المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله اللطيفِ الرؤوفِ المَنَّانِ، الْغَنِيِّ القويِّ السِّلْطَان، الحَلِيمِ الكَرِيم الرحيم الرحمن، المحيطِ عِلْمًا بما يكونُ وما كان، يُعِزُّ وَيُذِلُّ، ويُفْقِرُ ويُغْنِي، وَكُلُّ مَا شاءَه كان، سبحانه فهو الموجود أزلا وأبدا بلا كيف ولا جهة ولا مكان. أحْمَدُه وهو الموصوف بالصفاتِ الكاملةِ الحِسَان، وأشكرُه على نِعَمِهِ وبَالشَّكرِ يزيد العطاءُ والامْتِنَان،
وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحْدَه لا شريكَ له المَلِكُ الدَّيَّان، وأشهد أنَّ محمدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ إلى الإِنس والجان، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعينَ لهم بإحسان ما توالت الأزمان، وسلَّم تسليمًا كثيرا، أما بعد:
وصلنا في كتاب حلية البشر إلى قوله:
باب ما جاء في الاستغفار
فَالتَّوْبَةُ مَعْنَاهَا الرُّجُوعُ وَهِىَ فِى الْغَالِبِ تَكُونُ مِنْ ذَنْبٍ سَبَقَ لِلْخَلاصِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فِى الآخِرَةِ وَقَدْ تُطْلَقُ التَّوْبَةُ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَذَلِكَ كَحَدِيث: ((إِنِّى لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِى سُنَنِهِ.
وَكَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ فِى الْغَالِبِ يَكُونُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِى وَقَعَ لِلْخَلاصِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فِى الآخِرَةِ وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ ذَلِكَ،
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ فِى الْقُرْءَانِ بِمَعْنَى طَلَبِ مَحْوِ الذَّنْبِ بِالإِسْلامِ وَذَلِكَ كَالَّذِى ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِى الْقُرْءَانِ عَنْ نُوحٍ: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [سُورَةَ نُوح/ الآية 10] فَإِنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مُشْرِكُونَ فَمَعْنَاهُ اطْلُبُوا مِنْ رَبِّكُمُ الْمَغْفِرَةَ بِتَرْكِ الْكُفْرِ الَّذِى أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ فِى اسْتِحْقَاقِ الأُلُوهِيَّةِ وَالإِيمَانِ بِنُوحٍ أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَيْكُمْ.
ثُمَّ هِىَ وَاجِبَةٌ عَيْنًا مِنَ الْكَبِيرَةِ وَمِنَ الصَّغِيرَةِ فَوْرًا.
ثُمَّ إِنَّ التَّوْبَةَ لَهَا أَرْكَانٌ فَالرُّكْنُ الَّذِى لا بُدَّ مِنْهُ النَّدَمُ أَسَفًا عَلَى تَرْكِ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ، فَالنَّدَمُ لِحَظٍّ دُنْيَوِىٍّ كَعَارٍ أَوْ ضَيَاعِ مَالٍ أَوْ تَعَبِ بَدَنٍ أَوْ لِكَوْنِ مَقْتُولِهِ وَلَدَهُ لا يُعْتَبَرُ، فَالنَّدَمُ وَهُوَ الرُّكْنُ الأَعْظَمُ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحُ تَبَعٌ لَهُ.
وَالأَمْرُ الثَّانِى الإِقْلاعُ عَنِ الذَّنْبِ فِى الْحَالِ.
وَالأَمْرُ الثَّالِثُ الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ هِىَ التَّوْبَةُ الْمُجْزِئَةُ.
وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِى حَصَلَتْ بِتَرْكِ فَرْضٍ أَوْ تَبِعَةٍ فَيُزَادُ فِيهَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْفَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ صَلاةً أَوْ نَحْوَهَا قَضَى فَوْرًا وَإِنْ كَانَ تَرَكَ نَحْوَ زَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ عَلَى إِيصَالِهِ لِمُسْتَحِقِّيهِ أَىْ فَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ وَالْكَفَّارَةَ وَيَفِى بِالنَّذْرِ،
وَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ تَبِعَةً لِآدَمِىٍّ رَدَّ تِلْكَ الْمَظْلَمَةَ فَيَرُدُّ عَيْنَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلَّا فَبَدَلَهُ [وَالْمُرَادُ بِالْبَدَلِ الْمِثْلُ فِى الْمِثْلِىِّ وَالْقِيمَةُ فِى الْمُتَقَوِّمِ، وَتُعْتَبَرُ أَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ الإِتْلافِ] لِمَالِكِهِ أَوْ نَائِبِ الْمَالِكِ أَوْ لِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَوِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ دَفَعَهُ إِلَى الإِمَامِ لِيَجْعَلَهُ فِى بَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِحَاكِمٍ مَأْذُونٍ لَهُ فِى التَّصَرُّفِ بِمَالِ الْمَصَالِحِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ بِنِيَّةِ الْغُرْمِ إِنْ ظَهَرَ الْمُسْتَحِقُّ. فَإِنْ أَعْسَرَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ نَوَى الْغُرْمَ إِذَا قَدَرَ أَوِ اسْتَرْضَاهُ أَىْ يَطْلُبُ مِنْهُ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ ذَلِكَ الْغِيبَةُ فَلا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ مِنْهُ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْغِيبَةِ إِنْ كَانَتْ بَلَغَتِ الْمُغْتَابَ؛ أَىْ يَقُولُ لَهُ قُلْتُ فِيكَ كَذَا فَسَامِحْنِى،
هَذَا إِذَا لَمْ يَخْشَ حُدُوثَ فِتْنَةٍ إِنْ أَخْبَرَهُ بِهَا وَإِلَّا فَلا حَاجَةَ لِلإِخْبَارِ.
وَإِذَا قَالَ الْمُرْتَدُّ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يُجَدِّدَ إِيمَانَهُ بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَىْ وَهُوَ مَا زَالَ عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ مِنَ الْكُفْرِ فَلا يَزِيدُهُ قَوْلُهُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا إِثْمًا وَكُفْرًا لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ مُحَمَّدٍ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [سورة محمد/ الآية 34]
وَقَوْلَهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ النِّسَاءِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [سورة النساء/ الآية 168-169]
فَمَنْ قَالَ كَلِمَةَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَهُوَ عَلَى الرِّدَّةِ كَانَ مَعْنَى كَلامِهِ يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِى مِنْ غَيْرِ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى الإِسْلامِ مَعْ أَنَّكَ أَخْبَرْتَ فِى كِتَابِكَ أَنَّكَ لا تَغْفِرُهُ فِى هَذِهِ الْحَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ كَذِّبْ نَفْسَكَ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَلِّمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ الِاسْتِغْفَارَ حِينَ كَانَ لا يَزَالُ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ غَيْرَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَّمَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ كَمَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بنِ الْحُصَيْنِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ جَدُّكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَيْرٌ لِقَوْمِهِ مِنْكَ كَانَ يُطْعِمُهُمُ الْكَبِدَ وَالسَّنَامَ – أَىْ سَنَامَ الإِبِلِ وَهُوَ طَعَامٌ فَاخِرٌ عِنْدَ العَرَبِ – وَأَنْتَ تَنْحَرُهُم – أَىْ تَقْتُلُهُمْ أَىْ فِى الْجِهَادِ -!! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا شَاءَ اللَّهُ – لَهُ أَنْ يَقُولَ فِى الرَّدِّ عَلَى مَا قَالَ-، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ سَائِلًا: مَا أَقُول؟ أَىْ عَلِّمْنِى شَيْئًا أَقُولُهُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلِ اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِى وَاعْزِمْ لِى عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِى)) فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَكَانَ قَدْ ءَامَنَ وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّى أَتَيْتُكَ فَقُلْتُ عَلِّمْنِى فَقُلْتَ قُلِ اللَّهُمَّ قِنِى شَرَّ نَفْسِى وَاعْزِمْ لِى عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِى فَمَا أَقُولُ الآنَ حِينَ أَسْلَمْتُ؟ قَالَ: ((قُلِ اللَّهُمَّ قِنِى شَرَّ نَفْسِى وَاعْزِمْ لِى عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِى اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا عَمَدْتُ وَمَا أَخْطَأْتُ وَمَا جَهِلْتُ)) اﻫ
رَوَى النَّسَائِيُّ فِى عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)). قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّى لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ)) تَرَقٍّ
قال العيني: وَإِنَّمَا كَانَ يسْتَغْفر هَذَا الْمِقْدَار مَعَ أَنه مَعْصُوم ومغفور لَهُ لِأَن الاسْتِغْفَار عبَادَة، أَو هُوَ تَعْلِيم لأمته، أَو قَالَه تواضعًا.
وَقيل: يَتَجَدَّد للطبع غفلات تفْتَقر إِلَى الاسْتِغْفَار.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هفوات الطباع البشرية لَا يسلم مِنْهَا أحد، والأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِن عصموا من الْكَبَائِر فَلم يعصموا من الصَّغَائِر التي ليس فيها خسة ودناءة نفس.
ومثل هذا الحديث ونحوه من الأحاديث والآيات استدل بها العلماء الذين قالوا بجواز المعصية الصغيرة التي ليس فيها خسة ودناءة نفس على الأنبياء،
فإن لعلماء أهل السنة قولين في جواز صدور المعصية الصغيرة التي لا خسة فيها ولا دناءة من الأنبياء وقد ذهب إلى تجويز ذلك الإمام الأشعري والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما وبين العلماء أن فعل ذنب أو اثنين من الصغائر التي لا دناءة فيها لا يسقط العدالة ولا ينافي الاتصاف بالأمانة ولا يسقط الشخص من أعين الناس لا سيما مع التوبة والإسراع بالإنابة، وهذا إجماع بلا خلاف أنه لا يسقط العدالة،
قال النووي في شرح مُسلم: “وَاختَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنهُم فَذَهَبَ مُعظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنهُم وَحُجَّتُهُم ظَوَاهِرُ القُرآنِ وَالأَخبَارِ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِن أَهلِ التَّحقِيقِ وَالنَّظَرِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِن أَئِمَّتنَا إِلَى عِصمَتِهِم مِنَ الصَّغَائِرِ كَعِصمَتِهِم مِنَ الكَبَائِرِ وَأَنَّ مَنصِبَ النُّبُوَّةِ يَجِلُّ عَن مُوَاقَعَتِهَا وَعَن مُخَالَفَةِ اللهِ تَعَالَى عَمدًا”.
ومما اختلف فيه المفسرون قول الله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [سورة محمد/ الآية 19] فقال بعضهم ليس المراد بالذنب هنا المعصية التي فيها إثم وذهب آخرون إلى أن الذنب فيها هو صغيرة من الصغائر،
وهو ظاهر ما ذهب إليه الإمام الطبري فقال: وَسَلْهُ غُفْرَانَ ذَنبِكَ وَعَفْوَهُ لَكَ عَنْهُ، وَذُنُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِكَ مِنَ رجالٍ وَنِّسَاءِ.
وقال الفيروزأبادي: والعِصْيَان: خلاف الطَّاعة.
وقال القشيري: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾: وفي هذا دليل على أنّه كان له ذنب،
قال العارف بالله ابن أبي جمرة في أثناء كلام له على حديث: ((لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)) ما لفظه: لا يخطر بخاطر أحد أن الذنوب التي أخبر الله تعالى أنه بفضله غفرها للنبي صلى الله عليه وسلم من قبيل ما نقع نحن فيها، معاذ الله، لأنّ الأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، ومن الصغائر التي فيها رذائل. أمّا الصغائر التي ليس فيها رذائل ففيها خلاف بين العلماء.اهـ
الحديثان اللذان بعده:
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِىُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى الْمَجْلِسِ يَقُولُ: ((رَبِّ اغْفِرْ لِى وَارْحَمْنِى وَتُبْ عَلَىَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ)) بِقَدْرِ مِائَةِ مَرَّةٍ. وَالتَّوَّابُ هُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ كُلَّمَا تَكَرَّرَتْ.
وَرَوَى النَّسَائِىُّ فِى عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالطَّبَرَانِىُّ عَنِ الأَغَرِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فَوَاللَّهِ إِنِّى لَأَتُوبُ إِلَى رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ فِى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)).
هذه الأحاديث كلها فيها حث على التوبة وترغيب بها فورا، وقد ذكرنا شروط التوبة عن الذنوب الصغيرة والكبيرة،
وهنا نذكر فائدة:
أن التوبة من الكفر تكون بترك هذا الكفر والعود إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين، فإنَّ اللهَ تعالى قدْ بيّن في شرعهِ الذي أوحاهُ إلى سيّدنا محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلّم طريقًا واضحًا للدخولِ في الإسلامِ وهوَ أنْ يقولَ الإنسانُ أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ معَ اعتقادِ معنى هاتينِ الشهادتينِ جازمًا بقلبهِ، فمَن نطقَ بلسانهِ ولم يصدّقْ بقلبهِ فهوَ منافقٌ، لكننا نحكمُ بإسلامهِ لخفاءِ ما يُبطنُ علينا ونعاملهُ معاملةَ المسلمِ أخذًا بظاهرِ حالهِ وأما عندَ اللهِ فهوَ كافرٌ خالدٌ في النارِ إنْ ماتَ منْ غيرِ التوبةِ كما قالَ ربُّنا تباركَ وتعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [سورة النساء/ الآية 145]
ومَن صدَّقَ بقلبهِ ولم يَنطقْ بلسانهِ فهوَ أيضًا كافرٌ عندَنا وعندَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
قالَ النوويُّ في شرحه على مسلم: واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أنّ المؤمن الذي يُحكم بأنّه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا من الشكوك ونطق بالشهادتين فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلًا إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكّن منه لمعاجلة المنية أو لغير ذلك فإنه يكون مؤمنًا. اهــ
قالَ الحليميُّ في كتابه المنهاج: ولا خلاف أن الإيمان يصحّ بغير كلمة (لا إله إلا الله) حتى لو قال (لا إله غير الله) أو (لا إله سوى الله) أو (ما من إله إلا الله) أو (لا إله إلا الرحمن) فكقوله (لا إله إلا الله). اﻫ
وقالَ الأردبيليّ في الأنوارِ: ويصح الإسلام بجميع اللغات. اﻫ
وقال النووي الشافعي في الروضة: وقال أي الشافعي في موضع إذا أتى بالشهادتين صار مسلما. اهـ
وكذلك توبة المرتد هي الإقلاع عن الكفر فورا والنطق بالشهادتين بقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ولا ينفعه قول أستغفر الله قبل الشهادتين، كما نقل الإجماع على ذلك الإمام المجتهد أبو بكر بن المنذر في كتابه الإجماع.
قال الفقيه الحنبلي منصور بن إدريس البهوتي في كشاف القناع عن متن الاقناع ما نصه: وتوبة المرتد إسلامه بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله …. وهذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي فكذا المرتد.اهـ
كلُّ هذا أخذهُ أهلُ العلمِ منْ نحوِ حديثِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ المتواترِ الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما: ((أُمرتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتى يشهدُوا أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ …)) الحديثَ.
فائدة أخرى:
لقد جعل الله تبارك وتعالى التوبة بين عباده تطهيرًا من الذنوب، والشرط فيها أن تكون في الوقت الذي تقبل فيه، لأنّ هناك أوقاتًا لا تُقبل فيها التوبة، منها طلوع الشمس من مغربها وخروج دابّة الأرض وهما من علامات الساعة الكبرى فمن أراد التوبة في ذلك الوقت فلا تقبل منه،
وكذلك من وصل إلى حالة اليأس من الحياة كأن أدركه الغرق مثلًا كما حصل مع فرعون لما لحق موسى عليه السلام في البحر فإنه لما أيقن الهلاك بعد أن رأى البحر يلتطم عليه قال آمنت، كما أخبر الله في القرآن: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة يونس/ الآية 90] ولكنّ الله ما قبل توبته كما أخبر الله في القرءان: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [سورة يونس/ الآية 91].
وكذلك من رأى ملك الموت عزرائيل عليه السلام يُبشّره بالعذاب لا تقبل منه توبة. وقد قال تعالى في القرءان الكريم: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [سورة النساء/ الآية 18]
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ)). وَمَعْنَى مَا لَمْ يُغَرْغِرْ: مَا لَمْ تَبْلُغْ رُوحُهُ حُلْقُومَهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَغَرْغَرُ به.
وَالْمُبَادِرُ فِي الصِّحَّةِ أَفْضَلُ، وَالْبُعْدُ كل البعد الموت، كما قال مالك بن الريب: وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلَّا مَكَانِيَا.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ القَائلُ:
قَـــدِّمْ لِنَفْسِكَ تَــوْبَةً مَرْجُـــوَّةً قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الْأَلْسُــــنِ
بَادِرْ بِهَا غَلْـــقَ النُّفُوسِ فَإِنَّـهَا ذُخْـــــرٌ وَغُنْـــمٌ لِلْمُنِيبِ الْمُحْــسِنِ
يريد: بادر بالتوبة قبل ضياع الفرصة
فالتوبة تقبل في الوقت الذي تكون مقبولةً فيه، فمن تاب توبةً صادقة بأن أقلع عن الذنب وندم عليه وعزم على أن لا يعود إليه فإن الله تعالى يقبل توبته فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كمَن لا ذنْبَ لهُ)) حديثٌ صحيحٌ رواهُ ابنُ ماجَه عن ابنِ مَسعُودٍ.
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة النور/ الآية 31] قيل: الْمَعْنَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنَّكُمْ لَا تَخْلُونَ مِنْ سَهْوٍ وَتَقْصِيرٍ فِي أَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَتْرُكُوا التَّوْبَةَ فِي كُلِّ حَالٍ.
وقال القشيري: التوبة الرجوع عن المذمومات من الأفعال إلى أضدادها المحمودة، وجميع المؤمنين مأمورون بالتوبة، فتوبةٌ عن الزّلّة وهى توبة العوام، وتوبةٌ عن الغفلة وهى توبة الخواص.
ويقال أمر الكلّ بالتوبة لئلا يخجل العاصي من الرجوع بانفراده.
ويقال فى قوله: ﵟلَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَﵞ يتبين أنّه أمرهم بالتوبة لينتفعوا هم بذلك، لا ليكون للحقّ سبحانه بتوبتهم وطاعتهم نفع.
ويقال أحوج الناس إلى التوبة من توهّم أنّه ليس يحتاج إلى التوبة.
وَقالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [سورة التحريم/ الآية 8] قال القرطبي: ﴿تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ فِي التَّوْبَةِ النَّصُوحِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ قَوْلًا، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَإِقْلَاعٌ بِالْأَبْدَانِ، وَإِضْمَارُ تَرْكِ الْعَوْدِ بِالْجِنَانِ، وَمُهَاجَرَةُ سَيِّئِ الْخِلَّانِ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الذَّنْبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَلَا يَزَالُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ذُو النُّونِ: عَلَامَةُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ ثَلَاثٌ: قِلَّةُ الْكَلَامِ، وَقِلَّةُ الطَّعَامِ، وَقِلَّةُ الْمَنَامِ.
وَقَالَ شَقِيقٌ: هُوَ أَنْ يُكْثِرَ صَاحِبُهَا لِنَفْسِهِ الْمَلَامَةَ، وَلَا يَنْفَكَّ مِنَ النَّدَامَةِ، لِيَنْجُوَ مِنْ آفَاتِهَا بِالسَّلَامَةِ.
وَقَالَ ذُو الْأُذُنَيْنِ: هُوَ أن يكون لِصَاحِبِهَا دَمْعٌ مَسْفُوحٌ، وَقَلْبٌ عَنِ الْمَعَاصِي جَمُوحٌ.
وَقَالَ فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ: عَلَامَتُهَا ثَلَاثٌ: مُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَكَثْرَةُ الْبُكَاءِ، وَمُكَابَدَةُ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ.
وَأَصْلُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنَ الْخُلُوصِ، يُقَالُ: هَذَا عَسَلٌ نَاصِحٌ إِذَا خَلَصَ مِنَ الشَّمْعِ.
وقال ابن الجوزي: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ لا يَعُودَ.
وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ التَّوْبَةِ النصوح فقال: ندم بالقلب، وَاسْتِغْفَارٌ بِاللِّسَانِ، وَتَرْكٌ بِالْجَوَارِحِ، وَإِضْمَارٌ أَنْ لا يَعُودَ.
والندم على الذنوب ممدوح مأمور به،
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: رَأَيْتُ ضيغمًا العابد كان ورده كل يوم أربعمائة ركعة.
قال عبيد الله بن عمر: أتيت صاحبًا لي يقال له عمران بن مسلم فأراني موضعين مبتلين في مسجده أحدهما بحذاء الآخر فقلت: ما هذا؟ قال: هذا والله من دموع ضيغم البارحة بين المغرب والعشاء وهو راكع.
قال أزهر بن مروان الرقاشي: رأيت ضيغمًا العابد وكنت إذا رأيته رأيت رجلًا لا يشبه الناس من الخشوع والضر وطول الحزن. مات سنة ١٨٠ هجري
وقد أَخَذَ كُوزًا مِنْ مَاءٍ بَارِدٍ فَصَبَّهُ فِي البئر وَاكْتَالَ غَيْرَهُ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: نَظَرْتُ نَظْرَةً وَأَنَا شَابٌّ فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَلا أُذِيقَهَا الْمَاءَ الْبَارِدَ، أُنَغِّصُ عَلَيْهَا أَيَّامَ الْحَيَاةِ.
وقد قيل: يَا نَادِمًا عَلَى الذُّنُوبِ أَيْنَ أَثَرُ نَدَمِكَ، أَيْنَ بُكَاؤُكَ عَلَى زَلَّةِ قَدَمِكَ، أَيْنَ حذَرُكَ من أليم الْعِقَابِ، أَيْنَ قَلَقُكَ مِنْ خَوْفِ الْعِتَابِ، جَرِّدْ قَلْبَكَ مِنَ الأَقْذَارِ، ثُمَّ أَلْبِسْهُ الاعْتِذَارَ، ثُمَّ حَلِّهِ حُلَّةَ الانْكِسَارِ، ثُمَّ أَقِمْهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ.
وقد لَهَجَ بَعْضُ الْعُبَّادِ بِالْبُكَاءِ، فَعُوتِبَ عَلَى كَثْرَتِهِ فَقَالَ:
بَكَيْـــتُ عَلَى الذُّنُوبِ لِعُظْمِ جُرْمِـــــي وَحَقٌّ لِكُلِّ مَنْ يَعْصِي الْبُكَاءُ
فَلَـــوْ أَنَّ الْبُكَـــاءَ يَـــــــرُدُّ هَـــــــــمِّي لأَسْعَدَتِ الدُّمُوعَ معَا دِمَـــاءُ
اعْلَمْ أَنَّ التَّائِبَ الْمُحَقِّقَ أي التائب توبة نصوحا يَشْغَلُهُ تَنْظِيفُ مَا وَسِخَ، وَالْحُزْنُ عَلَى مَا فَرَّطَ عَنْ تَصْوِيرِ زَلَّةٍ ثَانِيَةٍ.
[يَا هَذَا] اكْتُبْ قِصَّةَ الرُّجُوعِ بِقَلَمِ النُّزُوعِ بِمِدَادِ الدُّمُوعِ، وَاسْعَ بِهَا عَلَى قَدَمِ الْخُضُوعِ إِلَى بَابِ الْخُشُوعِ، وَأَتْبِعْهَا بِالْعَطَشِ وَالْجُوعِ، وَسَلْ رَفْعَهَا فَرُبَّ سُؤَالٍ مَسْمُوعٍ، كَمْ هَتَكَ سِتْرَ مَنْ فَعَلَ خَطِيئَةً قَدْ فَعَلْتَهَا وَسُتِرْتَ، فَابْكِ عَلَى كَثْرَةِ الذَّنْبِ. ورحم الله من قال:لَئِنْ جَلَّ ذَنْبِي وَارْتَكَبْـتُ الْمَآثِمَا وَأَصْبَحْتُ فِي بَحْرِ الْخَطِيئَةِ عَائِـــمَا
أُجَرِّرُ ذَيْلِــي فِي مُتَابَعَــةِ الْهَوَى لأَقْضِيَ أَوْطَـــارَ الْبَطَالَــــةِ هَائِـــــمَا
فَهَا أَنَــا ذَا يَا رَبِّ أَقْرَرْتُ بِالَّـذِي جَنَيْتُ عَلَى نَفْسِي وَأَصْبَحْتُ نَادِمَــــا
أَجَلُّ ذُنُوبِي عِنْدَ عَفْـــــوِكَ سَيِّدِي حَقِيرٌ وَإِنْ كَانَــتْ ذُنُوبِـــي عَظَائِـــمَا [يَا هَذَا] مُنَاجَاتَكَ منجاتك، وَصَلاتَكَ صَلاتَكَ، نَادِ فِي الأَسْحَارِ وَالنَّاسُ نَائِمُونَ: يَا أَكْرَمَ مَنْ أَمَّلَهُ الآمِلُونَ.
وقد قيل:
إِذَا كَثُرَتْ مِنْكَ الذُّنُوبُ فَدَاوِهَــا بِرَفْعِ يَدٍ فِي اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ مُظْلِــمُ
وَلا تَقْنَطَـنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّمَــا قُنُوطُكَ مِنْهَا مِنْ خَطَايَاكَ أَعْظَمُ
فَرَحْمَتُــهُ لِلْمُحْسِنِيْـــنَ كَرَامَـــةٌ وَرَحْمَتُـــــهُ لِلْمُذْنِبِيْـــنَ تَكْـــرُمُ
ينبغي على العاقل أن لا يقنط من رحمة الله بل أن يسارع للتوبة ولا يؤخرها وليعتبر بمن فات ومضى كيف أخَّر بعضهم التوبة فَفَجَأهم الموت فانقطع بهم السبيل وصاروا وحدهم بلا معين من الأهل والأصحاب والولد والأحباب.
وقال البوصيري:
يا نَفْسُ لا تَقْنَطِي مِنْ زَلَّةٍ عَظُــــمَتْ إنَّ الكَبائــــــرَ في الغُفـــرانِ كاللَّمَــمِ
لعلَّ رَحْمَـــةَ رَبِّي حيــــنَ يَقْسمُهــا تَأْتي عَلَى حَسَبِ العِصْيانِ في القِسَـم
يا رَبِّ واجْعَلْ رَجائي غَيرَ مُنْعَكِسٍ لَدَيْكَ وَاجعَــلْ حِسابِــي غَيرَ مُنْخَـرِمِ
وَالْطُفْ بِعَبْدِكَ في الدَّاريْنِ إنَّ لَـــهُ صَبْرًا مَتى تَدْعُــــهُ الأهْـوالُ يَنْهَـزمِ
وَائْذَنْ لِسُحْـــبِ صلاةٍ مِنـــكَ دائمةٍ عَلَـــــى النَّبـــــيِّ بِمُنْهَــلٍّ ومُنْسَجِــمِ
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
والله تعالى أعلم وأحكم