ماذا حصل بعد رجوع الرسولِ مِنَ المعراجِ
قالَ بعضُ العلماءِ: كانَ ذهابُهُ مِنْ مكةَ إلى المسجِدِ الأقصَى وعُروجُهُ إلى أنْ عادَ إلى مكةَ في نحو ثُلُثِ لَيلةٍ أَخْبَرَ أمَّ هانئ بذلكَ ثُمَّ أخبرَ الكفارَ أَنهُ أُسْرِيَ بِهِ فلمْ يصدّقُوهُ واستهزءُوا به فَتَجَهَّزَ ناسٌ مِنْ قريشٍ إلى أبي بَكْرٍ فقالوا لهُ: هَلْ لكَ في صاحبكَ يَزْعُمُ أنه قَدْ جاءَ بيتَ المقدسِ ثمَّ رجعَ إلى مكةَ في ليلةٍ واحدةٍ، فقالَ أبُو بكرٍ: أَوَ قَالَ ذلكَ؟ قالوا: نعمْ قالَ: فأشهدُ لَئِنْ كانَ قَالَ ذلكَ لقدْ صَدَقَ. قالوا: فَتُصَدّقُهُ بأنْ يَأتِيَ الشامَ في ليلةٍ واحدةٍ ثُمَّ يَرْجِعَ إلى مكة قبلَ أنْ يُصْبِحَ؟ قَال: نعمْ، إني أُصَدّقُهُ بأبعدَ مِنْ ذلكَ أُصَدّقُهُ بِخَبَرِ السماءِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فبها سُمّيَ أَبو بَكْرٍ الصديقَ رضيَ اللهُ عنه.
وطَلبَ الكفارُ مِنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصِفَ لهم المسجدَ الأقصى لأنهمْ يعلمونَ أنهُ لم يرحلْ مَعَ أهلِ بلدِهِ إلى هناكَ قطُّ. فجمَعَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ قومَهُ فحدثَهُمُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال قومٌ منهمْ مِمَّنْ كانَ قَدْ سافرَ إلى ذلكَ البلدِ ورأى المسجدَ: أمَّا النعتُ فَقَدْ واللهِ أصابَ.
——————————
(1) الفراش: جمع فراشة وهي التي تطير وتتهافت في السراج
(2) في قوله عزَّ وجلَّ (أورثتموها) دليل لأهل السنة والجماعة على قولهم الحق إن الله لا يجب عليه شىء وإنه متفضل على المؤمنين بإدخالهم الجنة من غير وجوب عليه إذ الإرث يناله الوارث دون مقابل، فدخول المؤمنين الجنة بفضل الله، وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم”.
تنبيهٌ
على كل مَنِ اعتقدَ أَنَّ اللهَ جسمٌ وأَنهُ متحيزٌ في مكانٍ أو أنه دَنا مِنَ الرسولِ بذاتِهِ أو أنه جالس على العرش الرجوعُ عن هذا والنطقُ بالشهادتينِ، لأنهُ يكونُ بذلكَ قَدْ شَبَّهَ اللهَ بخَلْقِهِ وكَذّبَ القرءانَ قالَ تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ . وقالَ أبو جعفرٍ الطحاويُّ السَّلفي: تعالى (يعني اللهَ) عن الحدودِ والغاياتِ والأركانِ والأعضاءِ والأدواتِ.
ومعنى تعالى: تنزه الله.
عن الحدود: الحدّ هو الحجم فالله لا يوصف بأنه حجم لا حجم كبير ولا حجم صغير.
والغايات: النهايات وهذا من صفات الأجسام والله منزّهٌ عنها.
والأركان: الجوانب وهذا أيضًا من صفات الخلق.
والأعضاء: الأجزاء الكبيرة كالرأس واليد الجارحة والرِّجل الجارحة فكل ذلك الله منزه عنه.
والأدوات: الأجزاء الصغيرة كاللسان والأضراس والأسنان.
وهذا تنزيه صريح صرح به إمام من أئمة السلف أئمة أهل السنة والجماعة الإمام أبو جعفر الطحاوي الذي كان أدرك جزءًا من القرن الرابع وعشرات من السنين من القرن الثالث الهجري في عقيدته التي هي عقيدة أهل السنة أي الذين هم على ما عليه الرسول والجماعة أي الذين هم مع جمهور الأمة العاملون بحديث الرسول: “عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة”. وبقوله: “فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة” ويكون من خالف ذلك شاذًّا ومن شذ شذ في النار.
وصدق القائل:
يا مَنْ بهَدْيك أفلَح السُّعَداءُ * هذي عظاتُك للقلوبِ دَوَاءُ
يا مَنْ بُعِثْتَ إلى الخلائقِ رحمةً * أقسمْتُ إنكَ رحمةٌ وضياءُ
وبُعثتَ أُمّيًّا تقولُ فَتَغْتَذِي * منكَ العقولُ وتستَقي العلماءُ
وعَدَلْتَ في أمرِ العبادِ فيستوي * في دينِكَ الفقراءُ والأمراءُ
وسريتَ مَسْرَى البَدْرِ يَسْطَعُ مُشْرقًا * في الكَائناتِ فتنجلِي الظَّلْمَاءُ
والمسجدُ الأقصى عَلَيْه مِنَ التقى * حُلَلٌ ومِنْ نورِ الهدى لألاءُ
والأنبياءُ ببابِهِ قد شَاقَهُمْ * نحوَ النبيّ محبَّةٌ ورِضاءُ
يا صاحبَ المعراجِ فوقَ المنتهى * لكَ وحدَكَ المعراجُ والإسراءُ
يا واصفَ الأقصَى أتيتَ بوصفِهِ * وكأنكَ الرسَّامُ والبنَّاءُ
فائدةٌ جليلةٌ
يَجْدُرُ بنا هنا أن نَذْكُرَ بأن اللهَ تعالى هو خالقُ السمواتِ السبعِ وخالقُ الأماكنِ كلّها، وأَنَّ اللهَ كان موجودًا قبلَ خلقِ الأماكنِ بلا هذه الأماكنِ كلّها.
فلا يجوزُ أن يُعْتَقَدَ أنَّ اللهَ تعالى موجودٌ في مكانٍ أو في كلّ الأمكنةِ، أو أنهُ موجودٌ في السماءِ بذاتِهِ، أو متمكنٌ على العَرْشِ، أو حالٌّ في الفضاءِ، أو أنه قَرِيبٌ مِنّا أو بعيدٌ عَنا بالمسافةِ. تعالى اللهُ وتَنَزَّهَ عن ذلكَ ويَكْفُرُ مَنْ يعتقدُ ذلكَ.
قال الإمامُ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ: “كانَ اللهُ ولا مكانَ وهو الآن على ما عليه كان”. رواه أبو منصور البغداديُّ. ولا يجوزُ أن يُعتقد أنَّ اللهَ موجودٌ في جِهةٍ من الجهاتِ. قال الإمامُ أبو جعفر الطحاويُّ السَّلفي في عقيدَتِهِ المسماةِ العقيدةَ الطحاويةَ “ولا تحويهِ الجهاتُ الستُّ كسائرِ المبتَدعاتِ” والجهاتُ الستُّ هي فوقُ وتحتُ ويَمِينُ وشِمالُ وأمامُ وخلفُ. أما اعتقادُ بعضِ الضالينَ أن الرسولَ وَصَلَ إلى مكانٍ هو مركزٌ للهِ تعالى فهذا ضلالٌ مبينٌ لأن اللهَ موجودٌ بلا مكانٍ، ولا عبرة بما هو مكتوبٌ في بعضِ الكتبِ الفاسدة الكثيرةِ الانتشارِ والذائعةِ الصيتِ التي فيها ما ينافي تنزيهَ اللهِ عن المكانِ والتي يَتَدَاوَلُها بعضُ العوامّ، والتحذيرُ منها وَاجِبٌ، ومنها الكتابُ الذي عُنوانُهُ: كتابُ المعراجِ المنسوبُ كَذِبًا للإمامِ ابنِ عباسٍ فيجبُ التحذيرُ منهُ ومِنْ أمثالِهِ.
فالعرش المجيد لا مناسبة بينه وبين الله عزَّ وجلَّ إنما خلقه الله تعالى ليكون كالكعبة بالنسبة للملائكة الحافين حوله وهم أكثر من كل الملائكة بل أكثر من عدد حبات المطر وأكثر من عدد حبات الرمال هؤلاء يطوفون حول العرش ويتوجهون إليه كما أننا نحن المؤمنين من أهل الأرض نتوجه إلى الكعبة في صلاتنا ونطوف حولها ونعظمها ولا مناسبة بين الكعبة وبين الله عزَّ وجلَّ كما أنه لا مناسبة بين الله وبين العرش، وما أقبح قول الوهابية إن جهة فوق تليق بالله لأنها جهة يتشرف بها الله حيث جعل هؤلاء المشبهة الله عزَّ وجلَّ متشرفًا بشىء من خلقه، إذ الجهات كلها من خلق الله تعالى، والله تعالى كان موجودًا قبل الجهات وقبل كل شىء فكيف يكون متشرفًا بشىء من خلقه، سبحانك هذا بهتان عظيم.