كتاب الصراط المستقيم

تفسير قوله تعالى: ﴿مِن رُّوحِنَا﴾
وقوله تعالى: ﴿مِن رُّوحِي﴾

لِيُعْلَمْ أنَّ الله تَعالى خَالِقُ الرُّوح والجَسَدِ فَلَيسَ رُوحًا ولا جَسَدًا، ومَعَ ذلِكَ أضَافَ الله تَعَالى رُوحَ عِيسَى صلى الله عليه وسلم إلى نَفْسِه على مَعْنى المِلْكِ والتَّشْريفِ لا للجُزْئِيَّةِ في قَولِه تَعالى ﴿ مِن رُّوحِنَا (91)﴾ [سورة الأنبياء]، وكذلكَ في حَقّ ءادَمَ قولُهُ تعَالى ﴿مِن رُّوحِي (72)﴾ [سورة ص] فَمعنَى قَولِهِ تَعالَى ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا (12)﴾ [سورة التحريم] أَمَرْنَا جِبْرِيلَ عليهِ السّلامُ أنْ يَنفُخَ في مَرْيمَ الرّوحَ التي هِي مِلْكٌ لَنا ومُشَرَّفَةٌ عِنْدَنَا، لأَنَّ الأَرْواحَ قِسْمَانِ أَرْوَاحٌ مُشَرَّفَةٌ وَأَرْوَاحٌ خَبِيثَةٌ، وَأرْوَاحُ الأنْبِيَاءِ منَ القِسْمِ الأوَّلِ، فَإِضَافَةُ رُوحِ عِيسَى ورُوح ءادَمَ إلى نَفْسِه إضَافَةُ مِلك وتَشْريفٍ.
ويَكفُر من يَعتَقدُ أنَّ الله تعالى روحٌ، فالرّوحُ مخلوقةٌ تَنزَّهَ الله عن ذلِكَ.
وكذَلِكَ قَولُه تَعَالى في الكَعْبةِ ﴿بَيْتِيَ (26)﴾ [سورة الحج] فَهِيَ إضَافَةُ مِلكٍ للتشريفِ لا إضَافَةُ صِفَةٍ أو مُلابَسَةٍ لاسْتِحَالَةِ المُلامَسَةِ أو المُماسَّةِ بَيْنَ الله والكَعْبَةِ.
وكذلك قولُ الله تعالى: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ (86)﴾ [سورة المؤمنون] ليسَ إلا للدلالةِ على أن الله خالقُ العرشِ الذي هو أعظمُ المخلوقاتِ ليسَ لأن العرشَ له ملابَسَةٌ لله بالجلوسِ عليهِ أوبمحاذاتِهِ من غيرِ جلوسٍ، ليس المعنى أن الله جالسٌ على عرشِهِ باتصالٍ وليس المعنى أن الله محاذٍ للعرشِ بوجودِ فراغٍ بينَ الله وبينَ العَرشِ إن قُدّرَ ذلكَ الفراغُ واسعًا أو قصيرًا، كلُّ ذلكَ مستحيلٌ على الله، وإنما مزيةُ العرشِ أنه كعبةُ الملائِكَةِ الحافينَ من حولِهِ كمَا أن الكعبةَ شُرفَت بطوافِ المؤمنينَ بها. ومن خواصّ العرشِ أنه لم يُعصَ الله تعالى فيهِ لأنَّ مَن حولَهُ كُلُّهم عبادٌ مكرمونَ لا يَعصونَ الله طرفةَ عينٍ، ومن اعتقدَ أن الله خلقَ العرشَ ليجلِسَ عليهِ فقد شَبَّهَ الله بالملوكِ الذين يعملونَ الأسِرةَ الكبارَ ليجلسوا عليها، ومن اعتقدَ هذا لم يَعرِف الله. ويَكفُرُ من يَعتَقِدُ المُمَاسَّةَ لاسْتِحالتِها في حَقِّ الله تَعَالى.

تَفْسِيرُ الآيَةِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)﴾ [سورة طه]

يَجِبُ أن يكونَ تفسيرُ هذه الآية بغيرِ الاستِقْرارِ والجلُوسِ ونحوِ ذلكَ ويَكْفُر منْ يعتَقِدُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ تَركُ الحَمْلِ علَى الظّاهِر بَلْ يُحمَلُ على مَحْمِلٍ مُسْتَقِيمٍ في العُقُولِ فتُحمَلُ لفْظَةُ الاسْتِواءِ علَى القَهْرِ ففي لُغَةِ العَرَبِ يُقَالُ اسْتَوى فُلانٌ على المَمَالِكِ إذَا احْتَوَى علَى مَقَالِيدِ المُلْكِ واسْتَعْلَى علَى الرّقَابِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: [الزجر] قَد اسْتَوَى بِشْرٌ علَى العِراقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
وفَائِدَةُ تَخْصِيص العَرْشِ بالذّكْرِ أنَّهُ أعْظَمُ مَخلُوقَاتِ الله تَعَالى حجمًا فيُعْلَمُ شُمُولُ ما دُوْنَه مِنْ بَابِ الأَوْلَى. قَالَ الإمَامُ عَلِيٌّ: “إنَّ الله تَعَالى خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لقُدْرَتِهِ، ولمْ يَتّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ”، رواهُ الإمامُ المحدثُ الفقيهُ اللغويُّ أبو منصورٍ التميميُّ في كتابهِ التبصرة1 ، أَوْ يُقَالُ اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَع تَنزِيْهِهِ عن اسْتِواءِ المخْلُوقِيْنَ كَالجُلوسِ والاسْتِقرارِ.
واعْلَم أَنَّه يَجِبُ الحَذَرُ مِنْ هؤلاءِ الذينَ يُجِيزُوْنَ علَى الله القُعُودَ علَى العَرْشِ والاسْتِقْرارَ عليه مُفَسّرينَ لِقَوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)﴾ بالجُلُوسِ أو المحاذاةِ من فوق، ومُدَّعِينَ أَنَّه لا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إلا في مَكَانٍ، وحُجَّتُهم دَاحِضَةٌ، ومُدَّعِيْنَ أيضًا أنَّ قَوْلَ السَّلَفِ اسْتَوى بلا كَيْفٍ مُوافِقٌ لذَلِكَ وَلم يَدْرُوا أنَّ الكَيْفَ الذي نَفاهُ السَّلَفُ هُوَ الجُلُوسُ والاسْتِقْرارُ والتّحَيُّزُ في المَكَانِ والمُحَاذاةُ وكلُّ الهيئاتِ من حركةٍ وسكونٍ وانتقالٍ.
قالَ القُشَيْرِيُّ2 : “والذي يَدْحَضُ شُبهَهُم أَنْ يُقالَ لَهُم: قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ العَالَمَ أو المَكَانَ هَلْ كَانَ موجودًا أمْ لا؟ فَمِنْ ضَرُورَةِ العَقْلِ أنْ يَقُول بَلَى فَيَلْزَمُه لَوْ صَحَّ قَولُه لا يُعْلَمُ مَوجُودٌ إلا في مَكَانٍ أحَدُ أمْرَينِ إمَّا أنْ يَقُولَ المكانُ والعَرْشُ والعَالَمُ قَدِيمٌ، وإمَّا أَنْ يَقُولَ: الرَّبُّ تعالى مُحْدَثٌ، وهذا مآلُ الجَهَلةِ الحشوِيّةِ، لَيْسَ القَدِيمُ بالمُحْدَثِ والمُحْدَثُ بالقَدِيمِ” اهـ.
وقَالَ القشيريّ أَيْضًا في التَّذكِرَةِ الشَّرقِيَّةِ3 :
“فَإنْ قِيلَ ألَيْسَ الله يَقُولُ ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)﴾ [سورة طه] فَيَجبُ الأَخْذُ بظَاهِرهِ، قُلْنَا الله يَقُولُ أَيْضًا ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ (4)﴾ [سورة الحديد]، ويقول تعالى ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ (54)﴾ [سورة فصلت] فَيَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ نَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآياتِ حَتَّى يَكُونَ عَلى العَرْشِ وعِنْدَنا ومَعَنا ومُحِيطًا بالعَالَمِ مُحْدقًا بهِ بالذَّاتِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.والوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ بذَاتِهِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِكُلّ مَكَانٍ. قَالُوا قَولُه ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ (4)﴾ يَعْني بالعِلْم، و:﴿بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ (54)﴾ إحَاطَةَ العِلْمِ، قُلْنَا: وقَوْلُه ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)﴾ قَهَرَ وحَفِظَ وأَبْقَى” انتهى.
يعني أَنَّهُم قَد أَوَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ وَلَمْ يَحْمِلُوها علَى ظَواهِرِهَا فَكَيفَ يَعِيْبونَ علَى غَيْرِهم تَأْوِيلَ ءايةِ الاستِواءِ بالقَهْرِ، فَما هَذا التّحَكُّمُ؟!
ثم قال القشيري رحمه الله4 : “ولَو أشعرَ مَا قُلنا تَوَهُّمَ غَلَبَتِهِ لأَشْعَر قَولُه ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (18)﴾ [سورة الأنعام] بذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ كانَ مَقْهُورًا قَبْلَ خَلْقِ العِبَادِ هَيْهاتَ إذْ لَم يَكُنْ للعِبَادِ وجُودٌ قَبْل خَلْقِه إيَّاهُمْ بَلْ لَو كَانَ الأمْرُ على ما توهّمَهُ الجَهَلَةُ مِنْ أنّهُ اسْتِواءٌ بالذّاتِ لأَشْعَرَ ذَلِكَ بالتَّغَيُّرِ واعْوِجَاجٍ سَابقٍ علَى وَقْتِ الاسْتِوَاءِ فإِنَّ البَارِئ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ العَرْشِ، ومَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ العَرْشُ بالرَّبّ اسْتَوى أمْثَلُ مِنْ قَوْلِ من يَقُولُ الرَّبُّ بالعَرْشِ استَوى، فَالرَّبُّ إذًا مَوْصُوفٌ بالعُلُوّ وفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ والعَظَمَةِ ومُنزَّهٌ عَنِ الكَوْنِ في المَكَانِ وعَنِ المُحَاذَاةِ” اهـ.
قال القشيري رحمه الله5 : “وقَدْ نَبغَتْ نَابِغَةٌ مِنَ الرَّعَاع لَوْلا اسْتِنْزَالُهم للعَوامّ بمَا يَقْرُبُ من أَفْهامِهِم ويُتَصَورُ في أوْهَامِهِم لأَجْلَلتُ هذَا الكِتَابَ عن تلطيخِهِ بذِكْرِهم، يَقولونَ: نَحنُ نأْخُذُ بالظَّاهِرِ ونجري الآياتِ الموهمةَ تَشْبِيهًا والأخْبارَ المُوهِمَةَ حَدًّا وعُضْوًا علَى الظَّاهِر ولا يَجُوزُ أنْ نُطَرّقَ التَّأْويلَ إلى شَىءٍ مِن ذَلكَ، ويَتمَسَّكُونَ6 بقَولِ الله تعالى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ (7)﴾ [سورة ءال عمران]، وهَؤلاءِ والذِي أَرْوَاحُنا بِيَدِهِ أَضَرُّ علَى الإسْلامِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى والمَجُوسِ وعَبَدَةِ الأَوْثَانِ لأَنَّ ضَلالاتِ الكُفَّارِ ظَاهِرَةٌ يَتَجَنَّبُها المُسْلِمُونَ، وهَؤلاءِ أَتَوا الدّينَ والعَوَامَّ مِنْ طَرِيْقٍ يَغْتَرُّ بِه المُستَضْعَفُونَ فَأَوْحَوا إلى أَوْليَائِهمْ بهَذِهِ البِدَعِ وأَحَلُّوا في قُلُوبِهم وَصْفَ المَعْبُودِ سُبْحَانَه بالأَعْضاءِ والجوَارِحِ والرُّكوبِ والنُّزولِ والاتّكاءِ والاسْتِلْقاءِ والاسْتِوَاءِ بالذّاتِ وَالتّرَدُّدِ في الجِهَاتِ. فَمن أَصْغَى إِلى ظَاهِرِهم يُبَادِرُ بِوَهْمِه إِلى تَخيُّلِ المَحْسُوسَاتِ فَاعْتَقَدَ الفَضَائِحَ فَسَالَ بِه السَّيْلُ وَهُوَ لا يَدْرِي”. اهـ.
فَتَبيَّنَ أنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: “إِنَّ التَّأْوِيلَ غَيرُ جَائِزٍ” خَبْطٌ وَجَهْلٌ وهُوَ مَحْجُوجٌ بقَولِه صلى الله عليه وسلم لابنِ عَبّاسٍ: “اللّهُمَّ عَلّمْهُ الحِكْمَة وتَأْوِيلَ الكِتَابِ” رواه ابنُ مَاجَه وغَيْرُهُ7 بألْفَاظٍ مُتَعَدّدَةٍ وأوّله عند البخاري8 .
قَالَ الحَافِظُ ابنُ الجَوْزيّ في كِتَابِهِ “المَجَالِسُ”9 : “ولا شَكَّ أنَّ الله اسْتَجَابَ دُعَاءَ الرّسُولِ صلى الله عليه وسلم هذا” اهـ وشَدَّدَ النَّكِيرَ والتَّشْنِيعَ علَى مَنْ يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَوَسَّعَ القَوْلَ في ذَلِكَ، فَلْيُطَالِعْهُ مَنْ أرَادَ زِيَادَةَ التّأَكُّدِ.
ومَعْنَى قَوْلِه تَعَالى ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ (50)﴾ [سورة النحل] فَوْقِيّةُ القَهْرِ دُونَ المكانِ والجِهَةِ أي لَيْسَ فوقيةَ المَكانِ والجهَةِ. ومَعْنى قَولِه تعالى ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)﴾ [سورة الفجر] لَيْسَ مَجِيءَ الحَرَكَةِ والانْتِقَالِ والزَّوَالِ وإفْراغِ مَكَانٍ وَمَلْءِ ءاخَرَ بالنسبة إلى الله ومَن اعْتَقَدَ ذَلِكَ يَكْفُرُ.
فالله تَعَالى خَلَقَ الحَرَكَةَ والسُّكُونَ وكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الحَوَادِثِ فلا يُوْصَفُ الله تعَالى بالحَرَكَةِ وَلا بالسُّكُونِ، والمَعْنيُّ بِقَوْلِهِ ﴿وَجَاء رَبُّكَ (22)﴾ جَاءَ أمْرُ رَبّكَ أيْ أثَرٌ مِنْ ءاثَارِ قُدْرَتِه. وقَدْ ثَبَتَ عَن الإمَامِ أحْمَدَ أنَّهُ قَالَ في قَولِه تَعَالَى ﴿وَجَاء رَبُّكَ (22)﴾ إنمَا جَاءَتْ قُدْرَتُه، رَوَاهُ البَيهَقِيُّ في مَنَاقِبِ أحْمدَ وقَدْ مَرَّ ذكره.
——————

1 ) ذكره الحافظ التميمي في كتابه الفرق بين الفرق (ص/333).
2 ) ذكره الحافظ مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء (2/109).
3 ) ذكره الحافظ مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء (2/108).

4 ) ذكره الحافظ مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء (2/108).
5 ) ذكره الحافظ مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء (2/109).
6 ) أي على زعمهم.
7 ) أخرجه ابن ماجه في سننه: المقدمة: باب فضل ابن عباس، والطبراني في المعجم الكبير (9/95). قال الهيثمي (9/276): “ولأحمد طريقان رجالهما رجال الصحيح”.
8 ) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم: باب قول النبي اللهم علمه الكتاب.
9 ) مجالس ابن الجوزي (ص/13).

تَفْسِيرُ مَعِيَّةِ الله المَذْكُورَةِ في القُرْءَانِ

وَمَعْنَى قَولِه تَعَالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ (4)﴾ [سورة الحديد] الإحاطةُ بالعِلْمِ، وتَأْتي المَعِيَّةُ أَيْضًا بمعْنى النُّصْرَةِ والكِلاءَةِ، كقَولِه تعَالى ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ (128)﴾ [سورة النحل].
ولَيسَ المعْنِيُّ بِهَا الحلولَ والاتّصالَ ويَكْفرُ مَنْ يَعتَقِدُ ذَلِكَ لأَنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعَالى مُنَزَّهٌ عن الاتّصالِ والانْفِصَالِ بالمَسَافَةِ.
فَلا يُقَالُ إنَّه مُتَّصِلٌ بالعَالَم ولا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بالمَسَافَةِ لأَنَّ هذِهِ الأمُور مِنْ صِفَاتِ الحَجمِ والحجمُ هو الذي يَقبَلُ الأمرَينِ والله جلَّ وعَلا لَيْسَ بحادِثٍ، نفَى ذلكَ عن نفسِهِ بقولِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ (11)﴾.
وَلا يُوصَفُ الله تَعَالى بالكِبَرِ حَجْمًا1 ولا بالصّغَرِ، ولا بالطُّولِ ولا بالقِصَرِ لأَنَّهُ مُخالِفٌ للحَوادِثِ، ويَجبُ طَرْدُ كُلّ فِكْرَةٍ عَن الأَذْهَانِ تُفْضِي إلى تَقْدِيرِ الله تَعالى وتَحدِيدِه.
كَانَ اليَهُودُ قَدْ نَسَبُوا إلى الله تعالى التَّعَبَ، فَقَالوا إنَّه بَعْدَ خَلْقِ السَّمواتِ والأرْضِ استَراحَ فاسْتَلْقَى علَى قَفَاهُ، وقولهم هَذَا كُفرٌ.
والله تعَالى مُنزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وعَنِ الانْفِعالِ كالإحْسَاسِ بالتَّعبِ والآلام واللذَّاتِ فالذي تَلحَقُهُ هَذِهِ الأحْوالُ يَجبُ أنْ يكُونَ حَادِثًا مَخْلُوقًا يَلْحَقُه التّغَيُّرُ، وهَذا يَسْتَحيلُ عَلى الله تعَالى.
قالَ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38)﴾ [سورة ق].
إنَّما يَلْغَبُ مَن يَعْمَلُ بالجَوارِحِ والله سُبْحَانَهُ وتَعَالى مُنزَّهٌ عن الجارِحَةِ.
قال تَعالى: ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)﴾ [سورة غافر].فَالله تَعالى سَميعٌ وبَصيرٌ بلا كيْفِيَّةٍ، فالسَّمْعُ والبَصَرُ هُمَا صِفَتَانِ أزَليّتانِ بلا جَارحَةٍ، أيْ بلا أُذُنٍ أوْ حَدَقَةٍ وبلا شَرْطِ قُرْبٍ أو بُعْدٍ أو جِهَةٍ، وبدُوْنِ انبِعَاثِ شُعاعٍ منَ البَصَرِ، أو تَمَوُّجِ هَوَاءٍ.
ومَنْ قَالَ لله أُذُنٌ فَقَدْ كَفَرَ ولَو قَالَ لَه أُذُنٌ لَيْسَت كآذانِنا، بِخلافِ مَنْ قالَ لهُ عَيْنٌ ليسَتْ كعُيُونِنَا وَيَدٌ لَيْسَت كأَيدينَا بل بمَعْنَى الصّفَةِ فَإنَّهُ جَائِزٌ لوُرُودِ إطْلاقِ العَيْنِ واليَدِ في القرءانِ ولَم يَرِدْ إطْلاقُ الأُذُنِ عَلَيْهِ.
——————

1 ) فقولنا: “الله أكبر” معناه أكبر من كل كبير قدرًا ودرجة وقوة وعلمًا لا امتدادًا، وهذا مراد السلف بقولهم في الآيات المتشابهة: “أمرُّوها كما جاءت بلا كيفية” ليس معناه أن له كيفية ليست معلومة لنا. وليس موافقًا للسلف من يقول بناء على ذلك استواء الله تعالى على العرش جلوس ولكن لا نعلم كيفية ذلك الجلوس.

تَفْسِيرُ قَولِه تَعَالى فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ

قَالَ تَعَالى ﴿وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ (115)﴾ [سورة البقرة].
المَعْنَى فأَيْنَما تُوَجّهُوا وجُوْهَكُم في صَلاةِ النَّفْلِ في السَّفرِ فَثمَّ قِبلَةُ الله1، أيْ فتِلْكَ الوِجْهَةُ التي تَوجَّهْتُم إِلَيْها هِيَ قِبْلَةٌ لَكُم، ولا يُرادُ بالوَجْهِ الجَارِحَةُ.
وحُكْمُ مَنْ يَعتَقِدُ الجَارحَةَ للهِ التَّكْفِيْرُ لأَنَّهُ لَو كَانَتْ لَهُ جَارِحَةٌ لكانَ مِثْلا لنَا يَجُوزُ عَليه مَا يَجُوزُ عَلَيْنا مِنَ الفَناءِ.
وَقَدْ يُرادُ بالوَجْهِ الجِهَةُ التي يُرادُ بها التّقَرُّبُ إلى الله تَعالى كأَنْ يَقُولَ أحَدُهُم “فَعَلْتُ كَذا وكَذا لِوَجْهِ الله”، ومَعْنَى ذلِكَ “فَعَلْتُ كَذا وكذا امْتِثَالا لأَمْرِ الله تَعَالى”.
ويَحْرُمُ أنْ يُقالَ كَما شَاعَ بينَ الجُهَّالِ “افتَح النَّافِذَةَ لِنَرى وجْهَ الله”، لأنَّ الله تعالى قالَ لِمُوسَى ﴿لَن تَرَانِي (143)﴾ [سورة الأعراف]، ولَوْ لَم يَكُن قَصْدُ النّاطِقينَ بهِ رُؤيةَ الله فَهو حَرامٌ.
——————

1 ) هذا تفسير مجاهد ذكره الطبري في تفسيره (1/504-505).

تفسير ﴿اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾

فَقَوْلُه تَعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ (35)﴾ [سورة النور]مَعنَاهُ أنَّ الله تَعالى هَادِي أهْل السَّمواتِ والأَرْضِ لنُورِ الإيْمانِ، رَوَاهُ البَيهَقيُّ1 عن عَبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُما، فَالله تعَالى ليْسَ نُورًا بمَعنى الضّوْءِ، بلْ هوَ الذي خَلَقَ النُّورَ، قَالَ تَعَالى:﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ (1)﴾ [سورة الأنعام]أي خَلقَ الظُّلماتِ والنورَ، فكيفَ يُمكِنُ أنْ يكُونَ نُورًا كَخَلْقِه، تَعالى الله عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيْرًا.
وحُكْمُ من يَعتقِدُ أنَّ الله تعَالى نُورٌ أيْ ضَوءٌ التّكفيرُ قَطْعًا. وهذه الآيةُ ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ (1)﴾ أصرحُ دليلٍ على أن الله ليسَ حجمًا كثيفًا كالسموات والأرض وليس حجمًا لطيفًا كالظلماتِ والنور، فمن اعتقدَ أن الله حجمٌ كثيفٌ أو لطيفٌ فقد شبَّه الله بخلقهِ والآية شاهدةٌ على ذلكَ. أكثرُ المشبهةِ يعتقدونَ أن الله حجمٌ كثيفٌ وبعضُهم يعتقدُ أنه حجمٌ لطيفٌ حيث قالوا إنه نورٌ يتلألأ، فهذه الآيةُ وحدَها تكفي للردِ على الفريقينِ.
وهُنَاكَ العَديدُ منَ العَقَائِدِ الكُفْريَّةِ كَاعْتِقادِ أنَّ الله تعَالى ذُو لَوْنٍ أو ذُو شَكْلٍ فليَحْذَرِ الإنسَانُ مِنْ ذَلِك جَهْدَهُ علَى أيّ حَالٍ.
——————

1 ) الأسماء والصفات (ص/81).

شاهد أيضاً

صحيح مسلم – الجزء الأول – القسم2

الجزء الأول – القسم2 أبواب مختلفة بَابٌ فِي الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ قُرْبَ الْقِيَامَةِ، تَقْبِضُ مَنْ …