كتاب عمدة الراغب في مختصر بغية الطالب

النكاح

قال المؤلف رحمه الله (وعقدُ النكاحِ يحتاج إلى مزيدِ احتياطٍ وتثبتٍ حذرًا مما يترتَّبُ على فَقدِ ذلكَ.)
الشرح النكاح أشدُّ حاجة إلى معرفة أحكامه الشرعيّة من كثير من الأمور فإنّ من جهل أحكامه قد يظن ما ليس بنكاح نكاحًا فيتفرّع من ذلك مفاسدُ.
فهو جدير بمزيد احتياط وتَثَبُّتٍ لأن حفظ النسب من الكُلِّيَّات الخمس1 التي اتفقت عليها الشرائع وهي حفظ النفس والمال والعِرض والعقل والنسب2.
ولصحة النكاح شروط أحدها الصيغة كأن يقولَ الولي زوّجتك فلانة فيقولَ الزوج قبلت زواجَها.
الثاني لفظ زوّجت أو أنكحت أو ترجمتُهما عند الإِمام الشافعيّ،
وفي بعض المذاهب يصحّ بكل لفظٍ يدلّ على المقصود.
الثالث كون الزوج مسلمًا بالنسبة للمسلمة فلا يجوز تزوّج الكافر بمسلمة إن كان كتابيًّا وإن كان غير ذلك لقوله تعالى ﴿فإن عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمناٰتٍ فلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكفارِ لا هُنَّ حِلٌ لهم ولا هُمْ يَحِلُّونَ لهنّ﴾3
فلا يجوز تزويج مسلمة من المسلم الذي ارتدّ بسبب من أسباب الردّة كسبّ الله أو سبّ الرّسول أو الطعن في شريعة الله أو إنكار ما هو معلوم من الدين علمًا ظاهرًا بين الخواص والعوام من كل ما هو عائد إلى تكذيب الدّين.
الرابع كون الزوجة مسلمة أو كتابية يهودية أو نصرانيّة بالنسبة للمسلم.
الخامس كون الزوجة خلية من عِدةٍ لغير الزوج فلا يصحّ عقد النكاح على معتدةِ وفاةٍ أو معتدةِ طلاقٍ أو فسخٍ من غيره.
السادس عدم التأقيت فلو قال الولي زوّجتك بنتي إلى سنة مثلاً فهو فاسد، أمّا من نوى في قلبه أن يتزوّجَ امرأة ويعاشرَها سنة ثم يطلّقَها ولم يُدْخِلْ ذلك في صلب العقد فهو نكاح صحيح، وقد نصّ الشافعي رحمه الله على جواز ذلك في كتاب الأم4 فليس هذا من المتعة المحرمة.
قال المؤلف رحمه الله (وقدْ أشارَ القرءانُ الكريمُ إلى ذلكَ بقولِهِ تعالى ﴿يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة﴾5 قَالَ عَطَاءٌ6 رَضِيَ الله عنهُ «أَنْ تَتَعَلَّمَ كَيْفَ تُصَلِّي وَكَيفَ تَصُومُ وَكَيفَ تبيعُ وَتَشتَرِي وَكَيفَ تَنكِحُ وَكَيْفَ تُطَلِّقُ»7 8.)
الشرح أن من أهمل ذلك لم يحفظ نفسه ولا أهله من النار التي عظّم الله أمرها9 وهذا عطاء بن أبي رباح هو الإِمام المجتهد الذي تلقّى العلم من عبـد الله بن عبّاس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة.
————-

1- في الشبراملسي على الرملي أن الكليات الخمس هي الأمور العامة التي لا تختص بواحد دون ءاخر اﻫ نقله عنه البجيرمي على الخطيب.
2- هكذا عدَّها بعضهم وذكر ءاخرون النفس والمال والدين والعقل والنسب وعدَّها بعضهم ستة كما قال عليّ الشبراملسي قال وقد نظمها شيخنا اللقاني في عقيدته وزاد سادسًا في قوله
وحفظ نفسٍ ثم دينٍ مالْ نسبْ ومثلها عرض وعقـل قد وجب
3- [سورة الممتحنة/ الآية ١٠].
4- قال الشافعي في الأم في باب نكاح المحلل ونكاح المتعة وإن قَدِمَ رجلٌ بلدًا وأحب أن ينكح امرأة ونيته ونيتها أن لا يمسكها إلا مقامه بالبلد أو يومًا أو اثنين أو ثلاثة كانت على هذا نيته دون نيتها أو نيتها دون نيته أو نيتهما معًا ونية الولي غير أنهما إذا عقدا النكاح مطلقًا لا شرط فيه فالنكاح ثابت ولا تُفْسِدُ النيةُ من النكاح شيئًا لأن النية حديثُ نفسٍ وقد وُضع عن الناس ما حدثوا به أنفسهم وقد ينوي الشىء ولا يفعله وينويه ويفعله فيكون الفعل حادثًا غير النية وكذلك لو نكحها ونيته ونيتها أو نية أحدهما دون الآخر أن لا يمسكها إلا قدر ما يصيبها فيحللها لزوجها ثبت النكاح وسواء نوى ذلك الولي معهما أو نوى غيره أو لم ينوه ولا غيره والوالي والولي في هذا لا معنى له أن يفسد شيئًا ما لم يقع النكاح بشرط يفسده اﻫ
5-[سورة التحريم/ الآية ٦].
6- هو عطاء بن أبى رباح القرشي مولى أبى خثيم الفهري واسم أبى رباح أسلم. كنيته أبو محمد مولده بالجند من اليمن ونشأ بمكة وكان أسود أعور أشل اعرج ثم عمي في ءاخر عمره وكان من سادات التابعين فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلاً. روى عن أبى هريرة وابن عباس وجابر بن عبد الله ورافع بن خديج وجابر بن عمير وعائشة ومعاوية ابن أبي سفيان. لم يكن له فراش إلا المسجد الحرام إلى أن مات سنة أربع عشرة ومائة ﻫ وقد قيل إنه مات سنة خمس عشرة ومائة ﻫ وكان مولده سنة سبع وعشرين ﻫ.
انظر الثقات لابن حبان والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي.
7- أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه.
8- نقل المروذي في الورع عن أحمد أن من كان جاهلاً لا يدري كيف يطلق ولا يصلي فطلبُ العلم له أفضل من المقام عند والدته اﻫ
9- أي بيّن أن عذابها عظيم وليس المراد تعظيم قدرها فإن الله تعالى ذمّ جهنم في القرءان كما تقدم بيان ذلك.

فصلٌ في الطَّلاق

الطلاق معرفة أحكامه مهمّة جدًّا لأنّ كثيرين من الناس يحصل منهم طلاقُ زوجاتهم ولا يدرون أنّهن طَلَقْن فيعاشرونهنّ بالحرام.
والطلاق قسمان صريح وكناية فالصريح ما لا يحتاج إلى نيّة فيقع الطلاق به سواء نوى أو لم ينوِ وهو خمسة ألفاظ الطلاق والفِراق والسَّراح والخلع ولفظ المفاداة من الخلع1 واللفظُ الخامس قول الشخص نعم في جواب من أراد منه أن يطلِّق زوجته الآن2
والكناية هو ما لا يكون طلاقًا إلا بنيّة كقوله “اعْتَدِّي” ، “اخْرُجِي” ، “سَافِرِي”، “تَسَتَّـرِي”، “لا حَاجَةَ لِـي فِيكِ”، “أَنْتِ وَشَأنُكِ”، “سَلامٌ عَلَيكِ”، لأن هَذِهِ الأَلفَاظَ تَـحْتَمِلُ الطَّلاقَ وَغَيـرَهُ احْتِمَالا قَرِيبًا، فإن أتى بالصريح وقع الطلاق نوى به الطلاق أم لم ينوِ ، وإن أتى بألفاظ الكناية فلا يقع الطلاق إلا أن ينوي باللفظ الطلاق وتكون النيّة مقرونة بأوّل الكناية3.
والطلاق إن كان ثلاثًا بلفظ واحد أو في أوقات متفرّقة حتى لو قال أنتِ طالق ونوى به الثلاث فهو طلاقٌ ثلاثٌ لا تحل له بعده حتى تنكح زوجًا غيره بعد عدّة منه ويدخلَ بها ثم يطلقَها وتنقضيَ العدة منه فمن قال لزوجته أنتِ طالقٌ ثلاثًا طَلَقَت ثلاثًا وإن قال «أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق» ولم ينوِ بتكرار اللفظ تأكيد الطلقة الواحدة فهو طلاقٌ ثلاث، وإن نوى بتكرار اللفظ تأكيدَ الطلقة الواحدة وهي الأولى فلا يُعدُّ طلاقًا ثلاثًا بل يعدُّ طلاقًا واحدًا. وكثير من الناس يجهلون هذا فيرجعون إلى زوجاتهم إذا أوقعوا طلاقًا ثلاثًا بلفظ واحد يظنُّون أنّه طلاق واحد وأنّه يجوز لهم أن يرتجعوهن قبل مضيّ العدة بلا عقد جديد أو بعد مضي العدة بتجديد العقد فهؤلاء يعاشرون أزواجهم بالحرام.
ولا فرق في الطلاق بين أن يكون مُنَجَّزًا وبين أن يكون معلّقًا على شىء فإذا قال أنتِ طالق إن دخلت دار فلان أو إن فعلت كذا فدخَلَتْ أو فَعَلتْ ذلك الشىء وقع الطلاق، فإن كان قال إن دخلتِ دار فلان فأنتِ طالق بالثلاث فدخلت كان ثلاثًا فتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. ولا يجوز إلغاء هذا الطلاق4، ولا عبرة برأي أحمد بن تيمية الذي خرق به الإجماع في قوله إنّ الطلاق المعلّق المحلوف به لا يقع مع الحِنْثِ وليس عليه إلا كفّارة اليمين فرأيُ ابنِ تيميةَ هذا خلافُ الإجماع، وقد نقل الإجماعَ على هذا الحكمِ الفقيهُ المحدّث الحافظ الثقة الجليل محمّد بن نصر الْمَرْوَزي5 6 وجماعةٌ غيره7.
ثمَّ الطلاق إمّا جائز سنّيٌّ وإما بدعيٌّ وإما لا ولا. فالطلاق السنيُّ هو ما خلا عن الندم واستعقب الشروعَ في العدّة وكان بعد الدخول وهي ممن عدّتها بالأقراء8 فكان في طهر لم يطأها فيه ولا في حيض قبله. وأما البدعي فهو أن يطلِّق بعد الدخول في حيض أو نفاس أو في طهر وَطِئَها فيه ولم يظهر بها حمل. وهذا الطلاق حرامٌ ومع حرمته فإنه يقع. وإنّما كان طلاق الحائض والنفساء بدعيًّا لأنها تتضرّر بطول مدة الانتظار. وأمّا الطلاق في طهر وطئ فيه فإنه يؤدي إلى الندم عند ظهور الحمل لأن الإنسان قد يطلّق الحائل دون الحامل وعند الندم قد لا يمكنه التدارك فيتضرّر هو والولد. وأما طلاق لا ولا أي الذي لا يسمى سنيًّا ولا بدعيًّا فهو أن يطلّقها قبل الدخول أو غيرَ بالغة أو ءايسةً أو حاملاً منه.
ولا فرق بين طلاق الجِدّ وطلاق الهَزْل لقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النكاحُ والطلاقُ والرجعةُ» رواهُ أبو داود في السنن9
فإذا حصل النكاح بشروطه وكان الولي والزوج مازحين ثبت النكاح، وكذلك الطلاق فإن كان الزوج والزوجة مازحين أو جادَّين أو أحدهما جادًّا والآخر مازحًا كأن طلبت الزوجة الطلاق بجدّ وهو أوقعه بمزح فقد ثبت الطلاق10. وإن كان الطلاق واحدًا أو اثنين تصح الرجعة قبل انتهاء العدة11 بقول أرجعتك إلى نكاحي ونحوه فإن انتهت العدّة قبل أن يرتجعها لا تحلُّ له إلا بعقد جديد بوليّها وشاهدين مسلمين عدلين. والجِدّ خلاف الهَزْلِ وهو بكسر الجيم
————-

1- كأن يقول لها افدي نفسك مني بكذا فتقول فديت نفسي فإن هذا خلع.
2- قال في إعانة الطالبين قوله (فوائد) أي تتعلق بالطلاق قوله (ولو قال) أي أجنبي (لآخر) أي زوج قوله (أطلقت زوجتك) مقول القول قوله (ملتمسًا الإنشاء) حال من فاعلِ قالَ أي قال ذلك حال كونه ملتمسًا من الزوج أي طالبًا منه إنشاء الطلاق وإحداثه لأنه استفهام واستعمال الاستفهام في الطلب تجوُّزٌ لا حقيقة كما هو ظاهر قوله (فقال) أي الزوج مجيبًا له (نعم أو إي) بكسر الهمزة وسكون الياء أي أو جَيْر وقوله (وقع) أي الطلاق وقوله (وكان صريحًا) أي في إيقاع الطلاق وذلك لأن كلمة الجواب قائمة مقام طلقتها وهو صريح فما قام مقامه مثله اﻫ
3- قال في إعانة الطالبين أي وإن عزبت في ءاخرها استصحابًا لحكمها في باقيها وخرج بقوله (أولها) ءاخرُها فلا يكفي اقتران النية به لأن انعطافها على ما مضى بعيد اﻫ وهذا ما رجحه كثيرون واعتمده الإسنوي والشيخ زكريا ورجح في أصل الروضة الاكتفاء بالمقارنة لبعض اللفظ ولو لآخره ورجح في المنهاج اشتراط الاقتران بكل اللفظ.
4- وفي صحيح البخاري باب إذا قال لامرأته وهو مكره هذه أختي فلا شىء عليه قال وقال نافع طلق رجل امرأته ألبتة إن خرجت فقال ابن عمر إن خرجت فقد بتت منه وإن لم تخرج فليس بشىء اﻫ
5- هو شيخ الإسلام أبو عبد الله المروزي الفقيه. ولد سنة اثنتين ومائتين ببغداد ونشأ بنيسابور ورحل رحلة طويلة استقر بعدها بسمرقند وتوفي فيها. سمع يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه ويزيد بن صالح وصدقة بن الفضل وشيبان بن فروخ وسعيد بن عمرو الأشعثي ومحمد بن عبد الله بن نمير وهشام بن عمار وأممًا سواهم. وبرع في هذا الشأن وذكر الخطيب أنه حدث عن عبدان بن عثمان المروزي وقال كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة فمن بعدهم. روى عنه أبو العباس السراج وأبو حامد بن الشرقي وأبو عبد الله بن الأخرم وأبو النضر محمد بن محمد الفقيه ومحمد بن إسحاق السمرقندي وخلق سواهم. مات في المحرم سنة أربع وتسعين ومائتين بسمرقند وله اثنتان وتسعون سنة وما ترك بعده مثله.
انظر تذكرة الحفاظ والأعلام.
6- في اختلاف العلماء.
7- كابن عبد البر في الاستذكار.
8- أي بالأطهار.
9- سنن أبي داود، باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته.
10- قال الأنصاري في شرح الروض فصل يقع طلاق الهازل وعتقه وكذا نكاحه وسائر تصرفاته ظاهرًا وباطنًا فلا يُدَيَّن كأن قالت له في معرض الدَلال أو الاستهزاء طلقني فقال طلقتك وذلك لأنه أتى باللفظ عن قصد واختيار وعدم رضاه بوقوعه لظنه أنه لا يقع لا أثر له اﻫ
11- وهي ثلاثة أطهار للحرة التي تحيض وثلاثة أشهر للحرة التي لا تحيض وللحامل حتى تضع حملها.

فصلٌ في الخُلْعِ

الخُلْعُ بضم الخاء من الخَلْع بفتحها وهو لغةً النـزعُ لأنَّ كلاً من الزوجين لباس الآخر فكأنه بمفارقة الآخر نَزَعَ لباسَه.
وهو ثابت قبل الإجماع بقوله تعالى ﴿فإن طِبْنَ لكم عن شىء منه نَفْسًا فَكُلُوْه هنيئاً مريئًا﴾1 وبقوله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابتِ ابنِ قيس «اقبل الحديقةَ وطلّقها تطليقة» رواه البخاري2 والنسائي3.
واختُلِفَ في الخُلع هل هو طلاق أو فسخ، ومشهورُ مذهب الشافعيّ الجديد أنّه طلاق وفي كتاب أحكام القرءان للشافعي وهو من كتبه الجديدة أنّه فسخٌ وهو مذهبه القديم. وهو مكروه إلا عند الشقاق أو خوفِ تقصيرٍ من أحدهما في حقّ الآخر أو كراهة الزوجة للزوج أو كراهته إيّاها لزناها أو نحوه كترك الصلاة أو للتخلّص من وقوع الثلاث أو الثنتين بالفعل فيما لو حلف بالطلاق ثلاثًا أو اثنتين على فعل ما لا بد منه.
وتعريفه شرعًا أنّه فُرقةٌ بعوضٍ مقصودٍ راجعٍ لجهةِ الزوج
وأركانه خمسة أحدها ملتزِم للعوض إن كان زوجة أو غيرها4 والثاني البُضْع والثالث العوض والرَّابع الصيغة والخامس الزوج.
ثمّ على القول بأنّ الخلع فسخ يصلح لمن يريد الخلاص من وقوع الطلاق المعلّق إن كان ثلاثًا أو أقلَّ كأن قال إن كلّمتِ فلانًا أو دخلتِ دارَ فلانٍ أو خرجتِ بدون إذني فأنتِ طالق ثلاثًاً فإذا كان الزوج لا يريد أن يقع الطلاق المعلّق خالعها بغير قصد الطلاق بل بقصد الفسخ أي حَلِّ النكاح فتصير الزوجة بالخلع بائنًا فلو فعلت بعد ذلك المحلوف عليه5 لم يقع الطلاق به ثم يَعْمَلُ عقدًا جديدًا بطريق وليّها أي الوليّ الخاص أو غيره إن لم يتيسّر العقد من طريق الولي الخاص كأن يجري الحاكم العقد فيكون في حكم الولي الخاص الأصلي وهذا الْمَخْلَص المذكور لا يتأتّى على مشهور مذهب الشافعيّ لكن يصح على القول القديم وعلى قول قاله الشافعي في كتاب أحكام القرءان كما تقدم فلا بأس بالعمل به، فينبغي إرشاد من يُخشى منه أن يعاشر المرأة بالحرام بعد وقوع المعلّق به إلى هذا المخلص لأنّ كثيرين يعدلون إلى المعاشرة بالحرام بعد وقوع الطلاق المعلق الذي هو ثلاث من دون أن يتزوجها زوج غيره. وبعضهم يَعدِلُون إلى طريق لا ينفعهم وهو أنّهم يتّفقون مع شخص يُجْرَى له عليها العقد بعد وقوع الثلاث ثمّ يشترطون عليه أن لا يجامعها ويحتجُّون بأن بعض المجتهدين من التابعين يجيز ذلك، وذلك المجتهد يشترط أن لا يكون الزوج الثاني يقصد بذلك إحلالها للأول6، فهؤلاء الذين يُرشدون النّاس إلى هذا الأمر الفاسد يغشُّون النّاس الذين يقصدونهم للاستفتاء لأنّهم لم يوافقوا ذلك المجتهد بل كان عملهم هذا حرامًا عند جميع المجتهدين فلا وافقوا الجمهور ولا وافقوا هذا المجتهد الذي شذّ. قال بعض أكابر الحنفيّة وهو صَدْرُ الشريعة فيمن أخذ بقول ذلك المجتهد «مَنْ فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» اﻫ وإنما لم يُعتبر قولُ هذا المجتهد لأنّه خالف حديثًا صحيحًا باتّفاق علماء الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم «أتريدين أن ترجعي إلى رِفَاعةَ لا تَحِلِّين له حتى تذوقي عُسَيْلَته ويذوقَ عُسَيْلَتك» أي لا يحلّ لك أن ترجعي للزوج الأول7 إلا بعد أن يجامعَك هذا الثاني، وهذا حديث صحيح ثابت مشهور رواه البخاري8 فالفتوى بخلافه لا عبرة بها لأن المجتهد إذا خالف قوله نصًّا قرءانيًا أو حديثًا يُعَدُّ دليلاً باتفاقٍ لا يُقلَّد في اجتهاده ولو كان قاضيًا قضى بذلك وجب على غيره من القضاة أن يَنْقُضَ حكمَهُ. نسأل الله أن يثبّتنا على سبيلٍ وسُنَّة.
————-

-1 [سورة النساء/ الآية ٤].
-2 صحيح البخاري، باب الخلع وكيف الطلاق فيه.
-3 سنن النسائي، باب ما جاء في الخلع.
-4 قال النووي في الروضة يصح الخلع من الزوج مع الأجنبي ويلزم الأجنبي المال هذا إذا قلنا الخلع طلاق قال الأصحاب فإن قلنا هو فسخ لم يصح لأن الزوج لا ينفرد به بلا سبب ولا يجيء هذا الخلاف إذا سأله الأجنبي الطلاق فأجابه لأن الفرقة الحاصلة عند استعمال الطلاق طلاق بلا خلاف اﻫ
-5 قال الشيرازي في التنبيه باب الخلع والثاني أن يحلف بالطلاق على فعل شىء لا بد منه فيخالعها ثم يفعل المحلوف عليه ثم يتزوجها فلا يحنث فإن خالعها ولم يفعل الأمر المحلوف عليه ثم تزوجها ففيه قولان أصحهما أنه يتخلص من الحنث اﻫ
-6 قال في فتح الباري قال ابن المنذر أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول إلا سعيد بن المسيب ثم ساق بسنده الصحيح عنه قال يقول الناس لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني وأنا أقول إذا تزوجها تزويجًا صحيحًا لا يريد بذلك احلالها للأول فلا بأس أن يتزوجها الأول وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وفيه تعقب على من استبعد صحته عن سعيد قال ابن المنذر وهذا القول لا نعلم أحدًا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرءان اﻫ وقد يُستدل لعدم بلوغه الحديث بقوله يقول الناس.
-7 وهو عبد الرحمـٰن بن الزبير.
-8 روى البخاري في باب من أجاز طلاق الثلاث عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وأني نكحت بعده عبد الرحمـٰن بن الزبير القرظي وإنما معه مثل الهدبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته» قال في فتح الباري وقال جمهور العلماء ذوق العسيلة كناية عن المجامعة وهو تغييب حشفـة الرجل في فـرج المرأة اﻫ

فصل معقود لبيان أحكام الربا

قال المؤلف رحمه الله (فصل)
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان أحكام الربا.
قال المؤلف رحمه الله (يحرمُ الرِّبا فعلُهُ وأكلُهُ وأخذُهُ وكتابتُهُ وشهادتُهُ
وهوَ بيعُ أحدِ النقدينِ بالآخرِ نسيئةً أو بغير تقابضٍ أو بجنسِهِ كذلك أي نسيئةً أو افتراقًا بغيرِ تقابضٍ أو متفاضلاً أي معَ زيادةٍ في أحدِ الجانبينِ على الآخرِ بالوَزْنِ. والمطعوماتُ بعضُها ببعضٍ كذلكَ أي لا يَحِلُّ بيعُها معَ اختلافِ الجنسِ كالقمحِ مع الشعيرِ إلا بشرطينِ انتفاءِ الأجلِ وانتفاء الافتراقِ قبلَ التقابضِ ، ومعَ اتحادِ الجنس يشترطُ هذانِ الشرطانِ معَ التماثلِ.
الشرح هو عقدٌ يشتمل على عوض مخصوص غيرِ معلومِ التماثلِ في المعيار الشرعي حالة العقد أو مع تأخير في العوضين أو أحدهما. هذا الربا لم يكن معروفًا مشهورًا بين العرب في الجاهلية قبل نـزول ءاية التحريم وإنما الربا الذي كان مشهورًا عندهم هو ربا القرض1 وهو أن يكون للرجل على الرجل دين إلى أجل ثم إذا حلّ الأجل يقول صاحب الدين للمدين إما أن تدفع وإما أن أزيد عليك، قال بعض الحنفيّة هذا أوّل ما نـزل تحريمه من الربا. وينقسم ذلك العقد إلى ثلاثة أنواع أحدها ربا الفضل وهو بيع أحد العوضين الربويين وهما متفقا الجنس بالآخر زائدًا عليه كبيع دينار بدينارين أو درهم بدرهمين أو صاع قمح بصاعي قمح. والثاني ربا اليد وهو بيع أحد العوضين الربويين بالآخر مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما بأن يفترق المتبايعان قبل القبض بشرط اتفاق العوضين في علّة الربا بأن يكون كل منهما مطعومًا أي مقصودًا للأكل غالبًا تقوّتًا2 أو تأدُّمًا3 أو تفكُّهًا4 أو تداويًا5 أو غيرَها وذلك كالبُرِّ بالشعير والملح بالزعفران والتمر بالزبيب والتفاح بالتّين، أو أن يكونَ كل منهما نقدًا وإن اختلف الجنس كالذهب بالفضّة والعكس.
والثالث ربا النَّساء بفتح النون أي التأجيل وهو البيع للمطعومين أو للنقدين المتّفقي الجنس أو المُخْتلفَيْهِ أحدِهما بالآخر لأجَلٍ ولو كان الأجل قصيرًا جدًّا كلحظة أو دقيقة أي أن يُشْرَطَ ذلك لفظًا بأن يقول أحدهما بعتك هذا الدينارَ بهذا الدينارِ أو هذا الدينارَ بهذه الدراهمِ أو هذا القمحَ بهذا القمحِ أو هذا القمح بهذا الشعير ويزيدَ في كلٍّ من ذلك شرط الأجل كأن يقول على أن تسلمنيه غدًا أو في ساعة كذا أو لساعة كذا أو في الدقيقة السادسة من الآن أو نحو ذلك فهذا ربا محرم. ولا يحصل الأجل بدون الذِّكر. وإنما كان الرِّبا خاصًّا بالنقد دون الفلوس مثلاً من بين الأثمان لأن النقد هو المذكور في حديث الرِّبا الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب ربا إِلا مثلاً بمثل والفضّة بالفضّة ربا إلا مثلاً بمثل»6 ولأن النقد أي الذهب والفضة مَرْجِعُ الأثمان.
وأما ربا القرضِ فهو كل قرض شُرط فيه جرّ منفعة للمقرض سواء كان الشرط جر منفعة له وحده أو له وللمقترض سواء كانت المنفعة زيادةً أو غيرَ زيادةٍ الذي هو بالزيادة هو الربا الذي بالبنوك ونحوها مما يشترط فيه الزيادة.
أمّا الربا الذي بغير الزيادة في قدر الدين فهو مثل ما يفعله بعض الناس من أنّ أحدهم يقرض شخصًا مالاً إلى أجل ويشترط عليه أن يسكنه بيته مجانًا أو بأجرة مخفّفة إلى أن يؤدِّيَ الدين ويسمونه في بعض البلاد استرهانًا وقد مرَّ ذكره وهو حرام بالإجماع اتّفق على تحريمه المجتهدون الأئمة الأربعة وغيرهم.
ومن الربا ما يفعله بعض الناس من أنّهم يبيعون الشىء بأقساط مؤجلة إلى ءاجالٍ معلومة مع شرط أنّه إن أخّر شيئًا من هذه الأقساط يضاف عليه كذا من الزيادة، ولولا هذا الشرط لكان بيعًا جائزًا مهما حصل من الربح بسبب التقسيط مما هو زائد على ثمن النقد فأصل بيع التقسيط جائز إذا افترقا على البيان أي بيان أنّه يريد بيع النسيئة لا النقد أو النقد لا النسيئة، وأما إذا تفرّقا قبل البيان ثم أَخَذَ الشىءَ فهو حرام وذلك كأن يقول البائع للمشتري بعتكه بكذا نقدًا أو بكذا نسيئةً فيقول المشتري قبلت من غير أن يبيِّن أنه اختار النقد أو النسيئة فيأخذ المبيع من غير بيان وهو المراد بما ورد النهي عنه من بَيعتين في بَيْعة7.
————-

1-وهو حرام أيضًا كما تقدم. 2- كالبر.
3- كالتمر. وفي اللسان والإدام معروف ما يؤتَدَمُ به مع الخبز اﻫ
4- كالتين
5- كالملح والزعفران.
6- في صحيح البخاري باب بيع الشعير بالشعير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء».
7- قال الخطابي في معالم السنن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» قال الشيخ رحمه الله لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحح البيع بأوكس الثمنين إلا شىء يحكى عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل وإنما المشهور من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيعتين في بيعة. حدثنا الأصم قال حدثنا الربيع قال حدثنا الشافعي قال حدثنا الداوردي عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود فيشبه أن يكون ذلك في مكرمة في شىء بعينه كأن أسلفه دينارًا في قفيزين إلى شهر فلما حلّ الأجل وطالبه بالبر قال له بعني القفيز الذي لك عليّ بقفيزين إلى شهر فهذا بيع ثانٍ قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل فإن تبايعا المبيع الثاني قبل أن يتناقضا الأول كانا مُرْبِيَيْن أي وقعا في الربا. وتفسير ما نهي عنه من بيعتين في بيعة على وجهين أحدهما أن يقول بعتك هذا الثوب نقدًا بعشرة ونسيئة بخمسة عشر فهذا لا يجوز لأنه لا يُدرى أيهما الثمن الذي يختاره منهما فيقع به العقد وإذا جهل الثمن بطل البيع والوجه الآخر أن يقول بعتك هذا العبد بعشرين دينارًا على أن تبيعني جاريتك بعشرة دنانير فهذا أيضًا فاسد لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارًا وشرط عليه أن يبيعه جاريته بعشرة دنانير وذلك لا يلزمه وإذا لم يلزمه سقط بعض الثمن وإذا سقط بعضه صار الباقي مجهولاً اﻫ

فصل معقود لبيان بعض المعاملات المحرمة

قال المؤلف رحمه الله (فصل)
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان بعض المعاملات المحرمة.
قال المؤلف رحمه الله (ويحرمُ بيعُ ما لم يقبِضْهُ)
الشرح من البيوع المحرَّمة بيع المبيع قبل قبضه، وهذا الحكم عند الإِمام الشافعي رضي الله عنه عام شامل لجميع أنواع البيع سواءٌ كان المبيع مطعومًا أم غيره. ويحصل القبض بالتخلية أي التمكين في العَقار كالأرض فإن كان بيتًا اشترط تفريغه من أمتعة غير المشتري وتمكينه من التصرف بتسليمه المفتاح، ويحصل القبض فيما ينقل بالنقل إلى مكان لا يخـتص بالبائع، وبالمناولة فيما يُتناول باليد كالثوب.
قال المؤلف رحمه الله (واللحمِ بالحيوانِ)
الشرح يحرم بيع اللحم بالحيوان من مأكول وغيره سواء كان اللحم مأخوذًا من جنس هذا الحيوان أو غيره لحديث «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان»1 وهي مسئلة خلافية بين الأئمة2.
فائدة لا يجوز بيع الحيوان وزنًا أي لا يجوز بيعه على أن يكون ثمن الرطل كذا ولا يأباه قواعد مذهبنا معشر الشافعيّة لأنه إذا بيع حيوان بشرط الوزن كما هو معروف اليوم يدخل القذر الذي في جوفه في المقابلة بالثمن فينصرف قسم من الثمن إلى القذر والقسم الآخر إلى ما سواه كاللحم والعظم والقذرُ لا يقابل بمالٍ، والخلاص من ذلك أن لا يُعتبر الوزن شرطًا وإن ذُكر لتخمين السِّعر فإنّه لو قال البائع هذا وزنه كذا ليساعد المشتريَ على تخمين السعر من غير أن يقول بعتك كلَّ رطل بكذا ثم قال بعتكه بكذا فقال المشتري اشتريته بما ذكرت صحَّ البيع3.
قال المؤلف رحمه الله (والدَّينِ بالدَّينِ)
الشرح يحرمُ بيع الدَّين بالدَّين وله صُوَرٌ متعدّدةٌ كأن يكون أسلم إلى رجل دينارًا في قمح مؤجّل إلى أجلٍ معيّن ثم يبيع ذلك القمح من شخص ءاخر بدينار مؤجّل وذلك لحديث «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ» رواه الحاكم4 والبيهقي5 وغيرهما. فيحرم ما يفعله بعض الناس من أن الشخص يكون له في ذمّة شخص ثمنُ مبيعٍ مقسطٌ إلى ءاجال ثم يأتي إلى موظف بَنْكٍ أو شخص ءاخر قبل حلول الدين فيقول له لي كذا وكذا في ذمّة فلان فأبيعُكَهُ بمبلغ كذا فهذا حرام لأنه من بيع الكالئ بالكالئ وهو مما اتُّفِقَ على تحريمه.
قال المؤلف رحمه الله (وبيع الفضوليِّ أي بيع ما ليسَ له عليهِ ملكٌ ولا وِلايةٌ)
الشرح الفضوليّ هو الشخص الذي يبيع ما ليس ملكًا له ولا له عليه ولايةٌ بطريقٍ من الطُّرق الشرعيّة فلا يجوز بيعه هذا، وأمّا من كان له ولاية على مالِ غيرِهِ بأن يكون وليَّ يتيمٍ أو وكيلاً عن المالك فبيعه صحيح ويشترط أن يراعي مصلحة مَوْلِيِّه أو موكله.
قال المؤلف رحمه الله (وما لمْ يرَهُ ويجوزُ على قولٍ للشافعيّ معَ الوصفِ)
الشرح يحرم بيع عينٍ غير مشاهدة للمتعاقدين أو أحدهما وهذا مشهورُ مذهبِ الشافعي، وجمهور الأئمة يجوّزونه على أن يكون له الخِيار إذا رءاه، وللشافعي قول بصحّته إذا وصفه وصفًا يخرج به من الجهالة المطلقة6.
قال المؤلف رحمه الله (ولا يصحُّ بيعُ غيرِ المكلّفِ وعليهِ أي لا يصحُّ بيعُ المجنونِ والصبيِّ ويجوزُ بيعُ الصبيِّ الممِّيزِ في مذهبِ الإمامِ أحمدَ)
الشرح لا يصح بيع المجنون والصبي مالَهُ من غيره ولا يجوز للمكلّف أن يبيعه ماله، وأجاز بعض الأئمة بيعَ الصبي المميز بإذن وليه وذلك مذهب أحمد7 وءاخرين. ويدخل في حكم ما مرّ من عدم صحّة بيع غير المكلّف عدمُ صحّة بيع المكرَهِ وكذلك شراؤه، والمكره هنا هو من هُدِّد بنحو القتل أو قطع الأطراف أو الضرب الشديد أو نحو ذلك فلا يصح بيعه لأنه غير مكلّف بالنسبة لما أكره عليه كما يفهم من حديث «إِنَّ الله تجاوز لي عن أمّتي الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهُوا عليه» رواه الترمذي8، فإذا حرم إكراهه على بيعه حرم شراؤه منه مع العلم بأنه مكره إلا أن يكون أُكره بحقٍّ شرعي.
قال المؤلف رحمه الله (أَوْ لا قُدرةَ على تسليمِهِ)
الشرح من البيع المحرّم أن يبيع ما لا قدرة له على تسليمه، يستثنى ما لو كان المشتري قادرًا على تسلّمه فيجوز ويصحُّ البيع، فلا يصح بيع ضالٍّ ومغصوبٍ ونادٍّ9 لمن لا يقدر على ردّه بخلافه لقادر على ذلك بلا كثير مؤنة أو كلفة10 فيجوز.
قال المؤلف رحمه الله (وما لا منفعةَ فيهِ)
الشرح لا يجوز شراء ما لا منفعة فيه حسًّا كالخبز المحترق الذي لا يقصد للأكل أو شرعًا مع وجودها حسًّا كآلات اللهو وصلبان الذهب والفضّة والصور التي هي لذوي الأرواح التي تكون بهيئة يعيش بها ذلك الحيوان وكذلك الحشرات وهي صغار دوابّ الأرض كالحيّة والعقرب والفأرة والخنفساء وإن ذكر لها أصحاب ذكر خواص الحيوانات خواصّ فلا يجوز بيعها ولا شراؤها بخلاف ما ينفع منها كالضبّ لأكله والعلق لامتصاصه الدم. وكذلك لا يجوز بيع السباع التي ليس لها نفع معتبر كالأسد والذئب والنَّمِر بخلاف ما ينفع منها كالضَّـبُع للأكل في مذهب الشافعي رضي الله عنه والفهد للصيد والفيل للقتال. ويشترط في الثمن مثل ذلك.
قال المؤلف رحمه الله (ولا يصحُّ عندَ بعضٍ بلا صيغةٍ ويكفي التراضي عندَ ءاخرينَ)
الشرح من شروط البيع على ما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه الصيغةُ أي اللفظُ من الجانبين، واختار بعض أصحابه صحته بالمعاطاة بدون صيغة وهي أن يدفع الثمن ويأخذ المبيع بلا لفظ وهو مذهب مالك فالبيع عنده ينعقد بكل ما يعدّه الناس بيعًا من غير اشتراط اللفظ وهو اختيار بعض أهل المذهب كما تقدم11.
قال المؤلف رحمه الله (وبيعُ ما لا يدخلُ تحتَ الملكِ كالحرِّ والأرضِ المواتِ)
الشرح يحرم بيع ما ليس مملوكًا كالإِنسان الحرّ أي غير الرقيق والأرضِ المواتِ أي التي لم تُعْمَر لأن الموات لا يملك إلا بالإِحياء أي بتهيئته للانتفاع إما للزراعة أو السكن أو نحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله (وبيعُ المجهولِ)
الشرح من شروط البيع أن يكون العوضان معلومين فيحرم ولا يصحّ بيع المجهول لأنه من الغَرَرِ المنهيِّ عنه كأن يقول له بعتك أحد هذين الثوبين من غير أن يبيِّن له فيأخذ أحدهما.
قال المؤلف رحمه الله (والنجسِ كالدمِ)
الشرح يحرم بيع النَّجَسِ على اختلاف أنواعه وذلك كالدم فإنّه متّفق على نجاسته وعلى تحريم أكله12 وقيل دم السمك طاهر13. والمراد بالنجس هنا نَجِسُ العين. وحكم المتنجس الذي لا يمكن تطهيره بالماء كالزيت المتنجس مثل حكم نجس العين.
قال المؤلف رحمه الله (وكلِّ مسكرٍ)
الشرح يحرم بيع المسكر أي ما يغيّر العقل مع نشوة وطرب ولو كان هذا المسكر من غير عصير العنب كالعسل الممزوج بالماء إذا غلى من المكث. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «اجتنب كلَّ شىء يَنِشُّ» رواه النسائيُّ14. والنشيش صوت غليان الشراب وهو الحد الفاصل بين النبيذ الحلال والنبيذ المحرم15 فنبيذ التمر والعسل والحنطة والشعير ونحو ذلك لا يحرم قبل أن يغلي ولا يسمى خمرًا إلا بعد أن يَغْلِيَ وليس المراد بالغليان الغليانَ بالوضع على النار بل الغليان الذي ينشأ في العصير من المكث مع تغطية إنائه، يحصل للغليان صوت ويرتفع الشراب عند الغليان إلى أعلى وعند ذلك يصير مسكرًا ثم ينـزل ويصفو فيستطيبه شَرَبَةُ الخمور ثم لا يزال محرمًا إلى أن يصير خلاً وذلك بتغيره إلى الحموضة ولو كانت حموضة خفيفة فيصير خلاًًّ طاهرًا حلالاً.
قال المؤلف رحمه الله (ومحرَّمٍ كالطُّنبورِ وهوَ ءالةُ لهوٍ تشبهُ العودَ)
الشرح من البيع المحرم بيع ءالات اللهو المحرمة كالطنبور وهو شىء يشبه العود16، وكذلك المزمار والكُوْبة وهو الطبل الضيِّق الوسط17. ويحرم أيضًا بيع النرد إلا أنه يصح بيعه إن صلح بيادِقَ للشِطْرنج18.
قال المؤلف رحمه الله (ويحرمُ بيعُ الشىءِ الحلالِ الطاهرِ على مَنْ تعلمُ أنَّهُ يريدُ أنْ يعصيَ به كالعنبِ لمنْ يريدُهُ للخمرِ والسِّلاحِ لمنْ يعتدي بهِ علَى النّاسِ)
الشرح يحرم بيع الحلال الطاهر لمن يُعْلَمُ أنَّه يريده للمعصية كبيع العنب ممن يعلم أنَّه يعصره خمرًا، والخشبِ ونحوِهِ ممن يتخذه ءالةَ لهو محرم أو صنمًا، وبيعِ السلاح لمن يستعين به على قتال محرّم في شرع الله، وبيع الحشيشةِ ونحوها من المخدرات ممن يعلم أنّه يستعملها للمعصية. والحشيشة لا تُعدّ من المسكرات وإنما تحرم لأنها من الأشياء المخدّرة الضارّة. ومن هذا القبيل بيع الديك لمن يُهارِشُ به والثورِ لمن يُناطِحُ به.
قال المؤلف رحمه الله (وبيعُ الأشياءِ المسكرة)
الشرح يدخل تحت عموم هذه الجملة الإسبيرتو ولو لغير الشرب، ومن احتاج إليه فليحصِّله بغير طريقة البيع والشراء كأن يقول بعني هذه القنينة بكذا إلا الإسبيرتو الذي فيها فإني أستعمله مجّانًا. الإسبيرتو مسكر بل هو رُوْحُ الخمر أي قوّته فلا يجوز أن يُسترسل في شرائه لأنه كسائر المسكرات حكمًا، فالحديث الوارد في تحريم بيع الخمر وهو ما رواه البخاريّ ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنّه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الله ورسولَهُ حرّم بيع الخمرِ والميتة ولحم الخنـزير والأصنام» قيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس قال «لا هو حرام»19 شاهدٌ لتحريم بيع الإسبيرتو الذي هو مسكر لمن يقصده للسكر أو لغير ذلك كالوَقود والتداوي لظاهر الجسم لأنه عليه الصلاة والسلام حرّم بيع الميتة بقصد جملتها أو بقصد شحمها لغير الأكل كطلي السفن بها ودهن الجلود والاستصباح بها أي اتخاذها سراجًا يستضاء بِهِ.
قال المؤلف رحمه الله (وبيعُ المعيبِ بلا إظهارٍ لعيبِهِ)
الشرح يحرم بيع المعيب مع كتمان عيبه أي ترك بيانه. وقد روى مسلم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يبيع الطعام فأدخل يده فيه فمسّت يدُهُ بللاً فقال «يا صاحب الطعام ما هذا» فقال أصابته السماءُ أي المطرُ فقال «هلاّ جعلتَهُ ظاهرًا حتى يراه الناس من غشَّنا فليس منّا»20. والمراد بالطعام في الحديث القمح.
قال المؤلف رحمه الله (فائدة. لا تصحُّ قسمةُ تركةِ ميتٍ ولا بيعُ شىءٍ منها ما لم توفَ ديونُهُ ووصاياهُ وتخرجْ أجرة حجّة وعمرة إِنْ كانا عليهِ إِلا أَنْ يُباعَ شىءٌ لقضاءِ هذِه الأشياءِ فالتركةُ كمرهونٍ بذلك)
الشرح لا تصح قسمة التركة التي خَلَّفَها الميتُ من كل حقّ مالي ما لم تؤدَّ ديون الميت من دَينٍ للناس أو من دَيْنٍ لله كالزكاة الواجبة في عين المال وما لم تنفذ الوصايا أي ما أوصى به بأن يصرف بعد موته، وما لم تخرج أجرة الحج والعمرة المستقرين في ذمّته كأن مات وقد كان وجب عليه أداؤهما وتسلَّم لمن يؤدي النسك عنه21، فلا يجوز تصرّف الورثة في شىء من التركة حتى يُخرج ذلك قَبْلاً كما أن المرهون لا يجوز التصرف فيه بما يزيل الملك قبل قضاء الدين الذي رُهِنَ به إِلا أن يكون ما بيع لقضاء شىء من هذه الأشياء.
قال المؤلف رحمه الله (كرقيقٍ جَنَى ولوْ بأخذِ دَانق لا يصحُّ بيعُهُ حتى يُؤَدَّى ما برقبتِهِ أو يأذنَ الغريمُ في بيعِهِ.)
الشرح العبد إذا تعلّقت برقبته غرامة كأن سرق دانقًا فأتلفه لا يجوز لسيّده بيعه حتى يؤدي ما برقبته لأن حق الغريم متعلّق بالرقبة فهي مشغولة تمنع صحّة بيع السيد لها أو حتى يأذن الغريم وهو ذو المال لسيد العبد في بيعه فيصح حيَنِئذٍ22. والدانق سدس الدرهم.
قال المؤلف رحمه الله (ويحرم أن يفتر رغبة المشتري أو البائع بعد استقرار الثمن ليبيع عليه أو ليشتريه منه)
الشرح يحرم على المسلم المكلّف أن يفتِّر رغبة المشتري من غيره كأن يُخرج له أرخص مما يريد شراءه أو يبيع بحضرته مثل المبيع بأرخص أو يعرض عليه ليشتريَهُ كما يحرم تفتير رغبة البائع كأن يُرَغِّبَهُ باستردادِه ليشتريَهُ منه بأغلى أو يطلبَهُ من المشتري بزيادة ربح بحضرة البائع. وحرمة ذلك تكون إن حصل التفتير بعد استقرار الثمن بأن يكونا قد صرّحا بالرضا به وإن فحُش نقص القيمة عن الثمن23.
قال المؤلف رحمه الله (وبعدَ العقدِ في مدةِ الخِيارِ أشدُّ)
الشرح أن ما ذكر من التفتير إن وقع بعد إجراء العقد وقبل لزومه أي في مدة الخِيار أي خِيار المجلس أو خِيار الشرط فهو أشدّ منه قبل العقد وبعد الاتفاق لأن الإِيذاء هنا أكثر.
قال المؤلف رحمه الله (وأنْ يشتريَ الطعامَ وقتَ الغلاءِ والحاجةِ ليحبسَهُ ويبيعَهُ بأغلى)
الشرح يحرم أن يشتري الإنسان الطعام أي القوت حتى التمر والزبيب ونحوهما وقت الغلاء والحاجة إليه لِيَحْبِسَهُ ويبيعَهُ بأغلى من ثمن المثل عند اشتداد حاجة أهل مَحَلِّهِ أو غيرهم إليه، وهذا يسمّى الاحتكارَ وهذا تفسيره في المذهب، فخرج بذلك احتكارُ طعامٍ غير قوت، واحتكارُ قوتٍ لم يشتره كغَلَّة ضيعته أو اشتراه وقت الرُّخْصِ أو الغلاءِ لنفسه وعيالِهِ أو ليبيعَهُ لا بأكثرَ. ونقل السبكي عن القاضي حسين24 أنَّه في وقت الضرورة يحرم احتكار ما بالناس ضرورةٌ إليه وهو في غُنْيةٍ عنه.
قال المؤلف رحمه الله (وأن يزيدَ في ثمنِ سلعةٍ ليغرَّ غيرَهُ)
الشرح هذا يسمّى النَّجْشَ وقد ثبت النهي عنه في الصحيح وذلك ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم «ولا تناجشوا»25 فيحرم النَّجش ولو كانت الزيادة في مالِ محجورٍ عليه لترويجه له. ويلتحق بالنجش مدحُ السلعة ليرغِّبَ غيرَهُ فيها بكذب.
قال المؤلف رحمه الله (وأنْ يفرِّقَ بينَ الجاريةِ وولدِهَا قبلَ التَّمْيِيزِ)
الشرح يحرم التفريق بالبيع بين الأمة وولدها قبل أن يميّز الولد ولو رضيت بذلك، وكذلك لو كان ولدها مجنونًا بالغًا فيحرم التفريق بينهما قبل إفاقته.
قال المؤلف رحمه الله (وأنْ يغُشَّ أو يخونَ في الكَيْلِ والوزنِ والذرعِ والعدِّ أو يكذبَ)
الشرح مما يحرم من البيع الغَشُّ فيه أو الخيانةُ في الكيل أو الوزن أو الذرع أو العدّ أو الكذبُ بالقول في شىء من ذلك. قال الله تعالى ﴿وَيْلٌ للمُطَفِّفِيْنَ * الذين إذا اكْتالُوا على الناسِ يَسْتَوْفُوْنَ * وإذا كالُوْهُمْ أو وَزَنُوْهُمْ يُخْسِرُوْنَ * ألا يَظُنُّ أولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوْثُوْنَ * لِيَوْمٍ عَظِيْمٍ * يومَ يَقُوْمُ النّاسُ لربِّ العالمين﴾26 أي للحساب.
قال المؤلف رحمه الله (وأَنْ يَبِيعَ القُطْنَ أَوْ غيرَهُ مِنَ البضائِعِ ويقرضَ المشتريَ فوقَهُ دراهمَ ويزيدَ في ثَمَنِ تلكَ البضاعةِ لأجلِ القرضِ، وأن يقرضَ الحائكَ أو غيرَهُ منَ الأُجَراءِ وَيَسْتَخْدِمَهُ بأقلَّ مِنْ أجرة المثلِ لأجلِ ذلك القرضِ أي إِنْ شرطَ ذلكَ ويسمُّونَ ذلكَ الرَّبطةَ أو يقرضَ الحَرَّاثينَ إلى وقتِ الحَصادِ ويشترطَ أن يَبيعوا عليْهِ طعامَهُمْ بأوضعَ مِن السعرِ قليلاً ويسمُّونَ ذلك المقضيَّ)
الشرح أن هذه المذكورات حرامٌ بشرط أن يسبق اتفاق على ذلك وذلك من جملة ربا القرض. وأمّا لو أقرض في هذه المسائل فأجرى العقد بدون هذا الاتفاق لم يحرم.
قال المؤلف رحمه الله (وَكَذَا جملةٌ مِنْ معاملاتِ أهلِ هذا الزمانِ وأكثرُهَا خارجةٌ عَنْ قانونِ الشَّرْعِ)
الشرح كلُّ ما كان في معنى المذكورات فهو حرام لأنه لا يخلو من محظورات الشّرع. ومن جملة هذه المعاملات الفاسدة أنواعُ التأمينات التي تعارفوها في هذا الزمن كتأمين السيارة أو تأمين البضائع المُسْتَجْلَبة وما يسمّونه التأمين على الحياة فيجب على من وقع في ذلك أن يخرج منه بالتوبة، إلا أنَّه يَحِلُّ لمن لا يُمَكَّنُ من شراء السيارة إلا بطريق التأمين أن يدخل في ذلك ثمّ لا يأخذ بعد ذلك ممن أَمَّنَ منهم إلا قدرَ ما دَفَعَ.
قال المؤلف رحمه الله (فعلى مريدِ رِضا الله سبحانَهُ وسلامةِ دينِهِ ودنياهُ أنْ يَتَعَلَّمَ ما يحِلُّ وما يحرمُ مِنْ عالم ورعٍ ناصحٍ شفيقٍ على دينِهِ فإِنَّ طلبَ الحلالِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ.)
الشرح يجب تعلّم علم الدِّين الذي يعرف به الحلال والحرام تلقّيًا من أهل المعرفة والثقة فلا يجوز استفتاء من ليس له كفاءة في علم الدين ولا استفتاءُ العالِمِ الفاسق. قال الإِمام المجتهد التابعي الجليل محمد بن سيرين رضي الله عنه «إنّ هذا العلمَ دينٌ فانظروا عمّن تأخذون دينَكم» رواه مسلم في مقدمة صحيحه27.
ومعنى قوله إِنَّ طلب الحلال فريضة على كل مسلم أنّه لا يجوز تناول رزقٍ من طريقٍ حرامٍ بل على من أراد تحصيل المال لحاجة نفسه أو حاجةِ عِيالِهِ28 أن يسعى للتحصيل بطريق مباح شرعًا، وليس معنى ذلك أنّه يحرم على الشخص أن يمكث من دون تعاطي عملٍ بل لو ترك الشخص العملَ وهو قادرٌ عليه غيرَ معتمِدٍ على السؤال من شخص معيّن أو على الشحاذة بل كان غير متعرّض لذلك واثقًا بربّه أنه يَسُوْقُ إليه رزقَهُ فلا إثم عليه. وقد روى الترمذيّ بإسناد صحيح أن رجلاً شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاه لأنه لا يحترف معه فقال له «لعلك تُرْزَقُ به»29. الشاهدُ في الحديث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الأخ ترك الاحتراف مع أخيه30.
————-

1- رواه الحاكم في المستدرك في كتاب البيوع.
2- قال السرخسي من الحنفية في المبسوط فإن باع لحم شاة بالبقر والإبل جاز عندنا، وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله لا يجوز بيع اللحم بالحيوان أصلا لحديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان اﻫ ثم قال والمراد بالنهي عن بيع اللحم بالحيوان إذا كان أحدهما نسيئة فقد ذُكر ذلك في بعض الروايات وبه نقول اﻫ
3- قال في تحفة المحتاج والنهاية والمغني ولا يصح بيع الأكارع والرءوس قبل الإبانة ولا المذبوح أو جلده أو لحمه قبل السلخ أو السمط لجهالته وكذا مسلوخ لم يُنَقَّ جوفه كما قاله الأذرعي وبيع وزنًا فإن بيع جزافًا صح بخلاف السمك والجراد فيصح مطلقًا لقلة ما في جوفه اﻫ
4- روى الحاكم في المستدرك في كتاب البيوع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه اﻫ
5- سنن الدارقطني، كتاب البيوع، وسنن البيهقي، باب ما لا ربا فيه وكل ما عدا الذهب والورق والمطعوم.
6- قال السيوطي في شرح التنبيه ممزوجًا بالمتن وفي بيع الأعيان التي لم يرها المشتري قولان أصحهما أنه لا يجوز والثاني أنه يجوز إذا وصفها بذكر الجنس والنوع كأن قال بعتك عبدي التركي وفرسي العربي ويثبت للمشتري الخيار إذا رءاها وإن وجده كما وصف لأن الخبر ليس كالمعاينة وفيه حديث من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رءاه رواه الدارقطني والبيهقي وضعفاه اﻫ
7- قال في المغني من كتب الحنابلة (فصل) ويصح تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي فيه في إحدى الروايتين وهو قول أبي حنيفة اﻫ
8- سنن ابن ماجه، باب طلاق المكره والناسي.
9- أي هارب.
10- قال في شرح الروض قال في المطلب إلا إذا كان فيه كلفة فينبغي أن يكون كبيع السمك في البركة أي ويشق تحصيله منها قال وهذا عندي لا مدفع له اﻫ قال في حاشية الجمل وهذا الصنيع من الشارح يدل على أن المراد من المؤنة والكلفة واحد وهو المشقة الحاصلة بدفع الدراهم والمشقة الحاصلة على البدن وحينئذ يراد المشقة التي لا تحتمل عادة أخذًا من التشبيه وليس المراد بالمؤنة أو الكلفة خصوص دفع دراهم لها وقع فمتى احتاج في تحصيله إلى مؤنة لم يصح شراؤه لأن المؤنة تنافي القدرة اﻫ
11- قال في شرح الرملي على المنهاج واختار المصنف كجمع انعاقده بها في كل ما يعدّه الناس بيعًا وءاخرون في كل محقّر كرغيف. أما الاستجرار من بياع فباطل اتفاقًا أي من الشافعية أي حيث لم يقدّر الثمن كل مرة على أن الغزالي سامح فيه أي في الاستجرار أيضًا بناء على جواز المعاطاة اﻫ وقال النووي في المجموع إنه [أي الاستجرار]باطل بلا خلاف [أي عند الشافعية] لأنه ليس ببيع لفظي ولا معاطاة فليعلم ذلك وليحذر منه ولا يغتر بكثرة من يفعله اﻫ وقول الغزالي المشار إليه ءانفًا ذكره في الإحياء حيث قال وأخذ الحاجات من البياع يقع على ضربين أحدهما أن يقول أعطني بكذا لحمًا أو خبزًا مثلاً وهذا هو الغالب فيدفع إليه مطلوبه فيقبضه ويرضى به ثم بعد مدة يحاسبه ويؤدي ما اجتمع عليه فهذا مجزوم بصحته عند من يُجوّز المعاطاة فيما أراه والثاني أن يلتمس مطلوبه من غير تعرض لثمن كأعطني رطل خبز أو لحم مثلاً فهذا محتمل اﻫ قال الأذرعي وهذا [أي الثاني] ما رأى الغزالي إباحته ومنعها المصنف اﻫ أي النووي.
12- قال الحافظ أبو الحسن عليّ بن القطان المتوفى سنة ٦٢٨ﻫ في كتاب الإقناع نقلاً عن المراتب واتفقوا على أن الكثير من الدم أي دم كان حاشا دم السمك وما لا يسيل دمه نجس وقال نقلاً عن الاستذكار ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس ولا خلاف في أن قليله متجاوَز عنه بخلاف سائر النجاسات التي قليلها مثل كثيرها اﻫ
13- قال في المجموع وأما الوجهان في دم السمك فمشهوران ونقلهما الأصحاب أيضًا في دم الجراد ونقلهما الرافعي أيضًا في الدم المتحلب من الكبد والطحال والأصح في الجميع النجاسة وممن قال بنجاسة دم السمك مالك وأحمد وداود وقال أبو حنيفة طاهـر اﻫ
14- روى النسائي في كتاب الأشربة في سننه بالإسناد عن ابن عمر أن رجلاً سأل عن الأشربة فقال اجتنب كل شىء ينشُّ وفي رواية أخرى أن السائل هو زيد بن جبير.
15- قال في لسان العرب والنبيذ ما نُبِذَ من عصير ونحوه اﻫ ثم قال وإنما سمي نبيذاً لأن الذي يتخذه يأخذ تمرًا أو زبيبًا فينبذه في وعاء أو سقاء عليه الماء ويتركه حتى يفور فيصير مسكرًا والنبذ الطرح وهو ما لم يُسْكِرْ حلالٌ فإذا أسكر حَرُمَ وقد تكرر في الحديث ذكر النبيذ وهو ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك اﻫ
16- قال النووي في المجموع وأما الطنبور فبضم الطاء والباء والبربط بفتح البائين الموحدتين وهو العود والأوتار وهو فارسي اﻫ
17- في المصباح الطبل الصغير المُخَصَّر اﻫ قال النووي في روضة الطالبين ولا يحرم ضرب الطبول إلا الكوبة وهو طبل طويل متسع الطرفين ضيق الوسط اﻫ
18- قال في شرح الروض ولا يصح بيع النرد كالمزمار إلا أن صلح بيادق شطرنج فيصح مع الكراهة اﻫ وقال في مغني المحتاج ولا يصح بيع النرد إلا أن صلح بيادق للشطرنج فيصح مع الكراهة كبيع الشطرنـج اﻫ
19-رواه البخاري، باب بيع الميتة والأصنام ومسلم باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنـزير والأصنام.
20- في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال «ما هذا يا صاحب الطعام» قال أصابته السماء يا رسول الله قال «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس مني». ذكره في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منّا.
21-قال الشبراملسي في حاشية نهاية المحتاج فائدة قال ابن حجر وشمل كلامهم من مات وفي ذمته حج فيحجر على الوارث حتى يتم الحج عنه وبذلك أفتى بعضهم وأفتى بعضٌ ءاخر بأنه بالاستئجار وتسليم الأجرة للأجير ينفك الحجر وفيه نظر لبقاء التعلق بذمته بعد اﻫ قال الشبراملسي وظاهره اعتماد الأول ولو قيل باعتماد الثاني لم يكن بعيدًا اﻫ وفي حاشية البجيرمي فليس للوارث أن يتصرف في شىء منها حتى يتم الحج ولا يكفي الاستئجار ودفع الأجرة كذا قاله السنباطي اﻫ
22-قال في شرح الروض ولا يصح بيع مرهون بعد القبض بغير إذن مرتهنه للعجز عن تسليمه شرعًا وكذا جانٍ تعلق برقبته مال كسرقة درهم أي كأن سرق رقيقٌ درهمًا وتَلِفَ وكأن قتل أي الرقيقُ غيره خطأً أو شبهَ عمد أو عمدًا وعُفي على مال لا يصح بيعه بغير إذن المجني عليه لتعلق الحق به كالمرهون وأولى لأن الجناية تقدم على الرهن اﻫ
23-قال في نهاية المطلب في باب النهي عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ولو طلب الرجل سلعة مستامًا فرضي مالكها ثم إن المشتري فارقه لا عن عِدَّةٍ فقد قال أصحابنا للغير أن يستام في هذه الصورة لأن مفارقته دليل على أنه أعرض عن طلبه ولو استمر عليه لواعد صاحبه وأوصاه بألا يبيعه اﻫ
24- هو الإمام أبو علي الحسين بن محمد المروزي ويقال له أيضًا المرورذي بالذال المعجمة وتشديد الراء الثانية وتخفيفها، يذكر كثيرًا معرفًا بالقاضى حسين وكثيرًا مطلقًا القاضي فقط وهو من أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي كبير القدر مرتفع الشأن غواص على المعاني الدقيقة والفروع المستفادة الأنيقة وهو من أجلّ أصحاب القفال المروزي. له التعليق الكبير وما أجزل فوائده وأكثر فروعه المستفادة ولكن يقع فى نسخه اختلاف، وللقاضي الفتاوى المفيدة وهي مشهورة. وروى الحديث وتفقه عليه جماعات من الأئمة منهم صاحب التتمة والتهذيب وكتاباهما فى التحقيق مختصر وتهذيب لتعليقه. توفي بمرو الروذ في المحرم سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
انظر سير أعلام النبلاء وتهذيب الأسماء.
25- رواه البخاري، باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه حتى يأذن له أو يترك.
26- [سورة المطففين/ الآيات ٢و٣و٤و٥و٦و٧].
27- قال شيخنا رحمه الله إذا رأيت العالم متعلق القلب بالمال فلا تأمنه على دينك اﻫ
28- أي من يعولهم الشخص أي ينفق عليهم.
29- سنن الترمذي، باب في التوكل على الله عن أنس بن مالك قال كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف فشكى المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال «لعلك ترزق به» قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح اﻫ
30- قال النسفي في بحر الكلام وقال أهل السنة والجماعة إن كان له قوت فالكسب له سنة ومباح وإن لم يكن له قوت ولا درهم يشتري به القوت فالكسب له رخصة وإن كان مضطرًّا وله أهل وعيال فالكسب عليه فريضة اﻫ

فصل معقود لبيان أحكام النفقة

قال المؤلف رحمه الله (فصل)
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان أحكام النفقة.
قال المؤلف رحمه الله (يجبُ على الموسِرِ نفقةُ أصولِهِ المعسرينَ أي الآباءِ والأمهاتِ الفقراءِ وإنْ قَدَرُوا على الكَسبِ)
الشرح يجب على من استطاع أن ينفق على أصوله أي الأب والجد وإن علا والأمِّ والجدة وإن علت إن كانوا معسرين بالمعروف بلا تقدير بحدٍّ معيَّنٍ. وإن كان لا يملك أملاكًا تكفيهم وجب عليه أن يعمل ويكسِب في تحصيل نفقتهم ولا فرق بين أن يكونوا قادرين على الكسب أو عاجزين.
قال المؤلف رحمه الله (ونفقةُ فروعِهِ أي أولادِهِ وأولادِ أولادِهِ إذا أعسَرُوا وعَجَزُوا عنِ الكسبِ لصغرٍ أو زمانةٍ أي مرضٍ مانعٍ منَ الكسبِ.)
الشرح تجب نفقة الفروع من الذكور والإناث إن أعسروا عمّا يكفيهم وعجزوا عن الكسب1 لصغر أو زمانة وكذلك إن كان عجزهم عن كفاية أنفسهم لجنون أو عمى أو مرض ومن ثَمَّ لو أطاقَ صغيرٌ الكسبَ أو أطاق تعلمه وكان لائقًا به جاز للولي أن يَحْمِلَهُ عليه وينفقَ عليه منه ، فإِن امتنع أو هرب لزِمَ الوليَّ الإنفاقُ عليه، وأمّا البالغ غير العاجز عن الكسب لزمانة أو نحوها فلا يجب على الأصل الإنفاق عليه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه لا فرق فيه بين الفرع الذكر والأنثى2. والنفقة التي تجب في حق الأصول والفروع هي الكسوةُ والسُكْنى اللائقةُ بهم والقوتُ والإِدامُ اللائقُ بهم ، ولا يجب عليه إطعامهم إلى حد المبالغة في الشِّبع لكن أصل الإِشباع واجب3.
قال المؤلف رحمه الله (ويجبُ على الزوج نفقةُ الزوجةِ)
الشرح يجب على الزوج نفقة زوجته الممكِّنَةِ نفسها له ولو كانت أمةً مملوكةً أو كافرة وكذلك العاجزة عن التمكين لمرض.
وهذه النفقة هي في المذهب مُدّا طعامٍ لكل يوم على موسرٍ حرٍّ ومدٌّ على معسر ومدٌّ ونصفٌ على متوسط، وعليه طَحْنُهُ وعَجْنُهُ وخَبْزُهُ وأُدْمُ غالب البلد ويختلف بالفصول، ويقدِّر الأُدْمَ القاضي باجتهاده عند الاختلاف ويتفاوت بين موسر وغيره. ويجب لها كسوة تكفيها وءالة تنظيف
قال المؤلف رحمه الله (ومهرُها وعليهِ لها متعةٌ إن وقع الفراق بينهما بغيرِ سببٍ منها.)
الشرح أنَّه يجب على الزوج أداء مهر زوجتهفإن كان حالاًّ فمتى طلبت وإن كان مؤجلاً فعند حلول الأجل لا قبله. ويشترط في المهر أن يكون مما يصح جعله مبيعًا أو ما يصح أن يكون منفعة مقصودة كتعليم القرءان أو سورة منه فيصح جعل المهر تعليم أقصر سورة من القرءان أو تعليم حرفةٍ كخياطة. ويجب للزوجة التي وقع الفراق بينها وبين زوجها بغير سبب منها4 متعة على الزوج5 وليست مقدارًا معيّنًا ولكن يستحب أن تكون للمتوسط ثلاثين درهمًا وأن لا تبلغ نصف مهر المثل، ويجزئ ما يتراضيان عليه ولو أقلَّ مُتَمَوَّلٍ فإن تنازعا قدَّرها القاضي باجتهاده معتبرًا حالهما.
قال المؤلف رحمه الله (وعلى مالِكِ العبيدِ والبهائم نفقتُهُمْ وأَنْ لا يكلِّفَهُمْ منَ العملِ مَا لا يطيقونَهُ ولا يضربَهم بغيرِ حقٍّ
الشرح روى البخاريّ في الصحيح أنّه صلى الله عليه وسلم قال «إخوانُكُم خَوَلُكُم6 مَلَّكَكُمُ الله إيّاهم فمن كان أخوه تحت يده فليُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وليُلْبِسْهُ مما يلبَسُ ولا يُكَلِّفه من العمل ما يغلِبُهُ فإن كلفتموهم فأعينوهم»7 وروى مالك في الموطإ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «للمملوك طعامُهُ وكسوتُهُ بالمعروف»8 أي بلا إسراف ولا تقتير.
قال المؤلف رحمه الله (ويجبُ علَى الزوجةِ طاعتُهُ في نفسِهَا إِلا في مَا لا يحِلُّ وأنْ لا تصومَ النفلَ ولا تخرج منْ بيتِهِ إِلا بإِذْنِهِ .)
الشرح يجب على الزوجة طاعة الزوج فيما هو حقّ له عليها من الاستمتاع وما يتعلّق به إِلا فيما حرّمه الشرع من أمور الاستمتاع فلا يجب عليها أن تطيعه في الاستمتاع المحرم كأن كانت حائضًا أو نفساء وأراد أن يجامعها بل يحرم عليها، ولا يجب عليها أيضًا طاعته في الجماع إذا كانت لا تطيق الوطىء لمرضٍ. ويجب عليها أن تتزيّن له إن طلب منها ذلك وأن تترك ما يُعَكِّرُ عليه الاستمتاعَ من الروائح الكريهة كرائحة الثوم والبصل والسيجارة إن كان يتأذى بها9. ويجب عليها أن لا تصوم النفل وهو حاضر إلا بإذنه ، أمّا الواجب كرمضان فإنها تصومه رضي أو لَم يرضَ لأن الله أحقّ أن يُطاع وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» رواه الترمذيّ10.
ويجب عليها أن لا تأذن لأحد في دخول بيته إلا بإذنه، ولا يجوز لها أن تخرج من بيته من غير ضرورة إلا بإذنه، فأمّا الخروج لضرورة فهو جائز وذلك كأن أرادت أن تستفتي أهل العلم فيما لا تستغني عنه وكان الزوج لا يكفيها ذلك فإنها تخرج بدون رضاه، وهذا شاملٌ لمعرفة ما هو من أصول العقيدة وما هو من الأحكام كأمور الطهارة كمسائل الحيض فإن لها تشعبًا. ومن الضرورة أن تخشى اقتحامَ فَجَرةٍ في المنـزل الذي أسكنها فيه أو انهدامَهُ.
————-

1- قال في شرح المنهج وبما ذُكر أي من تقييد الفرع بالعجز والإطلاق في الأصل عُلم أنهما [أي الأصل والفرع] لو قدرا على كسب لائق بهما وجبت لأصلٍ لا فرعٍ لعِظَم حرمة الأصل اﻫ
2- في المجموع من له مال يكفيه لنفقته أو هو مكتسب لا تجب نفقته على القريب سواء كان مجنونًا صغيرًا زمنًا أو بخلافه. ومن لا مال له ولا هو مكتسب ينظر إن كان به نقص في الحكم كالصغير والمجنون أو في الخلقة كالزمن والمريض والأعمى لزم القريب نفقته فإذا بلغ الصغير والمجنون حدًّا يمكن أن يعلم حرفة أو يحمل على الكسب فللولي أن يحمله عليه وينفق عليه من كسبه لكن لو هرب عن الحرفة أو ترك الاكتساب في بعض الأيام فعلى القريب نفقته وكذا لو كان لا تليق به الحرفة اﻫ
3- قال البجيرمي في حاشيته على فتح الوهاب قال الغزالي ولا يجب إشباعه أي المبالغة فيه أما أصل الشبع فواجب اﻫ
4- قال في إعانة الطالبين أي فراق حاصل بغير سببها أي وبغير سببهما وبغير سبب ملكه لها وذلك كطلاقه وإسلامه وردته ولعانه بخلاف ما إذا كان الفراق حصل بسببها كإسلامها وردتها وملكها له وفسخها بعيبه وفسخه بعيبها أو بسببهما كأن ارتدا معًا أو بسبب ملكه لها بأن اشتراها بعد أن تزوجها فلا متعة في ذلك كله قوله (وبغير موت أحدهما) معطوف على بغير سببها أي وفراق حاصل بغير موت أحد الزوجين أي أو موتهما معًا. وخرج به ما إذا كان الفراق بموت أحدهما أي أو موتهما فلا متعة فيه اﻫ
5-إلا أن وجب لها نصف المهر كأن طلقها قبل الدخول فلا متعة لها.
6- أي خدمكم وعبيدكم كذا في فتح الباري.
7- صحيح البخاري، باب المعاصي من الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك.
8- موطأ مالك، باب الأمر بالرفق بالمملوك أي خدمكم وعبيدكم كذا في فتح الباري.
صحيح البخاري، باب المعاصي من الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك.
موطأ مالك، باب الأمر بالرفق بالمملوك.
9- قال النووي في الروضة للزوج منعها من تعاطي الثوم وما له رائحة مؤذية على الأظهـر اﻫ
10-سنن الترمذي، باب ما جاء في طاعة الإمام.

فصل معقود لبيان الواجبات القلبية

قال المؤلف رحمه الله (فَصلٌ)
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان الواجبات القلبية.
قال المؤلف رحمه الله (منَ الواجِباتِ القَلبِيّةِ الإِيمانُ بالله وبما جَاءَ عنِ الله والإِيمانُ برسُولِ الله وبِمَا جَاءَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)
الشرح أن مِما يجبُ على المكلَّفِينَ مِنْ أعمالِ القُلوب الإِيمانَ بالله وهو أصلُ الواجباتِ أي الاعتقادَ الجازمَ بوجودهِ تَعالى على ما يليقُ به وهو إثباتُ وجودِه بلا كيفيّةٍ ولا كميّةٍ ولا مكانٍ. ووجوبُ هذا لِمَنْ بَلَغَتْهُ الدّعوةُ مِما اتُفِقَ علَيه بلا خلافٍ، ويَقرِنُ بذلكَ الإيمانَ بما جاءَ به سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم عن الله تَعالى منَ الإيمانِ بهِ أنه رسولُ الله والإِيمانِ بحقيَّة ما جاءَ به عن الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله (والإخلاصُ وهوَ العَملُ بالطّاعةِ لله وحْدَهُ)
الشرح أن مِنْ أعمالِ القلُوب الواجبةِ الإخلاصَ وهو إخلاصُ النية من أن يقصد بها عند العمل الصالح محمَدةَ الناسِ والنّظرَ إليه بعَينِ الاحتِرام والتّعظيم والإجلالِ
قالَ تعالى ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾1 ففي الآية نَهْيٌ عن الرياء لأنّه الشِركُ الأصْغر. وقد روى الحاكم في المستدرَك أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال « اتَّقوا الرِّياءَ فإنَّهُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ » صححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه.
قال المؤلف رحمه الله (والنَّدمُ علَى المعَاصِي)
الشرح منَ الواجباتِ القَلبِيّة التّوبةُ منَ المعَاصِي إن كانت كبيرةً وإن كانت صغيرةً وركنها الأكبر النّدم، ويجبُ أن يكونَ النّدمُ لأجلِ أنه عصَى ربَّه فإنه لو كانَ نَدَمُهُ لأجل الفضِيحَة بينَ الناسِ لم يكنْ ذلكَ تَوبةً.
قال المؤلف رحمه الله (والتّوكُّلُ علَى الله)
الشرح قال الله تعالى ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾2. التّوكلُ هو الاعتمادُ فيجبُ على العَبْد أن يكونَ اعتمادُه على الله لأنّه خالقُ كلّ شَىء منَ المنَافِع والمضَارّ وسائِر ما يَدخُل في الوجُودِ فلاَ ضَارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا الله ـ فإذا اعتقَد العبدُ ذلكَ ووَطَّنَ قلبَه علَيه كانَ اعتمادُه على الله في أمُورِ الرّزْقِ والسّلامةِ منَ المضَارّ فجملةُ التوكّل تفويضُ الأمر إلى الله تعالى والثّقةُ به مع ما قُدّرَ للعبد من التّسَبُّب أي مباشرة الأسباب.
قال المؤلف رحمه الله (والمُراقبةُ لله)
الشرح مِنْ واجباتِ القَلْب المُراقَبةُ لله. ومعنَى المُراقبةِ استِدامةُ خوفِ الله تعالى بالقلْب بِتَجَنُّبِ ما حرَّمه وتَجنُّبِ الغَفلةِ عن أداء ما أَوجَبه ولذلكَ يجبُ على المُكلّفِ أوّلَ ما يَدخلُ في التكليفِ أن ينوِيَ ويَعزِمَ أنْ يأتيَ بكلّ ما فَرضَ الله عليه مِنْ أداءِ الواجباتِ واجتنابِ المُحرّماتِ. قال الله تعالى ﴿فَلاَ تَخافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾3.
قال المؤلف رحمه الله (والرّضَا عنِ الله بمعنَى التّسليمِ لَهُ وتركِ الاعتراض)
الشرح يجبُ على المُكلَّفِ أن يَرضَى عن الله أي أن لا يعتَرِضَ على الله لا اعتقادًا ولا لفظًا لا باطنًا ولا ظاهِرًا في قضَائِه وقدَرِه فيَرضَى عن الله تبارك وتَعالى في تقدِيرهِ الخيرَ والشرَّ والحُلوَ والمُرَّ والرِضا والحُزْنَ والرّاحةَ والأَلَم معَ التّمييزِ في المَقدُور والمَقضِيّ فإنّ المقدورَ والمقضِيَّ إما أن يكونَ مما يحبه الله وإمّا أن يكونَ مما يكرهُه الله فالمقضِيُّ الذي هو محبوبٌ لله على العبدِ أن يحبه والمقضِيُّ الذي هو مكروهٌ لله تعالى كالمحرّماتِ فعلى العبدِ أن يكرهَه مِنْ غيرِ أن يكرَه تقديرَ الله وقضاءَه لذلكَ المقدورِ، فالمَعاصِي مِنْ جُملة مقدُوراتِ الله تعالى ومقضِيّاتهِ فيجبُ على العبدِ كراهِيَتُها مِنْ حيثُ إنّ الله تعالى يكرَهُها ونهَى عبادَه عنها، فليسَ بينَ الإِيمانِ بالقَضاء والقَدر وبينَ كراهِيَةِ بعضِ المَقدوراتِ والمقضيّاتِ تَنافٍ لأنّ الذي يجبُ الرِضا به هو القدَرُ الذي هو تقدِيرُ الله الذي هو صِفَتُه والقضاءُ الذي هو صِفَتُه وأمّا الذي يجبُ كراهيتُهُ فما كانَ منَ المَقدُورات والمقضِيّات مُحَرّمًا بحُكْم الشّرع.
قال المؤلف رحمه الله (وتعظيم شعائر الله)
الشرح يجب تَعظِيم شَعائرِ الله فيحرم الإخلال بذلك والاستِهانَةُ بها ومن شعائر الله المساجد، وتبخيرها من تعظيمها. قال أبو يعلى في مسنده حدثنا عبيد الله حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كان يجـمّر مسجد رسول الله صلى الله عليـه وسلـم كلَّ جمعة اﻫ4
قال المؤلف رحمه الله (والشكرُ علَى نِعَمِ الله بمعنَى عَدَمِ استِعمالِهَا في مَعصِيةٍ)
الشرح الشُكْر قِسْمانِ شُكرٌ واجِبٌ وشُكرٌ مَندُوبٌ، فالشكرُ الواجبُ هو ما علَى العبدِ من العملِ الذي يَدُلّ على تَعظيمِ المُنعم الذي أَنعمَ عليه وعلى غيره وذلك بتَرك العِصْيان لله تباركَ وتَعالى في ذلكَ هذا هو الشكرُ المَفرُوض على العَبدِ، فمَنْ حفِظَ قلبَه وجَوارحَه وما أَنعمَ الله به علَيه من استِعمال شَىءٍ منْ ذلكَ في مَعصِيةِ الله فهوَ العَبدُ الشّاكرُ، ثم إذا تَمكَّن في ذلك سُمّيَ عَبدًا شكُورًا5، قالَ الله تعالى ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِي الشَّكُورُ﴾6 فالشكورُ أقلُ وجُودًا منَ الشّاكِر الذي هو دُونَه.
والشُكرُ المَندُوبُ هو الثّناءُ على الله تعالى الدالُّ علَى أنَّه هو المتَفضّلُ على العبادِ بالنّعم التي أنْعَم بها علَيهم مِما لا يَدخُل تحتَ إحصَائِنا. ويُطلَقُ الشّكرُ شَرعًا أيضًا على القِيام بالمُكافأَةِ لِمَنْ أسْدَى مَعرُوفًا مِنَ العِبادِ بَعضِهم لِبَعْضٍ.
قال المؤلف رحمه الله (والصَّبْرُ علَى أَدَاءِ ما أَوجَبَ الله والصَّبرُ عَمَّا حَرّمَ الله تعالى وَعَلَى مَا ابْتَلاكَ الله بِهِ)
الشرح الصّبرُ هو حَبْسُ النّفْسِ وقَهرُها على مَكرُوه تَتحمَّلُه أو لَذِيذٍ تُفارِقُه، فالصّبرُ الواجبُ على المُكلَّفِ هو الصبر على أداءِ ما أوجَب الله منَ الطّاعاتِ والصبرُ عمّا حرم الله أي كفُّ النّفسِ عمَّا حرَّم الله والصّبرُ على تَحمُّلِ ما ابتَلاهُ الله به بمعنَى عدمِ الاعتراضِ على الله أو الدّخُولِ فيما حرَّمه بسَبب المصِيبةِ فإِنَّ كثِيرًا من الخلقِ يقعون في المعاصِي بتركِهمُ الصّبْرَ على المصائِب وهم في ذلك على مَراتبَ مختلِفَةٍ فمِنهم من يقع في الرِدّة عند المصِيبةِ، ومنهُم من يقع فيما دون ذلك من المعاصي كمحاولةِ جلبِ المالِ بطريقٍ مُحرَّم باكتِسابِ المكاسِب المُحرَّمةِ ومُحاولةِ الوصولِ إلى المالِ بالكذب ونحوِه كما يَحصُل لكثير من الناس بسبب الفقر.
قال المؤلف رحمه الله (وبُغْضُ الشّيطانِ)
الشرح يَجبُ على المكلَّفِينَ بُغضُ الشّيطان أي كَراهِيَتُه لأنّ الله تعالى حَذَّرنا في كِتابهِ منه تَحذيرًا بالغًا قال الله تعالى ﴿فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ 7والشّيطانُ هو الكافرُ منْ كفّارِ الجنّ، ويُطلَقُ الشّيطانُ ويُرادُ به إبليسُ الذي هوَ جَدُّهُمُ الأَعْلَى.
قال المؤلف رحمه الله (وبُغْضُ المَعاصِي)
الشرح يجبُ كراهيَةُ المعَاصِي مِنْ حيثُ إنَّ الله تَباركَ وتَعالى حرَّمَ على المكلّفِين اقتِرافَها فيجبُ كراهِية المَعاصِي وإنكارُها بالقَلب مِن نَفسِه أو مِن غَيرِه.
قال المؤلف رحمه الله (ومَحبةُ الله ومَحبّةُ كَلامِهِ ورَسُولِهِ والصّحَابةِ والآلِ والصَّالحينَ.)
الشرح يجبُ على المُكلَّفِ مَحبَّةُ الله تعالى بتعظيمه على ما يليق به ومَحبَّةُ كلامِه بالإيمان به ومَحبَّةُ رَسُولِه محمّدٍ صلى الله عليه وسلَّم بتعظيمه كما يجب ومحبة سائر إخوانِه الأنبياءِ كذلك،
وكمال هذه المحبة يكون بالانقياد لشرع الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه قال الله تعالى ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾8.
وأَمَّا معنى محبةِ الصّحابة فهو تعظيمُهم لأنَّهم أنصارُ دينِ الله ولا سيَّما السّابقون الأوَّلون مِنهُم مِنَ المهاجرينَ والأنصار. والمعنى أنه يجب محبّتُهم من حيثُ الإجمال وليسَ المعنى أنه يجب محبّةُ كلّ فرد منهم.
وأمّا الآلُ فإنْ أُريدَ به مُطلَقُ أتباعِ النّبيّ الأتقياءِ فتَجِبُ مَحبَّتُهم لأنهم أحباب الله تبارك وتعالى لما لهم من القُرب إليه بطاعته الكاملة وإن أريد به أزواجه وأقرباؤه المؤمنون فوجوبُ مَحَبَّتِهِمْ لما خُصوا به من الفضل9 قال الله تعالى ﴿إنما يريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عنكمُ الرِّجْسَ أهلَ البيتِ ويُطَهِّرَكُمْ تطهيرًا﴾10
ويجب محبة عموم الصالحين من عباد الله.
————-

1- [سورة الكهف/ الآية۱۱۰]. وفي تفسير الطبري ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ يقول فمن يخاف ربَّهُ يومَ لقائه ويراقبه على معاصيه ويرجو ثوابه على طاعته ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا﴾ يقول فليخلص له العبادة وليفرد له الربوبية. ثم قال وقوله ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ يقول ولا يجعل له شريكًا في عبادته إياه وإنما يكون جاعلاً له شريكًا بعبادته إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه لله وهو مريد به غيره اﻫ
2- [سورة المجادلة/ الآية 10].
3- [سورة ءال عمران/ الآية 175].
4- قال الحافظ الهيثمي وفيه عبد الله بن عمر العمري وَثَّقَه أحمد وغيره واختلف في الاحتجاج به اﻫ
5- قال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث «أفلا أكون عبدًا شكورًا» وفيه أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان كما قال الله تعالى ﴿اعملوا ءال داود شُكْـرًا﴾ اﻫ ثم قال والشكر الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة فمن كثر ذلك منه سمي شكورًا ومن ثم قال سبحانه وتعالى ﴿وقليل من عبادي الشكور﴾ اﻫ وفي تفسير القرطبي فقال سهل بن عبد الله الشكر الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية اﻫ
6- [سورة سبإ/ الآية 13].
7- [سورة فاطر/ الآية 6].
8- [سورة ءال عمران/ الآية 31].
9- وءال الرجل أهله وعياله وءاله أيضًا أتباعه اﻫ كذا في مختار الصحاح.
10- [ الأحزاب/ الآية ٣٣].

شاهد أيضاً

صحيح مسلم – الجزء الأول – القسم2

الجزء الأول – القسم2 أبواب مختلفة بَابٌ فِي الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ قُرْبَ الْقِيَامَةِ، تَقْبِضُ مَنْ …