًا مُتَجَزِّئًا، فِي القُرآنِ فِي مَوضِعٍ وَرَدَ: ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ [سورة التوبة/ الآية 40] وَوَرَدَ: ﴿كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [سورة لقمان/ الآية 27] بِلَفظِ الجَمعِ وَبِلَفظِ الإِفرَادِ، كَمَا أَنَّ اللهَ عَبَّرَ عَن نَفسِهِ بِلَفظِ الجَمعِ وَبِلَفظِ الإِفرَادِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص/ الآية 1] هَذَا صَرِيحٌ فِي الإِفرَادِ، وَعَبَّرَ عَن نَفسِهِ بِلَفظِ الجَمعِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ [سورة يس/ الآية 12] وَهُوَ وَاحِدٌ، لَكِن عَبَّرَ عَن نَفسِهِ بِلَفظِ الجَمعِ وَهُوَ وَاحِدٌ لَيسَ جَمعًا، وَعَبَّرَ بِلَفظِ ﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية 79] وَهُوَ سُبحَانَهُ فَاعِلٌ وَاحِدٌ خَالِقٌ وَاحِدٌ، وَمِن أَوضَحِ الأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الأَلفَاظَ المُنَزَّلَةَ عَلَى الأَنبِيَاءِ لَيسَت عَينَ كَلَامِ اللهِ الذَّاتِيِّ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [سورة الكهف/ الآية 109] فَالكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ هِيَ تُعَبِّرُ عَن كَلَامِ اللهِ الذَّاتِيِّ الأَزَلِيِّ، أَمَّا كَلَامُ اللهِ الأَزَلِيِّ فَلَيسَ حَرفًا وَلَيسَ صَوتًا وَلَيسَ لُغَةً، فَيُطلَقُ كَلَامُ اللهِ وَيُرَادُ بِهِ الكَلَامُ الأَزَلِيُّ الأَبَدِيُّ الَّذِي لَيسَ كَكَلَامِنَا، لَيسَ بِحَرفٍ وَلَيسَ بِصَوتٍ، وَيُطلَقُ وَيُرَادُ بِهِ اللَّفظُ المُنَزَّلُ عَلَى الأَنبِيَاءِ،
فَهَذِهِ الكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ المُنَزَّلَةُ الأَربَعَةُ وَغَيرُهَا لَو فَرَضنَا البَحرَ مِدَادًا لَنَفِدَت قَبلَ أَن يَنفَدَ البَحرُ، فَبَيَّنَتِ الآيَةُ أَنَّ المُرَادَ غَيرُ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ، بَلِ المُرَادُ الكَلَامُ الذَّاتِيُّ الَّذِي لَيسَ حَرفًا وَلَيسَ صَوتًا، وَإِذَا قِيلَ القُرآنُ كَلَامُ اللهِ انصَرَفَ المَعنَى إِلَى صِفَةِ الكَلَامِ للهِ، وَكَلَامُ اللهِ تَعَالَى غَيرُ مَخلُوقٍ، وَأَمَّا لَفظَةُ ((كَلِمَاتُ اللهُ)) قَالَ البَيهَقِيُّ: جُمِعَت لِلتَّعظِيمِ،
فَكَلَامُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَو كَانَ حَرفًا وَصَوتًا يَبدَأُ ثُمَّ يُختَمُ، هَذِهِ الكُتُبُ الأَربَعَةُ وَبَقِيَّةُ الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ لَا يَنفَدُ البَحرُ دُونَ نَفَادِ هَذِهِ الحُرُوفِ، لَو فَرَضنَا أَنَّ البَحرَ مِدَادٌ فَكُتِبَ هَذِهِ الكُتُبُ المُنَزَّلَةَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَن تَنقَضِيَ قَبلَ أَن يَنفَدَ البَحرُ، قَبلَ أَن يَنفَدَ هَذَا المِدَادُ الَّذِي هُوَ البَحرُ، فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِأَنَّ كَلَامَ اللهِ الَّذِي يَقُولُ اللهُ عَنهُ: ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ لَيسَ هَذَا الكَلَامَ اللَّفظِيَّ لِأَنَّ هَذَا يَنفَدُ، إِنَّمَا ذَلِكَ الكَلَامُ الَّذِي لَو كَانَ البَحرُ مِدَادًا فَكُتِبَ بِهِ يَنفَدُ البَحرُ وَلَو مُدَّ هَذَا البَحرُ بِمِثلِهِ إِلَى سَبعَةِ أَبحُرٍ أَو إِلَى أَكثَرَ مِن ذَلِكَ هُوَ الكَلَامُ الَّذَاتِيُّ، هَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ الَّتِي هِيَ كَلَامُهُ الذَّاتِيُّ شَيءٌ لَيسَ حَرفًا وَصَوتًا، لَيسَ شَيئًا يَبدَأُ ثُمَّ يَنقَضِي ثُمَّ يَبدَأُ ثُمَّ يَنقَضِي كَمَا نَحنُ نَتَكَلَّمُ بِالقُرآنِ وَبِغَيرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يَجِبُ اتِّصَافُ اللهِ بِهِ عَقلًا وَنَقلًا هُوَ شَيءٌ غَيرُ هَذَا، وَأَمَّا هَذِهِ الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ فَهِيَ عِبَارَاتٌ عَن ذَلِكَ الكَلَامِ الذَّاتِيِّ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ الَّذِي لَا يَدخُلُهُ تَعَاقُبٌ أَوِ ابتِدَاءٌ ثُمَّ اختِتَامٌ وَانقِضَاءٌ.اهـ
وفي رواية لهذا الحديث: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ، قَالَتْ: أَتَى عَلَيَّ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَدْوَةً وَأَنَا أُسَبِّحُ، ثُمَّ انْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ قَرِيْبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالَ: ((مَا زِلْتِ قَاعِدَةً؟)) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ((أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ لَو عُدِلْنَ بِهِنَّ عَدَلَتْهُنَّ، أَوْ وُزِنَّ بِهِنَّ وَزَنَتْهُنَّ – يَعْنِي: جَمِيْعَ مَا سَبَّحْتِ -: سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ – ثَلَاثَ مَرَّاتٍ – سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ – ثَلَاثَ مَرَّاتٍ – سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ – ثَلَاثَ مَرَّاتٍ – سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ – ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)).
والله تعالى أعلم وأحكم