كتاب الصراط المستقيم

صِفَاتُ الله الثَّلاثَ عَشْرَةَ

جرَتْ عادَةُ العُلماءِ المؤلفينَ في العَقيدةِ منَ المتأخّرينَ1 على قَوْلِهم إِنّ الوَاجِبَ العَيْنِيَّ المَفْرُوْضَ علَى كُلّ مُكَلَّفٍ “أَي البَالغِ العَاقِلِ” أَنْ يَعْرِفَ مِن صِفاتِ الله ثلاثَ عَشْرةَ صِفَةً الوجودَ والقِدَمَ والمخالفةَ للحوادثِ والوَحدانيّةَ والقيامَ بنَفْسِه والبقاءَ والقُدْرةَ والإرادةَ والحياةَ والعِلْمَ والكَلامَ والسَّمْعَ والبَصرَ وأنَّه يَستحيلُ على الله ما ينافي هذِه الصّفاتِ.
وَلَمَّا كَانَت هَذِهِ الصّفَاتُ ذُكِرَتْ كَثيرًا في النُّصُوص الشَّرْعيَّة قَالَ العلماءُ2: يَجبُ مَعْرِفَتُها وُجُوبًا عَيْنِيًّا أي على كلّ مكلّفٍ بعَيْنه، وقال بعضُهم3 بِوجوبِ مَعْرِفَةِ عِشْرينَ صِفَةً، فَزَادُوا سَبْعَ صِفاتٍ مَعْنَويَّةً قالُوا وكَونُه تعالى قادِرًا ومُرِيدًا وحَيًّا وعَالِمًا ومُتَكلّمًا وسَمِيعًا وبَصِيرًا، والطَّرِيقَةُ الأُولَى هِيَ الرَّاجِحَةُ.
——————

1 ) ذكر ذلك عبد المجيد الشرنوبي في شرح نانية السلوك (ص/60)، وأبو بكر الدمياطي في كتابه إعانة الطالبين (1/25).
2 ) ذكر ذلك عبد المجيد الشرنوبي في شرح نانية السلوك (ص/60)، وأبو بكر الدمياطي في كتابه إعانة الطالبين (1/25).
3 ) قاله الفضالي الشافعي في كتابه كفاية العوام، انظر حاشية البيجوري على الكفاية (ص/25).

الوُجُودُ

اعلَم رحِمَكَ الله أنّ الله تعالى مَوْجُودٌ أزَلا وأبَدًا فَلَيْسَ وجُودُه تَعالى بإيجادِ موجِدٍ.
وقَد اسْتَنكَرَ بَعْضُ النّاسِ قَولَ “الله مَوجُودٌ” لِكَونِهِ علَى وَزْنِ مَفْعولٍ والجَوابُ أَنَّ مَفْعُولا قَد يُطلَقُ علَى مَنْ لم يَقعْ علَيه فِعْلُ الغَيْرِ كَما نَقُولُ الله مَعْبُودٌ وهَؤُلاءِ ظَنُّوا بأَنْفُسِهم أَنَّ لَهُم نَصِيبًا في عِلْمِ اللُّغَةِ ولَيْسُوا كمَا ظَنُّوا.
قَالَ اللُّغَويُّ الكَبِيرُ شَارحُ القَامُوسِ الزَّبيديُّ في شَرْح الإحْياءِ مَا نَصُّه1: “والبَارِئ تَعالى مَوْجودٌ فصَحَّ أَن يُرَى”.
وقَالَ الفَيُّومِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ المِصْبَاحِ2: المَوْجُودُ خِلافُ المَعْدُوْمِ.

القِدَمُ

يَجِبُ لله القِدَمُ بمَعنَى الأزَلِيَّةِ لا بِمَعْنَى تَقَادُمِ العَهْدِ والزَّمَنِ لأَنَّ لَفْظَ القَدِيمِ والأَزَليّ إِذَا أُطْلِقَا علَى الله كَانَ المَعْنَى أنَّهُ لا بِدَايَةَ لِوجُودِهِ، فَيُقَالُ الله أزليٌّ، الله قَدِيمٌ، وإذَا أُطلِقَا على المَخْلُوقِ كَانَا بِمَعْنَى تَقَادُمِ العَهْدِ والزّمَنِ، قالَ الله تعَالى في القَمرِ ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)﴾ [سورة يس]، وقَالَ صَاحِبُ القاموس الفَيروز ءابادي1: “الهَرَمَانِ بِناءَانِ أَزَلِيَّانِ بِمصْرَ”.
وأَمَّا بُرهَانُ قِدَمِه تَعَالى فَهُو أنَّه لَو لَم يكنْ قَدِيمًا لَلَزمَ حُدُوْثُه فيفتَقِرُ إلى مُحْدِثٍ فيلزَمُ الدَّورُ أو التَّسَلْسُلُ وكلٌّ مِنهُما مُحَالٌ، فَثَبَتَ أنَّ حُدوثَه تعالى مُحالٌ وقِدَمَهُ ثابتٌ.
——————

1 ) القاموس المحيط (ص/1509).

البَقَاءُ

يَجبُ البقاءُ لله تعالى بمعنَى أنّهُ لا يلحقُهُ فناءٌ، لأنّه لمَّا ثبتَ وجوبُ قِدَمِه تعالى عَقلا وجبَ لهُ البقاءُ لأنّهُ لو أمكن أنْ يلحقَهُ العدَمُ لانتفَى عنهُ القِدمُ، فهوَ تباركَ وتعالى الباقي لِذاتِهِ لا باقيَ لذاتِهِ غيرُهُ، وأمّا الجنّةُ والنارُ فبقاؤهما ليسَ بالذّاتِ بل لأنَّ الله شاءَ لهما البقاء، فالجنّةُ باعتبارِ ذاتِهَا يجوزُ عليها الفناءُ وكذلكَ النّارُ باعتبارِ ذاتِها يجوزُ عليها الفناءُ.

السَّمْعُ

وَهُوَ صِفَةٌ أزَليَّةٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ الله.
فَهُو يَسْمَعُ الأصوات بِسَمْعٍ أزَليّ أبدِيّ لا كسَمْعِنا، لَيْسَ بأُذُنٍ وصِمَاخٍ، فَهُو تَعالى لا يَعْزُبُ أي لا يَغيبُ عن سَمْعِهِ مَسْمُوعٌ وإنْ خَفِي – أي علينا – وبَعُدَ – أي عنّا – كما يَعْلَمُ بِغيْرِ قلبٍ.
ودَلِيلُ وجُوبِ السَّمْع لهُ عَقْلا أنَّه لَو لَم يكن مُتَّصِفًا بالسَّمْع لَكانَ مُتَّصِفًا بالصَّمَم وهُو نَقْصٌ على الله، والنّقْصُ عليهِ مُحَالٌ، فمنْ قَال إنَّه يَسْمَعُ بأذُنٍ فَقَدْ أَلْحدَ وكَفَرَ.

البَصَرُ

يَجب لله تعالى عَقْلا البَصَرُ أي الرُّؤْيةُ، فَهُو يَرى بِرُؤْيةٍ أزَلِيَّةٍ أبدِيّةٍ المَرْئِيّاتِ جَمِيْعَها فيَرَى ذَاتَه بِغَيْرِ حَدَقَةٍ وجَارِحَةٍ لأَنَّ الحَوَاسَّ منْ صِفَاتِ المخلوقينَ.
والدَّلِيلُ عَلى ثُبُوتِ البَصَر لَهُ عَقْلا أنَّهُ لَو لَم يكُنْ بَصِيرًا رَائِيًا لَكَانَ أَعْمَى، والعَمَى أَيْ عَدَمُ الرُّؤْيةِ نَقْصٌ على الله، والنَّقْصُ عَلَيْه مُسْتَحِيلٌ.
ودَلِيْلُ السَّمْع والبَصَرِ السَّمْعِيُّ الآياتُ والأحَادِيْثُ كَقَوْلِه تَعَالى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)﴾ [سورة الشورى]، وقَوْلِه صلى الله عليه وسلم في تَعْدَادِ أَسْمَاءِ الله الحُسْنَى “السَّمِيعُ البَصِيرُ” وهُوَ في حَدِيثٍ أخْرجَهُ التّرْمِذِيُّ وصححه ابن حبان1.
——————

1 ) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات: “باب ما جاء في عقد التسبيح باليد. وقال “هذا حديث غريب” وقال: “ولا نعلم في كثير شىء من الروايات له إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا فيهذا الحديث”، وصححه ابن حبان، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حيان: كتاب الرقائق: باب الأذكار (2/88-89).

الكَلامُ

الكَلامُ هُو صِفةٌ أزَليّةٌ أبديّةٌ هُوَ متكَلِمٌ بها ءامِرٌ نَاهٍ وَاعِدٌ مُتَوعّدٌ لَيْسَ ككَلامِ غَيْرِه بلْ أزَليٌّ بأَزَليَّةِ الذّاتِ لا يُشْبِهُ كَلامَ الخَلْقِ وليْسَ بِصَوْتٍ يَحدُثُ منَ انْسِلالِ الهَواء أو اصطِكَاكِ الأَجْرامِ ولا بِحَرفٍ يَنْقَطِعُ بإطباقِ شَفَةٍ أو تَحْرِيكِ لِسَانٍ.
ونَعتَقدُ أنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلامَ الله الأَزَليَّ بِغَيْرِ حَرْفٍ ولا صَوْتٍ كمَا يَرَى المؤمِنُونَ ذاتَ الله في الآخِرَةِ من غيرِ أن يَكُونَ جَوْهَرًا ولا عَرَضًا لأَنَّ العَقْلَ لا يُحِيلُ سَماعَ مَا لَيْسَ بِحَرفٍ ولا صَوْتٍ.
وكَلامُه تَعالَى الذَّاتيُّ لَيْسَ حُرُوفًا مُتَعَاقِبَةً كَكَلامِنا، وإذَا قرَأ القَارِئ مِنَّا كَلامَ الله فقِرَاءَتُه حَرْفٌ وصَوْتٌ لَيْسَتْ أَزَلِيّةً.
وقد نُقِلَ هذا التفصيلُ عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه وهو من السلفِ أدركَ شيئًا من المائةِ الأولى ثم توفيَ سنة مائةِ وخمسينَ هجرية قال1: “والله يتكلمُ لا بآلةٍ وحرفٍ ونحنُ نتكلم بآلةٍ وحرفٍ” فليُفهم ذلكَ. وليسَ الأمرُ كما تقولُ المشبهةُ بأن السلفَ ما كانوا يقولون بأن الله متكلمٌ بكلامِ ليسَ بحرفٍ وإنما هذا بدعةُ الأشاعرة وهذا الكلامُ من أبي حنيفة ثابتٌ ذكرهُ في إحدى رسائِلِه الخمسِ.
والقُرْءانُ لَهُ إطْلاقَانِ يُطْلَقُ علَى اللّفْظِ المُنـزَّلِ على محمدٍ وعلَى الكَلامِ الذَّاتيّ الأزلي الذي لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ ولا صَوْتٍ ولا لُغَةٍ عَربيَّةٍ ولا غَيْرِها. فَإن قُصِدَ بهِ الكَلامُ الذَّاتيُّ فهو أزليٌّ ليس بحرفٍ ولا صوتٍ، وإن قُصدَ به وبسائرِ الكتبِ السماوية اللّفْظُ المُنَزَّلُ فمنه ما هو باللغةِ العبريةِ ومنهُ ما هو باللغةِ السُّريانيةِ وهذه اللغاتُ وغيرُها من اللغاتِ لم تكن موجودةً فخلقَهَا الله تعالى فَصَارت موجودةً والله تعالى كانَ قبلَ كلّ شىءٍ، وكانَ متكلمًا قبلَها ولم يزل متكلمًا وكلامُهُ الذي هو صفتُهُ أزليٌّ أبديٌّ وهو كلام واحد وهذهِ الكتبُ المنزلةُ كُلُّها عباراتٌ عن ذلكَ الكلامِ الذاتيّ الأزلي الأبدي، ولا يلزمُ من كونِ العبارةِ حادثةً كونُ المعبَّر عنه حادثًا ألا تَرَى أننا إذا كَتَبنَا على لوحٍ أو جدارٍ “الله” فقيلَ هذا الله فهل معنَى هذا أن أشكالَ الحروفِ المرسومة هي ذات الله لا يتوهَّمُ هذا عاقلٌ إنّما يُفهمُ من ذلكَ أن هذه الحروف عبارةٌ عن الإلهِ الذي هو موجودٌ معبودٌ خالقٌ لكلّ شىءٍ ومعَ هذا لا يقالُ القرءانُ مخلوقٌ لكن يُبَيَّن في مقامِ التَّعليمِ أن اللفظَ المنزّلَ ليسَ قائمًا بذاتِ الله بل هو مخلوقٌ لله لأنه حروفٌ يسبِقُ بعضُها بعضًا وما كانَ كذلك حادثٌ مخلوقٌ قطعًا. لكِنّه ليْسَ مِنْ تصنِيفِ مَلَكٍ ولا بَشَرٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَن الكَلامِ الذَاتيّ الذي لا يُوصفُ بأنَّه عَرَبيٌّ ولا بأَنّهُ عِبْرانيٌّ، ولا بِأَنَّهُ سُرْيَانِيٌّ، وكُلٌّ يُطْلَق علَيْهِ كَلامُ الله، أيْ أنَّ صِفَةَ الكَلامِ القَائِمَة بذَاتِ الله يُقالُ لَها كَلامُ الله، واللّفْظُ المُنَزَّلُ الذي هُو عِبَارَةٌ عَنْهُ يقَالُ لَه كَلامُ الله.
والإطلاقانِ من بَابِ الحَقِيقَةِ لأنَّ الحَقِيقَةَ إِمَّا لُغَوِيَّةٌ وإِمّا شَرْعِيَّةٌ وإمَّا عُرْفِيَّةٌ. وإطلاق القرءان على اللفظ المنزل حقيقة شرعية فليعلم ذلك.
وتَقْريبُ ذَلِكَ كما تقدم أَنَّ لَفْظَ الجَلالَةِ “الله” عِبَارَةٌ عن ذَاتٍ أزَليّ أبَدِيّ، فَإِذَا قُلْنَا نَعْبدُ الله فَذَلِكَ الذّاتُ هُوَ المَقْصُودُ، وإذَا كُتِبَ هذَا اللّفْظُ فقِيْلَ: مَا هَذا؟ يُقَال: الله، بِمعنَى أنَّ هذِه الحُروفَ تَدُلُّ على ذلكَ الذّاتِ الأزَليّ الأبَدِيّ لا بمَعْنى أنَّ هذِهِ الحُروفَ هي الذَّاتُ الذي نَعبُدُهُ.
——————

1 ) الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاري (ص/58).

الإرَادَةُ

اعْلَم أنَّ الإرادَةَ وهي المشِيْئَةُ واجبةٌ لله تَعالَى، وهي صِفَةٌ أَزلِيَّةٌ أبَديَّةٌ يُخَصّصُ الله بهَا الجَائِزَ العَقْليَّ بالوجُودِ بدَلَ العدَمِ، وبِصفَةٍ دُوْنَ أُخرَى وبِوَقتٍ دُوْنَ ءاخرَ.
وبُرْهَانُ وُجُوبِ الإرَادَةِ لله أَنَّه لَوْ لَم يَكُن مُرِيدًا لَم يُوْجَدْ شَىءٌ مِنْ هَذَا العَالَمِ، لأَنَّ العَالَم مُمْكنُ الوُجُودِ فَوُجُودُهُ لَيْسَ وَاجِبًا لِذَاتِه عَقْلا والعَالَمُ مَوْجُودٌ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَا وُجِدَ إِلا بتَخْصِيصِ مُخصِّصٍ لوُجُودِهِ وتَرْجِيحه لَهُ على عَدَمِه، فثَبتَ أَنَّ الله مُرِيْدٌ شَاءٍ.
ثُمَّ الإِرَادَةُ بِمَعْنَى المَشِيْئَةِ عِنْدَ أَهْلِ الحَقّ شَامِلَةٌ لأَعْمالِ العِبَادِ جَمِيعِها الخَيْرِ مِنْها والشَّرّ، فَكُلُّ مَا دَخَل في الوُجُود منْ أَعْمَالِ الشَّرّ والخَيْرِ ومِنْ كُفْرٍ أَو مَعَاصٍ أوْ طَاعَةٍ فَبمشِيئَةِ الله وقَعَ وحَصَلَ وهَذا كَمالٌ في حَقّ الله تَعَالَى، لأَنَّ شُمُولَ القُدْرَةِ والمَشِيئَةِ لائِقٌ بجَلالِ الله، لأَنَّهُ لَو كانَ يَقَعُ في مِلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ لَكانَ ذَلِكَ دَلِيلَ العَجْزِ والعَجْزُ مُسْتَحِيلٌ علَى الله.
والمَشِيئَةُ تَابِعَةٌ للعِلْم أَي أَنَّهُ مَا عَلِمَ حُدُوْثَهُ فَقَدْ شَاءَ حُدُوْثَهُ وَمَا عَلِمَ أنَّه لا يكُونُ لَم يَشَأْ أنْ يكُونَ.
ولَيْسَت المَشِيْئَةُ تَابِعَةً للأَمْرِ بِدَليْل أنَّ الله تَعَالى أمَرَ إبراهِيْمَ بذَبْحِ ولَدِهِ إسْماعيلَ ولَمْ يَشَأ لهُ ذَلِكَ.
فإِنْ قِيْلَ كَيْفَ يأمُرُ بما لَم يَشَأْ وقُوْعَهُ؟ فَالجَوابُ أَنَّهُ قَدْ يأمُرُ بِمَا لم يَشَأْ، كَمَا أَنَّهُ عَلِمَ بوقُوْعِ شَىءٍ مِنَ العَبْدِ ونَهَاهُ عنْ فِعْلِهِ.

القُدْرَةُ

يَجبُ لله تعالى القُدْرَةُ عَلى كُلّ شَىءٍ والمُرَادُ بالشَّىءِ هُنَا الجَائِزُ العَقْلِيُّ فَخَرجَ بذَلِكَ المُسْتَحِيلُ العَقْلِيُّ لأنّه غَيْرُ قَابِلٍ للوُجُودِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مَحَلا لِتَعَلُّقِ القُدْرَةِ، وخَالَفَ في ذَلك ابنُ حَزْمٍ فقالَ1: “إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قادِرٌ أنْ يَتّخِذَ ولَدًا، إِذْ لَوْ لم يَقْدِرْ عَلَيْه لكَانَ عَاجِزًا”، وهَذَا الذي قَالَهُ غَيْرُ لازِم لأَنَّ اتّخَاذَ الوَلَدِ مُحَالٌ عَلى الله والمُحَالُ العَقْلِيُّ لا يَدْخُلُ تَحْتَ القُدْرةِ، وعَدَمُ تَعَلُّقِ القُدْرةِ بالشَّىءِ تَارَةً يَكُونُ لِقُصُوْرهَا عَنْهُ وذَلِكَ في المَخْلُوقِ، وتارَةً يَكونُ لِعَدَم قَبُولِ ذلكَ الشّىءِ الدّخولَ في الوُجُودِ أي حُدوث الوجود لِكَوْنِهِ مُسْتَحيْلا عَقْلِيًّا، وتارةً يكون لعدَم قبُولِ ذلك الشّىء العدَمَ لكونه واجبًا عقليًّا. والعَجْزُ هُوَ الأَوَّلُ المَنْفِيُّ عَنِ قُدْرَتِهِ تَعَالى لا الثّانِي، فَلا يَجُوزُ أنْ يُقَالَ إنَّ الله قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ ولا عَاجِزٌ، قَالَ بَعْضُهُم: كَما لا يُقَالُ عن الحَجَر عَالِمٌ ولا جَاهِلٌ.
وكَذَلِكَ يُجَابُ علَى قَولِ بَعْض المُلحدينَ: “هل الله قَادِرٌ علَى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَه” وهَذا فِيهِ تجوِيزُ المُحَالِ العَقْلِيّ، وبَيانُ ذَلِكَ أنَّ الله أزَلِيٌّ ولَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكانَ أزَلِيًّا، والأَزَلِيُّ لا يُخْلَقُ لأنه موجودٌ فكيف يُخْلَقُ الموجود.
أما المستحيلُ العقليُّ فعدمُ قَبولِهِ الدخولَ في الوجودِ ظاهرٌ وَأَمَّا الواجبُ العقليُّ فَلا يقبلُ حدوثَ الوجودِ لأنَّ وجودَهُ أَزليٌّ، فرقٌ بينَ الوجودِ وبينَ الدخولِ في الوجود، فالوجودُ يشمَلُ الوجودَ الأزليَّ والوجودَ الحادثَ أما الدخولُ في الوجودِ فَهو الوجودُ الحادثُ. فالواجبُ العقليُّ الله وصفاتُه، فالله واجبٌ عقليٌّ وجودُه أزليٌّ وصفاتُه أزليّةٌ ولا يُقال لله ولا لصفاتِهِ داخلٌ في الوجودِ لأنَّ وجودَهما أزليٌّ، فقولُنا إنَّ الواجبَ العقليَّ لا يقبلُ الدخولَ في الوجودِ صحيحٌ لكن يقصُر عنه أفهامُ المُبتدئينَ في العقيدةِ، أَمّا عِندَ مَن مَارسَ فَهي واضحةُ المُرادِ.
——————

1 ) انظر المحلى (1/33).

العِلمُ

اعلَم أَنَّ عِلْمَ الله قَدِيْمٌ أزَليٌّ كَما أَنَّ ذَاتَه أزَليٌّ، فلَم يزَلْ عالِمًا بذَاتِه وصِفَاتِه وَما يُحْدِثُه من مَخلُوقَاتِه، فَلا يتّصِفُ بعِلْم حَادثٍ لأنَّه لَو جَازَ اتّصَافُه بالحَوادِث لانْتَفَى عَنْهُ القِدمُ لأَنَّ مَا كانَ مَحَلا للحَوادِثِ لا بُدَّ أنْ يكُوْنَ حَادِثًا.
وَمَا أَوْهَمَ تَجَدُّدَ العِلْمِ لله تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ القُرْءانِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالى ﴿الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا(66)﴾ [سورة الأنفال] فَلَيْسَ المُرَادُ بِه ذَلِكَ، وقَولُه: ﴿وَعَلِمَ (66)﴾ لَيْسَ رَاجِعًا لِقَوْلِهِ ﴿الآنَ (66)﴾ بل المَعْنَى أَنَّهُ تَعالى خَفَّفَ عَنْكُم الآنَ لأَنَّه عَلِمَ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ في الأَزَلِ أَنَّهُ يَكُونُ فِيكُم ضَعْفٌ.
وكَذَلِكَ قَوْلُه تَعَالَى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ(31)﴾ [سورة محمد] مَعْنَاهُ ولَنَبْلُوَنَّكُم حَتَّى نُمَيّزَ أي نُظْهِرَ للخَلْقِ مَنْ يُجَاهِدُ ويَصْبِرُ مِنْ غَيْرِهم، وكَانَ الله عَالِمًا قَبْل كَما نَقَلَ البُخَارِيُّ1 ذَلِكَ عَنْ أبي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ المُثَنَّى، وَهَذَا شَبِيْهٌ بِقَوْلِه تَعَالى ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ(37)﴾ [سورة الأنفال].
——————

1 ) صحيح البخاري: كتاب التفسير: باب سورة العنكبوت.

الحَيَاةُ

يَجِبُ لله تَعَالَى الحَيَاةُ، فَهُوَ حَيٌّ لا كالأَحْياء، إِذْ حَيَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَت بِرُوْحٍ وَدَمٍ.
والدَّلِيلُ علَى وُجُوبِ حَيَاتِه وجُودُ هَذا العَالَمِ، فَلَوْ لَم يَكُنْ حَيًّا لَم يُوْجَدْ شَىءٌ مِنَ العَالَم، لَكِنَّ وُجُودَ العَالَمِ ثَابِتٌ بالحِسّ والضَّرُوْرَةِ بِلا شَك.

الوَحْدانيّةُ

مَعْنى الوَحْدانِيّةِ أنَّه لَيْسَ ذَاتًا مُؤَلَّفًا من أَجْزَاءٍ، فَلا يُوْجَدُ ذاتٌ مِثْلُ ذَاتِه ولَيْسَ لغيرهِ صفةٌ كصفتِهِ أو فعلٌ كفعلِهِ وليسَ المُرَادُ بوَحْدَانِيَّتِه وَحْدَانِيَّةَ العَدَدِ إذ الوَاحِدُ في العَدَدِ لَه نِصْفٌ وأَجْزَاءٌ أَيْضًا، بَل المُرَادُ أَنَّه لا شبيه لَه.
وَبُرهَانُ وَحْدانِيَّتِه هو أَنَّهُ لا بُدَّ للصَّانِعِ مِنْ أَن يَكُونَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا، فَإِذَا ثَبَتَ وَصْفُ الصَّانِعِ بِمَا ذَكَرنَاهُ قُلْنَا لَوْ كَانَ لِلْعَالَم صَانِعَانِ وَجَبَ أَنْ يَكونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيْدًا مُخْتَارًا وَالمُخْتَارَانِ يَجُوزُ اخْتِلافُهُمَا في الاخْتِيَارِ لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُما غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى مُوَافَقَةِ الآخَرِ في اخْتِيَارِه، وإلا لكانا مَجبُورَيْن والمجبُورُ لا يكونُ إلـهًا، فإِذَا صَحَّ هَذا فَلو أرَاد أحَدُهُما خِلافَ مُرَادِ الآخَرِ في شَىءٍ كأَنْ أَرادَ أحدُهما حَياةَ شخْصٍ وأرادَ الآخرُ مَوتَه لَمْ يَخْلُ مِنْ أنْ يَتِمَّ مُرادُهُما أوْ لا يَتِمَّ مُرادُهُما أَوْ يتِمَّ مُرَادُ أَحَدِهِما وَلا يَتِمَّ مُرادُ الآخَرِ، وَمُحَالٌ تَمَامُ مُرَادَيْهِما لتَضَادّهِما أي إنْ أرَادَ أَحَدهُما حَياةَ شخص وأرادَ الآخرُ مَوتَه يَسْتحيلُ أنْ يكونَ هَذا الشّخصُ حَيًّا وميّتًا في ءانٍ وَاحِدٍ، وإنْ لم يَتِمَّ مُرَادُهُما فَهُمَا عَاجِزَان والعَاجِزُ لا يكُونُ إِلـهًا، وإِنْ تَمَّ مُرَادُ أحَدِهما ولَم يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ فَإِنَّ الذي لَم يَتِمَّ مُرَادُهُ عَاجِزٌ وَلا يَكُونُ العَاجِزُ إلـهًا ولا قَدِيْمًا، وهَذِهِ الدّلالة مَعْروفَةٌ عِنْدَ المُوَحّدِين تُسَمَّى بدلالَةِ التَّمَانُعِ قَالَ تَعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءالِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا(22)﴾ [سورة الأنبياء].

القِيَامُ بالنَّفْسِ

اعْلَم أَنَّ مَعْنَى قِيَامِه بنَفْسِه هُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ كُلّ مَا سِوَاهُ فَلا يَحْتَاجُ إِلى مُخَصّصٍ لَهُ بالوُجُوْدِ لأَنَّ الاحْتِيَاجَ إِلى الغَيْرِ يُنَافِي قِدَمَهُ وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوْبُ قِدَمِهِ وبَقَائِهِ.

المخَالفَةُ للحَوادِثِ

يَجِبُ لله تَعالى أنْ يكونَ مُخَالِفًا للحَوادِثِ بِمَعْنى أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيئًا من خَلْقِه فلَيْسَ هُوَ بِجَوْهَرٍ يَشْغَلُ حَيّزًا ولا عَرَضٍ. والجَوْهَرُ مَا لَهُ تَحيُّزٌ وقِيَامٌ بِذَاتِه كالأَجْسَام، والعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وإِنَّما يَقُوْمُ بِغَيْرِهِ كالحَرَكَةِ والسُّكُونِ والاجْتِمَاع والافْتِرَاقِ والألْوَانِ والطُّعُوْمِ والرَّوَائِح، ولِذَلِكَ قَالَ الإمَامُ أبُو حَنِيفَةَ في بعضِ رسائلِهِ في علمِ الكلامِ1 : أَنَّى يُشْبِهُ الخَالِقُ مَخْلُوقَهُ مَعناهُ لا يصحُّ عقلا ولا نقلا أن يُشْبِهَ الخَالِقُ مَخْلُوقَه، وقال أبو سُلَيمَانَ الخَطَّابِيُّ: “إِنَّ الذي يَجبُ عَلَيْنَا وعلَى كُلّ مُسْلِم أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي صُوْرَةٍ وَلا هَيْئَةٍ فإنَّ الصُّوْرَةَ تَقْتضي الكَيْفِيَّةَ وهي عن الله وعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفيَّةٌ” رَواهُ عنه البَيْهَقِيُّ في الأَسْماءِ والصّفَاتِ2 .
وقَدْ تُطْلَقُ الكَيْفِيَّةُ بِمَعْنَى الحَقِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِم: [البسيط] كَيْفِيَّةُ المَرْءِ لَيْسَ المَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكيْفَ كَيْفِيَّة الجَبَّارِ في القِدَمِ
ومُرَادُ هَذَا القَائِلِ الحَقِيقَةُ. وهذا البيتُ ذكرَهُ الزركشيُّ وابن الجوزيّ وغيرُهُما3 .
وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيّ: “وَمَنْ وَصَفَ الله بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ”. وهوَ مِنْ أَهْلِ القَرْنِ الثَّالِثِ، فَهُوَ دَاخِلٌ في حَدِيثِ: “خَيْرُ القُرُونِ قَرْني ثُمَّ الذيْنَ يَلُونَهُم ثُمَّ الذيْنَ يَلُونَهُم” رواهُ الترمذيُّ4 . والقرنُ المرادُ به مائة سنة كما قالَ ذلكَ الحافظُ أبو القاسِمِ بنُ عساكرَ في كتابهِ تَبيين كذبِ المفتري5 الذي ألَّفهُ في التنويهِ بأبي الحسنِ الأشعري رضيَ الله عنه.
——————

1 ) انظر الفقه الأكبر مع شرح ملا علي (ص/323) بنحوه.
2 ) الأسماء والصفات (ص/296).
3 ) ذكره ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (2/249)، والزركشي في البحر المحيط (1/456)، وابن الجوزي في كتاب دفع شبه التشبيه (ص/142).
4 ) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في القرن الثالث. وقال “هذا حديث حسن صحيح”.
5 ) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري (ص/144).

شاهد أيضاً

صحيح مسلم – الجزء الأول – القسم2

الجزء الأول – القسم2 أبواب مختلفة بَابٌ فِي الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ قُرْبَ الْقِيَامَةِ، تَقْبِضُ مَنْ …