استغفار يمحو بعض كبائر الذنوب – فضل قول أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للهِ غافرِ الذنبِ وقابلِ التوبِ شديدِ العقابِ ذي الطَّولِ لا إله إلا هو إليه المصير، دبَّرَ فأحكمَ التدبيرَ، وقدَّرَ وشاءَ وهو على كلِّ شيءٍ قدير، من استرحمهُ فهو له راحمٌ ومن استغاثَه فهو له مغيثٌ ومن استجارَهُ فهو له مُجير،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ضدَّ ولا ندَّ ولا زوجةَ ولا ولدَ له ولا جسم ولا مكان ولا زمان ولا وزير، شهادةً أسألُ ربي لي ولكم بها يومَ القيامةِ أن يجيرَنا من نارِ السَّعير،

وأشهد أن سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم القمرُ المنير، صلى الله على طه البشيرِ النذير، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ ذي العدل الغزير، وعلى عثمان مجهز جيش العسرة في الزمان العسير، وعلى عليّ المخصوص بالموالاة يوم الغدير، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والإحسان الوفير، أما بعد:

فقد وصلنا في شرحنا لأذكار رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرح كتاب حلية البشر في أذكار خير البشر إلى حديث:
الحديث

رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَالَ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلاثًا غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَ فَارًّا مِنَ الزَّحْفِ)).
الشرح والتعليق على الحديث

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَالَ أي قال بلسانه معتقدا بقلبه: أسْتَغْفِرُ اللهَ أي أطلب من الله أن يغفر لي ذنوبي، والاستغفار اللساني ليس شرطا لصحة التوبة، وكنا قد ذكرنا في دروس ماضية شروط التوبة وهي النَّدَمُ وَالإِقْلاعُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ إِلَيْهَا وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ تَرْكَ فَرْضٍ قَضَاهُ أَوْ تَبِعَةً لِآدميٍّ قَضَاهُ أَوِ اسْتَرْضَاهُ.

وهنا أذكر فوائد متعلقة بهذا الباب منها:

رَوَى الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا: ((مَنْ كَانَتْ ‌عِنْدَهُ ‌مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ)) مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ كَانَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِى عِرْضٍ أَوْ مَالٍ كَأَنْ سَبَّهُ أَوْ أَكَلَ لَهُ مَالَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلْيُبَرِّئْ ذِمَّتَهُ الْيَوْمَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُبَرِّئْ ذِمَّتَهُ فِى الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ لا تَرُدُّ عَنْهُ الدَّرَاهِمُ وَلا الدَّنَانِيرُ شَيْئًا، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُبَرِّئْ ذِمَّتَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَظْلَمَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذَ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ فَإِنْ لَمْ تَكْفِ حَسَنَاتُهُ لِذَلِكَ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَحُمِلَتْ عَلَى الظَّالِمِ،

ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِى عَلَيْهِ قِصَاصًا مَكَّنَ الْمُسْتَحِقَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ أَىْ يَقُولُ لَهُ خُذْ حَقَّكَ مِنِّى أَىِ اقْتُلْنِى وَإِنْ شِئْتَ فَاعْفُ فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنَ الأَمْرَيْنِ صَحَّتِ التَّوْبَةُ وَلَوْ تَعَذَّرَ وُصُولُهُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ نَوَى تَمْكِينَهُ إِذَا قَدَرَ.

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِصَحَابِىٍّ يُقَالُ لَهُ أَبُو جُرَىٍّ سُلَيْمُ بنُ جَابِرٍ: ((وَإِنِ امْرُؤٌ ‌عَيَّرَكَ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ فِيكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِشَيْءٍ تَعْلَمُهُ مِنْهُ دَعْهُ يَكُونُ وَبَالُهُ عَلَيْهِ وَأَجْرُهُ لَكَ، وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا)) قَالَ سُلَيْمُ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ دَابَّةً ولا إنسانا. مَعْنَى الْحَدِيثِ خَيْرٌ لَكَ أَنْ لا تُقَابِلَهُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ حَالُ أَهْلِ الْكَمَالِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَعْفُونَ بَدَلَ أَنْ يَرُدُّوا بِالْمِثْلِ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَسْبُوبَ إِذَا رَدَّ عَلَى السَّابِّ بِالْمِثْلِ لا يُطَالِبُهُ الْمَسْبُوبُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَكِنْ يَبْقَى حَقُّ اللَّهِ فَإِنْ تَابَ ذَهَبَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ،

وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ: ((الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالا فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ فِى سُنَنِهِ وَغَيْرُهُ. أَفْهَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ الذَّنْبَ عَلَى الْبَادِئِ وَأَنَّ الْمَسْبُوبَ لا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ رَدَّ بِالْمِثْلِ لَكِنَّهُ يَأْثَمُ إِنْ زَادَ فِى السَّبِّ، فَيُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَسْبُوبِ أَنْ يَرُدَّ بِالْمِثْلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِى هَذَا السَّبِّ كَذِبٌ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/ الآية 194]

مَعْنَاهُ لَكُمْ رُخْصَةٌ فِى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ تَرْكُ الرَّدِّ أَفْضَلَ، فَلَوْ قَالَ لَهُ “يَا ظَالِمُ” يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ “يَا ظَالِمُ” وَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ فِى سَبِّهِ كَذِبٌ وَلا أَنْ يَضْرِبَهُ بَدَلَ السَّبِّ.

وَإِنْ قَالَ لَهُ “يَا ظَالِمُ” لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ “يَا لِصُّ” وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَإِنْ سَبَّ لَهُ أُخْتَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسُبَّ لَهُ أُخْتَهُ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، فَلا بُدَّ أَنْ يَتُوبَ وَإِنْ قَذَفَ أُمَّهُ كَأَنْ قَالَ لَهُ “يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ” فَهَذَا صَرِيحٌ فِى قَذْفِ الأُمِّ فلا بد أن يتوب من ذلك.

وَالَّذِى يَقْتُلُ مُسْلِمًا ظُلْمًا عَمْدًا إِنْ قُتِلَ فِى الدُّنْيَا قِصَاصًا لا يُطَالِبُهُ الْمَقْتُولُ فِى الآخِرَةِ لِأَنَّهُ أُخِذَ لَهُ حَقُّهُ فِى الدُّنْيَا أَمَّا إِنْ لَمْ يُؤْخَذْ لَهُ حَقُّهُ وَلا عَفَا عَنْهُ أَهْلُ الْقَتِيلِ فَعِنْدَئِذٍ الْقَاتِلُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ كَبِيرَةٌ فِى الآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ.

فِى الدُّنْيَا قَدْ يَأْخُذُ الشَّخْصُ حَقَّهُ وَقَدْ لا يَتَمَكَّنُ لَكِنْ فِى الآخِرَةِ الأَمْرُ شَدِيدٌ لِهَذَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ [سورة عبس/ الآية 34-36] وَصَاحِبَتِهِ أَىْ زَوْجَتِهِ وَبَنِيهِ أَىْ أَبْنَائِهِ، فَإِنْ كَانَ ظَلَمَ يَفِرُّ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمُ عِقَابٍ وَقِصَاصٍ لَكِنْ إِلَى أَيْنَ الْمَفَرُّ، أَمَّا الَّذِينَ عَاشُوا وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ تَبِعَاتٌ وَظُلْمٌ يَشْتَاقُ أَنْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا.اهـ

الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وهذه هي شهادة التوحيد التي يجب على كلّ مكلّف أن يعتقد معناها ولا يصحّ الإسلام إلا بالنطق بها مع الشهادة الثانية، ومعناها يتلخّص في ما قَالَه علماء أهل السنة والجماعة الأشاعرة والماتريدية في التوحيد وبلغت مصنفاتهم في التوحيد المئات ومن ذلك ما قال الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ بنُ عَسَاكِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ:

اعْلَمْ أَرْشَدَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ فِى مُلْكِهِ خَلَقَ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ الْعُلْوِىَّ وَالسُّفْلِىَّ وَالْعَرْشَ وَالْكُرْسِىَّ وَالسَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا. جَمِيعُ الْخَلائِقِ مَقْهُورُونَ بِقُدْرَتِهِ لا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ لَيْسَ مَعَهُ مُدَبِّرٌ فِى الْخَلْقِ وَلا شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ حَىٌّ قَيُّومٌ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِى الأَرْضِ وَلا فِى السَّمَاءِ يَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ.

أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْغِنَى وَلَهُ الْعِزُّ وَالْبَقَاءُ وَلَهُ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ وَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى لا دَافِعَ لِمَا قَضَى وَلا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى يَفْعَلُ فِى مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ وَيَحْكُمُ فِى خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ لا يَرْجُو ثَوَابًا وَلا يَخَافُ عِقَابًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَقٌّ يَلْزَمُهُ وَلا عَلَيْهِ حُكْمٌ وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.

مَوْجُودٌ قَبْلَ الْخَلْقِ لَيْسَ لَهُ قَبْلٌ وَلا بَعْدٌ وَلا فَوْقٌ وَلا تَحْتٌ وَلا يَمِينٌ وَلا شِمَالٌ وَلا أَمَامٌ وَلا خَلْفٌ وَلا كُلٌّ وَلا بَعْضٌ وَلا يُقَالُ مَتَى كَانَ وَلا أَيْنَ كَانَ وَلا كَيْفَ كَانَ وَلا مَكَانَ كَوَّنَ الأَكْوَانَ وَدَبَّرَ الزَّمَانَ لا يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ وَلا يَتَخَصَّصُ بِالْمَكَانِ وَلا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَلا يَلْحَقُهُ وَهْمٌ وَلا يَكْتَنِفُهُ عَقْلٌ وَلا يَتَخَصَّصُ بِالذِّهْنِ وَلا يَتَمَثَّلُ فِى النَّفْسِ وَلا يُتَصَوَّرُ فِى الْوَهْمِ وَلا يَتَكَيَّفُ فِى الْعَقْلِ لا تَلْحَقُهُ الأَوْهَامُ وَالأَفْكَارُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.اهـ

الْحَيُّ اللهُ تعالَى حَيٌّ بحياةٍ أزليّة لا بداية لها أبديّة لا نهاية لها، ليس كحياتنا بوجهٍ من الوجوه، فحياتنا بسبب روحٍ في جسدٍ من مُخٍّ وعظمٍ وعصبٍ ولحمٍ وغير ذلك، وأما حياة الله فليست مشابهة لحياة غيره، فهي حياة لا بروحٍ ولا بعظمٍ ولا بعصبٍ ولا بلحمٍ. والدليل على أنّ حياة الله تعالَى ليست كحياتِنا قوله تعالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11]،

وأمّا قوله تعالَى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [سورة ص/ الآية 72]، وقوله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ [سورة التحريم/ الآية 12]، وأمثال ذلك فليس معناه أنّ لله رُوحًا يحيَى بها، حاشا لله، بل الرُّوح هنا في الآيات الكريمة مضافة إلى الضمير العائد إلى الله عَزّ وجلّ وهي إضافة على سبيل التشريف والتكريم لِرُوح ءادَم وعيسى عليهما السلام عند الله، كما يقال عن المسجد “بيت الله” وعن ناقة نبيّ الله صالِحٍ عليه السلام “ناقةُ الله”، والرُّوح جِسم لطيف يَحْيَا به ذُو الرُّوح وهو الإنسان والجِنّ والملائكة والبهائم، وهي قسمان: أرواح مُشَرَّفة، وأرواح خبيثة. فأمّا أرواح الأنبياء فَمِن القِسم الأول، وأمّا أرواح الكافرين فمن القِسم الثاني، ويَكفر من يعتقد أن الله تعالى رُوح أو أنّ له روحًا، وكذلك يكفر من يُسَمِّيه “الرُّوح”. وأمّا تسمية جبريل عليه السلام “الرُّوح القُدس” هذا في النُّصوص الشرعية نحو قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [سورة النحل/ الآية 102]، والقُدس وهو الطُّهر، ومعناه الرُّوح المقَدَّس أي الْمُطَهَّر مِن المآثِم.

وأمّا الدليل من النصوص الشرعية على حياة الله الأزلية الأبديّة وأنّها ليست كحياتنا فكثيرة جِدًّا، منها:

من القرءان الكريم: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [سورة البقرة/ الآية 255]، والآية: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [سورة الفرقان/ الآية 58]،

وقوله تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [سورة غافر/ الآية 65]، وهذه الآية الأخيرة قد نُصّ فيها على حياة الله بلفظ ﴿هُوَ الْحَيُّ﴾ فالمبتدأ معرفة لأنه ضمير والخبر معرفة وهذا يفيد الحصر وأنْ لا حَيّ بحياة كحياته إلا هو عزّ وجلّ، فلذلك وَجَب أن يحمل ذلك على الحَيِّ الذي يستحيل أن يموت وأنّ حياته لا بداية لها، ولا حيّ بحياة ذاتيّة أزليّة أبديّة إلا هو، وأمّا الحياة الأبديّة التي تكون للمؤمنين في الجنّة وللكافرين في النّار فتلك حياة غير ذاتيّة أي ليسوا هم مَن خَصّوا أنفسهم بها وإنّما تلك بتخصيص مِن الله لهم وهي أبديّة بمعنَى أنّها لا تنقضي لكن لا شكّ أنّ لها بداية.

من الحديث الشريف: ما رواه ابن ماجه والترمذي في السنن وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا)) ثم ذكر منها: ((الْحَيُّ)).

الْقَيُّومُ هُوَ سُبْحَانَهُ الْقَيُّوْمُ وَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ بِمَعْنَى الدَّائِمِ أَيِ الذِي لَا يَزُوْلُ، وَلَا يَفْنَى وَلَا يَبِيْدُ وَلَيْسَ لِوُجُوْدِهِ نِهَايَةٌ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ الْمُدَبِّرُ الذِي دَبَّرَ ءاجَالَ الْعِبَادَ وَأَرْزَاقَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [سورة الإخلاص/ الآية 2] قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الزَّوَالُ كَانَ وَلَا مَكَانَ، وَلَا أَيْنَ وَلَا أَوَانَ، وَلَا عَرْشَ وَلَا كُرْسِيَّ، وَلَا جِنِّيَّ وَلَا إِنْسِيَّ وَهُوَ الْآنَ كَمَا كَانَ.اهـ انظر: التفسير الكبير، فخر الدين الرازي (ج32 ص362).

مَعْنَاهُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِ كُلُّ مَا عَدَاهُ، فَاللهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَىءٍ مِنْ خَلْقِهِ.

يُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوْزُ نِسْبَةُ الْجُلُوْسِ إِلَى اللهِ، فَالْجَالِسُ مُحْتَاجٌ لِمَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَمَنْ نَسَبَ هَذَا إِلَى اللهِ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَلِذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ وَغَيْرُهُ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَنْسُبُ إِلَى اللهِ الْجُلُوْسَ وَالاحْتِيَاجَ.

من معاني صفة القيوم لله تعالى كما قلنا الذي لا يحتاج إلى غيره؛ فالله تعالى غني عن العالمين لا يحتاج إلى شيء من خلقه على أي وجه من الوجوه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [سورة فاطر/ الآية 15]،

وقد ورد قرءانًا وصف الله بأنه مستوٍ على العرش، فيجب الإيمان بذلك بلا كيف، فليس بمعنى الجلوس أو الاستقرار أو المحاذاة للعرش، لأن ذلك كَيْفٌ، والله منـزه عن الاستواء بالكيف، لأنه من صفات الأجسام، بل نقول: استوى على العرش استواء يليق به وهذا موافق ومنسجم مع الآية المحكمة ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11].

وقد سئل الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه عن الاستواء فقال: “من قال لا أعرف الله أفي السماء هو أم في الأرض فقد كفر”؛ لأنّ هذا القول يوهم أنّ للحقّ مكانًا ومن توهّم أنّ للحقّ مكانًا فهو مشبّه.اهـ

وهذا القول ثابت عن الإمام أبي حنيفة نقله من لا يحصى كالإمام أبي منصور الماتريدي (ت333هـ) في شرحه على الفقه الأكبر والإمام أحمد الرفاعي في «البرهان المؤيد» والعزّ ابن عبد السلام في حل الرموز والشيخ تقي الدين الحصني في «دفع شبه من شبه وتمرد» وشمس الدين الرملي في فتاويه وغيرهم.

واعلم أنّ لعلماء أهل الحقّ مسلكان كل منهما صحيح:

الأول مسلك السلف وهم من كان من أهل القرون الثلاثة الأولى، قرن أتباع التابعين وقرن التابعين وقرن الصحابة وهو قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء يسمّون السلف، والغالب عليهم أن يؤولوا الآيات المتشابهة تأويلا إجماليا بالإيمان بها واعتقاد أنّ لها معنى يليق بجلال الله وعظمته ليست من صفات المخلوقين، بلا تعيين معنى خاص كآية ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه/ الآية 5] وغيرها من المتشابه بأن يقولوا بلا كيف أو على ما يليق بالله، وهذا يقال له تأويل إجمالي، أي قالوا استوى استواء يليق به مع تنزيهه عن صفات الحوادث، ونفوا الكيفية عن الله تعالى أي من غير أن يكون بـهيئة كالجلوس والاستقرار والحركة والسكون وغيرها مما هو صفة حادثة، هذا مسلك غالب السلف ردّوها من حيث الاعتقاد إلى الآيات المحكمة كقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى/ الآية 11] وتركوا تعيين معنـًى معيـَّنٍ لـها مع نفي تشبيه الله بخلقه. فقد ثبت عن الإمام مالك رضي الله عنه ما رواه الحافظ البيهقي في كتابه الأسماء والصفات بإسناد جيد كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح من طريق عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ كما وصف نفسه، ولا يقال كيفَ وكَيْفَ عنه مرفوعٌ، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه، قال فأخرج الرجل. فقول الإمام مالك: “وكيف عنه مرفوع” أي ليس استواؤه على العرش كيفا أي هيئة كاستواء المخلوقين من جلوس ونحوه. وقوله “أنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه”؛ وذلك لأنّ الرجل سأله بقوله كيف استواؤه، ولو كان الذي حصل مجرد سؤال عن معنى هذه الآية مع اعتقاد أنها لا تؤخذ على ظاهرها ما كان اعترض عليه.

وروى الحافظ البيهقي من طريق يحيى بن يحيى قال كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فكيف استوى؟ قال فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا، فأمر به أن يخرج.

قوله: “الاستواء غير مجهول” أي أنه معلوم وروده في القرءان، ولا يعني أنه بمعنى الجلوس ولكن كيفية الجلوس مجهولة، كما زعم بعض المجسمة، وقوله “والكيف غير معقول” معناه أن الاستواء بمعنى الكيف أي الهيئة كالجلوس لا يعقل أي لا يقبله العقل، لكونه من صفات الخلق، لأنّ الجلوس لا يصحّ إلا من ذي أعضاء أي كأليةٍ وركبةٍ، وتعالى الله عن ذلك، فلا معنى لقول المشبهة (الاستواء معلوم والكيفية مجهولة)، يقصدون بذلك أن الاستواء الجلوس لكن كيفية جلوسه غير معلومة. لأن الجلوس كيفما كان لا يكون إلا بأعضاء، وهؤلاء يوهمون الناس أن هذا مراد مالك رضي الله عنه، فلا يُغترّ بتمويهاتهم.

قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ما نصه: وقال ابن اللبان في تفسير قول مالك، قوله (كيف غير معقول) أي كيف من صفات الحوادث، وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل، فيجزم بنفيه عن الله تعالى، قوله (والاستواء غير مجهول) أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة، (والإيمان به) على الوجه اللائق به تعالى (واجب) لأنه من الإيمان بالله وبكتبه. اهـ

وقال الإمام أحمد عندما سئل عن الاستواء: “استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر”.

والثاني مسلك الخلف وهم الذين جاءوا بعد السلف، وهم يؤولونها تفصيلا بتعيين معان لها مما تقتضيه لغة العرب ولا يحملونها على ظواهرها أيضا كالسلف، فيقولون استوى أي قهر، ومن قال استولى (من غير سبق مغالبة)، فالمعنى واحد أي قهر، ولا بأس بسلوكه ولا سيما عند الخوف من تزلزل العقيدة حفظًا من التشبيه.

وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وقد فصل هنا في هذا الحديث بين لفظ الاستغفار ولفظ التوبة وهذا يدل على أنهما غيران، فالتوبة شيء والاستغفار شيء آخر كما ذكرت ثَلاثًا غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ ظاهره التعميم، أي ظاهره شمول الصغائر والكبائر، ويؤكد هذا ذكره معصية الفرار من الزحف وهي من الكبائر بلا شك وَإِنْ كَانَ فَارًّا مِنَ الزَّحْفِ وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ وَهُوَ أَنْ يَفِرَّ مِنْ بَيْنِ الْمُقَاتِلِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بَعْدَ حُضُورِ مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ، وهي مِنْ جُمْلَةِ مَعَاصِى الْبَدَنِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ إِجْمَاعًا قَالَ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ [فِى الأُمِّ]: “إِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ وَلَقُوا ضِعْفَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ حَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا أَىْ أَنْ يَفِرُّوا إِلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ لَمْ أُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُوَلُّوا وَلا يَسْتَوْجِبُونَ السَّخَطَ عِنْدِى مِنَ اللَّهِ لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ التَّحَرُّفِ لِقِتَالٍ أَوْ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ”اهـ. وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِىِّ إِلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ أَىْ تَرَاجَعُوا لِمَصْلَحَةِ الْقِتَالِ أَوِ انْحَازُوا إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى لِيَتَقَوَّوْا بِهَا.

هَذَا فِى الْحَالِ الَّتِى يَكُونُ فِيهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِلاحٌ أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ سِلاحٌ إِلَّا الشَّىْءَ الْخَفِيفَ وَالْكُفَّارُ مَعَهُمْ سِلاحٌ يُهْلِكُ الْمُسْلِمِينَ إِنْ ثَبَتُوا أَمَامَهُمْ فَيَجُوزُ لَهُمُ الْفِرَارُ.

قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ إِذَا خَافَ الْمُسْلِمُونَ الْهَلاكَ جَازَ لَهُمْ مُصَالَحَةُ الْكُفَّارِ وَلَوْ بِدَفْعِ الْمَالِ لَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لا خَيْرَ فِى إِقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لا يُنْكُونَ بِالْعَدُوِّ أَىْ لا يُؤَثِّرُونَ وَقَدْ قَالَ ﷺ: ((لا يَنْبَغِى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) قِيلَ: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيقُ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ فِى سُنَنِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَرَةَ بِالنَّفْسِ الْمَحْمُودَةَ هِىَ الَّتِى يَحْصُلُ مِنْ وَرَائِهَا نَفْعٌ.

أَمَّا إِنْ كَانَ فِى مُسْتَطَاعِ الْمُسْلِمِينَ الْجِهَادُ فَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ لا يَجُوزُ إِخْلاءُ سَنَةٍ مِنَ الْغَزْوِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ.

أَمَّا الآيَاتُ فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [سورة التوبة/ الآية 29]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [سورة التوبة/ الآية 36]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [سورة البقرة/ الآية 216]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [سورة الفتح/ الآية 16]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [سورة الأنفال/ الآية 39] فَرْضٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا يَفْتِنُوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أَىْ يَنْتَشِرَ الإِسْلامُ. أَىِ انْشُرُوا الإِسْلامَ بِقَدْرِ وُسْعِكُمْ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ وَبِهِ يَنْجُو الإِنْسَانُ مِنَ الْخُلُودِ فِى النَّارِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [سورة التوبة/ الآية 73]، وَأَمَّا الأَحَادِيثُ فَمِنْهَا قَوْلُهُ ﷺ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ)) وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ رَوَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَقَوْلُهُ ﷺ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ‌عَصَمُوا ‌مِنِّي ‌دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا)) رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ.

وفي صحيح مسلم أنّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أعطى يَوْمَ خَيْبَرَ الرَّايَةَ لِعَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: ((امْشِ، وَلَا تَلْتَفِتْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ)) فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: ((‌قَاتِلْهُمْ ‌حَتَّى ‌يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ)).

وَرَوَى الْبُخَارِىُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ لِمَلِكِ الْكُفَّارِ حِينَ غَزَا الصَّحَابَةُ الْعَجَمَ: ((فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ‌أَنْ ‌نُقَاتِلَكُمْ ‌حَتَّى ‌تَعْبُدُوا ‌اللهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ)).

فَبِهَذَا يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ بعضِهِم وقد حَرَّفَ مَعَانِىَ بَعْضِ الآيَاتِ وَقَالَ إِنَّ الْجِهَادَ شُرِعَ لِلدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ فَقَطْ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/ الآية 193] فَقَالَ: إِنَّ مَعْنَى ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ إِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلامِ لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ. وَالآيَةُ مَعْنَاهَا إِنِ انْتَهَوْا عَنْ كُفْرِهِمْ فَلا تُقَاتِلُوهُمْ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ [انْظُرْ جَامِعَ الْبَيَانِ وَالْجَامِعَ لِأَحْكَامِ الْقُرْءَانِ وَتَفْسِيرَ النَّسَفِىِّ].

وَفِى تَفْسِيرِهم الفاسد هَذَا سَدٌّ لِبَابِ الْجِهَادِ. وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا يَقُولُ مَا انْتَشَرَ الإِسْلامُ فِى الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَزَا بِنَفْسِهِ سَبْعَ عَشَرَ غَزْوَةً أَوْ تِسْعَ عَشَرَ وَالْبُعُوثُ وَالسَّرَايَا الَّتِى أَرْسَلَهَا لِلْجِهَادِ نَحْوُ سِتِّينَ، وَالصَّحَابَةُ بَعْدَهُ اسْتَمَرُّوا فِى الْجِهَادِ حَتَّى وَصَلُوا فِى أَيَّامِ عُثْمَانَ إِلَى الصِّينِ شَرْقًا وَإِلَى طَنْجَةَ غَرْبًا كُلُّ هَذَا فِى ظَرْفِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَّا بِالْجِهَادِ، فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا يَقُولُ الْمُحَرِّفُونَ مَا تَوَسَّعَ الإِسْلامُ.

فَالْمَقْصُودُ الأَصْلِىُّ مِنَ الْجِهَادِ حِفْظُ دِينِ الإِسْلامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لا يَفْتِنَهُمُ الْكُفَّارُ وَلِنَشْرِ دِينِ اللَّهِ وَلِإِنْقَاذِ الْكُفَّارِ مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِىِّ فِى النَّارِ رَحْمَةً بِهِمْ.

فَإِنْ قَالُوا أَلَيْسَ اللَّهُ قَالَ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [سورة البقرة/ الآية 256] وَقَالَ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [سورة يونس/ الآية 99-100]؟!

قُلْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ فِيهِ أَقْوَالٌ مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى بَدْءِ الأَمْرِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِىَ الإِذْنُ بِالْقِتَالِ لِأَنَّهُ فِى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الرَّسُولُ مَمْنُوعًا مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَتْبَاعِهِ بِالْجِهَادِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضُعَفَاءَ، ثُمَّ بَعْدَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً جَاءَهُ الإِذْنُ بِالْقِتَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [سورة الحج/ الآية 39] فَنُسِخَتْ تِلْكَ الآيَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ وَءَايَاتِ الْقِتَالِ الأُخْرَى، فَمَعْنَى الآيَةِ: ﴿لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ﴾ لا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الإِذْنُ، ثُمَّ جَاءَهُمُ الإِذْنُ بِالْقِتَالِ فَنُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِآيَاتِ الْقِتَالِ،

وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِى ءَايَةِ: ﴿لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ﴾ أَىْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُكْرِهَ قُلُوبَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَىْ لَيْسَ لَكَ أَنْ تُكْرِهَ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْجِزْيَةَ مَا دَامُوا يَدْفَعُونَ الْجِزْيَةَ وَيَخْضَعُونَ لِسُلْطَةِ الإِسْلامِ أَىْ يَلْتَزِمُونَ الشُّرُوطَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فَقَالَ الْقَاضِى ابْنُ عَطِيَّةَ الإِشْبِيلِىُّ فِى تَفْسِيرِهِ فِى سُورَةِ يُونُسَ (ج3/ ص145) مَا نَصُّهُ: “الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الَّذِى تَقَدَّمَ إِنَّمَا كَانَ جَمِيعُهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمَشِيئَتِهِ فِيهِمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ الْجَمِيعُ مُؤْمِنًا، فَلا تَأْسَفْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ وَادْعُ وَلا عَلَيْكَ فَالأَمْرُ مَحْتُومٌ، أَفَتُرِيدُ أَنْتَ أَنْ تُكْرِهَ النَّاسَ بِإِدْخَالِ الإِيمَانِ فِى قُلُوبِهِمْ وَتَضْطَرَّهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَاءَ غَيْرَهُ” اهـ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُكْرِهَ الْقُلُوبَ لِأَنَّ الْقَلْبَ أَمْرُهُ مَخْفِىٌّ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ حَتَّى تَصِيرَ قُلُوبُهُمْ مُؤْمِنَةً لِأَنَّ هَذَا لا يَمْلِكُهُ الرَّسُولُ وَلَيْسَ فِى اسْتِطَاعَتِهِ إِنَّمَا الَّذِى فِى اسْتِطَاعَتِهِ ﷺ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَيُقَاتِلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا بِأَنْ يَتَشَهَّدُوا أَوْ إِلَى أَنْ يَدْفَعُوا الْجِزْيَةَ إِنْ عَدَلُوا إِلَى الْجِزْيَةِ فَهَذَا الَّذِى كُلِّفَهُ الرَّسُولُ لِأَنَّ هَذَا عَمَلُ الظَّاهِرِ.

فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ مَعْنَى الآيَةِ يَدُلُّ عَلَى حُرِّيَّةِ الرَّأْىِ وَالْفِكْرِ وَإِنَّ الْكَافِرَ لا يُكْرَهُ عَلَى الدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ.

فَنَحْنُ إِنْ رَأَيْنَا مُسْلِمًا يُرِيدُ الِانْتِحَارَ بِأَنْ يَرْمِىَ بِنَفْسِهِ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ أَوْ بِأَنْ يَرْمِىَ نَفْسَهُ فِى الْبَحْرِ لِيَغْرَقَ أَوْ بِأَنْ يَرْمِىَ بِنَفْسِهِ فِى النَّارِ لِيَحْتَرِقَ نَسْعَى لِإِنْقَاذِهِ مِنَ الْهَلاكِ فَبِالأَوْلَى أَنْ نَسْعَى لِإِنْقَاذِ الْكَافِرِ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِى يُؤَدِّى بِهِ إِلَى الْخُلُودِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ إِنْ مَاتَ عَلَيْهِ.

وَأَوْلَى مَا ذُكِرَ فِى تَفْسِيرِ ﴿لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ﴾ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَعْنَى لا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تُكْرِهُوا الْقُلُوبَ حَتَّى تَصِيرَ مُؤْمِنَةً وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [سورة البقرة/ الآية 256] أَىْ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ وَبَيَّنَ طَرِيقَ الإِسْلامِ الَّذِى هُوَ الرُّشْدُ فَمَنْ سَمِعَ وَقَبِلَ تَبْلِيغَهُ فَقَدِ اهْتَدَى أَىْ نَجَا مِنَ الضَّلالِ.

والله تعالى أعلم وأحكم

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …