صفةُ الجنَّةِ
قال المؤلف رحمه الله: صفةُ الجنَّةِ
والجنَّةُ حَقٌّ فيَجِبُ الإيْمانُ بِها وأنَّها مَخلُوقةٌ الآنَ كَما يُفهَم ذَلكَ منَ القُرءانِ والحَديثِ الصَّحيح، وهي فَوقَ السَّماءِ السَابِعةِ ليسَت متّصِلةً بها، وسَقْفُها عَرشُ الرّحمنِ، وأهْلُها علَى صُورةِ أَبِيهم ءادمَ سِتّونَ ذِراعًا طُولًا في سَبْعةِ أذرُعٍ عَرْضًا جمِيلُو الصُّورةِ، جُرْدٌ مُرْدٌ في عُمرِ ثَلاثةٍ وثَلاثِيْنَ عَامًا، خالِدُونَ فِيها لا يَخرجُونَ مِنها أبدًا. وقد صحَّ الحديث بأنّ أهْلَ الجنّةِ على صُورةِ أبِيهِم ءادَمَ سِتّونَ ذِراعًا في السَّماءِ في سَبْعَةِ أذْرُعٍ عَرْضًا.
الشرح: الجنّةُ حَقٌّ أي وجودها ثابتٌ، وهي مخلوقةٌ الآنَ ولها ثمانيةُ أبوابٍ منها بابُ الرَّيان الذي يدخلُ منهُ الصَّائمونَ، وشهيدُ المعركَةِ يخيَّرُ من أيّ أبوابِ الجنّةِ شاءَ أن يدخُلَ، والجنّةُ فوقَ السّماءِ السّابعَةِ منفصلة عنها بمسافةٍ بعيدةٍ ولها أرضُهَا المستقلَّة وسقفُهَا عرشُ الرّحمنِ كما أخبرَ بذلكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الذي رواهُ البخاريُّ: “إذا سألتُم الله – الجنَّة – فسلوهُ الفردوس فإنَّهُ أوسط الجنّةِ وأعلى الجنة وفوقه عرشُ الرَّحمن”.
وأهلُ الجنّةِ على صورةِ أبيهم ءادم ستّونَ ذراعًا طولا في عرضِ سبعةِ أَذرعٍ حسانُ الوجوهِ فمن كانَ في الدنيا من المؤمنين دميمًا تَذهَبُ عنه دمامتُهُ، الله تعالى يجعلُهُ في الجنّةِ كجمالِ يوسفَ الصّدّيق، يعطيهِ شبهًا بيوسفَ الصدّيق في الجمالِ، والذي كان قصيرًا يذهَبُ عنه قصرُهُ. ويجعلُ الله تعالى في كلّ واحدٍ علامةً تميّزهُ عن غيرِهِ أنَّ هذا هو فلانٌ حتّى إن زارَهُ من كانَ يعرفهُ في الدّنيا يعرفهُ تلكَ الساعة، فإنَّ أهلَ الجنّةِ يتزاورونَ وتزاورُهُم يحصُلُ إمّا بأن يطيرَ بالشخصِ سريرُهُ حتّى ينزلَ به أمامَ سرير الذي يريدُ زيارته فيجلسانِ متقابِلَينِ لأنّه من سهولةِ السيرِ هناكَ السّريرُ الذي عليهِ بمجرّدِ ما يشتاقُ الإنسانُ لصاحبِهِ الذي يريدُ رؤيتهُ يطيرُ به بقدرةِ الله تعالى حتّى ينزل بهِ أمامَ سريرِ ذلكَ الشخص فيتجالسانِ فيتحدّثانِ، ثمّ يطيرُ بهِ إذا أرادَ الرجوعَ إلى منزلِهِ وهذا هو معنى الآية: ﴿عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [سورة الحجر/47].
وأمّا قولُهُ تعالى: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ﴾ [سورة الغاشية/13] قالَ ابن عبّاسٍ: ألواحُهَا من ذهبٍ مكلّلَة بالزَّبرجَدِ والدُّر والياقوتِ مرتفعة ما لم يجئ أهلهَا، فإذا أرادَ أن يجلسَ عليها أصحابُهَا تواضَعَت لهم حتّى يجلسوا عليها، ثم ترتفِعُ إلى موضِعِهَا، وأحيانًا يركبونَ خيولا من ياقوتٍ لها أجنحةٌ من ذهبٍ تطيرُ بهم.
وأهلُ الجنّةِ جردٌ مردٌ في عمرِ ثلاثةٍ وثلاثينَ عامًا، لا تنبتُ لهم لحيةٌ وليس على أذرعتِهِم ولا على بطونِهِم ولا على سيقانِهم شعرٌ إلا شعر الرّأسِ والحاجِبِ، طعامُهُم وشرابُهُم لا يتحوَّلُ إلى الغائِطِ والبولِ، إنّما يفيضُ من جِسمهم عرقًا كالمسكِ ليس كعرقِ الدنيا، عرقُ الدنيا يتولَّدُ منه الوَسَخُ والقَملُ.
وقد روى مسلمٌ من حديثِ أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مُنادٍ: إنَّ لكم أن تَحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أَنْ تَصِحُّوا فلا تَسقموا أَبدًا، وإنَّ لكم أنْ تَشِبُّوا فلا تَهرموا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تنعموا فلا تَبأسوا أبدًا”، وءاخرُ من يدخل الجنةَ من المؤمنينَ له مثل الدنيا وعشرة أمثالِهَا وقد وردَ في ذلك حديثٌ صحيحٌ رواهُ البخاريُّ وغيرُه.
والواحدُ من أهلِ الجنّةِ أقلّ ما يكونُ عندَهُ من الولدانِ المخلَّدينَ عشرة ءالافٍ، بإحدى يدي كلّ منهم صحيفة من ذهبٍ وبالأخرى صَحيفة مِن فِضَّةٍ قالَ تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ﴾ [سورة الزخرف/71] والأكوابُ جمعُ كوبٍ وهو إناءٌ مستديرٌ لا عروةَ لهُ أي لا أذنَ لَهُ. وقال تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ﴾ [سورة الطور/24] أي يطوفُ للخدمَةِ غلمانٌ كأنّهم من الحُسنِ والبَيَاضِ لؤلؤٌ مكنونٌ أي لم تمسّهُ الأيدي وهؤلاء الغِلمان خلقٌ من خلقِ الله ليسوا بشرًا ولا جنًّا ولا ملائكة.
قال المؤلف رحمه الله: وقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في وَصْفِها: “هِيَ ورَبّ الكَعْبةِ نُورٌ يتَلأْلأُ ورَيْحَانَةٌ تَهتَزُّ، وقَصرٌ مَشِيدٌ ونَهرٌ مُطَّرِدٌ، وفَاكهةٌ كثيرةٌ نَضِيجَةٌ، وزَوجةٌ حَسناءُ جَميلةٌ، وحُلَلٌ كثيرةٌ في مُقَامٍ أبَديّ في حُبْرَةٍ ونَضْرَةٍ” رواهُ ابنُ حبانَ.
الشرح: في بداية الحديثِ يقولُ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام لأصحابِهِ: “هل مُشمّرٌ للجنّةِ، فإنَّ الجنّةَ لا خَطَرَ لها”، أي لا مِثلَ لها، وقولُهُ عليه الصلاة والسلام: “هي وربّ الكعبةِ” أي أقسمُ بربّ الكعبةِ على أنّها نورٌ يتلألأُ أي فلا تحتاجُ الجنّةُ إلى شمسٍ ولا قمرٍ، لا ظلامَ فيها هناكَ كما في الدنيا، لكنَّ مقدار اللّيلِ والنَّهارِ يُعرَفُ بعلامةٍ جعلها الله فيها، إذا كانت المرأةُ من نساءِ الجنّةِ كما نَعَتَهَا رسولُ الله وَوَصَفَهَا بحيثُ لو اطّلعَت على هذه الدنيا لأضاءَت ما بينَ المشرقِ والمغربِ فمن أين يكونُ فيها ظلامٌ، ولو كانت أعينُ أهل الجنّةِ بنسبةِ قُوَّتِها اليومَ لَعَمِيَ أهلُ الجنّةِ من عظمِ نورِ الجنّةِ، لكنَّ الله يعطيهم قوّةً أضعافًا مضاعفة إلى حدّ يعلمُهُ الله، الله أعطى أبصارَهُم قوّةً بحيثُ تستطيعُ أن تَرَى مسافَة ألف سنةٍ كأنَّها كَفٌّ، يرونها رؤيةً ليسَ فيها اشتباهٌ.
ووصفها بأنّها “ريحانةٌ تهتزُّ”، أي ذاتُ خضرةٍ كثيرةٍ يانعةٍ أي معجبةِ المنظرِ، وليسَ هناكَ مواسم للثّمارِ بل في أيّ وقتٍ ما تشتهيهِ تجدهُ فقد قال الله تعالى: ﴿لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ [سورة الواقعة/33] فإذا كانَ المؤمنُ جالسًا أو مستلقيًا فاشتَهَى أن يأكلَ من شجرةٍ من أشجارِ الجنّةِ مالت إليه ليأخُذَ منها ما يريدُ ثمّ تعودُ كما كانت وقد أنبَتَ الله فيها بَدَلَ الذي أخذَ منها، ثمّ إنَّ كلّ شجرةٍ في الجنّةِ ساقُهَا من ذهبٍ، وأشجارُ الجنّةِ لمّا تتحرَّكُ يصدُرُ لهَا صوتٌ جميلٌ جدًّا تميلُ إليه النفوسُ، وروى البخاريُّ أنّهُ يوجَدُ في الجنّةِ شجرةٌ اسمها طُوبَى يسيرُ الراكِبُ في ظِلّهَا مائة عامٍ لا يقطعهَا تتفتَّقُ بثيابِ أهلِ الجنّةِ أي يخرجُ منها ثيابٌ لأهلِ الجنةِ يلبسونها، فثيابهم منها الحريرُ والسُّندُسُ والاستبرقُ، ومجامرهُم الألوَّةُ أي العودُ وأمشاطُهُم الذهبُ، وكلامُ أهلِ الجنةِ عربيٌّ، يذكرونَ الله ويسبّحونَهُ ويقرأونَ القرءانَ أمَّا الصلاةُ فلم يرد لها ذكر.
وفي الحديثِ المارّ أنَّ الرسولَ وصفَ الجنةَ بأنها قصرٌ مَشيدٌ أي فيها قصورٌ عاليةٌ مرتفعةٌ في الهواءِ، وقد صحَّ في الحديثِ أنَّ للمؤمنِ في الجنّةِ خيمةً من لؤلؤةٍ مجوّفة واحدةٍ طولهَا في السّماءِ سِتّونَ ميلًا. وفي الجنّةِ جنّتانِ ءانيتهما وما فيهما من ذَهَبٍ، يسكنهما المقرّبونَ، وهناكَ أيضًا جنّتانِ من فضّةٍ ءانيتهما وما فيهما. وقد وردَ في الحديثِ الصّحيحِ أنَّ الجنّةَ منها ما بناؤهُ لَبِن ذهب ولَبِن فضة، وهي كما قالَ رسولُ الله: “جنانٌ كثيرةٌ” رواه البخاري. وكذلك يوجد في الجنة غرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها.
وقولُهُ عليه السلامُ في الحديثِ المارّ: “نهرٌ مُطَّرِدٌ” أي أنهارٌ جاريةٌ، قالَ الله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ [سورة محمد/15] اللّبنُ المذكورُ في الآيةِ المرادُ به الحليبُ، والخمرُ الذي هناكَ لا يُسكِرُ ولا يُغَيّبُ العقلَ ولا يصدعُ الرّأس وليس مُرَّ الطَّعمِ بل هو لذيذُ الطعمِ جدًّا، والعسلُ الذي هناكَ غير العسلِ الذي تُخرجهُ النحلُ.
وقولُهُ عليه السلامُ في الحديثِ المارّ: “وفاكهةٌ نضيجةٌ” أي أنَّ فيها من الفواكِهِ كلّ ما تشتهيهِ النَّفسُ، وكلّ ما فيها من الفواكِهِ نضيجٌ. وفي الجنّةِ أيضًا طيورٌ وغَنَمٌ، وقد وَرَدَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: “إنّك لتنظر إلى الطَّيرِ في الجنّةِ فتشتهيهِ فيخرّ بينَ يديكَ مشويًّا”، ثم بعدما يأكلهُ المؤمنُ يعيدهُ الله كما كانَ فيطيرُ.
وقولهُ عليه السلامُ في الحديثِ المارّ: “وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ” فقد وَرَدَ في الحديثِ الذي رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ: “لكلّ امرئ منهم زوجتانِ من الحورِ العينِ” وهذا الحديثُ صحيحٌ متّفقٌ عليهِ، ووردَ في الحديثِ الصّحيح أيضًا الذي رواه الضياء المقدسي في المختارة: “أنَّ الرّجلَ من أهلِ الجنّةِ ليطوفُ في الغَدَاةِ الواحدةِ على مائةِ عَذرَاء”. وجاءَ في الحديثِ الصّحيحِ أنّ الشّهيدَ له اثنتانِ وسبعونَ زوجةً، ثمّ سائرُ أهلِ الجنةِ على مراتبَ منهم من عندهُ مائة من النّساءِ، في الجنّةِ الله يُعطي الواحدَ من الرّجالِ قوّةَ مائةِ رجلٍ في الشهوةِ، وكذلكَ في الأكلِ والشُّربِ، ولا يصيبُ المؤمنَ فتورٌ عَقِبَ الجماعِ ولا ينزلُ منه منيٌّ لأن الجنةَ ليسَ فيها ذلكَ ولكن يحسُّ باللّذّةِ دونَ نزولِ المنيّ. وقد ثَبَتَ في الحديثِ أنّ نساءَ أهلِ الجنّةِ على رءوسهنَّ خُمرٌ، الدنيا وما فيها لا تساوي الخِمَار الذي يلبسنَهُ نساءُ أهل الجنّةِ، وهُنّ يلبسنَ الخِمَارَ تجمُّلًا زيادةً في الحُسنِ، والخمَارُ ما تُغَطّي النساءُ بهِ رءوسهنَّ. ونساءُ الجنّةِ أبكارٌ أي كلما أتى المؤمنُ زوجتَهُ وجدَها بكرًا، ثمَّ مع كثرةِ أزواجِ أهلِ الجنّةِ لا يحصُلُ بين نسائِهم تباغضٌ وغيرةٌ وتحاسُدٌ لأنَّ الله يطهّرُ قلوبَ أهلِ الجنةِ من ذلكَ، والمؤمنةُ التقيَّةُ من بناتِ ءادمَ أفضلُ عندَ الله من الحُورِ العينِ مقامًا.
والحورُ العين نساءُ أهلِ الجنةِ من غير الإنسِ خُلقنَ خلقًا من غيرِ توالُدٍ إكرامًا للمؤمنينَ، والحورُ جَمعُ حَوْرَاء والعِينُ جَمعُ عَينَاء، والحورُ من الحَوَر وهو شدةُ بياضِ العينِ وشدةُ سوادِهَا، وأما العِينُ فمعناهُ واسعاتُ العيونِ. وقد قالَ الله تعالى في وصفهنّ: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [سورة الرحمن/58] وهنَّ خيراتٌ حِسانٌ أزواجُ قومٍ كرامٍ. والواحدةُ منهنَّ من شدَّةِ صفاءِ عَظمِهَا يُرَى مخُّ ساقِهَا من خلالِ الجِلدِ.
وليسَ في الجنَّةِ عَزبٌ ولا عَزبَةٌ بل كلُّهم يتزوَّجونَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما في الجنَّةِ أعزَب” رواه مسلم.
وقولُهُ عليه السلامُ في الحديثِ المذكورِ: “في مقامٍ أبديّ” أي في حياةٍ دائمةٍ لا نهايةَ لها.
وقولُهُ: “في حبرةٍ”، أي سرورٍ دائمٍ.
وأمّا قوله: “نضرةٍ” فمعناهُ أنَّ وجوهَ أهلها ناضرةٌ أي جميلةٌ لأنّهم ليس عليهم فيها كآبةٌ. وليُعلَم أنَّ أعظمَ نعيمِ أهلِ الجنّةِ هو رؤيتُهم لله عزَّ وجلَّ، فليسَ شىءٌ أحبّ إلى أهلِ الجنةِ من رؤيةِ الله، يَرونَهُ بلا كيفٍ ولا مكانٍ ولا جهةٍ، الأولياءُ يرونَهُ كلّ يومٍ مرتينِ أمّا سائرُ المؤمنينَ ففي الأسبوعِ مرّةً.
وفي نهايةِ هذا الحديثِ قالَ الصّحابةُ لرسولِ الله: “نحنُ المُشمّرونَ يا رسولَ الله”، فقالَ: “قولوا إن شاءَ الله”، وذلك ليعلّمَهم التّفويضَ إلى الله في أمورِهم كُلّها، فهنيئًا لمنْ عَمِلَ لآخرتِهِ فإنَّ نعيمَ الدنيا بالنسبةِ لنعيمِ الآخرةِ كلا شىء، فقد قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “ما الدُّنيا في الآخرةِ إلا مثل ما يجعل أحدُكُم إصبعَهُ في اليَمّ فَليَنظُر بم يَرجِعُ”. رواه مسلم، ومعناهُ هذا البللُ الذي يعلقُ بالإصبعِ ماذا يكونُ بالنّسبةِ لعظمِ البحرِ. وقد ثبتَ حديثُ: “موضعُ سَوطِ أحدِكُم من الجنّةِ خيرٌ من الدنيا وما عليها” رواه البخاري. السَّوطُ هو الآلةُ التي تُستَعمَلُ للضربِ تكونُ غالبًا من الجِلدِ أي أن المساحةَ التي يأخذُهَا السوطُ إذا وُضِعَ على الأرضِ من الجنةِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها.
ومن خصائصِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أنه هوَ أولُ من يأخذُ بحلقَةِ بابِ الجنةِ يستفتِحُ فيقولُ المَلَكُ خازنُ الجنّةِ الموكَّلُ ببابِها: مَن، فيقولُ: “محمّدٌ”، فيقولُ المَلكُ: بكَ أُمِرتُ لا أفتحُ لأحدٍ قبلَكَ، رواه مسلم.
وأمّةُ محمّدٍ فيهم سبعونَ ألفًا منهم وجوهُهم كالقمرِ ليلةَ البدرِ يدخلونَ الجنّةَ دفعةً واحدةً بلا حسابٍ ولا عقابٍ وهؤلاءِ هم الأولياءُ الصالحونَ من عباد الله، ويليهم أناسٌ وجوهُهُم كأشد كوكبٍ دُرّيّ مع كلّ ألفٍ من السبعينَ ألفًا سبعونَ ألفًا يدخلونَ الجنّةَ بلا حسابٍ ومعهم زيادة عليهم لا يَعلَمُ مقدارَهم إلا الله يدخلونَ الجنةَ أيضًا بلا حسابٍ وأمةُ محمّدٍ خيرُ الأممِ وأكرَمُهُم على الله.
ومن خصائصِ هذه الأمةِ ما وَرَدَ في الصحيحِ من قولِهِ عليه السلامُ: “نحنُ الآخرونَ السَّابقونَ” رواه البخاري، أي الآخرونَ وجودًا السّابقونَ دُخولا الجنّة.
صفةُ جهنَّمَ
قال المؤلف رحمه الله: صفةُ جهنَّمَ
والنَّارُ حَقٌّ، فَيَجِبُ الإيْمانُ بها وبأنَّها مَخلُوقَةٌ الآنَ، كَما يُفْهَم ذلِكَ منَ الآيَاتِ والأحادِيثِ الصّحيحةِ، وهيَ مَكانٌ أعَدَّهُ الله لِعَذابِ الكُفَّارِ الذي لا يَنْتَهي أبدًا وبَعْضِ عُصَاةِ المُسْلِمينَ، ومَكانُها تَحْتَ الأرْضِ السَّابعةِ مِن غَيرِ أن تَكُونَ مُتَّصِلةً بها.
الشرح: النارُ حَقٌّ أي وجودُها ثابتٌ فيجبُ الإيمانُ بها وبأَنّها مخلوقةٌ الآنَ كما يُفهَمُ ذلك من النصوصِ الواردةِ كحديثِ: “أُوقِدَ على النَّارِ ألفَ سنةٍ حتّى احمَرّت وألفَ سنةٍ حتّى ابيضَّت وألفَ سنةٍ حتَّى اسوَدَّت فهي سَودَاءُ مظلمةٌ” رواهُ التّرمذيُّ. وجهنّمُ ليست متَّصلةً بالأرضِ السابعةِ بل تحتَها منفصلة عنها، لها أرضُهَا وسقفُهَا المستقلانِ.
قال المؤلف رحمه الله: ويَزِيْدُ الله في حَجْمِ الكَافِر في النّارِ لِيَزْدَادَ عَذَابًا حَتّى يكونَ ضِرْسُه كجبَلِ أُحُدٍ.
الشرح: ما بينَ مَنكبي الكافِرِ يومَ القيامَةِ مسيرة ثلاثةِ أيّامٍ، ولو كانت خِلقَتُهُم تكون كما هي في الدُّنيا لذابوا بِلَحظةٍ.
قال المؤلف رحمه الله: وهوَ خَالِدٌ في النَّار أبدًا لا يَمُوتُ فِيْها ولا يَحْيا أي حَياةً فيها راحة، لَيْسَ لَهُم فِيها طَعامٌ إلا مِن ضَرِيْعٍ، وشَرابُهُم منَ الماءِ الحارّ المُتنَاهي الحرارةِ.
الشرح: الكفَّارُ يخلدونَ في النَّارِ أَبدًا لا يخرجونَ منها كما ثَبَتَ ذلكَ في النصوصِ الشَّرعيّةِ كقولِهِ تعالى:﴿إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا﴾ (64) ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ (65) [سورة الأحزاب] ولا يموتونَ في النَّارِ فيرتاحونَ من العذابِ ولا يَحيَونَ حياةً هنيئةً طيّبةً بل هم دائمًا في نَكَدٍ وعَذَابٍ، وهذا معنى قولِ الله تعالى: ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى﴾ [سورة طه/74]، وقالَ ملاحدةُ المتصوفةِ: إن أهلَ النارِ يعودونَ يتلذذونَ في النارِ حتى لو أُمروا بالخروجِ لا يَرضَونَ، وهذا رَدٌّ للنصوصِ الشرعيةِ وردُّ النصوصِ كُفرٌ.
وَطعامُهُم من ضريعٍ وهو شَجَرٌ كريهُ المنظرِ كريهُ الطَّعمِ كريهُ الرائِحَةِ، يوجَدُ في البلادِ الحارَّةِ شبيهُهُ، قال تعالى: ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ﴾ (6) ﴿لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾ (7) [سورة الغاشية]، وقالَ تعالى:﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ﴾ (43) ﴿طَعَامُ الأَثِيمِ﴾ (44) ﴿كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ﴾ (45) ﴿كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾ (46) [سورة الدخان].
وهذه الشجرةُ منظرُهَا قبيحٌ جدًّا ورائحتُها كريهةٌ جدًّا لا تُطَاقُ لكن هم من شِدّةِ اضطرارِهِم ومن شِدّةِ جُوعِهِم وحِرمانِهِم كأنّهم يأكلونَهُ بدون اختيارٍ، ملائكةُ العذابِ يُطعمونهم من هذا، قال تعالى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ (62) ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾ (63) ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ (64) ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ (65) ﴿فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ (66) [سورة الصافات].
وكذلكَ يأكُلُ أهلُ النَّارِ من الغِسلين قالَ تعالى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ﴾ (35) ﴿وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ﴾ (36) ﴿لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ ﴾ (37) [سورة الحاقة]، والغِسلينُ هو ما يَسيلُ من جلودِ أهلِ النَّارِ، لأنّه كُلَّما أَنضَجَت جلودَهُم النارُ يُكسونَ جُلودًا غيرَها فيها رطوبة.
وأمَّا شرابُ أهلِ النَّار فهو الماءُ المتناهي في الحرارةِ قال تعالى: ﴿إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ [سورة النبأ/25]، والحميمُ هو الماءُ المتناهي في الحرارةِ، والغَسَّاقُ هو ما يسيلُ من جلودِ أهلِ النّارِ، ملائكةُ العذابِ يسقونَهم من هذا فَتَقَطَّعُ أمعاءَهُم.
وثيابُ الكفَّارِ من نارٍ قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ [سورة الحج/19].
وقد خلقَ الله في جهنَّمَ لتعذيبِ الكفَّارِ حيّاتٍ الحيّةُ الواحدَةُ كالوادي، وعقارب كالبغالِ.
قال المؤلف رحمه الله: وأمَّا كَونُ الجَنَّةِ فَوقَ السَّماءِ السَّابعةِ فذَلِكَ ثابِتٌ فِيْمَا صَحَّ مِنَ الحديثِ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم “وفوقَه” يعني الفردوسَ “عرشُ الرحمن”، وأمّا كَونُ جهَنّمَ تَحْتَ الأَرْضِ السَّابعةِ فقَد قالَ أبو عبدِ الله الحاكمُ في المُسْتَدرَكِ: إنَّ ذلكَ جاءَت فيهِ رِواياتٌ صَحيحةٌ.
الشرح: ذَكَرَ أبو عبدِ الله الحاكِمُ في كتابِهِ المستَدرَك على الصحيحَينِ أنه جَاءَت رواياتٌ صحيحةٌ في أنَّ جهنَّم تحتَ الأرضِ السَّابِعَةِ.
الشَّفَاعَةُ
قال المؤلف رحمه الله: الشَّفَاعَةُ
والشَّفَاعَةُ حَقٌّ، وهي سُؤالُ الخَيرِ منَ الغَيْرِ لِلْغَيرِ، فيَشْفَعُ النَّبيُّونَ والعُلَماءُ العَامِلُونَ والشُّهدَاءُ والملائكةُ، ويشفَعُ نبيُّنا لأهْلِ الكبَائرِ مِن أمَّتِه.
الشرح:يجبُ الإيمانُ بالشّفاعَةِ التي ادَّخَرَهَا النبيُّ لأمّتِهِ ومعناهَا لغة سؤالُ الخيرِ أي طلبُ الخيرِ من الغيرِ للغيرِ، والشفاعةُ في الآخرةِ تكونُ لتخليصِ الناسِ من حَر الشمسِ يومَ القيامَةِ وهذه لسيدنا محمدٍ، أما الكفار فينتقلون من حرّ الشمسِ إلى عذابٍ أشد. ومن الشفاعَةِ الشفاعَةُ في إخراجِ بعضِ عُصَاةِ المسلمينَ الذين ماتوا بلا توبةٍ من جهنمَ، وهذه يشتركُ فيها الرسولُ وغيرُهُ فقد قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يخرجُ ناسٌ من النارِ بشفاعَةِ محمدٍ” رواه البخاريُّ، ومن هذا الحديثِ ونحوهِ يُعلَمُ أنه لا بُدَّ أن يدخلَ بعضُ عصاةِ المسلمينَ النارَ، فلا يجوزُ الدعاءُ بنجاةِ جميعِ المسلمينَ من دخولِ النارِ، وقولُ بعضِ المنتسبينَ للطريقةِ القادريةِ عند اجتماعهم لقراءةِ الأورادِ: “اللهم أَجِرنا وأَجِر والدينا وجميعَ المسلمينَ من النارِ” حرامٌ وهذا يحصلُ في الجزائرِ وفي سوريا والحبشةِ يجتمعونَ بين المغربِ والعشاءِ فيقرأونَ أورادَهم ويقولونَ هذا اللفظ سبع مرات، وهذا داءٌ من أدواءِ الجهلِ فإن أكثرَ المنتسبينَ إلى الطُّرُقِ جهالٌ ينتسبونَ لأخذ الطرقِ قبلَ أن يتعلموا العلمَ الضروريَّ. والعَجَبُ من هؤلاءِ كيف خَفِيَ عليهم فسادُ هذا الكلامِ مع أنهم يسمعونَ أن الرسولَ يشفَعُ لبعضِ أمتِهِ في إخراجهم من النارِ، ولو سَلَكَ هؤلاءِ مَسلَكَ الصوفيةِ الحقيقيين لَسَلِموا لأن الصوفيةَ الحقيقيةَ من شروطِهم الأساسية تَعلُّمُ علم الدينِ الضروريّ الذي فَرَضَهُ الله على كل مُسلمٍ، وهؤلاءِ حالُهُم كحالِ من يريدُ أن يَصعَدَ إلى السطحِ الذي لا سبيلَ للوصولِ إليهِ إلا بارتقاءِ السُّلَّمِ بغيرِ سُلَّمٍ، ولعلَّ بعض هؤلاءِ من شدةِ الجهلِ يقرأونَ هذا اللفظَ ولا يفهمونَ معناهُ، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أما الصوفيةُ الحقيقيةُ وهم الذين جَمَعوا بين العلمِ والعملِ به يكونونَ محصّلِينَ للعلمِ الذي لا بُدَّ لكل مكلفٍ من تعلمِهِ والعملِ به، وبعضُهم يكونونَ جمعوا من العلمِ زيادةً على العلمِ الضروري وهؤلاءِ علماء صوفية هؤلاء مِن خيارِ خَلقِ الله والطاعِنُ فيهم جاهلٌ بالدّينِ، ومن رءوسِ هؤلاءِ ومشاهيرِهم الجنيدُ بن محمد البغداديُّ الذي توفي في أواخِرِ القرنِ الثالثِ الهجري.
اعلم أن الصوفيةَ بهذا المعنى يَشمَلُ الصحابةَ الذين كانوا بهذه الصفةِ الذين جَمَعوا بين العلمِ والعملِ مع الزُّهدِ وتَركِ التَّنَعُّمِ لأن تَركَ التنعم حالُهُم، فالطبقةُ الأولى من هؤلاءِ هم الخلفاءُ الأربعةُ لأنهم كانوا على هذه الصفةِ أي علماء عاملينَ زهادًا في الدنيا تَرَكوا التنعمَ الذي أحلَّهُ الله من غيرِ تحريمٍ عَمَلًا بما أرشدَ إليهِ الرسولُ لقولِهِ لمعاذِ بن جبلٍ: “إياكَ والتنعُّمَ فإن عبادَ الله ليسوا بالمتنعمينَ” رواه أحمد، فقد ثبتَ عن عمرَ رضي الله عنه أنه كتبَ لبعضِ النواحي إرشادات جاءَ فيها: “واخشوشِنوا وتَمَعدَدوا” والاخشيشَانُ هو تَركُ التنعمِ والمعنى خذوا بسِيرَة معدّ بن عدنان أحد أجداد الرسول. تَشبَّهُوا به لأنه كان رجلًا صاحب حزم وجلادة ما كان يركن للملذات ما كان يتبع الملذات بل كان يلتزم خشونةَ العيشِ وتحملَ المشقات.
ومن العجبِ العُجَابِ تكفيرُ وهابية العصرِ للصوفيةِ بلا تفصيلٍ مع أن زعيمَهُم ابن تيميةَ قالَ في الجنيدِ إنهُ إمامُ هُدًى، ذكرَ ذلكَ في كتابَين من مؤلفاتِهِ، بل قالوا من شدةِ خَبطِهِم وخَلطِهِم: يجبُ محاربةُ الصوفيةِ قبلَ اليهودِ، والواقعُ أنهُ منذُ عصرِ الصحابةِ إلى عصرنا هذا لا تزالُ صوفيةٌ صادقةٌ متحقّقَةٌ جَمعوا بين العلمِ والعملِ.
والذين يحتاجونَ للشّفاعَةِ هم أهلُ الكبائِرِ أمَّا الأتقياءُ فلا يحتاجونَ للشفاعَةِ.
قال المؤلف رحمه الله: فَقد جَاءَ في الحَديثِ الصَّحيحِ: “شَفَاعَتِي لأَهْلِ الكبَائرِ مِن أمَّتي” رَواهُ ابنُ حِبّانَ.
أي غَيرُ أهْلِ الكَبَائرِ لَيْسُوا بحَاجَةٍ للشَّفَاعةِ، وتَكُونُ لبَعْضِهم قبلَ دخولِهِمُ النّارَ ولِبَعْضٍ بَعدَ دخُولِهمْ قَبْلَ أن تَمضِيَ المُدَّةُ التي يَسْتَحِقُّونَ بِمَعَاصِيْهِم، ولا تكونُ للكُفَّارِ، قَالَ الله تَعالى: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [سورة الأنبياء/28].
الشرح: معنى حديث: “شفاعَتي لأهلِ الكبائِرِ من أمّتي” أنَّ غير أهلِ الكبائِرِ لا يحتاجونَ للشَّفاعَةِ للإنقاذِ من العذابِ، وكذلكَ لا يحتاجُ للشّفاعَةِ الذين ماتوا وهم تائبونَ، ومع هذا يقولُ بعضُ العلماءِ إنَّ للرّسولِ شفاعاتٍ أُخرى.
قال المؤلف رحمه الله: وأوَّلُ شَافِعٍ يَشْفَعُ هُوَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
الشرح: النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسّلامُ هو أوَّلُ من يشفعُ وأوَّلُ من تُقبَلُ شفاعَتُهُ، فهو يختصُّ بالشّفاعَةِ العُظمَى وقد سُمّيت بذلكَ لأنّها لا تختصُّ بأمّتِهِ فقط بل ينتفعُ بها غير أمّتِهِ من المؤمنينَ، وهي لتخليصهم من الاستمرارِ في حَرّ الشّمسِ في الموقِفِ، فإنَّ النّاسَ عندما يكونونَ في ذلكَ الموقف يقولُ بعضهم لبعضٍ: تعالوا لنذهبَ إلى أبينا ءادم ليشفَع لنا إلى ربّنا، فيأتونَ إلى ءادم يقولون: يا ءادمُ أنت أبو البشرِ خَلَقَكَ الله بيدِهِ – أي بعنايةٍ منه – وأسجَد لكَ ملائكتهُ فاشفَع لنا إلى ربّنا، فيقولُ لهم: لستُ فلانًا، اذهبوا إلى نوحٍ، فيأتونَ نوحًا فيطلبونَ منه، ثمّ يقولُ لهم: ايتوا إبراهيمَ، فيأتونَ إبراهيم، ثم إبراهيمُ يقولُ لهم: لست فلانًا، معناهُ أنا لستُ صاحبَ هذهِ الشّفاعَةِ، فيأتونَ موسى فيقولُ لهم: لستُ فلانًا، فيقول لهم: ايتوا عيسى، فيأتونَ عيسى فيقولُ لهم: لست فلانًا ولكن اذهبوا إلى محمّدٍ، فيأتونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فيسجدُ النَّبيُّ لربّهِ فيُقَالُ له: ارفع رأسَكَ واشفَع تُشَفَّع وسَل تُعطَ، هذه تُسمَّى الشّفاعة العظمَى لأنّها عامَّةٌ. وأما الكفارُ فلا ينتفعونَ بها لأنهم يُنقَلونَ من هذا الموقفِ إلى موقفٍ أشدّ لا يستفيدونَ تخفيفَ مشقةٍ ولا نَيلَ راحَةٍ.
ولا تكونُ الشّفاعَةُ إلا لمن ءامنَ بمحمّد، ولذلكَ قالَ لابنتِهِ فاطمةَ أوّل ما نَزَلَ عليهِ القرءانُ: “يا فاطمةُ بنت محمّدٍ سَليني ما شئتِ من مالي لا أُغني عنكِ مِنَ الله شيئًا” رواه البخاري، ومعناهُ لا أستطيعُ أن أنقذَكِ من النَّارِ إذا لم تؤمني، أما في الدّنيا أستطيعُ أن أنفعَكِ بمالي، أمَّا في الآخرةِ لا أستطيعُ أن أنفعَكِ إن لم تَدخلي في دعوةِ الإسلام .
الرُّوْحُ
قال المؤلف رحمه الله: الرُّوْحُ
يَجبُ الإيمانُ بالرُّوحِ وهي جِسْمٌ لَطِيفٌ لا يَعلَمُ حَقِيقَتَهُ إلا الله.
الشرح: الجسمُ إمّا أن يكونَ كثيفًا كالشجرِ والحجرِ والإنسانِ وإمَّا أن يكونَ لطيفًا كالهواءِ والجِن والملائكةِ والرُّوحِ، فالملائكةُ يستطيعونَ أن يدخلوا في جسمِ ابن ءادم من غيرِ أن يشعُرَ ويحسَّ بهم، والجنيُّ كذلكَ يستطيعُ أن يدخُلَ في جسمِ الإنسانِ غير الأنبياء من غير أن يشعُرَ بهِ كالقرينِ الذي يُوسوِسُ للإنسانِ ليأمرهُ بالشَّر يدخل إلى صدرِ الإنسانِ من غير أن يشعُرَ به الشخصُ.
تنبيهٌ: لا يستطيعُ الشيطانُ ولو كان قرينًا أن يدخُلَ في جسمِ نبيّ، ومن اعتقَدَ ذلك كَفَرَ، وإنّما الشيطانُ يوسوسُ لهم من خارج لكن لا يتسلَّطُ عليهم أي لا يتمكّنُ منهم، وكذلكَ ليسَ له سلطانٌ على الأولياءِ قالَ الله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [سورة الحجر/42].
فالرّوحُ من الأجسامِ اللّطيفَةِ وقد أخفَى الله عنَّا حقيقَتها قالَ الله تعالى لنبيّهِ محمدٍ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [سورة الإسراء/85] فنتركُ الخَوضَ في البحثِ عن حقيقَتِهَا لأنه أمرٌ لن نَصِلَ إليهِ.
قال المؤلف رحمه الله: وقَد أَجْرَى الله العَادَةَ أن تَسْتَمرَّ الحيَاةُ في أجْسَامِ الملائِكَةِ والإنسِ والجِنّ والبَهائمِ مَا دامَت تِلكَ الأجْسَامُ اللطيفَةُ مُجتَمِعةً معَها، وتُفَارِقَها إذَا فارَقَتْها تلكَ الأجْسَامُ، وهيَ حادِثةٌ لَيسَت قَديمَةً، فَمن قالَ إنَّها قَدِيمةٌ ليسَت مخلُوقَةً فقَد كَفَرَ.
الشرح: الأرواحُ حادثةٌ مخلوقةٌ ولكنّها باقيةٌ لا تَفنَى، وبعدَ أن خَلَقَ الله سيدَنا ءادمَ عليه السلام أخرجَ من ظهرِهِ أرواح ذرّيتِهِ واستنطقَهم فاعترفوا كُلُّهم بألوهيّةِ الله، ثمّ بعدَ أن خرجوا من بطونِ أمّهاتِهِم استمروا أيضًا على مُقتَضَى ذلكَ الاعتراف لكنَّ الله أنساهُم تلكَ المفاهيم ذهبت عنهم المعلوماتُ التي كانت لهم، ثم بعدَ ذلكَ منهم من تَعَلَّمَ الإيمانَ ونَشَأَ عليهِ ومنهم من تَعَلَّمَ الكُفرَ ونشأَ عليهِ، فصارَ قسمٌ من العبادِ مؤمنينَ وقسمٌ منهم كافرينَ.
قال المؤلف رحمه الله: وكذلكَ مَن قالَ البَهائمُ لا أَرْواحَ لهَا كمَا قالَ ذلكَ مُحمّدُ مُتَوَلّي الشَّعْراوِيُّ في كتابَيْه التفسير والفتاوى. وذَلِكَ تَكْذِيبٌ للقُرْءَانِ وإنكارٌ للعِيان قَالَ تَعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [سورة التكوير/5]. وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لَتُؤَدَّنَّ الحُقوقُ إلى أهْلِها يَومَ القِيامةِ حَتّى يُقادَ لِلشَّاةِ الجَلْحاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ” رَواهُ مُسْلِمٌ.
الشرح: معنى هذا الحديث أنَّ الله تعالى يأخُذُ الحقوقَ لأهلِها حتّى يُقادَ أي حتى يؤخَذَ حَقّ الجَلحَاءِ أي الشاة التي ليسَ لها قَرنٌ مِنَ القَرناءِ التي ضَرَبَتها في الدّنيا، القرناءُ معناهُ التي لها قَرنٌ، ولكن ليس معنى ذلكَ أن تؤخذَ القرناءُ التي ضَرَبت الأخرى إلى النّارِ كما يَحصُلُ لبني ءادمَ، بنو ءادمَ إذا ضَرَبَ أحدُهُم في الدنيا إنسانًا ظُلمًا يُقتَصُّ منهُ بنارِ جهنّمَ، أمّا البهائمُ فليست كذلكَ، إنما هذه تضربُ هذه كما ضَرَبَتها في الدنيا ثمّ تموتُ ولا تدخل الجنّةَ ولا النَّارَ إنّما تعود ترابًا. وما يقال من أن ناقةَ صالحٍ تدخل الجنة وكذلك كلب أهل الكهفِ فلا أصل له. ويجبُ الكفُّ عن ذلك القول.
رَحْمَةَ الله شَامِلَةٌ في الدُّنيا للمؤمنين والكَافرينَ
قال المؤلف رحمه الله: بَيانُ أنَّ رَحْمَةَ الله شَامِلَةٌ في الدُّنيا للمؤمنين والكَافرينَ خاصَّةٌ بالمُؤمنِينَ في الآخِرَةِ
والله تَعالى يَرْحَمُ المُؤْمِنينَ والكَافِرينَ في الدُّنْيا وَسِعَتْ رَحمَتُه كُلًّا، أَمّا في الآخرةِ فرَحمَتُه خَاصَّةٌ للمؤمنينَ، قالَ الله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سورة الأعراف/156].
أَي وسِعَت في الدُّنيا كلَّ مُسْلمٍ وكَافِرٍ، قَالَ: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ (156) أي في الآخِرةِ، ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ (156) ، أي أخُصُّها لمن اتَّقَى الشّرْكَ وسَائِرَ أنْواعِ الكُفْرِ.
الشرح: هذه الآية دليلٌ على أنَّ الله تعالى يرْحمُ المؤمنينَ والكافرينَ في الدنيا وذلك بأن يُعطِيَهُم الصحَّةَ والرّزقَ والهواءَ العليلَ والماءَ الباردَ وما أشبهَ ذلكَ، أمّا في الآخرةِ يخصُّهَا للمؤمنينَ.
قال المؤلف رحمه الله: وقَالَ تَعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [سورة الأعراف/50].
الشرح: أهلُ النَّارِ ينادونَ أهلَ الجنّةِ، إمّا يرونهم عيانًا مع بعد المسافة بين الجنة والنّار في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ هؤلاءِ في النارِ وهؤلاءِ في الجنَّةِ وإمَّا يسمعونَ صوتَهم، فيطلبونَ من الضّيقِ الذي هم فيه ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ﴾ (50) فيكونُ جوابُ أهلِ الجنَّةِ لهم: ﴿إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (50)، فيسكت أهل النَّارِ.
قال المؤلف رحمه الله: أي أنَّ الله حرَّمَ على الكَافِرينَ الرّزقَ النَّافِعَ والماءَ المُرْوِيَ في الآخِرَةِ.
الشرح: أي لا يجدونَ ماءً باردًا مُرْوِيًا إلا ذاكَ الماء الذي هو بمُنتَهَى الحرارةِ فَيُقَطّعُ أمعاءَهُم. والغِسلين الذي هو عُصارةُ أهلِ النارِ أي ما يسيلُ من جلودِهم.
قال المؤلف رحمه الله: وذَلكَ لأنَّهُم أضَاعُوا أعْظَمَ حُقُوقِ الله الذي لا بدِيلَ لهُ وهوَ الإيمانُ بالله ورسولِه.
الشرح: الكفارُ لا حظَّ لهم في الآخرةِ من نِعَمِ الله لأنهم أضاعوا أعظمَ حقوقِ الله عليهم، فإذا قالَ قائلٌ لماذا يعذّبهم الله ذلك العذاب الشَّديد الذي لا نهايةَ لَهُ، يقالُ: لأنّهم أضاعوا أعظمَ حقوقِ الله، لذلكَ جَعَلَ جزاءَهُم أن يتأبَّدوا في ذلكَ العذابِ الذي لا ينقطعُ، وهم كانت نيَّاتهم أن يبقوا على كُفرِهم فكان جزاؤهم وِفَاقًا عذابًا لا ينقطِعُ.
قال المؤلف رحمه الله: ثمَّ إنَّ الله جَعلَ الدُّخُولَ في الإسْلامِ الذي هوَ أفضَلُ نِعَمِ الله سَهْلًا، وذَلِكَ بالنُّطقِ بالشَّهادَتينِ بَعْدَ مَعْرفةِ الله ورسُولِه.
وجعَلَ الكفرَ سَهْلًا فكلِمةٌ واحدةٌ تَدُلُّ على الاسْتِخْفافِ بالله أو شَريعَتهِ تُخْرجُ قَائِلَها منَ الإيمانِ، وتوقِعُهُ في الكفرِ الذي هو أسْوأُ الأحوالِ حتّى يكونَ عنْدَ الله أحْقَرَ مِنَ الحَشَراتِ والوُحوشِ، سَواءٌ تكَلَّمَ بِها جَادًّا أو مَازِحًا أو غَضْبانَ.
الشرح: هذا هو معنَى الحديثِ الذي رواهُ البخاريُّ في صحيحِهِ من حديثِ أبي موسى الأشعريّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الجنّةُ أقرَبُ إلى أحدِكُم من شِرَاكِ نَعلِهِ والنّارُ مثل ذلكَ”.
والمعنَى أنَّ الإنسانَ يكسبُ الجنّةَ بعملٍ يسيرٍ من الحسناتِ، وكذلك يكسبُ دخولَ النَّارِ بعملٍ خفيفٍ من السّيئاتِ فلو عاشَ العبدُ على الكفرِ سنينَ طويلةٍ قضى عمره عليه ثم قبل موتهِ أسلمَ قبل أن يرى ملائكةَ العذابِ وقبل أن ييأسَ من الحياةِ ويوقنَ بالموتِ كرؤيةِ ملكِ الموتِ أو إدراكِ الغرقِ ونحوِ ذلك، أسلمَ واعتقدَ بقلبهِ أنه لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله كان من أهلِ الجنةِ ولو لم يُدرِك صلاةً، ولا يؤاخذ بشىء مما عملهُ من الذنوبِ لأن الإسلام هدمها وذلك لأن العبرة بآخرِ حالِ الإنسانِ الذي يُختم له به. ومقابلُ هذا رجلٌ عاشَ على الإسلامِ ثم مرضَ فاشتدَّ عليه الألمُ فلم يتحمل فاعترضَ على ربه فقال يا رب لِمَ ظلمتني بتسليطِ هذا الألمِ الذي لا أطيقه فماتَ حرمت عليه الجنة لأنه كفرَ باعتراضهِ على ربه. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بخواتيمها”.
قال المؤلف رحمه الله: وقَد شُرِحَ ذَلكَ في كتُبِ الفِقْهِ في المذَاهبِ المُعْتَبرَةِ وحَكَمُوا أنّ المتلَفّظَ بها يكفرُ.
قالَ الله تَعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة الأنفال/55].
الشرح: الدّوابُّ جمْعُ دابَّةٍ وهي كلُّ ما يمشي على وجْهِ الأرضِ من إنسانٍ وبهائم وحشراتٍ، هذا معناهَا في أصْلِ اللّغةِ، ثمّ تعارَفَ النّاسُ على إطلاقها على ما يُركَبُ من البهائِمِ ولا يصحُّ في القرءانِ هذا التّفسيرُ، فالإنْسانُ يُقالُ له في أصْلِ اللّغةِ دابّةٌ لأنّهُ يدِبُّ على وجْهِ الأرْضِ. والآيةُ المذكورةُ معناهَا أنّ الكافرَ هو أحْقرُ المخلوقاتِ وقد وَرَدَ في الحديثِ الذي رواهُ ابنُ حبانَ وأحمدُ في مسندِهِ والطبرانيُّ في الكبيرِ: “لا تَفتَخِروا بآبائِكم الذينَ ماتوا في الجاهليَّةِ فوالذي نَفسي بيدِهِ إن ما يدهدهُهُ الجُعَلُ بمَنْخِريهِ خيرٌ منْ ءابائِكم الذين ماتوا في الجاهِليَّةِ” أي على الشّركِ، لأن الكفارَ الذين ماتوا في الجاهليةِ قسمانِ قسمٌ بَلَغَتهم دعوةُ الأنبياءِ إلى توحيدِ الله وقسمٌ لم تبلغهم وكلٌّ كانوا مشترِكينَ بعبادةِ غيرِ الله. وهذا الحديثُ يشمَلُ سائرَ أنواعِ الكفّارِ لأن معنَى الكفرِ يشملهُ وإن كانوا بالنسبةِ لعذابِ الآخرةِ يختلِفُ حالُهم فالذينَ ماتوا على الكفرِ ولم تبلغهم الدعوةُ لا يعذبهم الله بالنارِ أما الذين بلغَتهُم الدّعوةُ فلم يُسلموا فهم الذين يعذَّبونَ بالنارِ خالدينَ فيها مخلَّدينَ، وهذا الحديثُ صريحٌ في أن الكافرَ أخسُّ ما خَلَقَ الله.
ومعنى: “ما يدهدهُهُ الجُعَلُ بمنخريه” أي القذرُ ليتقوَّتَ بهِ، والجُعَلُ هو حشرةٌ صغيرةٌ سوداءُ تسوقُ القَذَر الذي يخْرُجُ من بني ءادمَ تجْعلهُ حبيْباتٍ تسوقُهُ لتتقوَّتَ بهِ، فهذا الذي يسوقُهُ الجُعَلُ الرّسولُ قالَ خيرٌ من هؤلاءِ الذينَ كانَ الناسُ في أيّامِ الجاهليّةِ يفْتخرونَ بهم يقولونَ: هذا جَدّي كانَ كذا، أبي كانَ كذا، فالمعنى كُفُّوا عن الافتخارِ بهؤلاءِ الذينَ ما يسوقُهُ الجُعَلُ بأنْفِهِ خيْرٌ منْهم لكفرِهِم وذلك لأن شكرَ الخالقِ المنعم لا يصح مع عبادةِ غيرهِ أو تكذيبِ رسولهِ الذي أرسلهُ ليتبعه الناسُ. ولو أنفق هذا الكافر مثل جبل ذهبًا للمساكينِ والأراملِ لا يكون شاكرًا لخالقهِ الذي أنعمَ عليه بالوجودِ والعقلِ فلا يكون الكافر شاكرًا لله مهما عمل من الخدماتِ للناسِ ومهما كان عنده عطف ورحمة وحنان على المنكوبينَ والملهوفينَ. الكفّارُ همْ أحْقَرُ خلْقِ الله وإن كانت صورتُهُم صوْرة البشرِ وذلكَ لأنّهم أضاعوا أعْظمَ حقوقِ الله على عبادِهِ فَكَفَروا بالله عزَّ وجلَّ.