تَقسيمُ الأمُورِ إلى أرْبَعَةٍ
الأُمُورُ علَى أربَعةِ أقْسَام:
الأَوَّلُ شَىءٌ شَاءَهُ الله وأَمرَ بِه وهوَ إيمانُ المؤمنِينَ وطاعَةُ الطائِعينَ.
والثّاني شَىءٌ شَاءَهُ الله ولَمْ يأمُرْ بهِ وهُو عِصْيَانُ العُصَاةِ وكُفْرُ الكَافِرينَ، إلا أنَّ الله لا يُحِبُّ الكُفْرَ مَع أنَّهُ خَلَقَهُ بمشِيئَته ولا يَرضَاهُ لعِبادِه، قَالَ تَعالى ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ (7)﴾ [سورة الزمر].
والثَّالثُ أَمرٌ لم يَشَأهُ الله وأَمَرَ به وهُوَ الإيمانُ بالنّسبةِ للكَافِرينَ الذين علمَ الله أنهم يموتونَ على الكفرِ أُمِرُوا بالإيْمانِ وَلم يَشأهُ لهُم.
والرَّابعُ أمرٌ لم يَشَأه ولم يأمُرْ بِه وهُوَ الكُفرُ بالنّسبةِ للأنبياءِ والملائِكةِ.
ومَنْ كانَ مؤْمنًا بالقُرءانِ الكَريم فلْيَقِفْ عندَ قولِه تعالى ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)﴾ [سورة الأنبياء]، فَلا يُقَالُ كيفَ يعذّبُ العُصَاةَ على معَاصِيهِمُ التي شَاءَ وقُوعَها مِنهُم في الآخِرةِ.
تَوحِيدُ الله في الفِعْلِ
رُوِيَ عن الجُنَيدِ1 إمَام الصُّوفيّةِ العَارِفينَ عِندَما سُئِلَ عن التّوحيدِ أنَّه قالَ “اليَقينُ” ثمّ اسْتُفْسِرَ عن مَعناهُ فقَالَ “إنَّهُ لا مُكوّنَ لشَىءٍ منَ الأشْيَاءِ منَ الأَعْيانِ والأَعْمالِ خَالِقٌ لهَا إلا الله تعالى”، قَالَ تَعالى ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)﴾ [سورة الصافات].
وقَالَ الرّسولُ صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الله صَانِعُ كُلّ صَانعٍ وصَنْعَتِه”، رواهُ الحاكمُ2 والبيهَقيُّ3 من حَديثِ حُذيفةَ، إذِ العبادُ لا يَخلقُونَ شَيئًا من أعْمالِهم وإنّما يكتَسِبُونَها، فقَد قالَ الله تعَالى ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ (16)﴾ [سورة الرعد] تَمدَّحَ تعالى بذَلكَ لأَنَّهُ شَىءٌ يَختَصُّ به، وذَلكَ يقتَضي العُمومَ والشُّمولَ للأعيانِ والأعمالِ والحركاتِ والسَّكناتِ.
وقَالَ تَعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ [سورة الأنعام] سَاقَ الله الصَّلاةَ والنُّسُكَ والمحْيَا والمماتَ في
مَسَاقٍ وَاحدٍ وجعَلَها مِلْكًا لهُ، فكَما أنّ الله خالقُ الحياةِ والموتِ كَذَلكَ الله خالِقٌ للأَعْمالِ الاختيَاريّةِ كالصَّلاةِ والنُّسُكِ والحَركاتِ الاضْطِراريّةِ من بابِ الأَوْلَى.
وإنَّما تَمتَازُ الأَعْمالُ الاختِياريةُ أي التي لنَا فيها ميلٌ بكَونِها مكتسَبَةً لنَا فهِي مَحلُّ التّكلِيفِ.
والكَسْبُ الذي هو فِعْلُ العَبد وعلَيه يُثابُ أو يُؤاخَذُ في الآخرةِ هُو تَوجيهُ العَبدِ قصدَهُ وإرادتَه نحوَ العملِ أي يَصْرِف إليهِ قدرَته4 فَيخلُقُه الله عِنْدَ ذَلِكَ، فَالعبدُ كاسبٌ لعَملِهِ والله تَعالى خَالقٌ لعملِ هذا العبدِ الذي هُو كَسْبٌ له، وهوَ من أغْمضِ المسائلِ في هذَا العِلمِ.
قالَ الله تَعالى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286)﴾ [سورة البقرة] فَلَيْسَ الإنْسَانُ مَجبُورًا لأَنَّ الجبْرَ يُنَافي التَّكْلِيفَ، وهَذَا هُوَ المذْهَبُ الحقُّ وهُوَ خَارِجٌ عن الجَبْرِ والقَدَرِ أي مذهب الجَبْريَّةِ والقَدَرِيَّةِ.
ويَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إنَّ العَبْدَ يَخْلُقُ أعْمالَهُ كالمعتَزِلَةِ، كَمَا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُ5 : “كلامُ القَدَريّةِ كُفرٌ” والقَدرِيّةُ همُ المعتَزلةُ.
قَالَ أبُو يُوسُف6 َ: “المُعتَزلَةُ زَنَادِقَةٌ”.
وَوَصَفهُم أبُو مَنْصُورٍ التَّميميُّ في كِتَابِه “الفَرْقُ بَيْنَ الفِرَقِ”7 بِأنَّهُم مُشْرِكُونَ. وأَبُو مَنْصُورٍ هُوَ الذي قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ الهيتمي هَذِهِ العِبَارَةَ: “وقَالَ الإمَامُ الكبِيرُ إمامُ أصْحابِنا أبُو مَنْصُورٍ البغدادِيُّ”، وهُوَ مِمَّن كَتَبَ عَنْهُ البَيْهقيُّ في الحديثِ.
وَلا تَغْتَرَّ بِعَدَم تَكفِيرِ بَعْضِ المتأخّرينَ لَهُم، فقَدْ نقَلَ الأسْتاذُ أبُو مَنصُورٍ التَّمِيميُّ في كِتَابِه “أُصُولُ الدّيْنِ”8 وكَذَلِكَ في كِتَابِه “تفسيرُ الأَسْماءِ والصّفَاتِ”9 تكفِيرَهُم عن الأئِمَّةِ. قَالَ في كِتَابِه “تَفْسِيرُ الأَسْماءِ والصّفَاتِ”10 : “أَصْحَابُنا أجْمَعُوا علَى تَكْفِير المعْتَزلَةِ” أي الذين يقولونَ: العبدُ يخلُق أفعالَه الاختيارية، وكذلكَ الذين يقولونَ فرضٌ على الله أن يفعلَ ما هو الأصلحُ للعبادِ. وقَولُه “أصْحابُنا” يَعنِي به الأشْعَرِيّةَ والشَّافِعيّةَ لأنَّه أشْعَرِيٌّ شَافِعِيٌّ بلْ هُوَ رَأسٌ كَبيرٌ في الشَّافِعيَّةِ كَما قالَ ابنُ حَجَر وَهُوَ إمَامٌ مُقَدَّمٌ في النَّقْلِ مَعْرُوفٌ بذَلِكَ بَيْنَ الفُقَهاءِ والأُصُولِيّينَ والمؤَرّخِينَ الذينَ ألَّفُوا في الفِرَقِ، فَمن أَرادَ مَزِيدَ التَّأكُّد فليُطالِعْ كتُبَهُ هَذِه، فلا يُدَافَعُ نَقْلُهُ بكلامِ البَاجُوريّ وأمثالِه ممَّن هُوَ مِنْ قَبْلِ عَصْرِهِ أو بَعْدَهُ.
وأمّا كلامُ بعضِ المتقدّمينَ مِنْ تَركِ تكفيرهم فمحمُولٌ على مثل بِشْرٍ المرِيسيّ11 والمأمون العبَّاسيّ، فإنّ بِشْرًا كان مُوافقَهُم في القولِ بخلقِ القرءانِ وكفَّرهُم في القولِ بخلق الأفعالِ فلا يُحْكَم على جميع من انتسبَ إلى الاعتزالِ بحُكْمٍ واحِدٍ ويُحكَمُ على كلّ فَردٍ منهم بكونِهِ ضَالا.
——————
1 ) حلية الأولياء (10/256).
2 ) رواه الحاكم في المستدرك (1/31)، وسكت عليه، قال الذهبي “صحيح على شرط مسلم”.
3 ) شعب الإيمان (1/209).
4 ) وهذا الصرف هو بمشيئة الله تعالى.
5 ) انظر شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (3/713).
6 ) إيضاح الدليل (1/22) وأصول الدين (ص/312).
7 ) الفرق بين الفرق (ص/339).
8 ) أصول الدين (ص/312).
9 ) الأسماء والصفات (ق/288).
10 ) هذا الكتاب نادر الوجود يوجد منه نسختان أو ثلاث خطية في بعض المكتبات.
11 ) وأما ما ينقل عنه من كفر صريح غير هذا فإن ثبت عنه فهو كافر.
الدَّليلُ العَقْليُّ على فَسَاد قَولِ المعتَزِلةِ بأنَّ العبدَ يَخلُقُ أفْعالَهُ
قَالَ أَهْلُ الحقّ “امتَنَع خَلْقُ العَبدِ لفِعْلِه لعُمُومِ قُدْرَةِ الله تَعالى وإرادَتِه وعِلْمِه”.
وبَيانُ الدَّليل علَى ذَلكَ أنَّ قُدرَةَ الله عامَّةٌ وعلمه عام وإرادَته عامة فإنَّ نِسْبَتَها إلى الممكناتِ نِسْبَةٌ واحدَةٌ فإنَّ وجُودَ الممكنِ العَقليّ إنَّما احْتاجَ إلى القَادرِ من حَيثُ إمْكانُه وحدُوثُه، فَلَو تَخصَّصَت صِفَاتُه هَذه ببَعضِ الممكِنَاتِ للَزِمَ اتّصَافُه تَعالَى بنَقِيضِ تِلكَ الصّفاتِ من الجهلِ والعَجْزِ وذَلكَ نَقْصٌ والنَّقْصُ علَيه مُحَالٌ، ولاقْتَضَى تَخَصُّصُها مُخَصّصًا وتَعَلَّقَ المخَصّصُ بذَاتِ الوَاجِبِ الوُجُودِ وصِفَاتِه وذلكَ مُحالٌ، فَإذًا ثَبتَ عمُومُ صِفَاتِه.
فلَو أرادَ الله تعالى إيجادَ حادِثٍ وأرادَ العبدُ خلافَهُ ونَفذَ مُرادُ العَبْدِ دُونَ مُرادِ الله للَزِمَ المحالُ المفْروضُ في إثباتِ إلهَينِ، وتَعدُّدُ الإلهِ محالٌ بالبُرهانِ، فما أدَّى إلى المحالِ محالٌ