كتاب الصراط المستقيم

النُّبُوَّةُ

اشتِقاقُها من النّبَإ أي الخبَرِ لأنّ النُّبُوّةَ إخْبارٌ عن الله أو من النَّبْوَةِ وهي الرّفْعَةُ، فالنَّبيُّ على الأوّلِ فعِيلٌ بمعنى فاعلٍ لأنَّهُ يُخبِرُ عن الله بما يُوْحَى إليه، أو فعِيلٌ بمعنى مفعولٍ أي مُخْبَرٌ عن الله أي يُخبِرُهُ المَلَكُ عن الله، فالنبوَّةُ جائزةٌ عقلا ليست مستحيلةً.
وإنَّ الله تعالى بعثَ الأنبياءَ رحمةً للعبادِ إذْ ليسَ في العقلِ ما يُستَغْنَى به عنهم لأنّ العقلَ لا يَسْتَقِلُّ بمعرفةِ الأشْياءِ المنْجِيَةِ في الآخرةِ، ففي بِعْثَة الأنبياءِ مصلحةٌ ضروريّةٌ لحاجتِهم لذلكَ، فالله متفضّلٌ بها على عبادِهِ فهيَ سَفَارةٌ بين الحقّ تعالى وبين الخَلْقِ.

الفَرقُ بين الأنبياءِ والرُّسُلِ

اعلم أن النبيَّ والرَّسولَ يشتركانِ في الوَحي، فكلٌّ قد أوْحَى الله إليه بشرعٍ يَعْمَلُ به لتبليغِه للنّاسِ، غيرَ أنّ الرسولَ يأتي بنسخِ بعضِ شرعِ مَن قبلَه أو بِشَرْعٍ جديدٍ، والنَّبيُّ غيرُ الرّسولِ يُوحَى إليه ليتّبعَ شرعَ رسولٍ قبلَهُ وليُبلّغَهُ.
فلذلكَ قالَ العلماء “كلُّ رسولٍ نبيٌّ وليس كلُّ نبيٍّ رسولا”.
ثمّ أيضًا يفترقان في أنّ الرّسالةَ يوصَفُ بها المَلَكُ والبشرُ والنبوةَ لا تكونُ إلا في البشرِ.

ما يجبُ للأنبياءِ وما يستحيلُ عليهم

يجبُ للأنبياءِ الصّدْقُ ويستحيلُ عليهم الكَذبُ، وتجِبُ لهمُ الفَطَانَةُ ويستحيلُ عليهمُ البَلادَةُ والغَباوةُ، وتجبُ لهم الأمَانَةُ.
فالأنبياءُ سالمونَ من الكفرِ والكبائرِ وصغائرِ الخِسَّةِ وهذه هي العِصْمَةُ الواجبةُ لهم، ويستحيلُ عليهم الخيانةُ، ويجبُ لهم الصّيانةُ فيستحيلُ عليهم الرَّذالَةُ والسَّفاهةُ والجُبنُ، وكلُّ ما ينفّر عن قبول الدعوة منهم، وكذلك يَستحيلُ عليهم كلُّ مرَضٍ مُنَفّرٍ.
فمن نسبَ إليهِمُ الكذبَ أو الخيانةَ أو الرَّذالةَ أو السَّفاهةَ أو الجُبْنَ أو نحوَ ذلك فقد كَفَرَ.

المعجزةُ

اعلم أنَّ السَّبيلَ إلى معرفةِ النَّبي المُعجزةُ وهي أمرٌ خارِقٌ للعادةِ يأتي على وَفْقِ دَعْوَى من ادَّعَوا النُّبوة سَالِمٌ مِنَ المُعَارَضَةِ بالمِثلِ.
فما كانَ من الأمورِ عجيبًا ولم يكن خارقًا للعادةِ فليس بمعجزةٍ. وكذلكَ ما كانَ خارقًا لكنّه لم يقترن بدعوَى النّبوةِ كالخوارقِ التي تظهرُ على أيدي الأولياءِ أتباعِ الأنبياءِ فإنَّهُ ليسَ بمعجزةٍ بل يُسَمَّى كرامةً.
وكذلك ليسَ من المعجزةِ ما يُستَطاعُ معارضَتُهُ بالمثلِ كالسّحرِ فإنّهُ يُعارَضُ بسِحْرٍ مثلِه.
والمعجزةُ قِسْمَانِ قسمٌ يقعُ بعدَ اقتراحٍ مِنَ الناسِ على الذي ادَّعَى النّبوةَ، وقسمٌ يقعُ مِن غيرِ اقتراحٍ.
فالأَوّلُ نحوُ ناقةِ صالحٍ التي خَرَجَت من الصَّخرةِ. اقترحَ قومُه عليهِ ذلكَ بقولِهم إن كنتَ نبيًّا مبعُوثًا إلينا لِنُؤمِنَ بكَ فأخرجْ لنا من هذه الصَّخرةِ ناقةً وفصيلَها فأخرجَ لهم ناقةً معَها فصِيلُها أي ولدها فاندهَشُوا فآمنوا به لأنّهُ لو كَانَ كاذبًا في قولِهِ إنَّ الله أرسلَهُ لم يأتِ بهذا الأمرِ العجيبِ الخارقِ للعادةِ الذي لم يَستطع أحدٌ من النَّاسِ أن يعارضَهُ بمثلِ ما أتى به، فَثَبَتَت الحُجَّةُ علَيْهِم ولا يَسَعُهُم إلا الإذعانُ والتَّصديقُ لأنَّ العقلَ يُوجبُ تصدِيقَ من أتَى بمثلِ هذا الأمرِ الذي لا يُسْتَطاعُ معارضَتُهُ بالمثل مِن قِبَلِ المعارضينَ، فمن لم يُذعِنْ وعاندَ يُعَدُّ مُهْدِرًا لقِيمةِ البُرهانِ العقليّ.

من المعجزاتِ التي حصلَتْ لِمَنْ قَبْلَ سيّدِنا محمّدٍ
صلى الله عليه وسلمُ

ومن أمثِلَةِ المعجزاتِ التي حَصَلَتْ لمن قبلَ محمَّدٍ عدَمُ تأثيرِ النّار العظيمةِ على إبراهيمَ حيثُ لم تُحْرِقْهُ ولا ثيابَهُ.
ومنها انقلابُ عَصَا موسَى ثُعبانًا حَقيقيًّا ثم عودُها إلى حالتِها بعدَ أن اعترفَ السحَرةُ الذين أحضرَهُم فِرعونُ لمعارضتِه وأذعَنُوا فآمنوا بالله وكفروا بفرعونَ واعترَفُوا لموسى بأنَّهُ صادِقٌ فيما جَاءَ بهِ.
ومنها ما ظَهَرَ للمسيحِ من إحياءِ الموتَى وذلك لا يُسْتَطاعُ مُعارضَتُه بالمِثلِ فلم تسْتَطِعِ اليَهودُ الذين كانوا مُولَعِينَ بتكذيبهِ وحَريصينَ على الافتراءِ عليه أن يعارِضُوهُ بالمِثلِ.
وقد أتى أيضًا بعجيبَةٍ أخرى عظيمةٍ وهي إبراءُ الأكْمَهِ فلم يستطِعْ أحَدٌ من أهلِ عصرِهِ معارضَتَهُ بالمِثلِ مع تَوفُّرِ الطِبّ في ذلك العصرِ، فذلك دليلٌ على صِدْقِهِ في كلّ ما يُخبِرُ به من وجوبِ عبادَةِ الخالقِ وحدَهُ من غيرِ إشراكٍ بهِ ووجوبِ متابعتِه في الأعمالِ التي يأمُرُهم بها.

من معجزاتِه صلى الله عليه وسلم

وأمّا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فمِن معجزاتِهِ صلى الله عليه وعلى جميعِ إخوانِه الأنبياءِ وسلم:
حنِيْنُ الجِذْعِ، وَذَلِكَ أنَّ النبيَّ1 صلى الله عليه وسلم كان يَسْتَنِدُ حينَ يَخطُبُ إلى جِذْعِ نَخْلٍ في مسجِده قبلَ أن يُعمَلَ له المنبرُ، فلمَّا عُمِلَ له المِنْبَرُ صَعِدَ صلى الله عليه وسلم عليه فبدأَ بالخُطبَةِ وهو قائمٌ على المنبرِ فحَنَّ الجِذْعُ حتّى سمِعَ حنِينَه مَنْ في المسجد، فنزلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فالتزَمَهُ أي ضَمَّه واعتنقَه فسَكَتَ.
ومن معجزاتِهِ صلى الله عليه وسلم إنطَاقُ العَجْماءِ أي البهيمةِ. روى الإمامُ أحمدُ2 والبيهقيُّ3 بإسنادٍ صحيحٍ4 من حديثِ يَعْلَى بنِ مُرَّةَ الثَّقَفيّ قال: بينما نسيرُ معَ النبي صلى الله عليه وسلم إذ مرَّ بنا بعيرٌ يُسْنَى عليه5 فلمَّا رءاهُ البعيرُ جَرْجَرَ6 فوضَعَ جِرانَهُ7 فوقَفَ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال “أينَ صاحبُ هذا البعيرِ” فجاءَهُ فقالَ “بِعنِيْهِ”، فقال: بل نَهبُهُ لكَ يا رسولَ الله وإنَّه لأهلِ بيتٍ ما لَهُمْ مَعِيشةٌ غيرُه فقال النبيُّ “أمّا ما ذكرتَ من أمرِه فإنّه شكَا كثرةَ العملِ وقِلَّة العَلفِ فأحْسِنُوا إليه”.
وأخرجَ ابنُ شاهينَ في دلائلِ النبوَّةِ عن عبدِ الله بنِ جعفرٍ قال أردَفَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم خلفَهُ فَدَخَلَ حائطَ8 رجلٍ من الأنْصارِ فإذا جَمَلٌ فلمّا رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم حَنَّ فذرَفَتْ عيْنَاهُ فأتاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فمسَحَ ذفَريه9 فسَكنَ، ثمَّ قالَ “من ربُّ هذا الجملِ”؟ فجاءَ فتًى من الأنصار، فقالَ هذا لي، فقالَ “ألا تَتَّقي الله في هذه البهيمةِ التي ملَّكَكَ الله إيَّاها فإنَّه شَكَا إليَّ أنّكَ تُجيعُهُ وتُدْئِبُه”10 . وهو حديثٌ صحيحٌ كما قالَ المحدّثُ مُرْتضى الزبيديُّ في شرحِ إحياءِ علومِ الدّين11 .
ومنها تفجُّرُ12 الماءِ من بينِ أصابعِهِ بالمشاهدةِ في عدَّةِ مواطِنَ في مشاهِدَ عظيمةٍ وَرَدَتْ من طرُقٍ كثيرةٍ يُفيدُ مجموعُها العِلْمَ القطعيَّ المستفادَ من التَّواترِ المعنويّ13 ولم يَحصُلْ لغيرِ نبيّنا حيثُ نبعَ من عَظْمِهِ وعصَبِهِ ولَحمِهِ ودَمِهِ وهو أبْلَغُ من تفجُّرِ المياهِ من الحجرِ الذي ضرَبَهُ موسَى لأنّ خروجَ الماءِ من الحجارةِ معهودٌ بخلافِهِ من بين اللحمِ والدَّمِ. رواهُ جابرٌ وأنسٌ وابنُ مسعودٍ وابنُ عبّاسٍ وأبو ليلى الأنصاريُّ وأبو رافعٍ.
وقَد أخْرجَ الشَّيخانِ14 من حديث أنسٍ بِلَفْظِ “رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقد حانَتْ صَلاةُ العَصْرِ والتمَسَ الوَضُوءَ15 فلَم يَجِدُوهُ فأُتِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بوَضُوءٍ فَوَضَعَ يدَهُ في ذلكَ الإناءِ فأمَرَ النَّاسَ أن يتوضَّؤوا فرأيتُ الماءَ يَنْبُعُ من بَيْنِ أصَابعِهِ فَتوضَّأَ النَّاسُ حتَّى توضَّؤوا منْ عِنْدِ ءاخِرِهم”. وفي روايةٍ للبُخاريّ16 قالَ الرَّاوِي لأَنَسٍ كَم كُنْتُم قَالَ “ثلاثَمِائةٍ”.
ورَوى البُخاريُّ ومُسْلمٌ17 من حَديثِ جَابرٍ أيضًا “عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الحدَيْبِيَةِ وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينَ يدَيْه رَكْوةٌ يتَوضَّأُ مِنْها فَجَهَشَ النّاسُ18 فَقالَ “مَا لَكُمْ”؟ فَقالوا يَا رسُولَ الله ليسَ عندَنا ما نتَوضَّأُ بهِ ولا ما نَشْرَبُه إِلا ما بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوضَع يدَهُ في الرَّكْوةِ فَجعلَ الماءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أصَابِعِهِ كأمْثالِ العيُونِ، فشَرِبْنا وتَوضَّأْنا، فَقيْلَ كَمْ كُنْتُم؟ قالَ لَو كُنّا مائةَ ألفٍ لكَفَانا كُنّا خَمْسَ عشْرَة مائةً”.
والتَّحقيقُ أنَّ الماءَ كَانَ يَنْبُعُ مِنْ نَفْسِ اللّحمِ الكائِنِ في الأصابعِ وبهِ صرَّحَ النّوويُّ في شَرح مسلمٍ19 ويؤيّدُهُ قَولُ جَابرٍ “فَرأيتُ الماءَ يَخْرُجُ”، وفي رِوَايةٍ “يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أصَابِعهِ”.
ومن مُعجزاتِه ردُّ عَينِ قتادَةَ بعدَ انقِلاعِهَا، فقَد روى البَيهقيُّ في الدّلائلِ20 عن قَتادَةَ بنِ النُّعمانِ أنّه أُصيبَت عَيْنُه يَومَ بَدرٍ فسَالَت حَدَقَتُه على وجْنَتِه فأرادُوا أنْ يقْطَعُوها فسَألُوا رسُول الله فَقالَط “لا”، فدَعَا بهِ فغَمزَ حدَقَتَهُ براحَتِه، فكَانَ لا يَدْرِي أيَّ عيْنَيهِ أُصِيْبَت. اهـ.
وفي هَاتينِ المعجِزَتينِ قالَ بَعضُ المادِحينَ شِعْرًا من البَسِيطِ:
إنْ كانَ مُوسَى سَقَى الأَسْباطَ من حَجَرٍ
فإنَّ في الكفّ مَعْنًى ليسَ في الحجَرِ
إنْ كانَ عيْسَى بَرَا21 الأَعْمَى بدَعوتِه
فكمْ براحَتِه قدْ ردَّ مِنْ بَصَرِ
ومن مُعْجزاتِه صلى الله عليه وسلم تَسْبيحُ الطَّعَامِ في يَده أخْرجَ البُخاريُّ22 من حَديثِ ابنِ مَسْعُودٍ قالَ “كنَّا نأكلُ معَ النّبي صلى الله عليه وسلم الطَّعامَ ونَحنُ نَسْمعُ تَسْبيحَ الطَّعام”.
وهَذه المعجزاتُ الثّلاثُ أعجَبُ من إحْياءِ الموتَى الذي هو إحدى مُعْجِزاتِ المسِيحِ.
——————

1 ) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام.
2 ) مسند أحمد بن حنبل (4/173).
3 ) دلائل النبوة (6/23).
4 ) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/618) وقال “هذا حديث صحيح الإسناد” ووافقه الذهبي.
5 ) أي يحمل عليه الماء.
6 ) أي أصدر صوتًا من حلقه.
7 ) أي مقدم عنقه.
8 ) أي بستان.
9 ) في النهاية في غريب الحديث (2/161): الذفر أصل أذن البعير”.
10 ) أي تتعبه.
11 ) إتحاف السادة المتقين (2/206).
12 ) إتحاف السادة المتقين (2/207).
13 ) الذي تواتر معناه ولم يتفق رواته على لفظ واحد.
14 ) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب: باب علامات النبوة، ومسلم في صحيحه: كتاب الفضائل: باب في معجزات النبي.
15 ) أي طلب ماء الوضوء.
16 ) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام.
17 ) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب: باب علامات النبوة، ومسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: استحباب مبايعة الإمام.
18 ) أي أقبلوا إليه.
19 ) شرح النووي على مسلم (7/475).
20 ) دلائل النبوة (3/100).
21 ) برا أصله برأ بهمزة مفتوحة فعل لازم ثم تركت الهمزة للوزن، والمعنى تعافى الأعمى بدعوة المسيح.
22 ) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب: باب علامات النبوة.

شاهد أيضاً

صحيح مسلم – الجزء الأول – القسم2

الجزء الأول – القسم2 أبواب مختلفة بَابٌ فِي الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ قُرْبَ الْقِيَامَةِ، تَقْبِضُ مَنْ …