فضل قول “يا ذا الجلال والإكرام” في الدعاء – أحاديث نبوية وشرح مفصل

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا كثيرًا. أمّا بعد:

نبدأ بتوفيق الله وفضله بشرح هذا الكتاب الذي يحوي أذكارًا ودعواتٍ مأثورةً عن النبي ﷺ، ولأنّ من أفضل حالات المؤمن حالَه وهو يذكر ربّه بنية خالصة، ويزداد هذا الفضل عند الله عزّ وجلّ إذا قرنَه الواحد منّا بعلم الدين فهو مفتاح السعادات في الدنيا والآخرة، وهو طريق النجاة من فتن هذه الدنيا ومن عذاب القبر ومن عذاب الآخرة، وهذا الفضل وأسباب النجاة تكون لمن تعلّم وعمل بما تعلّم وأخلص وقَبِل الله منه، نسأل الله أن يجعلنا من المقبولين.

وفي شرحنا لهذا الكتاب يتّضح لنا أنّ الذّكر والدّعاء لا بُدّ له من علم، فبدون العلم قد يُقبِلُ الواحدُ من عوام الناس ليدعو ربَّه فيقع بمخالفة شرعه والعياذ بالله، ولذلك أمر الشرع بالعلم والعمل والإخلاص، وقد أمر الله عزّ وجلّ نبيَّه محمدًا ﷺأن يزداد من العلم في القرآن الكريم، وهنا يجدر بنا أن نذكر إشارة، وهي أنه مع كثرة الخيرات والفضائل التي في القرآن الكريم وعِظَمِهَا إلا أنّ الله لم يأمر نبيَّه أن يزداد من شيء إلا من العلم حيث قال: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [سورة طه، الآية 114]، قال ابن حجر في الفتح: “قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ ‌وَاضِحُ ‌الدَّلَالَةِ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ ﷺبِطَلَبِ الِازْدِيَادِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا مِنَ الْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ: الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يُفِيدُ مَعْرِفَةَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ أَمْرِ دينه فِي عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ وَالْعِلْمُ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقَائِصِ”.اهـ

فليحرص كلّ واحد منّا على الازدياد من العلم وأن يكون له مجلس علم يتعلّم فيه علوم الدين ولا سيّما الضّروريات من علم الدين، فهذا الذي يحتاجه المسلمون والمسلمات اليوم أكثر من حاجتهم للطعام والشراب، فإنّ منفعة الطعام والشراب غالبًا للدنيا أمّا منفعة علوم الدين للقبر وللآخرة، نسأل الله أن يزيدنا علما ويفقهنا في الدين.

نبدأ بالكتاب: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ)

افْتُتِحَ الْكِتَابُ بِالْبَسْمَلَةِ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَاقْتِفَاءً بِكُتُبِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ، وَعَمَلًا بِحَدِيثِهِ فِي بَدَاءَةِ كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهُوَ مَا رواه الخطيب البغدادي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ)).
المقدمة

قال المؤلف: الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْوَاحِدِ الْعَزِيزِ الْقَهَّارِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ وَعَلَى ءَالِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ وَبَعْدُ فَهَذَا مُؤَلَّفٌ أُلِّفَ لِتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِ مَا يَنْبَغِى قَوْلُهُ مِنْ بَعْضِ الأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِىِّ الْمُصْطَفَى ﷺ فَإِنَّ فَضْلَ الذِّكْرِ عَظِيمٌ فَقَدْ جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ ءَايَاتٌ كَثِيرَةٌ تَحُثُّ عَلَيْهِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ وَالإِبْكَارِ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَانَ، الآية 41]، ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [سُورَةَ الإِنْسَانِ، الآية 25]، ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَابِ، الآية 35]، وقال سبحانه: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [سورة الحج، الآية 34 – 35]، والمخبتون هم المطمئنون بذكر الله.

وَالأَحَادِيثُ فِى ذَلِكَ أَيْضًا كَثِيرَةٌ.

وقد ثبت في مسلم أن الرسول ﷺ كان يذكر الله تعالى في كل أحيانه وأحواله، وحَضَّ ﷺ أمته حضًّا بليغًا في أحاديثَ كثيرةٍ على ذكر الله تعالى، ومن ذلك قوله ﷺ عندما سئل: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ – أي مِن أحبّها – قَالَ: ((أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)) رواه ابن حبان.

وَرَوَى مسلم عنْ أَبي سعيدٍ الخدري رضِي اللَّه عنْهُ قال، قَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ حفَّتْهُمُ الملائِكةُ، وغشِيتهُمُ الرَّحْمةُ ونَزَلَتْ علَيْهِمْ السَّكِينَة، وذكَرَهُم اللَّه فِيمن عِنْدَهُ))، غَشِيَتهم أي غَطَّتهم، وَالسَّكِينَةُ هِيَ الْوَقَارُ، وفي حديث أبي ذر الغفاري قال له النبي ﷺ: ((أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ تَعالَى، فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ، وَعَلَيْكَ بِتِلاوَةِ القُرءَانِ، وذِكْرِ اللهِ تَعالَى، فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ في السَّمَاءِ، وَنُورٌ لَكَ في الأَرْضِ)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

وقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: ((لا تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فإنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى قَسْوَةٌ للْقَلْبِ، وَإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ تَعالى القَلْبُ القَاسِي)) رواه الترمذي في سننه، وقارن رسول الله ﷺ بين الذاكر لربه وغير الذاكر فقال: ((مَثَلُ الذي يَذكُرُ ربَّهُ وَالذي لا يذكُرُهُ، مَثَل الحيِّ والمَيِّتِ)) رواهُ البخاري، وفي لفظ لمسلم قال ﷺ: ((مَثَلُ البَيْتِ الَّذي يُذْكَرُ اللَّه فِيهِ وَالبَيتِ الذي لا يُذْكَرُ اللَّه فِيهِ، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ)).

ويُشترط للثواب في ذكر الله عزّ وجلّ كذلك الإِخلاص وحسن النيّات فهي تُشترط في جميع الأعمال الظاهرات والخفيَّات لتحصيل الثواب والأجر، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [سورة البينة، الآية 5]، وقالَ بعضُ السلفِ فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان: “مَا أخلصَ العبدُ للهِ إلَّا أحبَّ أنْ يكونَ فِي جُبٍّ لَا يُعْرَفُ”.اهـ معناهُ أنَّ المخلصَ لَا يحبُّ أنْ يُعْرَفَ بينَ الناسِ بلْ أنْ يعملَ بخفاءٍ كالذِي يكونُ فِي الجُبِّ أيِ البئرِ، ولَا يَظْهَرَ، ولَا يَهُمُّهُ أنْ مَدَحَهُ الناسُ أوْ ذَمُّوهُ، وهنَا تَرَى بَرَكَةَ العملِ فقدْ قالَ الإمامُ أحمدُ الرفاعيُّ رحمَهُ اللهُ: “خُذُوْا نَتَائِجَ الأعمَالِ بخالِصِ النِّيَّاتِ”.اهـ

فلذلكَ نَرَى أنَّ مذاهِبَ الأئمةِ الأربعةِ رضيَ اللهُ عنهُمُ انتَشَرَتْ أكثرَ مِنْ غيرِهِمْ ونَفَعَ اللهُ بِهِمُ المسلمينَ إلَى يومِنَا هذَا.

وَإِنَّنَا نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَنَا هَذَا مَقْبُولًا إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ.
باب جامع الدعوات

جامع الدعوات: أي الدعوات الجامعة أي التي تكون ألفاظها قليلة لكن تشمل خيراتٍ كثيرة، وفضائلَ عديدةً، والدَّعَواتُ: بفتح الدال والعين، جَمْعُ الدَّعْوَةِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: “أَجْمَعَ أَهْلُ الْفَتَاوَى فِي الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ، وَدَلِيلُ الْفُقَهَاءِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ”.اهـ ومرتبة الدعاء عظيمة في شرع الله عز وجل، لِأَنَّ فِيهِ إِظْهَارَ الْفَقْرِ وَالْعَجْزِ وَالتَّذَلُّلِ وَالِاعْتِرَافِ بِقُوَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ.

وقد روي في سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) الْمُخُّ بِالضَّمِّ نِقْيُ الْعَظْمِ وَالدِّمَاغِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الدُّعَاءَ لُبُّ الْعِبَادَةِ وَخَالِصُهَا.

قال ابن الْعَرَبِيِّ: وَبِالْمُخِّ تَكُونُ الْقُوَّةُ لِلْأَعْضَاءِ فَكَذَا الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ بِهِ تَتَقَوَّى عِبَادَةُ الْعَابِدِينَ فَإِنَّهُ رُوحُ الْعِبَادَةِ. فالمؤمن يدعو ربه ويرجو إجابة الدعاء، وقد قيل:

يا مَنْ يُجِيْبُ دُعَا المضْطَرِّ فِي الظُّلَمِ
يَا كَاْشِفَ الضُّرِّ وَالبَلْوَى مَعَ السَّقَمِ

شَفِّعْ نَبِيَّــــكَ فِي ذُلّـِــيْ وَمَسْكَنَتِــــيْ
وَاسْتُرْ فَإِنَّكَ ذُوْ فَضْـلٍ وَذُوْ كَـــرَمِ

وَاغْفِرْ ذُنُوْبِـــيْ وَسَاْمِحْنِيْ بِهَاْ كَرَمًـا
تَفَضُّــلًا مِنْكَ يَاْ ذَاْ الفَضْــلِ وَالنِّعَمِ

وَقَــــــدْ وَعَدْتَ بِأَنْ نَدْعُوْ وَتُجِيْبَ لَنَاْ
وَقَدْ دَعَوْنَـــا فَجُدْ بِالعَفْوِ وَالكَــــرَمِ

والدعاء حتى يكون مستجابًا لا بد أن يكون له آداب، ومن ذلك ما روى أبو نُعَيم في حِليةِ الأولِياءِ عن حَاتِمٍ الْأَصَمِّ أنه قال: قَالَ شَقِيقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: مَرَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فِي أَسْوَاقِ الْبَصْرَةِ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [سورة غافر، الآية 60]، وَنَحْنُ نَدْعُوهُ مُنْذُ دَهْرٍ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَنَا، قَالَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: “يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ مَاتَتْ قُلُوبُكُمْ فِي عَشَرَةِ أَشْيَاءَ؛ أَوَّلُهَا:

عَرَفْتُمُ اللهَ ولَمْ تُؤَدُّوا حَقَّهُ. وَالثَّانِي: قَرَأْتُمْ كِتَابَ اللهِ ولَمْ تَعْمَلُوا بِهِ. وَالثَّالِثُ: ادَّعَيْتُمْ حُبَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَرَكْتُمْ سُنَّتَهَ. وَالرَّابِعُ: ادَّعَيْتُمْ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ وَوَافَقْتُمُوهُ. وَالْخَامِسُ: قُلْتُمْ نُحِبُّ الْجَنَّةَ ولَمْ تَعْمَلُوا لَهَا. وَالسَّادِسُ: قُلْتُمْ نَخَافُ النَّارَ وَرَهَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَا. وَالسَّابِعُ: قُلْتُمْ إِنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ وَلَمْ تَسْتَعِدُّوا لَهُ. وَالثَّامِنُ: اشْتَغَلْتُمْ بِعُيُوبِ إِخْوَانِكُمْ وَنَبَذْتُمْ عُيُوبَكُمْ. وَالتَّاسِعُ: أَكَلْتُمْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ ولَمْ تَشْكُرُوهَا. وَالْعَاشِرُ: دَفَنْتُمْ ‌مَوْتَاكُمْ وَلَمْ تَعْتَبِرُوا بِهِمْ”).
الحديث الأول

رَوَى الْبَيْهَقِىُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ رَبِيعَةَ بنِ عَامِرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((أَلِظُّوا بِيَاذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) أَىِ الْزَمُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ وَأَكْثِرُوا مِنْهَا.
الشرح

قال ابن الأثير: ((أَلِظُّوا بيَا ذَا الجَلال والإِكرام)) أَيِ الْزَمُوه واثْبُتُوا عَلَيْهِ وأكْثِرُوا مِنْ قَوْلِهِ والتَّلَفُّظِ بِهِ فِي دُعائِكم. يُقَالُ: أَلَظَّ بِالشَّيْءِ يُلِظُّ إِلْظَاظًا، إِذَا لَزِمَه وثابرَ عَلَيْهِ.اهـ

قوله: ((بِيَاذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)):

الجلال: العظمة، ومن عظمة الله أنه خالق كل شيء، ولا يشبه شيئا من خلقه بوجه من الوجوه، وهذه عقيدة المسلمين، فهم يُعظّمون الله عزّ وجلّ، ولا يشبهونه بخلقه ولا يصفونه بصفات البشر، يعتقدون أنّه كما وصف نفسه في القرآن الكريم حيث قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سورة الشورى، الآية 11]، فنحن نعتقد أن الله موصوف بصفات ليست كصفات خلقه ليس لها بداية ولا نهاية ولا يطرأ عليها تغير ولا تقطع ولا تنعدم، بل هي أزلية أبدية، فهو سبحانه واحد في ذاته واحد في صفاته، لا ذاتُه يشبه الذوات ولا صفاته تشبه الصفات ولا فعله يشبه الأفعال، فهو سبحانه ليس جسما ولا يوصف بصفات الأجسام وليس حجما كبيرا ولا صغيرا لا يوصف بالكيفية ولا بالصورة ولا بالتغيّر ولا بالانتقال ولا بالكون في مكان، بل هو سبحانه خلق المكان والزمان والجهاتِ ولا يتحيّز فيها، وهو موصوف بصفات لائقة به عزّ وجلّ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِىَ الْوُجُودُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ لا شَكَّ فِى وُجُودِهِ، وَالْوَحْدَانِيَّةُ أَىْ أَنَّهُ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ، وَالْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ، وَالْبَقَاءُ أَىْ أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ لا يَمُوتُ وَلا يَهْلِكُ وَلا يَتَغَيَّرُ، وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ أَىْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَالْقُدْرَةُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ؛ أَىْ عَلَى كُلِّ مُمْكِنٍ عَقْلِىٍّ وَهُوَ مَا يَجُوزُ عَقْلًا وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً أُخْرَى، وَالإِرَادَةُ أَىِ الْمَشِيئَةُ وَهِىَ تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِىِّ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ، وَالْعِلْمُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ يَعْلَمُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ شَامِلٍ لِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ لا يَتَجَدَّدُ وَلا يَتَغَيَّرُ وَلا يَنْقُصُ وَلا يَزِيدُ، وَالسَّمْعُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ الأَزَلِىِّ الَّذِي لَيْسَ كَسَمْعِ غَيْرِهِ فَسَمْعُ اللَّهِ قَدِيمٌ وَسَمْعُ غَيْرِهِ حَادِثٌ يَسْمَعُ اللَّهُ بِسَمْعِهِ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى أُذُنٍ وَلا ءَالَةٍ أُخْرَى، وَالْبَصَرُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَرَى بِرُؤْيَتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ كَرُؤْيَةِ غَيْرِهِ فَبَصَرُ اللَّهِ قَدِيمٌ وَبَصَرُ غَيْرِهِ حَادِثٌ، يَرَى رَبُّنَا بِبَصَرِهِ كُلَّ الْمُبْصَرَاتِ فَيَرَى ذَاتَهُ وَمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حَدَقَةٍ وَلا ءَالَةٍ أُخْرَى، وَالْحَيَاةُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَىٌّ بِحَيَاةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لا تُشْبِهُ حَيَاتَنَا لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ وَعَصَبٍ وَمُخٍّ، وَالْكَلامُ أَىْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ وَاحِدٍ أَزَلِىٍّ أَبَدِىٍّ لا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً، قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ “وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلاتِ وَالْحُرُوفِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِلا ءَالَةٍ وَلا حُرُوفٍ وَالْحُرُوفُ مَخْلُوقَةٌ وَكَلامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ”، وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ أَىْ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.

النبي ﷺ يحثنا على أن نلزم هذه الدعوة وهي قولنا: ((يا ذا الجلال والإكرام))، لما فيها من التذلل لله والخضوع له سبحانه، فإنه من تذلل لله ومن تواضع له سبحانه فإن الله يعلي شأنه ويقضي حاجته ويحقق مراده، فما خاب من تذلل لله وتوجه إليه ووكّل أمره إليه فإنه سبحانه يفرج كربه ويعطيه مراده، فهو الذي يبتلي وهو الذي يعين، وهو الذي يفرج الكروب، وقد قال عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ وهو من السلف: حدثنا تَوْبَةُ الْعَنْبَرِيُّ رحمه الله قَالَ: “أَكْرَهَنِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ عَلَى الْعَمَلِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ حَبَسَنِي فِي السِّجْنِ وَقَيَّدَنِي، فَمَا زِلْتُ فِي السِّجْنِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي رَأْسِي شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي، عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ، فَقَالَ: يَا تَوْبَةُ، طَالَ حَبْسُكَ؟ قُلْتُ: أَجَلْ، فَقَالَ: يَا تَوْبَةُ، قُلْ:‌‌ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقُلْتُهَا ثَلَاثًا، وَاسْتَيْقَظْتُ، فَقُلْتُ: يَا غُلَامُ هَاتِ الدَّوَاةَ وَالسِّرَاجَ، فَكَتَبْتُ هَذَا الدُّعَاءَ، ثُمَّ إِنِّي صَلَّيْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُصَلِّيَ، فَمَا زِلْتُ أَدْعُو بِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ الصُّبْحَ، فَلَمَّا صَلَّيْتُ جَاءَ الحارس فَضَرَبَ بَابَ السِّجْنِ فَفَتَحُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ تَوْبَةُ الْعَنْبَرِيُّ؟ فَقَالُوا: هَذَا، فَحَمَلُونِي بِقُيُودِي حَتَّى وَضَعُونِي بَيْنَ يَدَيْ يُوسُفَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ بِهِ، فَقَالَ: يَا تَوْبَةُ، قَدْ أَطَلْنَا حَبْسَكَ؟، قُلْتُ: أَجَلْ، قَالَ: أَطْلِقُوا عَنْهُ قُيُودَهُ وَخَلُّوهُ، فَعَلَّمْتُهُ رَجُلًا فِي السِّجْنِ، فَقَالَ لِي صَاحِبِي: لَمْ أُدْعُ إِلَى الْعَذَابِ قَطُّ فَقُلْتُهُنَّ إِلَّا خَلَّوْا عَنِّي، فَجِيءَ بِي يَوْمًا إِلَى الْعَذَابِ، فَجَعَلْتُ أَتَذَكَّرُهُنَّ فَلَمْ أَذْكُرْهُنَّ حَتَّى جُلِدْتُ مِائَةَ سَوْطٍ، ثُمَّ إِنِّي ذَكَرْتُهُنَّ فَقُلْتُهُنَّ فَخُلِّيَ عَنِّي. رواه ابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة.

والله تعالى موصوف بأنّه ذو الجلال والإكرام وهذا الذي يحثنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكره بهذا الدعاء، الله تعالى أسماؤه كثيرة وورد خصوصية تسعة وتسعين اسما لله عزّ وجلّ، من أحصاها دخل الجنة؛ أي من حفظها وفهم واعتقد معناها، هذا مبشَّر بالجنة، وكل أسماء الله حسنى، تدل على الكمال اللائق به تبارك وتعالى. الله تعالى ذو الجلال والإكرام وهذا اسم خاص بالله تعالى لا يجوز إطلاقه إلا على الله تعالى، فهناك أسماء خاصة لله تعالى: مثل (الله، الرحمن، وذو الجلال والإكرام … وغيرها). هذه لا يجوز تسمية غير الله بها. فهو الموصوفُ بالجلالِ ورِفعةِ القدرِ،

وقال القرطبي: “الجلالُ عظمةُ اللهِ وكبرياؤُه واستحقاقُه صفاتِ المدحِ”. قالَ ابنُ منظورٍ: “اللهُ الجَلِيلُ سبحانَه ذو الجَلالِ والإِكرامِ، جَلَّ جَلالُ اللهِ، وجَلالُ اللهِ: عَظمتُه. والجَلِيلُ: مِنْ صفاتِ اللهِ تقدَّسَ وتعالى، وقَدْ يوصَفُ بهِ الأَمرُ العظيمُ”.

وقالَ البَيْهَقِيُّ في الأسماء والصفات: “قالَ أبو سليمانَ الخطابيُّ: الجلالُ مصدرُ الجليلِ، يقالُ: جليلٌ مِنَ الجلالةِ والجلالِ، والإكرامُ مصدرُ أكرمَ يكرمُ إكرامًا، والمعنى أَنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يستحقُّ أنْ يُجَلَّ وَيُكْرَمَ فَلَا يُجْحَدَ وَلَا يُكْفَرَ بِهِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ المعنى أَنَّهُ يُكْرِمُ أهلَ ولايَتِهِ ويَرْفَعُ درجاتِهم بالتوفيقِ لطاعتِه في الدنيا، ويُجلُّهم بأنْ يتقبّلَ أعمالَهم ويرفعَ في الجنانِ درجاتِهم”،

وهنا لنا وقفة في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [سورة الرحمن، الآية 27] فمعنى ﴿وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أي ذاته، وكلمة الوجه تأتي على معان عدة في لغة العرب، قال الفيروزأباديفي بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: “الوَجْهُ: مُسْتَقْبَلُ كلِّ شىءٍ، والجمع أَوْجُهٌ ووُجوهٌ. والوَجْهُ: نَفْسُ الشيء، وقيل: أَصْلهُ الجارِحَة قال الله تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [سورة المائدة، الآية 6] ولمّا كان الوجهُ أَوَّلَ ما يستقبلُك وأَشرفَ ما في ظاهرِ البَدَن استُعْمِل في مُسْتَقْبَل كلِّ شيءٍ وفي أَشْرَفه ومَبْدئه”.

وقولُه تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [سورة القصص، الآية 88] المعنى: كلُّ شىء هالكٌ إِلاَّ هو. كما في قولُه تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [سورة الرحمن، الآية 27] قيل: المعنى ذاتُه. وقيل: المعنى إِلاَّ التَوَجُّه إِلى الله بالأَعمال الصّالحة. وقال البخاري: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [سورة القصص، الآية 88]: “إِلَّا مُلْكَهُ، وَيُقَالُ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ”. وهذا دليل على أنّ أهل السنة من السلف كانوا يؤولون؛ أي لا يأخذون بظاهر الآيات والأحاديث، فالأخذ بالظاهر يؤدي إلى التناقض ونسبة النقائص إلى الله عز وجل ولذلك أوَّل البخاري قولَه تعالى في سورة القصص: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾: فقال معناه: “إِلَّا مُلْكَهُ”.

وأوَّلَ أحمد بن حنبل قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [سورة الفجر، الآية 22]، فقد “رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِيْ عَمْرِو بْنِ السَّمَّاكِ عَنْ حَنْبَلٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ تَأْوَّلَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَىْ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ وَقَالَ إِنَّ مَعْنَاهُ: جَاءَ ثَوَابُهُ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ”. وَنَقَلَ ذَلِكَ أَيْضًا ابْنُ كَثِيْرٍ فِيْ تَارِيْخِهِ وَأَقَرَّهُ.اهـ

وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِيْ مَنَاقِبِ أَحْمَدَ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُوْ عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ قَالَ حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَمِّيْ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: اِحْتَجُّوا عَلَيَّ يَوْمَئِذٍ فَقَالُوْا تَجِيْءُ سُوْرَةُ الْبَقَرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَجِيْءُ سُوْرَةُ تَبَارَكَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّمَا هُوَ الثَّوَابُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّمَا يَأْتِيْ قُدْرَتُهُ، وَإِنَّمَا الْقُرْءَانُ أَمْثَالٌ وَمَوَاعِظُ.اهـ

قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِيْهِ دَلِيْلٌ عَلَىْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ فِيْ الْمَجِيْءِ الَّذِيْ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالنُّزُوْلِ الَّذِيْ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ انْتِقَالًا مِنْ مَكَانٍ إِلَىْ مَكَانٍ كَمَجِيْءِ ذَوَاتِ الْأَجْسَامِ وَنُزُوْلِهَا وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ظُهُوْرِ ءَايَاتِ قُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْءَانَ لَوْ كَانَ كَلَامَ اللهِ وَصِفَةً مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ الْمَجِيْءُ وَالْإِتْيَانُ، فَأَجَابَهُمْ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيْءُ ثَوَابُ قِرَاءَتِهِ الَّتِيْ يُرِيْدُ إِظْهَارَهَا يَوْمَئِذٍ فَعَبَّرَ عَنْ إِظْهَارِهِ إِيَّاهُ بِمَجِيْئِهِ، وَهَذَا الَّذِيْ أَجَابَهُمْ بِهِ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ لَا يَهْتَدِيْ إِلَيْهِ إِلَّا الْحُذَّاقُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُنَزِّهُوْنَ عَنِ التَّشْبِيْهِ.اهـ

وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ الْحَنَبَلِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 695هـ: وَقَدْ تَأَوَّلَ أَحْمَدُ آيَاتٍ وَأَحَادِيْثَ كَآيَةِ النَّجْوَىْ وَقَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [سورة البقرة، الآية 210] وَقَالَ قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ.

وَقَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ، قَالَ: قُدْرَتُهُ. ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيْ الْمِنْهِاجِ.اهـ

وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِنَّهُ قَالَ فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿يَأْتِيَهُمُ﴾ قَالَ الْمُرَادُ بِهِ: قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ، قال: وَقَدْ بَيَّنَهُ فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [سورة النحل، الآية 33]، وَمِثْلُ هَذَا فِيْ الْقُرْآنِ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ قُدْرَتُهُ.اهـ

وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: نَقَلَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالتَّأْوِيْلِ فِيْ ثَلَاثَةِ أَحَادِيْثَ. ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ تَأْتِيْ سُوْرَةُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، فَأَجَابَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ وَقَالَ: يَعْنِيْ ثَوَابُ قَارِئِهِمَا، وَهَذَا تَصْرِيْحٌ مِنْهُ بِالتَّأْوِيْلِ.اهـ

وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيُّ: وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ التَّأْوِيْلُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُوْدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِيْ كِتَابِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ: إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَوَّلَ فِيْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، ‌وَأَنْكَرَ ‌ذَلِكَ ‌عَلَيْهِ ‌بَعْضُ ‌الْمُتَأَخِّرِينَ، قُلْتُ – أي الزركشي-: وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى تَأْوِيْلَ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 158] قَالَ: وَهَلْ هُوَ إِلَّا أَمْرُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾.اهـ
الحديث الثاني

وَرَوَى الْبُخَارِىُّ فِى الأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِىُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَهُوَ يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ. فَقَالَ: ((قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ)).
الشرح

معناه إذا استعملت هذا اللفظ قبل الدعاء فهذا سبب بإذن الله عزّ وجلّ لاستجابة الدعاء.

الله تعالى هو ذو الجلال ذو الإكرام، فهو الكثيرُ الخيرِ فيبدأُ بالنعمةِ قبلَ الاستحقاقِ ويتفضَّلُ بالإحسانِ مِنْ غيرِ استثابةٍ، فَمِنْ كرمِ اللهِ سبحانَه وتعالى أَنَّه يعطي النعمةَ دونَ طلبٍ مِنَ العبدِ ويفيضُ بالإحسانِ مِنْ غيرِ سؤالٍ، ومِنْ كرمِهِ أَنَّه في الدنيا يسترُ العيوبَ ويغفرُ الذنوبَ، ومِنْ كرمِه أَنَّ العبدَ إذا أتى بالطاعاتِ اليسيرةِ أعطاهُمُ الثوابَ الجزيلَ وجعلَ الصالحينَ أهلًا لمحبتِهِ، ومِنْ كرمِه أَنَّه سَخَّرَ للإنسانِ كلَّ ما في السماواتِ والأرضِ.

قالَ الحارثُ المحاسبيُّ: “الكريمُ الذي لا يبالي مَنْ أعطَى، وقيلَ الكريمُ الذي لا يضيعُ مَنْ تَوَسَّلَ إليهِ ولا يتركُ مَنِ التجَأَ إليهِ”.

اللهُ تعالى يُعطي على العمل القليل الأجر الكثير، وهذا معنى ما صحَّ في الحديث القدسي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْمَا يَرْوِيْهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ((إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِيْ مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ ابن حجر: “قال ابن بَطَّالٍ: وَصَفَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى عَبْدِهِ وَوَصَفَ الْعَبْدَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَوَصَفَهُ بِالْإِتْيَانِ وَالْهَرْوَلَةِ كُلُّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ فَحَمْلُهَا ‌عَلَى ‌الْحَقِيقَةِ ‌يَقْتَضِي ‌قَطْعَ ‌الْمَسَافَاتِ وَتَدَانِي الْأَجْسَامِ وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَلَمَّا اسْتَحَالَتِ الْحَقِيقَةُ تَعَيَّنَ الْمَجَازُ لِشُهْرَتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَيَكُونُ وَصْفُ الْعَبْدِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ شِبْرًا وَذِرَاعًا وَإِتْيَانُهُ وَمَشْيُهُ مَعْنَاهُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَأَدَاءِ مُفْتَرَضَاتِهِ وَنَوَافِلِهِ وَيَكُونُ تَقَرُّبُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عَبْدِهِ عبارَة عَن إثابته عَلَى طَاعَتِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً أَيْ أَتَاهُ ثَوَابِي مُسْرِعًا”.

والحديث فِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْثِيثُ عَلَى الْمُجَاهَدَةِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ دَفْعًا لِلْفُتُورِ وَالتَّكَاسُلِ وَالْقُصُورِ، قالوا: فَالْحَدِيثُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ نَافِعٌ لِأَمْرَاضِ قُلُوبِ السَّالِكِينَ، وَمُحَرِّكٌ لِشَوْقِ الطَّالِبِينَ، وَمُقَوٍّ لِصُدُورِ الْمُذْنِبِينَ. قَالَ القاضي عياض: “الْمُرَادُ بِمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سُرْعَةُ قَبُولِ تَوْبَةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَوْ تَيْسِيرُ طَاعَتِهِ وَتَقْوِيَتُهُ عَلَيْهَا وَتَمَامُ هِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ”.

قال أبو حنيفة رضي الله عنه: “وليس قرب الله تعالى ولا بعده من طريق طول المسافة وقصرها ولكن على معنى الكرامة والهوان، ولكن المطيع قريبٌ منه بلا كيفٍ، والعاصي بعيدٌ عنه بلا كيفٍ. والقرب والبعد والإقبال يقع على المناجي، وكذلك جواره في الجنّة، والوقوف بين يديه بلا كيفٍ”.

وهذا الحديث دليل لأهل السنة على التأويل وأنه سائغ لا ضرر فيه بل ينبغي ويتحتم في مثل هذا الحديث ونحوه من نصوص الكتاب والسنة المطهرة، أجمَعَتِ الأُمّةُ على أنّ في القرءانِ ءاياتٍ محكَماتٍ وءاياتٍ مُتشابهاتٍ، وهو ما يَدُلُّ عليه صريحُ قولِه تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [سورة آل عمران، الآية 7]، فالمحكَمات هي الّتي دِلالتها على المراد واضحة، والمتشابهةُ هي التي دِلالتها على المراد غيرُ واضحة، وقد ذمّ الله تعالى الذين يتّبعون ما تَشابَه منه ابتغاء الفتنة أي الزّيغ أي ابتغاء الإيقاع في الأمر المحظور وهو التشبيه، والذين في قلوبهم زيغ هم أهل الأهواء كالمعتزلة والمجسّمةِ وأمثالهم.

وقد سمّى الله تعالى المحكمات أمَّ الكتاب أي أمَّ القرءان لأنّها الأصل الذي يُردُّ إليه المتشابهات، مثل قوله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سورة مريم، الآية 65] أي مِثلًا أي ليس له مثيلٌ ولا شبيه.

ثمّ المتشابِه قسمان: أحدهما ما لا يَعلَمُه إلا الله كوَجْبة القيامة، والثاني يَعلَمُه الرّاسخون في العِلم كهذا الحديث وغيره.

ومما يدلّ على أنّ الله تعالى يُثيب بالعمل القليل أجرا عظيما ويضاعف لبعض عباده أجور حسناتهم ما جاء في حديث الترمذي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ))، فهو سبحانه الكريم بعطائه الذي تفضل على عباده. وروى أحمد في سننه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَيَعْجِزُ أحدُكُم، أن يكسِبَ كُلَّ يومٍ ألفَ حسَنَةٍ؟ يُسَبِّحُ اللهَ مائَةَ تسبيحَةٍ؛ فَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ بَها ألفَ حسَنَةٍ، ويَحُطُّ عنه بِها ألْفَ خَطِيئَةٍ)).

وَالله تعالى يستجيب دعاء من يريد وقد استجاب سبحانه لهذا الرجل الذي دعا وشهد النبي صلى الله عليه وسلم له بإجابة الدعاء، ومِنْ جُمْلَةِ لَطَائِفِ الدُّعَاءِ مَا جَاءَ عَنْ أَمّ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ)) رواه مسلم في صحيحه.

وروى مسلم أيضًا عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ ﷺ قالَ: ((إذا أَمَّنَ الإمامُ فأمِّنوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تأْمينُهُ تأْمينَ الملائكةِ غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

وروى البخاري ومسلم قصةً ذكرها لنا النبي صلى الله عليه وسلم تُبيّن أنّ اللهَ يستجيب دعاء من يشاء، فليحرص الواحد منّا أن يوافق ساعة إجابة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، وَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَتَتْهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ، فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيُّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ فِتْنَتَهُ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ، قَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: بِاللَّهِ يَا غُلَامُ، مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا.

وَبَيْنَمَا صَبِيُّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا. فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ عَلَى أُمِّهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ. قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا قَالَ: وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا، وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ. وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا. فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الشَّارَةِ فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا؟ فَقَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ وَإِنْ يَقُولُونَ لَهَا: زَنَيْتِ، وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ، وَلَمْ تَسْرِقْ، فَأَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا)).

وقد روى السيوطي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: ((مَنْ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعًا وعِشْرِينَ مَرَّةً أَوْ خَمْسًا وعِشْرِينَ مَرَّةً ـ أحدَ العددينِ ـ كَانَ مِنَ الذينَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ، ويُرْزَقُ بِهِمْ أَهْلُ الأرْضِ)).

نسأل الله أن يجعلنا من مستجابي الدعوة إنه على كل شيء قدير.

والله تعالى أعلم وأحكم

شاهد أيضاً

شرح حديث “الدعاء هو العبادة” ومسائل التوسل والقضاء والقدر

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لم يزل عظيما عليّا، يخذل عدوّا وينصر …