المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاء مُزَيَّنَةً بِزِينَةِ النُّجُومِ، وَثبَّتَ الأَرْض بِجِبَالٍ فِي أَقَاصِي التُّخُومِ، علمَ الأَشْيَاءِ كلها وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمَعْلُومُ، وقدَّر الْمَحْبُوب وَالْمَكْرُوه وَالْمَحْمُود وَالْمَذْمُوم، واطَّلَعَ عَلَى بَوَاطِنِ الأَسْرَارِ وَعَلِمَ خَفَايَا الْمَكْتُومِ، جَلَّ أَنْ تُحِيطَ بِهِ الأَفْكَارُ أَوْ أن تَتَخَيَّلَهُ الْوُهُومُ، وَقَضَى ما يكون فَقَضَاؤُهُ مَحْتُومٌ، وَبِتَقْدِيرِهِ مَعْصِيَةُ الْعَاصِي وَعِصْمَةُ الْمَعْصُومِ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [سورة البقرة/ الآية 255]
وأصلِّي وأُسلم على رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلاةً تَبْلُغُهُ عَلَى الْمَرُومِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَلَى السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَعَلَى عُمَرَ الْمُنْتَصِفِ بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَعَلَى عُثْمَانَ الْمُتَهَجِّدِ إِذَا رَقَدَ النَّئُومُ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي حَازَ الشَّرَفَ وَالْعُلُومَ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
حديث اللهم يا مصرف القلوب
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)).
الشرح والتعليق على هذا الحديث
((اللَّهُمَّ)) أَصْلُهُ يَا اللَّهُ فَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَعُوِّضَ عَنْهُ الْمِيمُ، وَلِذَا لَا يَجْتَمِعَانِ، فلا تقول: يا اللهم. وَقِيلَ: أَصْلُهُ يَا اللَّهُ أَمِّنَا بِخَيْرٍ ((يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ)) أي مقلبها كما جاء في الرواية الأخرى، فالله تعالى يقلب القلب من حال إلى حال، يقلبه من محبة إلى كره أو من كره إلى محبة أو من إيمان إلى كفر أو كفر إلى إيمان، مُصَرِّفُهَا تَارَةً إِلَى الطَّاعَةِ، وَتَارَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَالقلب كَالْمَلِكِ، وَالْأَعْضَاءُ كَالرَّعِيَّةِ، فَأَهَمُّ الْأُمُورِ مُرَاعَاتُهُ، فَإِنْ صَدَرَ عَنْهُ إِرَادَةٌ صَالِحَةٌ تَحَرَّكُ الْجَسَدُ حَرَكَةً صَالِحَةً وَبِالْعَكْسِ.
وَالْقَلْبُ لُغَةً صَرْفُ الشَّيْءِ إِلَى عَكْسِهِ، وَمِنْهُ الْقَلْبُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِ، وَفِي حَدِيثٍ صحيح آخَرَ: ((مَثَلُ الْقَلْبِ كَرِيشَةٍ في أَرْضِ فَلَاةٍ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ)) رواه البيهقي في شعب الإيمان. وَلِهَذَا ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) رواه الترمذي في سننه.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا مِنْ تَقَلُّبِـــهِ
فَاحْذَرْ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ
وَفِي الْأحَادِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلَاحَ القلب إِنَّمَا هُوَ بِأَنْ يَتَغَذَّى بِالْحَلَالِ فَيَصْفُو، وَيَتَنَوَّرُ، فَيَنْعَكِسَ نُورُهُ إِلَى الْجَسَدِ فَيَصْدُرُ مِنْهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِصَلَاحِهَا، وَإِذَا تَغَذَّى بِالْحَرَامِ يَصِيرُ مَرْتَعًا لِلشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ، فَيَتَكَدَّرُ الْقَلْبُ فَيُظْلِمُ، وَتَنْعَكِسُ ظُلْمَتُهُ إِلَى الْبَدَنِ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الْمَعَاصِي، وَهُوَ الْمُرَادُ بِفَسَادِهَا.
((صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)) أَيْ: إِلَيْهَا، أَوْ ضُمِّنَ مَعْنَى التَّثْبِيتِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: ((اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) والمعنى أَيِ: اجْعَلْهُ ثَابِتًا عَلَى دِينِكَ غَيْرَ مَائِلٍ عَنِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْخُلُقِ الْعَظِيمِ.
قِيلَ: وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الْإِيجَادِ؟ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ سَاعَةً مِنَ الْإِمْدَادِ.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء ليعلمنا وليس لأنّه يقع فيه، فهو أثبت الناس قلبّا على دين الله عزّ وجلّ، وأبعد الناس عن أن يُفتَن، فهو معصوم عن الكفر والكبائر وصغائر الذنوب التي فيها خسة ودناءة نفس قبل النبوة وبعدها.
نذكر هنا شرحًا وافيًا لمسألة القدر
وهذا الدعاء فيه تأييد لعقيدة أهل السنة والجماعة أنّ كل شيء بتقدير الله عزّ وجلّ، فالذي علينا وعلى كُلِّ مسلمٍ أن يعتَقِدَهُ أن كُلَّ شىءٍ يحصُلُ في هذا العالم إنّما يحصُل بقضاءِ الله وقدرِه إن كان خيرًا أو شرًا حلوًا أو مرًا طاعةً أو معصية كُلُّ شىءٍ يحصل بقضاءِ الله وقدرِه بتقدير اللهِ تبارك وتعالى هذه عقيدةُ المسلمين حتى قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ))كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ)) هذا الحديث في صحيح مسلم، العجز يعني الغباء يعني أن يكون الشخص لا يعرِفُ كيف يتصرّف، والكيس معناهُ الفطانة والذكاء بحيثُ يعرِفُ الشخص كيف يتصرّف، حتى الذكاء والغباء كُلُهُ بقدر كُلُّ ذلك بتقدير الله تبارك وتعالى، كما قسم اللهُ بين العبادِ أرزاقَهُم وقدرها لهُم، كذلك قسمَ اللهُ بين العبادِ العقول وقدرها لهُم، كذلك قسم اللهُ بين العبادِ العلوم وقدرها لهُم،
ما يُحصِلُهُ الإنس من رزق أو عِلِم، ما يفعلُهُ الشخص ما يتصرفُ بهِ كُلُّ ذلك بتقدير الله تبارك وتعالى.
بعضُ الأشياء نحنُ نعمَلُها بإرادتنا وبعضُ الأشياء تحصُلُ مِنَّا بغير إرادة؛ أنت ترتَجِفُ من البرد بغير إرادة، تُحَرِكُ يدكَ لتكتُب بإرادة هذا العمل الذي عَمِلْتَهُ بإرادتِك هو بتقدير الله وذاك العمل الذي حصل منك بغير إرادَتِكَ هو أيضًا بتقدير الله، كُلُّ شىءٍ يحصُلُ في هذا العالم هو بتقدير الله تبارك وتعالى.
الأسباب لا تخلُقُ مُسبباتِها، الإنسان لا يخلُقُ شيئًا، الخُبز لا يخلُقُ الشِبع، الماء لا يخلُقُ الري، النار لا تخلُقُ الإحراق، السكين لا تخلُقُ القطع، إنما الذي يخلُقُ كُلَّ شىء هو الله، كُلُّ شىء يحصُلُ بتقدير الله، شخص يضرِبُ شخصًا ءاخر بالسكين فيقتُلُهُ ويأتي شخص ءاخر فيضربُ شخصًا ءاخر في نفس المكان الذي ضُرب به ذاك الشخص فلا يموت مع أنهُ ضربهُ في نفس المكان، هذا شخص وهذا شخص وهذه سكين وهذه سكين لأنّ الله ما قدر لهذا الشخص أن يموت بهذه الضربة وقدر لذاك أن يموت بهذه الضربة، السكين ليست هي التي تخلُقُ القطع ولا الموت، الإنسان ليس هو الذي يخلُقُ القتل، القاتل ليس هو الذي يخلُقُ القتل، الإنسان لا يخلُقُ شيئًا إنما الواحِدُ منا يكتسب ما يفعلُهُ بإرادتِهِ يكتسِبُهُ اكتسابًا، الشخص يوجِّهُ إرادتَهُ نحو العمل – وإرادتُهُ مخلوقةٌ أيضًا، إرادةُ الواحِدِ مِنَّا مخلوقة – مَيلي لشىءٍ دون شىء مخلوق، عندما أفعلُ عملًا من الأعمال بإرادتي، والعمل مخلوق وإرادتي مخلوقة أكتسِبُ هذا العمل، اللهُ يخلُقُ العمل ويخلُقُ الإرادة على حسبِ علمِهِ الأزلي. علِمَ اللهُ في الأزل أننا سنجلِسُ اليوم في هذا المسجد فخلق ذلك، هذا خلقهُ الله على حسبِ علمِهِ الأزلي وبمشيئتِهِ الأزلية، ونحنُ بإرادتنا اكتسبنا المجيء إلى هنا والجلوس لكن لم نخلُق ذلك، نحنُ لا نُبرزُ من العدم إلى الوجودِ شيئًا لأنهُ لا أحد يُشارِكُ الله في صفةٍ من صفاتِهِ.
اللهُ هو الخالقُ الخلاق ولا أحدَ يُشارِكُ الله تعالى في صفةِ التخليق، الله هو الذي يُقدِّرُ حصولَ كُلِّ ما يحصُلُ في هذا العالم ولا أحدَ يُشارِكُ الله تبارك وتعالى في ذلك. نحنُ عندنا إرادة نعم، نعملُ أشياء بإرادتنا نعم، كُل واحد منا يجدُ فرقًا بين أن يرتجِفَ من البرد بغير إرادة وبين أن يتحرك ويمشي بإرادتِهِ لكن حُصولُ هذا المشي أنا أكتسِبُهُ إذا مشيت، ما معنى ذلك؟ يعني يقومُ المشيُّ فيَّ بإرادتي لكن ليس أنا الذي أخلُقُهُ وهذا بتقدير الله تعالى.
فعقيدةُ المسلمين كُلِّهِم من أيامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن أنّ كُلَّ ما يحصُلُ في هذا العالم يحصُلُ بتقديرِ الله تبارك وتعالى بمشيئةِ الله بقدرِ الله والله يخلُقُهُ، نحنُ نكتسِبُهُ اكتسابًا والخالقُ هو اللهُ تبارك وتعالى. اللهُ تعالى قال: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [سورة الرعد/ الآية 16] اللهُ خالِقُ كُلِّ شىء، الشىء يدخُلُ فيه الجسم ويدخُلُ فيه العمل، تقولُ لشخص: تُريدُ مني شيئًا؟ أنت ليس قصدُك تُريدُ مني صندوقًا جسما. تقول لشخص: أُريدُ منك شيئًا؟ يقول لك: ماذا؟ تفعل لي كذا وكذا. الله تعالى يقول: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [سورة الرعد/ الآية 16] من خالف في هذا فاعتقد أنّ غير الله يخلُقُ شيئًا من العدم إلى الوجود فهو كافر لأنهُ جعل للهِ شريكًا في الخلق، صار شبيه المجوس، المجوس ماذا يعتقدون؟ المجوس يعتقدون أنّ العالم لهُ خالقان: خالقٌ للخير وخالقٌ للشر. الذي يقول الله يخلُقُ بعضَ الأشياء وأنا أخلُقُ أشياءَ أُخرى ماذا يكون؟ يكون شابه المجوس جعل للعالم أكثر من خالق كما أن المجوس جعلوا للعالم أكثر من خالق، بل الذي يقولُ إن الإنسان هو يخلُقُ أفعالهُ شرٌّ من المجوس، المجوس جعلوا للعالم خالِقَينِ اثنين أما هو جعل خالِقِينَ كثيرين.
أبو داود وغيرُهُ روى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: ((لكلِّ أمَّة مجوسٌ، ومجوسُ هذه الأمة الذين يقولون: لا قَدَرَ – ينفون القدر يقولون الأشياء لا تحصُلُ بتقدير الله – مَن مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومَنْ مرضَ منهم فلا تَعُودُوهم)).
يقال لهُم المجوس والمانوية، وقد كذبهُم الشاعر حيثُ قال:
وكم لظلامِ الليِلَ عنديَ من يدٍ
تُخبِرُ أن المانوية تكـــــذِبُ
كم من الأشياء الحسنة حصلت لي بسبب الليل وهذا يدُلُّ على أنّ المانوية كذابون ليسوا على حقٍّ فيما يقولون أن الظُلمة خالقةُ الشّرّ.
فلا ينبغي التردُد في تكفيرِهِم، هنا أُنبِهُ إلى شىء بعضُ الناس اعتادت ألسِنَتُهُم أن يستعمِلَ كلمة خلق في غيرِ موضِعِها، بعضُ الناس يقول: “فلان خلق جَوًّا من الفرح” لا يجوز، استعمال كلمة “خلق” هنا استعمالٌ لها في غيرِ موضِعِها، إنما نقول: “فلان سبب” أمّا خلق فلا، الخالِقُ هو اللهُ تعالى وحدهُ نحنُ لا نخلُقُ شيئًا لا نُبرِزُ شيئًا من العدمِ إلى الوجود إنما الذي يُبرِزُ من العدمِ إلى الوجود هو الله، هو الذي يُقَدِّرُ كُلَّ شىء وكُلُ شىء يحصُلُ بتقديرِهِ.
قال الشاعر:
ومِنَ الدليلِ على القضاءِ وكونِهِ
بُئسُ اللبيبِ وطيبُ عيشِ الأحمقِ
واحد يكون ذكي يسعى ليل نهار حتى يُحصِّل المال ولا يُحصِلُ المال يبقى في الفقر والبؤس مع ذكائه وفِطنَتِهِ، وءاخر ليس ذكيًا لا يكونُ فطنًا؛ أحمقَ غبيًّا مع ذلك يُحصِّلُ من المال الشىء الكثير فيعيشُ حياةً هنيئة، لماذا؟ لأنَّ الأعمال والإنسان وما يحصُلُ للإنسان كُلُّ ذلك بتقدير الله. مَن قَدَّرَ اللهُ لهُ الغِنى يكونُ غنيًا، ومَن قَدَّرَ اللهُ لهُ الفقر يكونُ فقيرًا، مَن قَدَّرَ لهُ السعادة الأُخروية من قدر لهُ الموت على الإيمان يموتُ على الإيمان، ومن قدر لهُ الموتَ على الكُفر والعياذُ بالله يموتُ على الكُفر، من قدر لهُ أن يكونَ من أهلِ الطاعة يكونُ من أهلِ الطاعة، من قدر لهُ أن يكونَ من أهل المعصية يكونُ من أهلِ المعصية.
وقَد فُسِّر القَدرُ بالتّدبير، ومعناهُ أنّ الله دبّر في الأزلِ الأشياءَ فإذا وقَعت تكونُ على حسَب تقديرهِ الأزليّ. “قدر الأشياء ودبرها” معناهُ: اللهُ هو الذي جعل كُلَّ شىءٍ على ما هو عليه على وَفقِ علمهِ الأزلي ومشيئتِهِ الأزلية.
كل ما يحصل في هذا العالم هو بتقدير الله عزّ وجلّ، فَيدخُلُ في ذَلِكَ عَمَلُ العَبْدِ الخَيْرَ والشَّرَّ باختِيَارِه. ويَدُلُّ علَيه قولُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى جِبْريلَ حِينَ سَأَلَهُ عن الإيمانِ: ((الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ بالله ومَلائِكتِه وكتُبِه ورُسُلِهِ واليَوم الآخِرِ وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرّه)) رواه مسلم.
ومَعْنَاهُ أنَّ المَخْلُوقَاتِ التي قَدَّرَها الله تَعالى وفيها الخَيرُ والشَّرُّ وُجِدَت بتَقْديرِ الله الأزليّ، وأمَّا تَقْدِيرُ الله الذي هُوَ صِفَةُ ذاتِهِ فَهُوَ لا يُوصَفُ بالشَّرّ بل تقديرُ الله للشرِّ الكفر والمعصية وتقديرُه للإيمانِ والطاعةِ حَسَنٌ منه ليس قبيحًا، فإرادةُ الله تعالى نَافِذَةٌ في جميعِ مُرَادَاتِهِ على حَسَبِ عِلمِهِ بها، فما علِمَ كَونَهُ أرادَ كونَه في الوقتِ الذي يكونُ فيه، وما عَلِمَ أنَّه لا يكونُ لم يُرِدْ أن يكون، فلا يَحدُثُ في العالم شىءٌ إلا بمشِيئتِهِ ولا يُصيبُ العبدَ شىءٌ من الخيرِ أو الشرّ أو الصحةِ أو المرضِ أو الفقْرِ أو الغِنى أو غيرِ ذلك إلا بمشيئةِ الله تعالى، ولا يُخطئ العبدَ شىءٌ قدَّرَ الله وشاءَ أن يصيبَهُ، فقد وَرَدَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ بعضَ بناتِهِ: ((ما شاءَ الله كانَ وما لم يشأ لم يَكُن)) رواهُ أبو داودَ في السُّنَنِ، ثمَّ تَواتَرَ واستفاضَ بين أفرادِ الأمَّةِ.
وَرَوى البيهقيُّ رحمَه الله تعَالى عن سيّدِنا عَليٍّ رضيَ الله عنْه أنَّه قالَ: “إنَّ أحَدَكُم لَنْ يَخْلُصَ الإيمانُ إلى قَلبِه حتّى يَستَيْقِنَ يَقِينًا غَيْرَ شَكٍّ أنَّ مَا أصَابَه لم يَكُن لِيُخطِئَهُ ومَا أخطأَهُ لم يكن لِيُصِيبَهُ، ويُقِرَّ بالقَدَرِ كلِّهِ”. أيْ لا يَجوزُ أن يُؤْمنَ ببعْض القَدَرِ ويَكْفُرَ ببعضٍ.
ورَوَى أيْضًا بالإسْنادِ الصّحيحِ أنَّ عمرَ بنَ الخَطّاب كانَ بالجَابيةِ – وهي أرْضٌ من الشَّام – فقامَ خطيبًا فَحَمِدَ الله وأثْنَى عليه ثمَّ قالَ: “من يَهْدِ الله فلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ”، وكان عندَهُ كافرٌ من كفّارِ العجَم من أهْلِ الذّمّةِ فقال بلُغَتِهِ: “إنَّ الله لا يُضِلُّ أحدًا”، فقالَ عُمَرُ للتَّرجُمان: “ماذا يقولُ”؟ قال إنّه يقولُ إنّ الله لا يُضِلُّ أحدًا، فقالَ عمرُ: “كذَبتَ يا عَدُوَّ الله ولَولا أنَّكَ من أهل الذّمّةِ لضَرَبتُ عنُقَكَ هُوَ أضَلَّك وهُوَ يُدخِلُكَ النَّارَ إن شاءَ”.
وَرَوَى الحَافِظُ أبُو نُعَيْم عن ابنِ أخي الزُّهْرِيّ عن عمّه الزُّهريّ أنّ عُمرَ بنَ الخطابِ كان يحبُّ قصيدةَ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ التي مِنها هذِه الأبْياتُ، وهيَ: [الرمل]
إِنَّ تَقْوى ربّنَا خَيـــــــرُ نَفَلْ
وبإذنِ الله رَيْثـــــي وعَجَلْ
أحمَــــــدُ اللـه فَــلا نِدَّ لـــــهُ
بيَدَيْهِ الخيــــرُ ما شَاءَ فَعلْ
مَنْ هَداهُ سُبُلَ الخَيْرِ اهتَــدى
ناعِمَ البَالِ ومَنْ شَاءَ أضَل
ومَعنى قولِه: “إِنَّ تَقْوى ربّنا خَيرُ نفَل” أي خَيرُ ما يُعطاه الإنسانُ.
ومَعْنى قَولِه: “وبإذن الله رَيْثي وعَجَل” أي أَنّه لا يُبطِئ مُبْطِئ ولا يُسْرِعُ مُسْرِعٌ إلا بمشِيئَةِ الله وبإذنِه.
وقَوْلِه: “أحْمَدُ الله فَلا نِدَّ لَهُ” أيْ لا مِثْلَ له. وقولِه: “بيديه الخَيْرُ” أيْ والشَّرُّ. وإنَّما اقتَصَرَ على ذِكر الخَير من بابِ الاكتِفاءِ كقَولِه تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [سورة النحل/ الآية 81] أي والبردَ لأنّ السرابيلَ تقي منَ الأمرينِ ليسَ منَ الحرّ فقط.
وقولِه: “ما شَاءَ فَعَل” أي ما أرادَ الله حُصولَهُ لا بُدَّ أن يَحصُلَ وما أرادَ أن لا يَحصُلَ فَلا يَحْصُلُ.
وقولِه: “من هَداهُ سُبُلَ الخَيْرِ اهتَدَى” أي من شَاءَ الله له أن يكونَ على الصّراطِ الصَّحيحِ المستَقيمِ اهتَدَى.
وقولِه: “ناعِمَ البالِ” أي مُطمئنَّ البَالِ.
وقولِه: “ومَنْ شاءَ أضَلّ” أي مَن شَاءَ له أن يكونَ ضَالّا أضَلَّهُ.
فتبيّنَ بهذا أنَّ الضّميرَ في قولِه تعالى: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة النحل/ الآية 93] يعودُ إلى الله لا إلى العبد كما زعمت القَدريّةُ بدليلِ قولِه تعالى إخبارًا عن سيّدنا موسى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [سورة الأعراف/ الآية 155].
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سورة القمر/ الآية 49]. وقال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [سورة الفرقان/ الآية 2]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيكون في أمتي أقوامٌ يكفرون بالله وبالقرءان وهم لا يشعرون)) فقيل: يا رسول الله، كيف يقولون؟ قال: ((يُقِرّون ببعض القدر ويكفرونَ ببعض، يقولون: إنّ الخير من الله والشرَّ من الشيطان)) رواه الإمام أحمد بن الحسين أبي بكر البيهقي رحمه الله بإسناده إلى رافع بن خَدِيج صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتقدير الله للشّرّ وإرادته للشّرّ وخلقه للشّر ليس قبيحًا منه تعالى، إنّما فعل العبد للقبيح قبيح؛ وذلك لأنّ العبد مأمور بفعلِ الخيرِ منهيٌ عن فعل الشّرّ، أمّا الله تعالى فهو الآمر الذي لا آمر له والناهي الذي لا ناهي له.
والفرق بين الخير والشّرّ: أنّ الخيرَ يُحبّه اللهُ وأَمَرَ به، والشّرّ لا يُحبّه اللهُ ونهى عنه، وإلا فكلٌّ بخلق الله وتقدير الله وعلم الله ومشيئته.
فإذا سأل سائل الإنسان مُخيّر أم مُسيّر؟
فالجواب أن يُقال: إنّ الإنسان مُختارٌ تحت مشيئة الله، فالإنسان له اختيار لكنّه لا يخرج عن مشيئة الله. مشيئة الإنسان يخلقها الله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة التكوير/ الآية 29] فلا يُقال الإنسان له اختيار مستقل عن مشيئة الله، ولا يقال الإنسان لا مشيئة له.
الإنسان يكتسب أعماله فقط ولا يخلقها، قال الله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [سورة البقرة/ الآية 286] فالإنسان لا يكون منه إلا ما قدَّرَ الله كما قال عليه الصلاة والسلام: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) رواه الشيخان. وحظ العبد من فعله توجيه القصد نحو العمل، والله يخلقه عند ذلك إن شاء، فالعباد مظاهرٌ لاكتساب الأعمال لا حظ لهم في الخلق.
قال الله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [سورة فاطر/ الآية 3] معناه لا خالق إلا الله، وروى البيهقي في شعب الإيمان أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللهَ صانع كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ)) أي صانع العبدِ وفعلِه، ورواه البخاري في كتابخلق أفعال العباد بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ)).
ومن أقوى الأدلة لأهل السنة أنّ الله هو خالق فعلِ العبد لا حظَّ للعبد في الخلق، قولُه تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [سورة الأنفال/ الآية 17] معناه وما رميت يا محمدُ خلقًا، إذ رميت كسبًا، ولكنّ الله رمى خلقًا.
وقد التقى مُعتزليّ بالإمامِ أبي إسحاق الأسفراييني رضي الله عنه فبدأ الصاحب المُعتزليّ كلامهُ بقولهِ: “سبحان من تنزّه عن الفحشاء” يريد بذلك أنّ الله لم يشأ حصول الشّرّ ولم يخلقه، فقال له أبو إسحاق: “سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء”.
فقال المعتزلي: أيحبُ ربُنا أن يُعصى؟
فقال أبو إسحاق: أيُعصى رَبُنا قهرًا؟ (والمراد أنّ المعصية تحصل بمشيئة الله وخلقه لها، فالله لا يتأذّى من معاصي العباد ومن شتمهم اياه كنسبة الولد له).
فقال المعتزلي: “أرأيتَ إن منعني الهدى وحكم عليّ بالردى أحسنَ إليّ أم أساء؟
فقال أبو إسحاق: “إنْ منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فإنه يختص برحمته من يشاء”.
فسكت المُعتزلي وانقطع لأنّ الإمام أبا إسحاق كَسَرَهُ بالحجةِ.
وقد روى ابنُ حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أخطئك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ)).
أمّا مسألة تكفير المعتزلة فقد قال بعض أهل العلم: الْمُعْتَزِلَةُ يَعْتَقِدُونَ جُمْلَةً مِنَ الْعَقَائِدِ شَذُّوا فِيهَا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ مِنْهَا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَا شَاءَ حُصُولَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ هُوَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ بِقُدْرَةٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا وَلَيْسَ اللَّهُ يَخْلُقُهَا، يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَسَكَنَاتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا فَبَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا صَارَعَاجِزًا، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ بِنَفْيِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَحَيَاةٍ وَبَقَاءٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ وَكَلامٍ فَهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ عَالِمٌ بِذَاتِهِ لا بِعِلْمٍ، قَادِرٌ بِذَاتِهِ لا بِقُدْرَةٍ، حَيٌّ بِذَاتِهِ لا بِحَيَاةٍ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَهَذِهِ الأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ يَجِبُ تَكْفِيرُهُمْ بِهَا وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ لا يُكَفَّرُونَ بِهَا وَإِنْ كَانُوا يُفَسَّقُونَ بِهَا وَيُبَدَّعُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ عَدَدٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ خَالَفُوا مَا نَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ لا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ مُخَالِفٌ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ سَلَفِ الأُمَّةِ فَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ وَمَا خَالَفَهُ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ لِأَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِلا خِلافٍ لِقَوْلٍ مُسْتَحْدَثٍ مُخَالِفٍ بَلْ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) اهـ .
وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْخَلَفِ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِهِمْ وَلَمْ يَرْتَضُوا قَوْلًا سِوَاهُ، وَإِلَيْكَم زِيَادَةُ بَيَانِ مَا قَدَّمْنَاهُ.
فَأَمَّا الأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ، كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ جَبَلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَدَخَلْتَ النَّارَ)).
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ))، وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا كَذَلِكَ: ((لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا قَدَرَ)) وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْعَقِيدَةِ وَلِذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا نَصِيبٌ فِي الإِسْلامِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ)) وَالْقَدَرِيَّةُ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ زرارة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سورة القمر/ الآية 48-49] قَالَ: ((نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أُمَّتِي يَكُونُونَ فِي ءَاخِرِ الزَّمَانِ يُكَذِّبُونَ بِقَدَرِ اللَّهِ)).
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَتْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [سورة القمر/ الآية 47] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [الآية 49] اهـ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْفِيرَهُمْ وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَتْبَاعَ الدَّجَّالِ عِنْدَ ظُهُورِهِ.
فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى كُفْرِ نُفَاةِ الْقَدَرِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَفْعَلُ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِي كُفْرِهِمْ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَطَاءِ بنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَنْزِعُ مِنْ زَمْزَمَ وَقَدِ ابْتَلَّتْ أَسَافِلُ ثِيَابِهِ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ تُكُلِّمَ فِي الْقَدَرِ، فَقَالَ: أَوَفَعَلُوهَا، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِلَّا فِيهِمْ: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أُولَئِكَ شِرَارُ هَذِهِ الأُمَّةِ فَلا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَلا تُصَلُّوا عَلَى مَوْتَاهُمْ إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ فَقَأْتُ عَيْنَيْهِ بِأَصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ اهـ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: كَلامُ الْقَدَرِيَّةِ كُفْرٌ اهـ
وَقَدْ أُخْبِرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا بِحُدُوثِ الْقَوْلِ فِي الْقَدَرِ فِي الْعِرَاقِ عَلَى مُقْتَضَى كَلامِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ لِلْمُخْبِرِ – وَكَانَ يَحْيَى بنُ يَعْمُرَ، مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ -: أَخْبِرْهُمْ بِأَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَءَاءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عمر: ((لَوْ أَنَّ لأَحَدِهمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فأَنْفَقَه مَا قُبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ عَنْ لَبِيدٍ قَالَ: سَأَلْتُ وَاثِلَةَ بنَ الأَسْقَعِ عَنِ الصَّلاةِ خَلْفَ الْقَدَرِيِّ فَقَالَ: “لا تُصَلِّ خَلْفَ الْقَدَرِيِّ أَمَّا أَنَا لَوْ صَلَيْتُ خَلْفَهُ لَأَعَدْتُ صَلاتِي”اهـ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: “وَاللَّهِ مَا قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ بِقَوْلِ اللَّهِ وَلا بِقَوْلِ الْمَلائِكَةِ وَلا بِقَوْلِ النَّبِيِّينَ وَلا بِقَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلا بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ وَلا بِقَوْلِ صَاحِبِهِمْ إِبْلِيسَ” اهـ.
ورَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيْخِهِ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ الْبِصْرِيَّ يَقُولُ: “مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَّرَ خَلْقًا وَقَدَّرَ أَجَلًا وَقَدَّرَ بَلاءً وَقَدَّرَ مَعْصِيَةً وَقَدَّرَ مُعَافَاةً فَمَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْقُرْءَانِ”اهـ
ورَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بنِ مُحَمَّدٍ الْفرويِّ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَزْوِيجِ الْقَدَرِيِّ فَقَالَ: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ [سورة البقرة/ الآية 221]اهـ.
وَمِنْهُمُ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا صَرَّحَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ وَقَدْ قَالَ: الْكَلامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ فِي حَرْفَيْنِ يُقَالُ لَهُمْ: هَلْ عَلِمَ اللَّهُ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوا، فَإِنْ قَالُوا لا. كَفَرُوا؛ لِأَنَّهُمْ جَهَّلُوا رَبَّهُمْ، وَإِنْ قَالُوا: عَلِمَ. يُقَالُ لَهُمْ: هَلْ شَاءَ خِلافَ مَا عَلِمَهُ، فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ. كَفَرُوا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا شَاءَ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا، وَإِنْ قَالُوا: لا. رَجَعُوا إِلَى قَوْلِنَا اهـ.
وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “الْقَدَرِيُّ إِذَا سَلَّمَ الْعِلْمَ خُصِمَ” اهـ وَقَدْ كَفَّرَ الشَّافِعِيُّ حَفْصًا الْفَرْدَ مِنْ رُؤُوسِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ لَهُ: “لَقَدْ كَفَرْتَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ” اهـ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا تَكْفِيرُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ لَهُمْ فَمَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ عَنْهُ رَوَاهُ عَدَدٌ مِنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ تَكْفِيرَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَهُمْ بَلْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ. اهـ
وَمِنْهُمْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ كَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بنِ يُونُسَ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: إِنَّ لَنَا إِمَامًا قَدَرِيًّا قَالَ: لا تُقَدِّمُوهُ، قَالَ: لَيْسَ لَنَا إِمَامٌ غَيْرُهُ، قَالَ: لا تُقَدِّمُوهُ اهـ.
وَمِنْهُمْ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَيُّوبَ بنِ حَسَّانَ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ مَا لَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلا الْمَلائِكَةُ وَلا النَّبِيُّيونَ وَلا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلا أَهْلُ النَّارِ وَلا مَا قَالَ أَخُوهُمْ إِبْلِيسُ … إِلَخ اهـ
وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ الْبَاقِرُ بنُ عَلِيٍّ زَيْنُ الْعَابِدِينَ كَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بنِ شُرَيْحٍ الْبَزَّارِ قَالَ قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ: يَاأَبَا جَعْفَرٍ إِنَّ لَنَا إِمَامًا يَقُولُ فِي هَذَا الْقَدَرِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الْفَارِسِيِّ انْظُرْ كُلَّ صَلاةٍصَلَّيْتَهَا خَلْفَهُ فَأَعْدِهَا، إِخْوَان الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اهـ
وَمِنْهُمُ الإِمَامُ الْمُجْتَهَدُ أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ فَإِنَّهُ كَفَّرَ غَيْلانَ الْقَدَرِيَّ وَقَالَ لِهِشَامِ بنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دَمُهُ فِي عُنُقِي اهـ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخ دِمَشْقَ بِرِوَاياتٍ عِدَّةٍ.
وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ فَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ عَنْ سَعِيدِ بنِ عِيسَى الْكُزْبَرِيِّ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ يَقُولُ: “شَيْئَانِ مَا يُخَالِجُ قَلْبِي فِيهِمَا شَكٌّ تَكْفِيرُ الْقَدَرِيَّةِ وَتَحْرِيْمُ النَّبِيذِ” اهـ وَمِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ كَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بنِ عِيسَى أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بنَ طَهْمَانَ يَقُولُ: “الْجَهْمِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ كُفَّارٌ” اهـ
فَهَذِهِ أَقْوَالُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ فُقَهَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأُبِيُّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَكْفِيرِ الْقَدَرِيَّةِ لَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي ذَلِكَ صَحَابِيٌّ وَاحِدٌ، وَمَعَهُمْ عَلَى هَذَا مَشَاهِيرُ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ كَابْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبِصْرِيِّ وَابْنِ شهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ وَبَيْنَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ الْمَتْبُوعَةِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَسُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، وَمَعَ هَؤُلاءِ كُلِّهِمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ وَالْبَاقِرُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَجْرُؤُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى الزَّعْمِ بِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُعْتَمَدَ تَرْكُ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْعَبْدِ لِأَعْمَالِهِ وَيَنْفِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَيِّ لِسَانٍ يَزْعُمُ مُنْتَسِبٌ إِلَى الإِسْلامِ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ تَكْفِيرِهِمُ الَّذِي يُخَالِفُ الأَحَادِيثَ الصَّرِيْحَةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَأَقْوَالَ أَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ.
وَإِذَا كَانَ هَؤُلاءِ كُلُّهُمْ أَخْطَأُوا الصَّوَابَ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيـمَانِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلامُ هَؤُلاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَمِنْ أَيْنَ عَرَفُوا هُمُ الصَّوَابُ بِزَعْمِهِمْ فِي الْمَسْئَلَةِ وَمِنْ أَيِّ طَرِيقٍ بَلَغَهُمْ حُكْمَهَا.بَلِ الْحَقُّ مَا جَاءَ بِهِ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَالصَّوَابُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَمَّا مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ مَنْ جَاءَ بَعْدَ هَؤُلاءِ بِمِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ كَالْبَاجُورِيِّ أَوِ الشَّرْبِينِيِّ أَوِ الأَشْخَرِ مِمَّنْ يُعَدُّ فِي الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ كَالأَطْفَالِ بِالنِّسْبَةِ لِهَؤُلاءِ الأَسَاطِينِ فَيُضْرَبُ بِهِ عَرْضَ الْحَائِطِ وَلا يُقَامُلَهُ وَزْنٌ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْ أَئِمَّةُ الْخَلَفِ وَمُحَقِّقُوهُمْ هَذَا الرَّأْيَ الشَّاذَّ بَلْ جَزَمُوا بِكُفْرِالْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ كُفْرَهُمْ عَنِ الأَئِمَّةِ فِي كِتَابِهِ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: “أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا – أَيْ أَئِمَّةُ الأَشَاعِرَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- عَلَى تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ” اهـ وَكَفَّرَهُمْ إِمَامُ الْهُدَى أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّوْحِيدِ وَعَلَيْهِ جَرَى أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ: “إِنَّ مَشَايِخَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ لَمْ يَتَوَقَّفُوا عَنْ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ” اهـ
.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بنُ الْعَرَبِي الْمَالِكِيُّ: مِنْ أُصُولِ الإِيـمَانِ الْقَدَرُ مَنْ كَذَّبَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ. نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْقَدَرِيَّةِ فَقَالَ: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ [سورة البقرة/ الآية 221] اهـ
وَكَفَّرَهُمُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ شِيثُ بنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَالِكِيُّ وَأَلَّفَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كِتَابَ »حَزُّ الْغَلاصِمِ وَإِفْحَامُ الْمَخَاصِمِ« وَهُوَ مَطْبُوعٌ.
وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: الْيَقِينُ. ثُمَّ اسْتُفْسِرَ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ لا مُكَوِّنَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مِنَ الأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ خَالِقٌ لَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. اهـ
وَقَالَ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ وَلِيُّ اللَّهِ السَّيِّدُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلانِيُّ فِي كِتَابِ الْغُنْيَةِ لَهُ: تَبًّا لَهُمْ – أَيْ لِلْقَدَرِيَّةِ – وَهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْعَجْزِ وَأَنْ يَجْرِي فِي مِلْكِهِ مَا لا يَدْخُلُ فِي قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. اهـ
وَكَفَّرَهُمْ أَبُو حَامِدٍ الأَسْفَرَايِينِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَمْ يُصَحِّحِ الصَّلاةَ خَلْفَهُمْ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الْكَرِيْمِ السَّمْعَانِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي الأَنْسَابِ فِي تَرْجَمَةِ الْكَعْبِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ: وَقَدْ كَفَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَبْلَهُ بِقَوْلِهَا إِنَّ الشُّرُورَ وَاقِعَةٌ مِنَ الْعِبَادِ بِخِلافِ إِرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَشِيئَتِهِ. اهـ
ثُمَّ قَالَ فَزَادَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ فِي الْكُفْرِ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِرَادَةٌ وَلا مَشِيئَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ اهـ وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ تَكْفِيرَ مَنْ قَالَ: “أَنَا أَفْعَلُ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ” وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ اهـ
وَسَبَقَ نَقْلُ مَا ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ وَرَدَّهُ عَلَى مَنْ صَحَّحَ الصَّلاةَ خَلْفَهُمْ.
فَتَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ الْمُعْتَمَدَ الَّذِي لا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ هُوَ تَكْفِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ بِكُلِّ مَسْئَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الثَّلاثِ الْمَذْكُورَةِ ءَانِفًا، وَلِلَّهِ دَرّ أَبِي الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ الْقَائِلِ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي يَعْلَى حَمْزَةَ بنِ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ الرَّحْمٰنِ بنَ مُحَمَّدِ بنِ الْقَاسِمِ الْحَسَنِيَّ وَمَا رَأَيْتُ عَلَوِيًّا – أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ – أَفْضَلَ مِنْهُ زُهْدًا وَعِبَادَةً يَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ قَعَدَةُ الْخَوَارِجِ عَجَزُوا عَنْ قِتَالِ النَّاسِ بِالسُّيُوفِ فَقَعَدُوا لِلنَّاسِ يُقَاتِلُونَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَوْ تُجَاهِدُونَهُمْ أَوْ كَمَا قَالَ اهـ
والله تعالى أعلم وأحكم