شرح دعاء – اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أعزَّنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيِّه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل السعادة في خشيته وتقواه، وجعل العزة والكرامة لمن خافه واتَّقاه،

وأشهد أن سيدنا وحبيب قلوبنا محمدًا رسولُ الله، وحبيبه من خلقه ورضيُّه ومصطفاه، فاز وربح من اتبع سنتَه وهُداه، وخاب وخسر من خالف نهجه وعَصاه. اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحابته، صلاة تَزيد في رفعته، وتظلنا تحت لوائه في أعز زمرته، وتجعلنا من رُوَّاد حوضه وأهل شفاعته. أما بعد:

فإنّ من أفضل أحوال العبد المؤمن هو حالَه وهو يذكر ربّه عزّ وجلّ، وقد روى البخاري في صحيحه عَنْ ‌أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ))، وفي البخاري أيضًا عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا، يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ، فَيَقُولُونَ: لَا وَاللهِ مَا رَأَوْكَ. قَالَ، فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ، يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا. قَالَ، يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ، يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ، يَقُولُونَ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ، يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ، يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ؟ قَالَ، يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ، يَقُولُونَ: لَا وَاللهِ مَا رَأَوْهَا، قَالَ، يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ، يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ، فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)).

نسأل الله أن يجعلنا من الذّاكرين له حقَّ الذّكر، وأن يتقبّل منّا إنّه على كلّ شيء قدير، وأتمنّى عليكم بعد أن نشرح ذِكْرًا من أذكار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نداوم عليه ونحفظه، وعلى هذا كان الصحابة الكرام كابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه، فقد ثبت عنه أنه نقل وِرْدًا من أوراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لم أدعه منذ سمعته منه عليه الصلاة والسلام، وهذا الذكر الذي نتكلم اليوم في شرح معانيه وما فيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه لمن يسلم حديثًا.
الحديث

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ طَارِقِ بنِ أَشْيَمَ الأَشْجَعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ عَلَّمَهُ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى وَارْحَمْنِى وَاهْدِنِى وَعَافِنِى وَارْزُقْنِى)).
الشرح والتعليق على هذا الحديث

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ طَارِقِ بنِ أَشْيَمَ الأَشْجَعِىِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (هو طارق بن أشيم بن مسعود الأشجعي، والد أبي مالك الأشجعي واسم ابنه سعد وهو تابعي، وله صحبة. رَوَى عَن: النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعن الخلفاء الأربعة. رَوَى عَنه: ابنه أبو مالك الأشجعي، روى له البخاري في “الأدب” والباقون، سوى أبي داود.

ومما روى هذا الصحابي الجليل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ابنه أبو مالك الأَشْجَعِيُّ، قال: حَدَّثني أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ وحَّدَ اللَّهَ، وكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُوُنهِ حَرُمَ مَالُهُ ودَمُهُ، وحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ)). وكذلك كان ممن روى حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: ((مَنْ رَآنِي فِي المنام فقد رآني)).

قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ (أي دخل في دين الإسلام، ويكون الدخول في الإسلام بترك الكفر الذي كان واقعًا فيه وبالنطق بالشهادتين للدخول في دين الإسلام، فلا بد من النطق بالشهادتين مع اعتقاد معنى اللفظ، أي مع اعتقاد معنى الشهادتين، باعتقاد معنى الشهادتين يفهم المؤمن التوحيد، فيصح منه العمل الموافق للشريعة، أمّا إذا كان اعتقاده فاسدًا فلا يصحّ منه شيء من صور الأعمال الصالحة التي يعملها من صورة الصلاة والصيام والزكاة وغيرها من العبادات، فإنّ الشهادتين هما مما يجب على المكلف علمه واعتقاده دائما في كل أحواله، فاعتقاد معناهما الصحيح هو الإيمان الذي هو شرط لقبول الأعمال الصالحة، ولذلك ينبغي أن نعمل على تعلم معناهما ونشره بين الناس صغيرِهم وكبيرِهم، في كل الأوقات، فعِلْمَ التَّوْحِيْدِ يَدُوْرُ عَلَى مُقْتَضَى مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ وَحِفْظِهِمَا مِمَّا يَنْقُضُهُمَا أَيْ مِنَ الرِّدَّةِ بِأَنْوَاعِهَا،

قَالَ الغَزَالِيُّ: فِي شَرْحِ كِتَابِ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ مِنَ الإِحْيَاءِ: “الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَرْجَمَةِ عَقِيْدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ مَبَانِي الْإِسْلَامِ”، وقال في شرحها: “التنزيه وأنّه ليس بجسم مصور ولا جوهر محدود مقدر، وأنّه لا يماثل الأجسام لا في التقدير ولا في قبول الانقسام، وأنه ليس بجوهر ولا تحله الجواهر، ولا بعرض ولا تحلّه الأعراض، بل لا يماثل موجوداً ولا يماثله موجود، ليس كمثله شيء ولا هو مثلُ شيء، وأنه لا يحده المقدار ولا تحويه الأقطار وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْجِهَاتُ وَلَا تَكْتَنِفُهُ الْأَرَضُونَ ولا السموات، وَأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قاله وبالمعنى الذي أراده، استواء منزهًا عن المماسة والاستقرار والتمكّن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته”.اهـ

فَيَجِبُ مَعْرِفَة الشهادتين وَاعْتِقَادُ مَعْنَاهُمَا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ بِالإِذْعَانِ لَهُمَا وَالرِّضَا بِهِمَا،

وَمَعْنَى الشَّهَادَةِ الْأُوْلَى الْوَاجِبُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِيْنَ مُتَضَمِّنٌ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى أَيْ مَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِيْمَانِ بِأَنَّهُ مَوْجُوْدٌ لَا

يُشْبِهُ الْمَوْجُوْدَاتِ مَوْجُوْدٌ بِلَا كَيْفٍ وَلَا مَكَانٍ، أَمَّا مَعْنَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ فَمُتَضَمِّنٌ مَعْرِفَةَ رَسُوْلِهِ ﷺ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ مَعَ الاعْتِقَادِ بِمَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِمَا بِاللِّسَانِ فَوْرًا لِلدُّخُوْلِ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَخِّرَ بِاغْتِسَالٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ النُّطْقَ بِهِمَا مَعَ الاعْتِقَادِ بِمَعْنَاهُمَا هُوَ مِفْتَاحُ الدُّخُوْلِ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ،

وَفِي ذَلِكَ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ.“اهـ،

وَأَمَّا الْمُكَلَّفُ الْمُسْلِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِمَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَفْرُوْضَةٍ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَخِيْرَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَالنُّطْقُ بِهِمَا يَحْصُلُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ أَوْ مَا يُعْطِي مَعْنَاهُمَا وَلَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ مَعْنَاهُمَا مَعَ النُّطْقِ بِهِمَا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا.

خلاصة الكلام: أنّ حُكْمَ مَنْ يَدَّعِي الإِسْلامَ لَفْظًا وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلإِسْلامِ مَعْنًى؛ أي يَزْعُمُ الإِسْلامَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلإِسْلامِ فِي الْحَقِيقَةِ بِاعْتِقَادِ أَوْ قَوْلِ أَوْ فِعْلِ مَا يُنَافِيهِ فليس مسلمًا، فإنَّ أُنَاسًا يَدَّعُونَ الإِسْلامَ وَهُمْ فِرَقٌ مُتَعَدِّدَةٌ ثُمَّ يُنَاقِضُونَ الإِسْلامَ فَهَؤُلاءِ لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ لَفْظًا “لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ” ثُمَّ يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، كَأُنَاسٍ يَعْبُدُونَ عَلِيًّا وَهُوَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُنَاسٍ يَعْبُدُونَ الْخَضِرَ وَهُوَ نَبِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ، وَأُنَاسٍ يَعْتَقِدُونَ الأُلُوهِيَّةَ لِلْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ فِي الْقَاهِرَةِ يَعْبُدُ الشَّيَاطِينَ يَخْتَلِي وَيَعْبُدُ فِي خَلَوَاتِهِ الرُّوحَانِيِّينَ أَيِ الْجِنَّ).

عَلَّمَهُ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ ومن هذا الحديث وغيره يظهر لنا أنّ النبي ﷺ كان يحِبُّ الإكثار من الصلوات ويرتاح بها فهو القائل: (وَجُعِلَتْ قرةُ عيني في الصلاة) رواه أحمد في مسنده، وهو القائل ﷺ لبلال رضي الله عنه: (أرحنا بها يا بلال) رواه الطبراني في المعجم الكبير.

وليُعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَظَّمَ قَدْرَ الصَّلاةِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْعَبْدِ التَّعَبُّدُ، وَهِيَ جَامِعَةٌ بَيْنَ خُضُوعِ بَدَنِهِ وَنُطْقِ لِسَانِهِ وَحُضُورِ قَلْبِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِبَادَةَ مَلائِكَتِهِ بَيْنَ سُجُودٍ وَرُكُوعٍ وَذِكْرٍ، وَذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِي الصَّلاةِ.

فَالشَّرْعُ عَظَّمَ أَمْرَ الصَّلاةِ وَضَرَبَ الأَمْثَالَ بِفَضْلِهَا، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ)) قَالُوا: لا. قَالَ: ((فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا))،

وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ))،

وفي مسلم مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((ما من امرئ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ))،

وروى الطبراني في المعجم الكبير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه قال، قال رسول الله: ((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصَوْا، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أفْضَلِ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلا مُؤْمِنٌ))،

وَقَدْ فَضَّلَ الشَّرْعُ تَقْدِيمَ الصَّلاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: “الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا“، أي على أول وقتها،

وَفُضِّلَتِ الصَّلاةُ فِي الْجَمَاعَةِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ ‌صَلَاةَ ‌الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً))،

وَرَوَى ابن الجوزي في التبصرة عن أَنَس بْن مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ لَمْ تَفُتْهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَائَتَيْنِ: بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةً مِنَ النِّفَاقِ))،

قَالَ الْبَغَوِيُّ سَمِعْتُ عَبْيدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيَّ يَقُولُ: لَمْ تَكُنْ تَفُوتُنِي صَلاةُ الْعَتَمَةِ فِي جَمَاعَةٍ، فَنَزَلَ بِي ضَيْفٌ فَشُغِلْتُ بِهِ فَخَرَجْتُ أَطْلُبُ الصَّلاةَ فِي قَبَائِلِ الْبَصْرَةِ فَإِذَا النَّاسُ قَدْ صَلَّوْا وَخَلَتِ الْقَبَائِلُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: “صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلاةِ الْفَذِّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً“. وَرُوِيَ “سَبْعًا وَعِشْرِينَ“. فَانْقَلَبْتُ إِلَى مَنْزِلِي فَصَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، ثُمَّ رَقَدْتُ فَرَأَيْتُنِي مَعَ قَوْمٍ رَاكِبِي أَفْرَاسٍ وَأَنَا رَاكِبٌ فَرَسًا كَأَفْرَاسِهِمْ وَنَحْنُ نَتَجَارَى، فَالْتَفَتُّ إِلَى أَحَدِهِمْ فَقَالَ: لا تُجْهِدْ فَرَسَكَ فَلَسْتَ بِلاحِقِنَا. فَقُلْتُ: فَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّا صَلَّيْنَا الْعَتَمَةَ فِي جَمَاعَةٍ.اهـ

وَثبتَ الثَّوَابُ لِمُنْتَظِرِ الصَّلاةِ، فَرُوِيَ فِي مسند أحمد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هي تَحْبِسُهُ، لا يَمْنَعُهُ إِلا انْتِظَارُهَا))،

وَفِي مسند أحمد أيضًا من حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمَغْرِبَ فَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَحْسِرُ ثِيَابَهُ عَنْ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: ((أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ، يَقُولُ: هَؤُلاءِ عِبَادِي قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى))،

وَقَدْ عُظِّمَ الصَّفُّ الأَوَّلُ فَرُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ ‌يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا))،

وَقَدْ أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِخَفْضِ رَأْسِهِ اسْتِعْمَالا لأَدَبِ الْخِدْمَةِ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صحيحه مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاةِ أَوْ لا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ))،

وَأَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِالتَّثَبُّتِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فقد روى الترمذي في سننه عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((‌لَا ‌تُجْزِئُ ‌صَلَاةٌ ‌لَا ‌يُقِيمُ ‌فِيهَا ‌الرَّجُلُ – يَعْنِي – صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ))،

وَفِي مسند أحمد من حَدِيثِ ابْنِ شَيْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَنْظُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى رَجُلٍ – أي لا ينظر إليه نظر رحمة – لا يُقِيمُ صُلْبَهُ بين ركُوعِه وَسجُودِه))، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّلاةِ إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمُ الْمَعْبُودِ،

وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَتَغَيَّرُ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ وَيَقُولُ: أَتَرَوْنَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ أُرِيدُ أَنْ أَقِفَ؟!

وَقَدْ كَانَ أَصحابُ التَّفَكُّرِ مِنَ السَّلَفِ يُشَاهِدُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِبْرَةً، فَيَذْكُرُونَ بِالأَذَانِ نِدَاءَ الْعَرْضِ، وَبِطَهَارَةِ الْبَدَنِ تَطْهِيرَ الْقَلْبِ، وَبِسَتْرِ الْعَوْرَةِ طلب سترالْقَبَائِحِ مِنْ عُيُوبِ الْبَاطِنِ،

قَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا هَانَتْ عَلَيْكَ صَلاتُكَ فَمَا الَّذِي يَعِزُّ عَلَيْكَ؟ وَلَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ حُضُورَ الْقَلْبِ جَاءَ الْوَعْدُ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ عَلَيْهِ.

روى أحمد في مسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ لا يَسْهُو فِيهِمَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))،

وَفِي شعب الإيمان للبيهقي من حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَبْلَغَ الْوُضُوءَ ‌ثُمَّ ‌قَامَ ‌إِلَى ‌الصَّلَاةِ ‌فَأَتَمَّ ‌رُكُوعَهَا، ‌وَسُجُودَهَا وَالْقِرَاءَةَ فِيهَا، قَالَتِ الصَّلَاةُ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، ثُمَّ صُعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَلَهَا ضَوْءٌ وَنُورٌ فَفُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى اللهِ فَتَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا، وَإِذَا لَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا، وَلَا سُجُودَهَا، وَلَا الْقِرَاءَةَ فِيهَا قَالَتْ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، ثُمَّ صُعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَيْهَا ظُلْمَةٌ فَغُلِّقَتْ دُونَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ثُمَّ تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلْقُ فَضُرِبَ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا)).

وقد سمّى الله الصلاة في القرآن الكريم إيمانًا فقال عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [سورة البقرة/ الآية 143] أي صلاتَكُم إلَى بيتِ المقدسِ بل يثيبُكُم عليهَا؛ لأنَّ سببَ نزولِهَا السؤالُ عمَّنْ ماتَ قبلَ التحويلِ، فقدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ وَهُوَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ،

وسمَّى اللهُ الصلاةَ إيمانًا وهذَا يدلُّ علَى عظيْمِ شأنِهَا فِي الشرعِ، قالَ البيهقيُ: وليسَ مِنَ العباداتِ بعدَ الإيمانِ الرافعِ للكفرِ عبادةٌ سمَّاها اللهُ عزَّ وجلَّ إيمانًا وسمَّى رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ‌تركَها ‌كفرًا إلَّا الصلاة. اهـ

وليسَ معناهُ أنَّ مَنْ ترَكَها فِي كلِّ أحوالِه يكونُ كافرًا بلْ إذَا تركَهَا جحودًا، جمهورُ الفقهاءِ لَا يكفرونَ تاركَ الصلاةِ كسلًا وإنَّما يعتبرونُه فاسقًا إلَّا إذَا استخفَّ بهَا أوْ جحدَ فرضيتَها فيكفرُ عندَ ذلكَ ودليلُهم مَا رواهُ الإمامُ أحمدُ فِي المسندِ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، فَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ)). اهـ

وفِي روايةٍ لأبِي داودَ ولمالكٍ فِي الموطأِ: ((إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)). ووجهُ الدليلِ قولُه صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ))،

ويقولُ الإمامُ الطحاويُّ المولودُ سنةَ 227هـ في عقيدتِه التِي ذكرَ أنَّها بيانُ عقيدةِ أهلِ السنةِ والجماعةِ: “ولا نُكَفِّرُ أحدًا مِنْ أهلِ القبلةِ بذنبٍ مَا لمْ يستحلَّهُ”.

قالَ الحافظُ النوويُّ في شرحِ صحيحِ مسلمٍ: وأمَّا تاركُ الصَّلاةِ فإنْ كانَ مُنْكِرًا لوجوبِها فهوَ كافرٌ بإجماعِ المسلمينَ، خارجٌ مِنْ ملَّةِ الإسلامِ إلَّا أنْ يكونَ قريبَ عهدٍ بالإسلامِ، ولمْ يخالِطِ المسلمينَ مُدَّةً يبلغُهُ فيهَا وجوبُ الصَّلاةِ عليهِ.اهـ

ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)) وهذا الحديث دليل على أنه لا يُطْلَبُ الاستغفار من الكافر في حال كفره، ولكن يقال لمن أسلم استغفر الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الشخص بعد أن يسلم أن يستغفر وليس قبل إسلامه، ووردت الأحاديث والآيات بهذا الحكم، فإنه أي الكافر إِذَا قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يسلم بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ فَلا يَزِيدُهُ قَوْلُهُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا إِثْمًا وَكُفْرًا لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/34 الآية]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [سورة النساء/ الآية 168-169]

فمَنْ كَفَرَ ثُمَّ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الإِسْلامِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا بَلْ يَزْدَادُ إِثْمًا وَكُفْرًا لِأَنَّهُ يَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ وَهُوَ عَلَى الْكُفْرِ وَاللَّهُ تَعَالَى لا يَغْفِرُ كُفْرَ الْكَافِرِ وَذُنُوبَهُ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ، وَمَنْ صَدَرَ مِنْهُ كُفْرٌ ثُمَّ تَشَهَّدَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ الإِقْلاعِ عَنِ الْكُفْرِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ كَفَرَ لا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ. وَلا يَرْجِعُ إِلَى الإِسْلامِ حَتَّى يُقْلِعَ عَنِ الْكُفْرِ فَيَتَشَهَّدَ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الإِسْلامِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ مَنْ هُوَ مُقِيمٌ عَلَى الْكُفْرِ لا يَنْفَعُهُ التَّشَهُّدُ وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ مِائَةَ مَرَّةٍ.

رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بنِ الْحُصَيْنِ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَيْرٌ لِقَوْمِهِ مِنْكَ كَانَ يُطْعِمُهُمُ الْكَبِدَ وَالسَّنَامَ، وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَا شَاءَ اللَّهُ – مَعْنَاهُ رَدَّ عَلَيْهِ -، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ: مَا أَقُولُ، قَالَ: ((قُلِ: اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي، وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي)) فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ: إِنِّي أَتَيْتُكَ فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي. فَقُلْتَ: ((قُلِ: اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي))، فَمَا أَقُولُ الآنَ حِينَ أَسْلَمْتُ؟ قَالَ: ((قُلِ: اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا عَمَدْتُ وَمَا أَخْطَأْتُ وَمَا جَهِلْتُ.))

فقَوْلُهُ: “أَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ” أَيْ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا السَّنَامُ فَهُوَ سَنَامُ الإِبِلِ وَهُوَ طَعَامٌ فَاخِرٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَوْلُهُ: “وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ” أَيْ تَقْتُلُهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَقَوْلُهُ: “فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ” مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّسُولَ رَدَّ عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْكَلامِ.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ مَا دَامَ كَافِرًا لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي” لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَكَانَ الرَّسُولُ عَلَّمَهُ من الأَوَّلِ الِاسْتِغْفَارَ اللَّفْظِيَّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُ الِاسْتِغْفَارَ اللَّفْظِيَّ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَلَيْسَ كَانَ نُوحٌ يَقُولُ لِقَوْمِهِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [سورة نوح/ الآية 10] فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ أَيِ اطْلُبُوا مَغْفَرِةَ اللَّهِ بِالدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ بِتَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالإِيـمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَالإِيـمَانِ بِي أَنِّي نَبِيُّ اللَّهِ،

وَكَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى فِي الْقُرْءَانِ مَعْنَاهُ طَلَبُ الْغُفْرَانِ بِالدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ لِأَنَّ الإِسْلامَ يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [سورة الأنفال/ الآية 38] وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ قَوْلَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَوْ رَبِّ اغْفِرْ لِي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

((وَارْحَمْنِي)) الله تعالى شمِلَتْ رحمتُه المؤمنَ والكافرَ في الدنيا، وهوَ الذي يَرْحَمُ المؤمنينَ فقط في الآخِرَةِ، فاللهُ تعالى أخبرَنا أنَّ رحمتَه في الآخرَةِ خاصةٌ بالمؤمنينَ قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سورة الأعراف/ الآية 156]، وهذهِ الآيةُ دليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى يَرْحَمُ المؤمنينَ والكافرينَ في الدنيا، ومعنى رحمَتُهُ للكافرينَ أنْ يُعطيَهم الصحةَ والرزقَ والهواءَ العليلَ والماءَ الباردَ وما أشبَهَ ذلك أمَّا في الآخرَةِ فهيَ خاصةٌ بالمؤمنينَ، ومعنى قولِه تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي في الدنيا، ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أي في الآخرةِ ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أيْ يجتنبونَ الشِّرْكَ وجميعَ أنواعِ الكفرِ،

فرحمةُ اللهِ وسِعَتْ في الدنيا المؤمنَ والكافرَ لكنَّها في الآخرةِ خاصةٌ لمنِ اتَّقى الشركَ وسائرَ أنواعِ الكفر.

فمِنْ هنا علمنا أنَّ اللهَ تعالى لا يرحمُ الكافرَ يومَ القيامَةِ إنما يَرحَمُه في هذه الدنيا، فلا يَجوزُ أنْ يُتمسَّكَ بالجزءِ الأوَّلِ مِن هذه الآيةِ وهوَ قولُه تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ويُظَنَّ أنَّ ذلكَ شاملٌ للدنيا والآخرةِ، إنَّما رحمةُ الله تعُمُّ وتشملُ المؤمنَ والكافرَ في هذه الدنيا فقط أما في الآخرةِ فلا يَرحَمُ الكافرَ،

فاللهُ تباركَ وتعالى فضلًا منهُ وكرمًا جعلَ رحمتَه في الدنيا عامَّةً شاملةً للمؤمنينَ والكافرينَ، وجَعَلَهَا خاصةً في الآخرةِ بالمؤمنينَ دونَ الكافرينَ عدلًا منهُ لأنَّه تباركَ وتعالى ليسَ مُلْزَمًا بشىءٍ،

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ ‌لَا ‌يَظْلِمُ ‌الْمُؤْمِنَ ‌حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا)) رواه أحمد في مسنده. أي ما عمل من صور الطاعات كإطعام الفقير وإغاثة الملهوف، فالكافر لا يقبل الله منه أيَّ عمل لأن الإيمان شرط لقبول الأعمال الصالحة.

فَشَربةُ الماءِ الباردِ رحمةٌ للكافرِ في الدنيا،

وقدْ وردَ عن سهلِ بنِ سعدٍ الساعديِّ قالَ: قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)) رواه الترمذي في سننه.

وَليسَ معنى قولِنا إنَّ الكافرَ تشمَلُه رحمةُ اللهِ في الدنيا أنَّه تُقْبلُ منهُ عبادتُه الفاسدةُ لا، فالكافرُ مهما أتعبَ نفسَه في صورِ العباداتِ والطاعاتِ فلن يُقبَلَ منه شىءٌ لأنَّ الشرطَ لقَبولِ الأعمالِ الصالحةِ هو الإيمانُ باللهِ ورسولِه، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [سورة النساء/ الآية 124] وقالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [سورة النور/ الآية 39] فالشخْصُ إذا اجْتَنَبَ الكفرَ بأنواعِه وعملَ عمَلًا موافِقًا للشريعَةِ مخلصًا به للهِ تعالى مُوافِقًا لما جاءَ بهِ رسولُ اللهِ ﷺ فإنَّه يُقبلُ منهُ مهما كانَ قليلًا، فقد جاءَ عن سيِّدِنا سليمانَ عليهِ السلامُ أنَّه قالَ للفَلَّاحِ الذي نَظَرَ إليهِ وهوَ على بِساطِ الرّيحِ وقالَ: “إنَّ اللهَ أعْطى ءالَ داودَ مُلْكًا عَظيمًا” فرجَعَ إليهِ وقالَ لهُ: “لَتَسْبيحةٌ واحدةٌ يَقْبَلُها اللهُ منكَ خيرٌ لكَ مِنَ الدُّنْيا وما فيها” فهذهِ التسبيحةُ المقبولةُ معَ قِلَّةِ ألفاظِها قالَ عنها سيدُنا سليمانُ عليهِ السلامُ خيرٌ مِن الدنيا وما فيها، ولكنَّها لا تُقْبلُ إلا بشروطٍ أولُها الإيمانُ باللهِ تعالى وبرسولِه ﷺ، أما إذا كان الشخصُ واقعًا بأيِّ نوعٍ مِن أنواعِ الكفرِ وأتعبَ نفسَه بصورِ الطاعاتِ فليسَ له مِن ذلكَ شىءٌ مهما كَثُرَ.

واعلم أنّ مِن الرَّحَمَات ما هو خاصٌّ وهذا لا يكونُ إلا للمؤمنينَ كالرحمَةِ التي تنزِلُ على المصلي في أثناءِ صلاتِه،

ومِنَ الرَّحَمَاتِ الخاصَّةِ ما تنزلُ على طلابِ العلمِ في مجالسِ العلمِ فهذهِ رحمةٌ خاصةٌ بِمَنْ يحضُرُ وأيُّ رحمةٍ هيَ، فلو كُشِفَ ما في مجالسِ العلمِ مِن الخيرِ والبركةِ والرحمةِ لما تركَ أهلُ الهممِ والقلوبِ اليَقِظَةِ مجلسَ علمٍ لا إعطاءً ولا تلقيًا،

فعلمُ الدينِ هوَ حياةُ الإسلامِ ينبغي الاهتمامُ به تعلُّمًا وتعليمًا للكبارِ والصغارِ، يقولُ ربُّنا عزَّ وجلَّ في محكمِ التنْزيلِ: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [سورة التحريم/ الآية 6]

فوِقايةُ النفسِ والأهلِ مِنْ نارِ جهنَّمَ تكونُ بتعلُّمِ أمورِ الدِّين وتعليمِ الأهلِ ذلكَ، فإنَّ مَن لم يتعلّمْ علمَ الدِّين يتخبَّطُ في الجهلِ ولا يعرفُ الحلالَ والحرامَ، فيقَعُ فيما لا يُرضي الله تبارك وتعالى وقد يقَعُ في الكفرِ والعياذِ باللهِ فيَسخطُ اللهُ عليه ويكونُ مآلُه في الآخرةِ إن ماتَ على الكفرِ أن يدخُلَ النارَ خالدًا فيها لا تلحقه شفاعةُ شافِعٍ وليسَ له نصيرٌ ولا يرحمُهُ الله، وما ذاك إلا لأنَّه أهمَلَ تعلُّمَ علمِ الدِّينِ مِن أهلِ المعرفةِ الصادقين وبطريقِه الذي بيَّنَه رسولُ اللهِ ﷺ ودَرَجَ عليه الأئمةُ الأعلامُ، وطريقُ أخذِه أنْ يكونَ مشافهةً وتلقيًّا وسماعًا لا قراءةً وتصفحًا دون تلقٍّ.

وقد جاءَ عن نبيِّنا الأكرمِ صلواتُ ربي وسلامُه عليه الحثُّ البليغُ على طلبِ علمِ الدينِ فقالَ ﷺ لأبي ذرٍّ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ العِلْمِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ)) أي مِنَ النوافلِ. رواه ابن ماجه في سننه.

ووردَ عنهُ ﷺ فيما رواه الطبراني في معجمه الأوسط: ((مَا عُبِدَ اللهُ بِشَىءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّيْنِ)) وقالَ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ فِيْ الدِّيْنِ)) رواه مالك في الموطأ.

((وَاهْدِنِي)) وهذا مثلُ ما نقرأ كل يوم في سورة الفاتحة من قولنا: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، أَيْ أَكْرِمْنَا بِاسْتِدَامَةِ الْهِدَايَةِ عَلَى الإِسْلامِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: هُوَ دين الله الذي لا يقبلُ مِن العبادِ غَيْرَهُ. وأَصْلُ الصِّرَاطِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الطَّرِيقُ. وَالْمُسْتَقِيمُ: السَّوِيُّ الَّذِي لَا غِلَظَ فِيهِ،

وقد حمَلَه بعضُهم على طريقِ أهلِ التوكلِ والانكسارِ للهِ تعالى. وفي هذا يُحْكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَقَالَ: يَا شَيْخُ إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِلَى بَيْتِ اللَّهِ. قَالَ لَا أَرَى لَكَ مَرْكَبًا، وَلَا زَادًا، وَالسَّفَرُ طَوِيلٌ!! فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ لِي مَرَاكِبَ كَثِيرَةً وَلَكِنَّكَ لَا تَرَاهَا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا نَزَلَتْ عَلَيَّ بَلِيَّةٌ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الصَّبْرِ، وَإِذَا نَزَلَ عَلَيَّ نِعْمَةٌ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الشُّكْرِ، وَإِذَا نَزَلَ بِيَ الْقَضَاءُ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الرِّضَا، وَإِذَا دَعَتْنِي النَّفْسُ إِلَى شَيْءٍ عَلِمْتُ أَنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الْعُمُرِ أَقَلُّ مِمَّا مَضَى. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: سِرْ بِإِذْنِ اللَّهِ فَأَنْتَ الرَّاكِبُ وَأَنَا الرَّاجِلُ.

ومما يروى عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يجتاز ست عقبات؛ أولها: أن يغلق باب النعمة ويفتح باب الشدة، والثاني: أن يغلق باب العزّ ويفتح باب الذلّ، والثالث: أن يغلق باب الراحة ويفتح باب الجهد، والرابع: أن يغلق باب النوم ويفتح باب السهر، والخامس: أن يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر، والسادس: أن يغلق باب الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت.

لقد ترك إبراهيم بن أدهم الملك والجاه فكان يلبس في الشتاء فرو ليس تحته قميص، ولم يكن يلبس خفين، وكان كثير الصوم في السفر والحضر قليل النوم كثير التفكر، وكان يأكل من عمل يده في حصاد الزرع وحراسة البساتين.

ومما يروى عن زهده وأمانته ما رواه أبو نعيم في حليته عن داود بن الجراح أن إبراهيم بن أدهم كان يحرس بستانًا في غزة فجاء صاحب البستان ومعه أصحابه فقال له: إيتنا بعنب نأكل. فأتاه بعنب فإذا هو حامض، قال صاحب البستان: من هذا تأكل؟ قال: لا أكل من هذا ولا من غيره. قال له: إيتني برمان. فأتاه برمان فإذا هو حامض، فقال له: من هذا تأكل؟ قال إبراهيم: لا أكل من هذا ولا من غيره ولكن رأيته أحمر حسنًا فظننت أنه حلو. فقال صاحب البستان: لو كنت إبراهيم بن أدهم … يريد أن هذا شأن إبراهيم بن أدهم وهو أنه لا يتجاوز حده فيأكل من مال غيره دون إذنه. قال: فلما علم أنهم عرفوه هرب منهم وترك كِراه أي أجرته.

وروى أبو نعيم بن إسحاق الفزاري أنه قال: كان إبراهيم بن أدهم في شهر رمضان يحصد الزرع في النهار ويصلي في الليل فمكث ثلاثين يوم لا ينام الليل ولا النهار.

وممّا يؤكّد زهده وعزوفه عمّا في أيدي الناس ما رواه أبو الحسين الجرجاني عن علي بن بكار أنه قال: كنّا جلوس عند الجامع بالمصيصة وهي مدينة في الشام يقال لها المنصورة أيضا وفينا إبراهيم بن أدهم فقدم رجل من خراسان، فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم؟ فقال القوم: هذا، فقال: إن إخوتك بعثوني إليك. فلما سمع ذكر إخوته قام فأخذ بيده ونحاه، وقال: ما جاء بك؟ قال: أنا مملوكك مع فرس وبغلة وعشرة آلاف درهم بعث بها إليك إخوتك. قال: إن كنت صادقا فأنت حر وما معك فلك اذهب فلا تخبر أحدا.

ومن أخبار أمانته ما ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة عن أحمد بن داود أنه قال: مر يزيد بإبراهيم ابن أدهم وينظر بستانا فقال: ناولنا من هذا العنب، فقال إبراهيم: ما أذن لي صاحبه.

وما يُروى من كرامات إبراهيم بن أدهم أن قومًا أتوا إلى إبراهيم بن أدهم فقالوا يا أبا إسحاق إن الأسد واقف على طريقنا، فأتى إبراهيم إلى الأسد فقال: يا أبا الحارث إن كنت أمرت فينا بشيء فامضِ لمّا أمرت به، وإن لم تؤمر بشيء فتنحَّ عن طريقنا. فأدبر الأسد يهمهم.

وفي روضة الرياحين ذكر كرامة أخرى له وهي أنه أراد ركوب سفينة فأبى الملاح إلا أن يأخذ دينارًا، فصلى إبراهيم ركعتين وقال: اللهم إنهم سألوني ما ليس عندي وهو عندك كثير. فصار الركن دنانير فأخذ واحد دفعه له ولم يأخذ غيره.

ومن كراماته التي حصلت له في المصيصة أنه خرج إلى مرج من مروج الشام فالتقى بأناس يوقدون نارا حولهم خوف السباع فطلبوا منه أن ينضم إليهم فأبى وجلس في ناحية وحيدا وبينما هو يصلي الليل إذا أتته ثلاثة أسود فتقدم الأول إليه فشمه وطاف حوله ثم تنحى ناحية فربض، ثم جاء الثاني ففعل كفعل الأول ثم الثالث ففعل كفعل الأولين، فلما دخل السحر قال للأسود: ما الذي جاء بكم؟ أتريدون أن تأكلوني امضوا. فقامت الأسود فتركته وذهبت وكل ذلك على مرأى من القوم.

خرج إبراهيم بن أدهم من الشام يزور أخ له أحسبه قال فتح الموصلي قال فانتهى إلى قراح بن حسن فقال إبراهيم بن أدهم أريد البول فتنحى غير بعيد فاحتبس علي فاتبعته فإذا هو قد جلس يستريح فاتكأ إلى جانب حائط فإذا ثعبان مقعي على ذنبه أي جلس على اسه مفترشا رجليه وناصبا يديه في فمه طاقة نرجس يلوح بها على وجه إبراهيم.

ومن جملة حكمه التي نشرت عنه ما قاله في رسالة إلى سفيان الثوري يقول فيها: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل ومن أطلق بصره طال أسفه ومن أطلق أمله ساء عمله ومن أطلق لسانه قتل نفسه.

وقد ذكر صاحب جامع كرامات الأولياء أنه توفي في بلاد الشام سنة مائة واثنين وستين للهجرة، وأنه دفن في جبلة في سواحل سوريا. وروي عن المنادي أنه قال وقد زرته والحمد لله في جبلة وحصلت لي بركته وله مزار عظيم وجامع كبير قديم وأوقاف كثيرة وقبره يستجاب الدعاء عنده وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.

((وَعَافِنِي)) وهذا مثل ما جاء في بعض الأحاديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((وَاسْأَلُوا اللَّه العَافِيَةَ)) رواه مسلم، وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا – يَعْنِي أَحَبَّ إِلَيْهِ – مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ))، قيل أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَافِيَةِ الصِّحَّةُ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ الطِّيبِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَافِيَةُ أَحَبَّ لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ جَامِعَةٌ لِخَيْرِ الدَّارَيْنِ مِنَ الصِّحَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّلَامَةِ فِيهَا وَفِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ الْعَافِيَةَ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْبَلَايَا، وَهِيَ الصِّحَّةُ عِنْدَ الْمَرَضِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ،

وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَافِيَةِ السَّلَامَةُ مِنَ الْبَلَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، سَوَاءٌ يَكُونُ مَعَهُ صِحَّةُ الْبَدَنِ أَمْ لَا،

قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: دَخَلَ عَلَيَّ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيُّ، وَكَانَ بِهِ أَلَمٌ فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: عَافَاكَ اللَّهُ يَا سَيِّدِي فَسَكَتَ وَلَمْ يُجَاوِبْهُ، ثُمَّ أَعَادَ الْكَلَامَ،

فقال له: الَّذِي أَنَا فِيهِ هُوَ الْعَافِيَةُ، وَقَدْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَافِيَةَ وَقَالَ: ((مَا زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فَالْآنَ قَطَعَتْ أَبْهَرِي))رواه أبو نعيم الأصفهاني في الطب النبوي، وَأَبُو بَكْرٍ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَسْمُومًا، وَعُمَرُ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَطْعُونًا، وَعُثْمَانُ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَذْبُوحًا، وَعَلِيٌّ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَقْتُولًا، فَإِذَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَسَلْهُ الْعَافِيَةَ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَكَ عَافِيَةٌ اهـ

وَنُقِلَ عَنِ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ مَتَى رَأَى وَاحِدًا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، قال ملا علي القاري: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْعَافِيَةُ دَفْعُ الْعَفَاءِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ كَفَافٌ مِنَ الْقُوتِ، وَقُوةٌ لِلْبَدَنِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَاشْتِغَالٌ بِأَمْرِ الدِّينِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَتَرْكُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، وَلَا كَلِمَةَ أَجْمَعُ لِذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الْعَافِيَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سَأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ أَنْ يُعَلِّمَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ اخْتَارَ لَفْظَهَا فَقَالَ: يَا عَمِّ إِنِّي أُحِبُّكَ، سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

((وَارْزُقْنِي)) والدعاء بالرزق وارد وثابت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يقال لتيسيرِ الرزقِ: قراءةُ سورةِ “الواقعةِ” كلَّ ليلةٍ بعدَ المغربِ لحديثِ رسولِ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فِي كُل لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا)) رواه البيهقي في شعب الإيمان،

وكذلكَ كثرةُ الاستغفارِ صباحًا ومساءً يقولُ: أستغفرُ اللهَ أو ربِّ اغفرْ لي لحديثِ رسولِ اللهِ ﷺ: ((مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)) رواه ابن ماجه في سننه، وجاءَ عنْ رسولِ اللهِ ﷺ قالَ: ((مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ: لا إِلٰهَ إِلا اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ كَانَ لَهُ أَمَانًا مِنَ الْفَقْرِ، وَأُنْسًا مِنْ وَحْشَةِ الْقَبْرِ، وَاسْتَجْلَبَ الْغِنَىٰ، وَاسْتَقْرَعَ بِهَا بَابَ الْجَنَّةِ)) رواه السيوطي في جمع الجوامع،

ووردَ في شعب الإيمان للبيهقي عنِ ابنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما، عنِ النبيِّ ﷺ قالَ: ((مَا يَمْنَع أحَدَكُمْ إذا عَسُرَ عَلَيْهِ أمْرُ مَعِيشَتِهِ أنْ يَقُولَ إذا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِسْمِ اللهِ عَلَىْ نَفْسِيْ وَمَالِيْ وَدِيْنِي، اللَّهُمَّ رَضِّنِي بِقَضَائِكَ، وَبَارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ حَتَّى لَا أُحِبَّ تَعْجِيْلَ شَيْءٍ أَخَّرْتَهُ وَلَا تَأْخِيْرَ مَا عَجَّلْتَ)).

وفي رواية لهذا الحديث في مسند أحمد: قال أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ: حَدَّثني أَبِي، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَقُولُ إِذَا أَتَاهُ الإِنْسَانُ يَسْأَلُهُ: كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ أَسْأَلُ رَبِّي؟ قال: ((قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وارْحَمْنِي، واهْدِنِي، وارْزُقْنِي)) وقَبَضَ أَصَابِعَهُ إِلا الإِبْهَامَ، وَقَال: ((هَؤُلاءِ يَجْمَعْنَ لَكَ دُنْيَاكَ وآخِرَتَكَ)).

والله تعالى أعلم وأحكم

شاهد أيضاً

شرح حديث “الدعاء هو العبادة” ومسائل التوسل والقضاء والقدر

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لم يزل عظيما عليّا، يخذل عدوّا وينصر …