نبي الله عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام

قال الله تبارك وتعالى: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [سورة المائدة/75].

عدد المرات التي ذكر فيها نبي الله عيسى في القرءان

ذكر عيسى في ثلاث عشرة سورة من القرءان، وفي ثلاث وثلاثين ءاية منه.

نسب سيدنا عيسى ونسب أمه عليهما السلام

هو عبد الله ورسوله عيسى ابن مريم بنت عمران وهو ءاخر أنبياء بني إسرائيل عيشًا في الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: “الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي” رواه البخاري، كما أن ءاخر الأنبياء والرسل جميعًا هو محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام عبد من عباد الله خلقه الله تعالى وصوره في الرحم كما صور غيره من البشر، وقد خلقه تعالى من غير أب كما خلق ءادم من غير أب وأم، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [سورة ءال عمران/59].

وأُمّ نبي الله عيسى عليه السلام هي مريم بنت عمران من سلالة نبي الله داود عليه السلام، الصدّيقة الولية البتول العذراء الطاهرة التي تربّت في بيت الفضيلة وعاشت عيشة الطهر والنزاهة والتقوى، وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليها في القرءان الكريم في مواطن عديدة، قال الله تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَت عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ (1) [سورة التحريم/12].

وقد كان والد مريم عليها السلام عمران رجلا صالحًا عظيمًا وعالما جليلا من علماء بني إسرائيل، وكانت زوجته عاقرًا لا تلد واسمها “حنة” وهي من العابدات، وكان زكريا نبي الله زوج أخت مريم في قول الجمهور وقيل زوج خالتها. وقد نذرت حنة لله إن حملت لتجعلنّ ولدها محررًا لله أي خالصًا لخدمة بيت المقدس، فاستجاب الله عز وجل دعاءها فحملت بمريم عليها السلام، فلما وضعت حملها كان الولد أنثى وكانت ترجو أن يكون الولد ذكرًا ليخدم في بيت الله عندئذ توجهت بالدعاء إلى الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [سورة ءال عمران/36]. وقد استجاب الله تعالى لها قال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [سورة ءال عمران/37].

——————

1- معنى ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ [سورة التحريم/12] أي أمرنا الملك جبريل فنفخ روح عيسى في فتحة قميص مريم، ومعنى “من روحنا) أي الروح التي هي مشرفة عندنا ومطهرة، فهذه الإضافة الملك والتشريف، وليست إضافة الجزئية لاستحالتها في حق الله عزّ وجل.

نشأة مريم عليها السلام وتبشير الملائكة لها

نشأت الصدّيقة الولية مريم عليها السلام نشأة طُهر وعفاف وتربت على التقوى تؤدي الواجبات وتكثر من نوافل الطاعات، وعاشت في جوار بيت المقدس، وقد وصفها الله تعالى في القرءان الكريم بالصدّيقة، وكانت الملائكة تأتي إلى مريم عليها السلام وتزورها، إلى أن جاءت إليها في وقت وبشرتها باصطفاء الله تعالى لها من بين سائر النساء وبتطهيرها من الأدناس والرذائل، وبشرتها كذلك بمولود كريم يكون له شأن عظيم في الدنيا والآخرة ويكلم الناس صغيرًا في المهد ويكون كهلا ومن الصالحين، يقول الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [سورة ءال عمران/42-43].

ويقول الله تعالى إخبارًا عن تبشير الملائكة لمريم عليها السلام بعيسى صلى الله عليه وسلم: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [سورة ءال عمران 45-46].

فائدة: روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد بالإسناد عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد”، وروى احمد وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: “حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وءاسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد”.

ذكر ولادة نبي الله عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وبيان حال أمه مريم العذراء البتول حين ولادته

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة مريم 16-37].

تقدم أن مريم كانت تعبد الله وتقوم بخدمة المسجد، وكانت تخرج منه في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها، وفي ذات يوم خرجت من محرابها الذي كانت تعبد الله تعالى فيه وسارت جهة شرقي بيت المقدس وأمر الله تعالى الروح الأمين وهو جبريل عليه السلام أن يذهب إليها ليبشرها بعيسى عليه السلام وهناك تمثل لها جبريل في صورة شاب جميل أبيض الوجه فلما رأته مريم عليها السلام لم تعرف أنه جبريل ففزعت منه واضطربت وخافت على نفسها منه وارتابت في أمره حيث ظهر لها فجأة في ذلك المكان، وصارت تبتعد منه ثم قالت ما أخبر الله به ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا﴾ أي إن كنت تقيًّا مطيعًا فلا تتعرض لي بسوء، لكن جبريل عليه السلام سرعان ما أزال عنها اضطرابها وهدّأ من روعها وقال لها: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ أي أني لست ببشر ولكني ملَك أرسلني الله تعالى إليك لأهب لك غلامًا يكون طاهرًا نقيّا قالت: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ أي ليس لي زوج ولست بزانية فقد تعجبت مريم عليها السلام عندما بشرها جبريل بالغلام لأنها بكر غير متزوجة وليست زانية ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾ فأجابها جبريل عن تعجبها بأنّ خلق ولد من غير أب سهل هيّن على الله تعالى، وليجعله علامة للناس ودليلا على كمال قدرته سبحانه وتعالى وليجعله رحمة ونعمة لمن اتبعه وصدقه وءامن به.

وأمر الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام أن ينفخ في مريم البتول روح عيسى المشرفة عنده فنفخ أمين الوحي جبريل روح عيسى في أعلى جيب قميص مريم عليها السلام فوصلت بنفخته الروح من فم مريم إلى رحمها عليها السلام بقدرة الله وحملت بتلك النفخة بالسيد المسيح عليه السلام قال تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء/91]، ويقال إن عمر مريم عليها السلام حين حملت بعيسى المسيح عليه السلام كان ثلاث عشرة سنة، وقد اختلف العلماء في مدة الحمل فقيل: تسع ساعات وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: تسعة أشهر، والله أعلم.

اتهام مريم وولادتها السيد المسيح عليه الصلاة والسلام

لما حملت السيدة مريم عليها السلام بعيسى وظهرت عليها ءاثار الحمل كان أول من فطن لذلك زكريا عليه السلام وقيل ابن خالها يوسف بن يعقوب النجار وكان من عباد الله الصالحين، فجعل يتعجب من ذلك لما يعلم من تدينها ونزاهتها فقال لها مرة يعرض لها في حملها: يا مريمُ هل يكون زرعٌ من غير بذر؟ فقالت له: نَعم فمن خلق الزرع الأول؟ ثم قال لها: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم إن الله خلق ءادم من غير ذكر وأنثى، عندئذ قال لها: فأخبريني خبرك، فأخبرته حقيقة أمرها وقالت له: إن الله تعالى بشرني بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين.

شاع الخبر في بني إسرائيل أن مريم حامل فأساء بها الظن كثير منهم واتهمها البعض بيوسف النجار الذي كان يتعبدُ معها في المسجد، واتهمها ءاخرون بنبي الله زكريا عليه السلام، وحزنت مريم عليها السلام حزنًا شديدًا واعتراها كرب عظيم وتوارت عن أعينهم واعتزلتهم وانتبذت بحملها مكانًا بعيدًا فرارًا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها إذا أتتهم بمولودها الصغير مع أنها كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد في عبادة الله سبحانه.

لما أتمت مريم عليها السلام أيام حملها وهي في بيت لحم اشتد بها المخاض ثم ألجأها وجع الولادة إلى جذع نخلة يابسة وقيل كانت نخلة مثمرة، فاحتضنت ذلك الجذع وولدت مولودها عيسى عليه السلام، وناداها جبريل عليه السلام من مكان من تحتها من أسفل الجبل يطمئنها ويخبرها أن الله تبارك وتعالى جعل تحتها نهرًا صغيرًا ويطلب منها أن تهزّ جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب الجني الطري وأن تأكل وتشرب مما رزقها الله تعالى وأن تقر عينها بذلك وأن لا تكلم إنسًا فإن رأت أحدًا من الناس تقول له بالإشارة أنها نذرت للرحمن صومًا أي صمتا، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام، فهزت مريم عليها السلام جذع النخلة فتساقط عليها الرطب الجني الناضج فأكلت عليها السلام منه وشربت من ذلك النهر الذي أجراه الله تبارك وتعالى بقدرته لها في مكان كان لا يوجد فيه نهر، وكل ذلك إكراما من الله سبحانه وتعالى لمريم على إيمانها وصلاحها وعنايةً بوليدها السيد المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام.

أتت السيدة مريم عليها السلام قومها تحمل مولودها عيسى عليه السلام على يدها في بيت لحم فلما رءاها قومها قالوا لها: لقد فعلت فعلة منكرة عظيمة، فإن أباك لم يكن رجل سوء ولم تكن أمك زانية، وظنوا بها السوء وصاروا يوبخوها

اختلاف الناس في أمر عيسى ابن مريم عليهما السلام وبيان أن عيسى هو عبد الله ورسوله

قال تعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [سورة مريم 34-35].

أي أن عيسى عليه السلام هو عبد من عباد الله مخلوق من امرأة وهي أمه مريم، والله تعالى لا يعجزه شىء ولا يؤوده ويتعبه شىء، بل هو يوجد ما أراد وجوده بسرعة أي من غير تأخر عن الوقت الذي أراد وجوده فيه من غير أن يلحقه تعب ولا مشقة، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة مريم/37] أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم في أمر عيسى عليه السلام فمن قائل من اليهود إنه ابن امرأة زانية واستمروا على كفرهم وعنادهم قال تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء/156]، وقابلهم ءاخرون في الكفر فقالوا: هو الله، وقال ءاخرون: هو ابن الله، وقال ءاخرون: الله ثالث ثلاثة.

وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهؤلاء هم النّاجون المنصورون، وقد توعد الله تعالى الكافرين بالعذاب يوم القيامة قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل” رواه البخاري.

ومعنى “وروح منه” أن المسيح روحٌ صادرة من الله تعالى خلقًا وتكوينا وليس المعنى أن المسيح جزءٌ من الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى ليس أصلا لغيره ولا هو فرعٌ عن غيره وليس روحًا ولا جسدًا ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص 3-4]، ودليلُ ما ذكرناه قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة الجاثية/13] أي أن جميع ما في السموات وما في الأرض من الله تعالى خَلقًا وتكوينًا وليس المعنى أنها أجزاءٌ منه تعالى.

وقد قال تعالى بعد ذكر قصة عيسى عليه السلام وما كان من أمره في سورة ءال عمران: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ﴾ [سورة ءال عمران 58-60]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [سورة ءال عمران 62-63].

ظهور العجائب على عيسى عليه السلام في صباه وبدء نزول الوحي عليه

لما وُلد عيسى ابن مريم عليه السلام ظهرت أمور عجيبة تعظيمًا لشأن هذا المولود ولما سيكون من أمره في المستقبل من جعله رسولا يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده وإلى الشرع القويم الذي أنزل عليه.

فقد روي أنه لما ولد السيد الجليل عيسى ابن مريم عليه السلام أصبحت الأصنام التي كانت تعبد من دون الله في زمان ولادته بكل أرض مقلوبة منكوسة على رءوسها ففزعت الشياطين وراعها فلم يدروا ما سبب ذلك، فساروا عند ذلك مسرعين حتى جاءوا إبليس اللعين فأخبروه بذلك، فطار إبليس فمر بالمكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، فلما رأى الملائكة محدقين بذلك المكان علم أن ذلك الحدث بسبب ولادة ذلك المولود، فأراد إبليس اللعين أن يأتيه فلم تمكنه الملائكة من الدنو منه.

ولما بلغ ذلك المولود الرضيع من العمر ثمانية أيام حملته أمه إلى الهيكل فختن، لأن الختان من الفطرة وهو من سُنن الأنبياء من عهد نبيّ الله إبراهيم عليه السلام، وسمَّت مريم عليها السلام مولودها “عيسى” كما أمرها جبريل عليه السلام حين بشّرها به بأمر من الله تبارك وتعالى.

كان عيسى ابن مريم عليهما السلام يظهر عليه العجائب بقدرة الله تعالى، فلما ترعرع عليه السلام وفشا أمره بين اليهود أرادوا به سوءًا وأغروا ملك الروم “هيرودس” بقتله، فلما علمت أمه مريم عليها السلام بمؤامرة اليهود خافت عليه وانطلقت به إلى مصر وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى في القرءان بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً وَءاوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [سورة المؤمنون/50] أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه جعل عبده ورسوله عيسى المسيح عليه السلام وأمه مريم ءاية للناس أي علامة وحجة قاطعة على قدرته تعالى على ما يشاء، وكذلك أخبر تعالى في هذه الآية بأنه ءاوى عبده عيسى وأمه مريم عليهما السلام إلى ربوة من الأرض ذات قرار ومعين يجري فيها الماء، وهي على أحد الأقوال بلاد مصر التي قصدتها مريم عليها السلام حاملة مولودها عيسى المسيح عليه السلام، فترعرع هناك ونشأ وعاش بين ربوعها اثنتي عشرة سنة، وقيل: إنه لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى “الكُتَّاب” فجعل لا يعلّمه المعلم شيئًا إلا بدره إليه.

يقال إنه بعد موت ملك الروم “هيرودس” أمر الله تعالى عبده عيسى عليه السلام أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت المقدس في فلسطين، وقدم عليه ابن خالة أمه يوسف النجار فحمله وأمه على حمار حتى جاء بهما إلى بيت المقدس، وقيل: نزل هو وأمه بقرية يقال لها “ناصرة” وبها سُميت “النصارى”. ولَمّا بلغ عيسى عليه السلام الثلاثين من العمر أوحى الله تعالى إليه أن يبرزَ

دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام والكتاب الذي أُنزل عليه وأتباعه المؤمنون

أرسل الله تبارك وتعالى عيسى إلى بني إسرائيل يدعوهم لدين الإسلام وعلّمه التوراة وأنزل عليه كتابًا سماويًّا وهو الإنجيل الذي فيه دعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد خالق كل شىء وإلى الإيمان بأن عيسى عبد الله ورسوله، وفيه بيان أحكام شريعته، وفيه البشارة بنبي ءاخر الزمان وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضًا تحريم الربا وكل ضار للعقل أو البدن وأكل لحم الخنزير، وفيه الأمر بالصلاة والصيام وغير ذلك من أمور الدين، وكان أصل دعوته شيئين إفرادُ الله بالعبادة والإيمان به أنه نبيه، ولم يسم نفسه ابنا لله ولا سمى الله أبًا له وإنما المذاهب الثلاثة التي هي أصول اختلاف النصارى في عيسى عليه السلام هي من تأليف بولس، وكانت أول كلمة أنطقه الله تعالى بها وهو في المهد ﴿إني عبد الله﴾ حيث اعترف بالعبودية لله تعالى وحده رب كل شىء وخالق كل شىء. ولقد حَذَّر عيسى المسيح عليه السلام قَومَه بني إسرائيل من الكفر والإشراك وبَيَّن لهم أنه من يشرك بالله تعالى فقد حرّم الله تعالى عليه الجنة ومأواه نار جهنم خالدًا فيها أبدًا، قال الله عز وجل: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [سورة المائدة/72]، أي ليس للكافرين أنصار يحمونهم من عذاب الله في الآخرة.

كان أتباعُ عيسى المسيح عليه السلام الذين صدّقوه واتبعوه وءامنوا به مسلمين مؤمنين، وكان من أتباعه وتلامذته وصفوته وخاصته “الحواريون” الذين كانوا أعوانًا له ينشرون دعوته وشرعه ويعلمون الناس الخير وتعاليم الشرع الحنيف الذي أوحي به إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [سورة المائدة/111] وإنما طلبوا شهادة عيسى ابن مريم عليه السلام بإسلامهم تأكيدًا على إيمانهم، لأن الرسل والأنبياء يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم، وفي هذا دليل أيضًا على أن الإسلام والإيمان متلازمان.

يقول الله تبارك وتعالى في بيان حال عيسى وأمه مريم عليهما السلام: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [سورة المائدة/75].

ويقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [سورة الصف/6].

وقال الله عز وجلّ في بيان الكتاب الذي أنزله على نبيه عيسى ابن مريم عليهما السلام: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ

قصة جريج الراهب

كان في أمّة عيسى الصالحون الصادقون الذين استقاموا بطاعة الله وحده ومنهم جريج رضي الله عنه، فقد كان جريج من المسلمين الذين هم على شريعة نبي الله عيسى المسيح عليه السلام وكان تقيًّا صالحًا يعيش بعيدًا عن الناس، وكان قد بنى صومعة يعبد الله تعالى فيها، وجاء في قصته عليه السلام أن امرأة زانية فاسقة قالت: أنا أفتن جريجًا هذا، فتزينت وتعرضت له فلمّا رءاها لم يهتمَّ بها فقطعت الأمل في فتنته، ثم صادفت رجلا راعيًا فتعرضت له فزنى بها فحملت منه ثم لما وضعت حملها قالت: هذا الولد من جريج، وذهبوا إلى جريج وهدموا له صومعته التي كان يعبد الله تعالى فيها، وربطوه بحبل وجرُّوه وطافوا به بين الناس إهانةً له، فقال لهم: أمهلوني حتى أصلي ركعتين فأمهلوه فصلى ركعتين ثم قال للمولود الذي ولدته هذه المرأة: يا غلام من أبوك؟ قال المولود: الراعي، أنطق الله تعالى الغلام ليبرىء عبده الولي الصالح جريجًا، فعادوا يتمسحون به ويقبلونه ليرضى حيث رأوا له هذه الكرامة العظيمة وهي أنه أنطق هذا الطفل المولود بإذن الله لتبرئته مما اتهم به، فقالوا له: نبني لك صومعتك من ذهب، فقال لهم جريج: لا، أعيدوها كما كانت، أي من طين، روى هذه القصة البخاري ومسلم في صحيحيهما.

معجزات عيسى عليه الصلاة والسلام وذكر ما ذكره الله من الامتنان

من معجزات عيسى غير ما مَرَّ احياء الموتى قال الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [سورة المائدة/110]، وقال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [سورة ءال عمران 48-51].

أيد الله تبارك وتعالى عيسى ابن مريم بروح القدس وهو جبريل عليه السلام، وأيده أيضا بالبينات وهي المعجزات الدالة على صدقه فيما يبلغه عن الله تبارك وتعالى، فكان عليه السلام يمسح على المريض فيشفى بإذن الله تعالى، ومن هذه المعجزات أيضا أنه كان يصور من الطين على صورة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله تعالى ومشيئته، ومن معجزاته أيضًا إحياء الموتى بإذن الله تعالى فكان عليه السلام يقول للميت: قم بإذن الله فيقوم بإذن الله، ويُروى أنه أول ما أحيا من الموتى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فقال لها: ما لك أيتها المرأة؟ فقالت له: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لي فأنظر إليها، فقال لها نبي الله عيسى عليه السلام: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت؟ قالت: نعم، فصلى عليه السلام ركعتين لله تعالى ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى: يا فلانة، قومي بإذن الله الرحمن فاخرجي، فتحرك القبر، ثم نادى المرة الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، ثم قال لها عيسى عليه السلام: ما أبطأ بك عني فقالت له: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكًا فركّب خَلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيامة، ثم أقبلت على أمها فقالت لها: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، ثم كلمت نبي الله عيسى عليه السلام وقالت له: سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون عليّ كرب الموت فدعا عليه السلام ربه فقبضها إليه واستوت عليها الأرض فسبحان القادر على كل شىء، ولما بلغ اليهود خبر هذه الحادثة ازدادوا على عيسى عليه السلام غضبًا.

ويروى أن ملكًا من ملوك بني إسرائيل مات وحمل على سريره ونعشه، فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عز وجل فأحياه الله عز وجل، ورأى الناس يومئذٍ أمرًا هائلا ومنظرًا عجيبًا.

ويروى أنه ممن أحياه عيسى عليه السلام بإذن الله تعالى عازر وكان صديقًا لعيسى فلما مرض عازر أرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام أن عازر يموت فسار إليه عيسى وبينهما ثلاثة أيام فوصل إليه فوجده قد مات، فأتى قبره فدعا الله تعالى فأحياه الله تعالى وعاش وبقي دهرًا حتى ولد له.

ويروى أنه عليه السلام كان يومًا مع أصحابه “الحواريين” يذكر نوحًا والغرق والسفينة فقال له الحواريون: لو بعثت لنا من شهد ذلك؟ فأتى عيسى عليه السلام مُرتَفَعًا وقال: هذا قبر سام بن نوح، ثم دعا الله تعالى فأحياه الله تعالى فقال: قد قامت القيامة؟ فقال له عيسى المسيح عليه السلام: لا ولكن دعوت الله فأحياك، ثم سألوه فأخبرهم عن السفينة وأمرها ثم عاد ميتًا.

فائدة: قال العلماء: كانت معجزة كل نبيّ في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، فبعث الله تعالى عبده موسى عليه السلام بمعجزة بهرت الأبصار وحيّرت كل سحّار، فلما استيقن السحرة أنها معجزة من عند العظيم الجبار انقادوا ودخلوا في دين الإسلام.

ونبي الله عيسى عليه السلام بعث في زمان يكثر فيه التباهي والتسابق في الحذق والمهارة من الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم بمعجزات لا سبيل لأحد منهم إليها لأنه مؤيد من الله تبارك وتعالى وكانت هذه المعجزات دليلا على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى، فأنى للطبائعي إبراء الأكمه الذي ولد أعمى، وكذلك الأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن من دون استعمال أعشاب وعقاقير، وأنى للطبيب أن يحيي الميت من قبره وكما فعل عيسى عليه السلام، فيُعلم بدلالة العقل أن عيسى عليه السلام نبي الله ورسوله.

وكذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء في قومه العرب حتى بلغوا في شدة المباهاة بالفصاحة والبلاغة في أشعارهم إلى أن كان المتفوق فيهم يعمل قصيدة فيعلقها في الكعبة ليجد الشهرة بين العرب لأنهم كانوا يجتمعون في مكة باسم الحج مع أنهم كفار يعبدون الأوثان تقليدًا لأجدادهم منذ أيام إسماعيل عليه السلام، فجاءهم سيدنا محمد بكتاب أنزله الله عليه عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة من مثله في الفصاحة والبلاغة، فتحداهم وكان في تحديه ما أخبر الله به في القرءان بقوله: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [سورة الإسراء/88].

قال الله تبارك وتعالى: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات﴾ [سورة الحديد/25] أي بالمعجزات، وهكذا كل نبي قرن الله بدعوته من المعجزات ما هو شاهد له بصدقه تفريقًا بين النبي وبين المتنبي. وليس القرءان هو المعجزة الوحيدة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل له من المعجزات الكثير الكثير منها شهادة شجرة دعاها فمشت من منبتها من غير أن تنقلع إليه وقامت بين يديه فاستشهدها فشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وذلك عند عرضه الإسلام على رجل من العرب فطلب منه شاهدًا على نبوته فقال له: هذه الشجرة، وهذا أغرب وأعجب من إحياء الميت بعدما كان حيًّا قبل ذلك ثم عاد إلى ما كان عليه بعد موته لأن هذه الشجرة لم يسبق لها حياة تؤهلها للنطق والمعرفة بشأنه.

بيان أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بشّر بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم

يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [سورة الصف/6].

نبي الله عيسى المسيح عليه السلام بشّر برسول ءاخر الزمان وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما بشر به الأنبياء السابقون من قبله فذكروا صفاته كما ذكرت في التوراة والإنجيل وذلك ليعرفه بنو اسرائيل ويتابعوه، ولما كان نبيُّ الله عيسى ابن مريم عليهما السلام هو ءاخر أنبياء بني إسرائيل قام عليه السلام في بني إسرائيل خطيبًا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم وأنها بعده في النبي العربي الأمّي خاتم الأنبياء وأفضلهم على الإطلاق وهو أحمد وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.

يقول الله تبارك وتعالى في حق هؤلاء الذين اتّبعوا نبيه ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم وءامنوا به: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة الأعراف/157].

روى البيهقي في الدلائل وغيره عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: “دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ابن مريم ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام”، وقوله: “دعوة أبي ابراهيم” وذلك أن ابراهيم لما بنى الكعبة قال: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولا منهم﴾ [سورة البقرة/129].

فائدة: تقدم أنه من جملة وصايا عيسى المسيح عليه السلام لأتباعه أنه قال لهم: إنه يأتي بعدي نبي اسمُه أحمد فآمنوا به واتبعوه إذا ظهر، وكان ممن سمع وصية عيسى عليه السلام واحد من الجن المؤمنين، فهذا الجني المؤمن بلّغ خبر هذه الوصية لأربعة من أهل اليمن كانوا قد خرجوا من بلادهم ونزلوا بأرض في الجزيرة العربية، وذلك قبل أن يظهر اسمُ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا ظهورًا تامًّا، وكانوا قد أدركهم المبيت بالبرية في ءاخر الليل فسمع أحدهم وهو الجعدُ بنُ قيس صوتَ هاتفٍ ـ أي صوت جني من غير أن يرى شخصه ـ وهو يقول:

ألا أيُّها الرَّكب المعرّسُ بلّغوا إذا ما وقـفتـم بالحـطيـم وزمــزمَــا

محـمـدًا المبـعــوث مـــــنــا تحــيــــةً ***** تُشَيّعه من حيثُ سارَ ويمّمَا

وقـولـوا لـه إنـا لـدينـك شيـعةٌ ***** بـذلـك أوصانـا المسيـحُ ابنُ مـريَمَا

سيرة عيسى عليه السلام وزهده وورعه وشىء من أوصافه ولماذا سُمّي بالمسيح

قال تعالى: ﴿ما المسيح ابن مريمَ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل﴾ [سورة المائدة/75].

كان نبيُّ الله عيسى عليه الصلاة والسلام جميل الشكل والصوت ربعة أي ليس طويلا ولا قصيرًا، ءادم اللون أي ذا سمرة خفيفة، سبط الشعر أي شعره متسلسل ناعم، وكان من سيرته عليه السلام أنه كان زاهدًا لا يُبالي بنعيم الدنيا وملذاتها الفانية بل كان قلبه متعلقًا بالعمل للآخرة وبطاعة الله تعالى، وكان عليه السلام يلبس الشَّعر ويأكل من ورق الشجر من نحو الملوخية والهندباء من غير طبخ، وكان لا يدخر عنده شيئًا ولكن ينفقه على الفقراء والمساكين والمحتاجين، لا يأوي إلى منزل ولا أهل ولا مال، فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يتخذ منزلا يأوي إليه وإنما يبيتُ وينام أينما يدركه المساء.

وكان عليه السلام ورعًا كثير البكاء من خشية الله تعالى، متوكلا على مولاه، كثير ثقة القلب بخالقه ورازقه، فكان عليه السلام يتحرى الطعام الحلال، وقد قال بعضهم: إنه كان يأكل من غزل أمه مريم عليها السلام، وقد رُوي عنه أنه خرج يومًا على أصحابه وعليه جبة صوف وسروال صغير يستر عورته وكان حافيًا باكيًا شَعْثًا مصفر اللون من الجوع يابس الشفتين من العطش فقال لأصحابه: السلام عليكم يا بني إسرائيل أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولا فخر، ثم قال لهم: أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك؟ فقال: بيتي المساجد وطي الماء، وإدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بُقول الأرض، ولباسي الصوف، وشعاري خوف رب العزة، وجُلسائي الزّمنى والمساكين، أصبح وليس لي شىء، وأمسي وليس لي شىء، وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى مني وأربح؟

وقد كان عليه السلام شديد التوكل على الله تعالى، روى أبو داود في كتاب القدر بالإسناد عن طاوس قال: لقي عيسى ابن مريم إبليس فقال: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك، قال إبليس: فأوف بذروة هذا الجبل فتردى منه إلى أسفل فانظر هل تعيش أم لا؟ فقال عيسى: أما علمت أن الله تعالى قال لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت.

وسُمّي نبيُّ الله عيسى عليه السلام بالمسيح لكثرة سياحته في الأرض ليعلّم الناس دين الله وشرعه ويدعوهم إلى عبادة الله وحده، وقيل: إنه سمي بالمسيح لأنه كان يمسح على المريض الأبرص والأعمى وغيرهما فيشفى بإذن الله تعالى ومشيئته.

ذكرُ خبر المائدة التي نزلت من السماء

أنزل الله تبارك وتعالى سورة المائدة وَحيًا على رسوله صلى الله عليه وسلم وسُميّت هذه السورة سورة المائدة لأنها تتضمن قصة المائدة التي أنزلها الله تبارك وتعالى من السماء عندما سأله عيسى ابن مريم عليه السلام إنزالها من السماء كما طلب منه ذلك أصحابه وتلاميذه الحواريون، ومضمون خبر وقصة هذه المائدة أن عيسى ابن مريم عليه السلام أمر الحواريين بصيام ثلاثين يومًا فلما أتموها سألوا عيسى عليه السلام إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله تبارك وتعالى قد تقبل صيامهم وتكون لهم عيدًا يفطرون عليها يوم فطرهم، وتكون كافية لأولهم وءاخرهم ولغنيّهم وفقيرهم، ولكنَّ عيسى عليه السلام وعظهم في ذلك وخاف عليهم ألا يقوموا بشكرها، فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من الله تبارك وتعالى، فلما ألحوا عليه في ذلك قام إلى مُصلاه ولبس ثيابًا من شعر وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء ثم أخذ يتضرع إلى الله تعالى في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا، فاستجاب الله عز وجل دعاءه فأنزل سبحانه المائدة من السماء والناس ينظرون إليها وهي تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنو قليلا قليلا وكلما دَنَت منهم يسأل عيسى المسيح عليه السلام أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها سلامًا وبركة، فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مغطاة بمنديل، فقام عيسى عليه السلام يكشف عنها وهو يقول: “بسم الله خير الرازقين” فإذا عليها من الطعام سبعة من الحيتان وسبعة أرغفة وقيل: كان عليها خلّ ورمان وثمار ولها رائحة عظيمة جدًّا، ثم أمرهم نبيهم عيسى عليه السلام بالأكل منها، فقالوا له: لا نأكل حتى تأكل، فلما أبوا أن يبدءوا بالأكل منها أمر عليه السلام الفقراء والمحاويج والمرضى وأصحاب العاهات وكانوا قريبًا من الألف وثلاثمائة أن يأكلوا من هذه المائدة، فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو ءافة أو مرض مزمن واستغنى الفقراء وصاروا أغنياء، فندم الناس الذين لم يأكلوا منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك الذين أكلوا ثم صعدت المائدة وهم ينظرون إليها حتى توارت عن أعينهم، وقيل: إن هذه المائدة كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها، فيأكل ءاخرهم كما يأكل أولهم حتى قيل: إنه كان يأكل منها كل يوم سبعة ءالاف شخص.

ثم أمر الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام أن يقصرها على الفقراء والمحتاجين دون الأغنياء، فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك فرفعت ومُسخ الذين تكلموا في ذلك من المنافقين خنازير. وقد رُوي عن الصحابي الجليل عمار بن ياسر أنه قال: “نزلت المائدة من السماء خبز ولحم وأُمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا

من أقوال عيسى عليه السلام وحكمه

روي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام وقف هو وأصحابه على قبر فجعل أصحابه يذكرون القبر وضيقه فقال لهم عليه السلام: قد كنتم فيما هو أضيق منه في أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسع وسَّع.

وورد أن عيسى عليه السلام قال في أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم: “علماء حلماء بررة أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء”.

وورد أن عيسى المسيح عليه السلام قال يومًا لتلاميذه الحواريين: كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجوا من الدنيا سالمين ءامنين، بحق ما أقول لكم إنّ حلاوة الدنيا مرارة الآخرة وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة.

وورد أنه قيل له: من أشدُّ الناس فتنة؟ فقال: زلة العالم، فإن العالم إذا زلّ يزل بزلته عالم كثير.

وروي أنه عليه السلام قام في بني اسرائيل فقال: يا معشر الحواريين، لا تحدثوا بالحِكم غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.

ومن حكمه عليه السلام أنه قال: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير فإن الخنزير لا تصنع باللؤلؤ شيئا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها.

وروي عنه عليه السلام في ذم علماء السوء الذين لا يعملون بما يعلمون: يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رءوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء وعملكم داء، مثلكم مثل شجرة الدِّفلى نبت مر قاتل تعجب من رءاها وتقتل من أكلها.

وروي عنه أنه قال: طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته.

ذكر مكيدة اليهود ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء وبيان أنه لم يقتل ولم يصلب

قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [سورة ءال عمران 52-54].

استمر أكثر بني اسرائيل على كفرهم وضلالهم وعنادهم وءامن بعيسى عليه السلام القليل، وكان منهم طائفة صالحة كانوا له أنصارًا وأعوانا قاموا بمتابعته ونصرته وإعانته على نشر دين الإسلام الحق الذي أرسله الله تبارك وتعالى ليدعو إليه، ولما أخذت دعوته تنتشر ويكثر أتباعه ومناصروه حسده اليهود وتآمروا عليه وأخذوا يدبرون مكيدة لقتله والتخلص منه، فوشوا به إلى بعض ملوك الزمان وعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله تبارك وتعالى من مكيدتهم ومكرهم ورفعه إلى السماء من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد أصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى عليه السلام وهم في ذلك غالطون، وسلم لهم كثير من النصارى فيما ادعوه وكلا الفريقين في ذلك مخطئون، قال الله تبارك وتعالى في الرد على اليهود الذين زعموا أنهم قتلوا نبي الله عيسى عليه السلام: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [سورة النساء 157-158].

وورد في قصة رفع نبي الله عيسى عليه السلام إلى السماء أنه قبل أن يدخل اليهود على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام كان عليه السلام مع اثني عشر من أصحابه وتلاميذه في بيت فقال لهم: إن منكم من يكفر بي بعد أن ءامن، ثم قال لهم: أيكم يُلقى عليه شبهي ويُقتل مكاني فيكون رفيقي في الجنة؟ فقام شاب أحدثهم سنًّا فقال: أنا، قال: اجلس، ثم أعاد عيسى عليه السلام مقالته فعاد الشاب وقال: أنا، ثم أعاد عيسى عليه السلام مقالته فعاد الشاب الثالثة، فقال له عليه السلام: أنت هو، وألقى الله سبحانه وتعالى شبه عيسى عليه السلام على هذا الشاب، فدخل اليهود البيت وأخذوا الشاب فقتل وصلب بعد أن رفع عيسى عليه السلام من روزنة في البيت ـ وهي نافذة في أعلى الحائط ـ إلى السماء وأهل البيت ينظرون. ثم افترقوا فرقًا، فرقة قالت: هو الله، وفرقة قالت: هو ابن الله، وفرقة قالت: هو عبد الله ورسوله وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الفرقتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم.

بيان نزول عيسى المسيح عليه السلام من السماء قبل يوم القيامة وأنه من علامات الساعة

ليعلم أنه ورد في الشريعة أن من علامات قرب قيام الساعة نزول عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ قوله تعالى: ﴿وإنه لَعِلمٌ للساعة﴾ [سورة الزخرف/61] فقال: “نزول عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة”. فأحاديث نزوله عليه السلام من السماء مشهورة قريبة من التواتر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام لما ينزل من السماء ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ثم يعيش في الأرض أربعين سنة يحكم خلالها بشريعة القرءان شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويعمّ بعد نزول عيسى عليه السلام الأرض الإسلام والأمن والسلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب، ويكسر عليه السلام عند نزوله الصليب ويقتل الخنزير في بقاع الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة خيرًا من الدنيا وما فيها” رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

وقد ورد أنه عليه السلام يسلك فج الرَّوحاء حاجًّا أو معتمرًا ويقصد قبر النبي فيسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم فيرد الرسول عليه السلام، ويقيم في الأرض حاكمًا أربعين سنة ثم يموت فيدفن في الحجرة النبوية قرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.

روى الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليهبطنَّ عيسى ابن مريم حكمًا مقسطًا وليسلكن فجًّا حاجًّا أو معتمرًا وليأتينّ قبري حتى يسلم عليَّ ولأردنَّ عليه”.

قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ [سورة النساء/159]، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [سورة الزخرف/61].

قصة وخبر أصحاب الكهف

قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءايَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف 9-22].

كان أصحاب الكهف فتية مسلمين من أتباع عيسى ابن مريم ءامنوا بربهم كما وصفهم الله عز وجل في القرءان المجيد، والرقيم هو الكتاب الذي كان الفتية كتبوه في لوح بذكر خبرهم وقصصهم ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلّفوه عندهم، أما عدد الفتية فقيل سبعة وثامنهم كلبهم، وقيل: كان عددهم ثمانية وتاسعهم كلبهم، والله أعلم بعدتهم.

وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم فهداهم الله تعالى للإسلام وكانت شريعتهم شريعة عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، وكان ملكهم كافرًا يقال له “دقينوس” يعبد الأصنام في قرية يقال لها “أفنيوس” فبلغه عن الفتية مخالفتهم إياه في دينه فطلبهم فهربوا منه فرارًا بدينهم حتى صاروا إلى جبل لهم يقال له: “نيحلوس” فدخلوا كهفًا فيه فقالوا: نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم، فضرب على ءاذانهم، فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب فلم يطق أحد منهم أن يدخل، فقال قائل: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم، قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف فدعهم فيه يموتوا عطشًا وجوعًا ففعل الملك.

فغبروا بعدما بُني عليهم باب الكهف زمانًا بعد زمان، ثم إن راعيًا أدركه المطر عند الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف فأدخلته غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، وردّ الله تعالى إليهم أرواحهم في أجسادهم من الغد حتى أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورِق ـ دراهم فضة مضروبة ـ ليشتري لهم طعامًا فكلما أتى باب مدينتهم رأى شيئا ينكره حتى دخل على رجل، فقال له: بعني بهذه الدراهم طعامًا، قال: ومن أين لك هذه الدراهم! قال: خرجت وأصحابًا لي أمس فآوانا الليل حتى أصبحوا فأرسلوني فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك فلان، فأنى لك بها! فرفعه إلى الملك وكان ملكًا صالحًا فقال: من أين لك هذه الورِق؟ قال: خرجت أنا وأصحابًا لي أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا، ثم أمروني أن أشتري لهم طعامًا، قال له: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف، قال: فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم، فلما رأوه ودنا منهم ضُرب على أذنه وءاذانهم، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب، فلم يقدروا على أن يدخلوا إليهم فبنوا عندهم مسجدًا يصلون فيه.

 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وأصحابه الطاهرين.

شاهد أيضاً

بدءُ الخلق

اعلم أرشدنا الله وإيَّاك أن الله سبحانه وتعالى خالق العالمَ بأسرهِ العلويّ والسفليّ والعرش والكرسيّ، …