شرح حديث “اللهم اهدني وسددني” مع سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ جَامِعِ الشَّتَاتِ وَمُحْيِي الْأَمْوَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً تَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَتَمْحُو السَّيِّئَاتِ، وَتُنَجِّي مِنَ الْمُهْلِكَاتِ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمَاتِ، الْآمِرُ بِالْخَيْرَاتِ، النَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرَاتِ. صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ صَلَاةً دَائِمَةً بِدَوَامِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَبَعْدُ:
الحديث

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي)) وَفِى رِوَايَةٍ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ)).
الشرح والتعليق على هذا الحديث

عَنْ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ هو عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سَيِّدُ الْقَوْمِ، مُحِبُّ الْمَشْهُوَدِ، وَمَحْبُوبُ الْمَعْبُودِ، بَابُ مَدِينَةِ الْعِلْمِ وَالْعُلُومِ، وَرَأْسُ الْمُخَاطَبَاتِ، وَمُسْتَنْبِطُ الْإِشَارَاتِ، رَايَةُ الْمُهْتَدِينَ، وَنُورُ الْمُطِيعِينَ، وَوَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، وَإِمَامُ الْعَادِلِينَ، أَقْدَمُهُمْ إِجَابَةً وَإِيمَانًا، وَأَقْوَمُهُمْ قَضِيَّةً وَإِيقَانًا، وَأَعْظَمُهُمْ حِلْمًا، وَأَوْفَرُهُمْ عِلْمًا، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، قُدْوَةُ الْمُتَّقِينَ، وَزِينَةُ الْعَارِفِينَ، المخبر عَنْ حَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، الْمُشِيرُ إِلَى لَوَامِعِ عِلْمِ التَّفْرِيدِ، صَاحِبُ الْقَلْبِ الْعَقُولِ، وَاللِّسَانِ السَّؤُولِ، وَالْأُذُنِ الْوَاعِي، وَالْعَهْدِ الْوَافِي، فَقَّاءُ عُيُونِ الْفِتَنِ، وَوُقِيَ مِنْ فُنُونِ الْمِحَنِ، فَدَفَعَ النَّاكِثِينَ، وَوَضَعَ الْقَاسِطِينَ، وَدَمَغَ الْمَارِقِينَ،

الْأُخَيْشَنُ فِي دِينِ اللهِ، أبو الحسنينِ وزوجُ الزهراءِ وصاحبُ الشرفِ والجودِ والوقارِ، أولُ صبيٍّ آمَنَ واتَبَعَ وناضَلَ، وقعَ الإيمَانُ في قلبِهِ صغيرًا فأَزْهَرَ ورودًا يانِعَةً، رضي الله عنه وأرضاه:

هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاسْمُهُ شَيْبَةُ بْنِ هَاشِمٍ وَاسْمُهُ عَمْرٌو بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ وَاسْمُهُ زَيْدٌ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، أَبُو الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَيُكْنَى بِأَبِي تُرَابٍ، الْهَاشِمِيُّ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَخَتَنُهُ عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ.

وَكَانَ عَلِيٌّ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدَ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، وَكَانَ مِمَّنْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ وَكَانَ رَابِعَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَكَانَ رَجُلًا آدَمَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ شَكِلَ الْعَيْنَيْنِ – أَيْ فِي بَيَاضِهِمَا شىءٌ مِنْ حُمْرة ، وَهُوَ محمودٌ محبوبٌ. أَصْلَعَ وَهُوَ إِلَى الْقِصَرِ أَقْرَبُ وَكَانَ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ، قَدْ مَلَأَتْ صَدْرَهُ وَمَنْكِبَيْهِ، وَكَانَ كَثِيرَ شَعَرِ الصَّدْرِ وَالْكَتِفَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، ضَحُوكَ السِّنِّ، خَفِيفَ الْمَشْيِ عَلَى الْأَرْضِ.

أَسْلَمَ عَلِيٌّ قَدِيمًا وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ، وَقِيلَ: ابْنُ ثَمَانٍ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ، كَمَا أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَتْ مِنَ النِّسَاءِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ.

وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِ عَلِيٍّ صَغِيرًا أَنَّهُ كَانَ فِي كَفَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَصَابَتْهُمْ سَنَةُ مَجَاعَةٍ فَأَخَذُوهُ مِنْ أَبِيهِ، فَكَانَ فِي كَفَالَتِهِ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ آمَنَتْ خَدِيجَةُ وَأَهْلُ الْبَيْتِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ عَلِيٌّ ثُمَّ هَاجَرَ وَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. وَشَهِدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ فَارِسَ الْعَرَبِ وَأَحَدَ شُجْعَانِهِمُ الْمَشَاهِيرِ، عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ.

وَكَانَ عمروُ بنُ عَبْدِ وُدٍّ قدْ قاتَلَ يومَ بدرٍ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الجِرَاحَةُ، فَلَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا، فَحَرَّمَ الدُّهْنَ حَتَّى يَثْأَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ بِزَعْمِهِ، وَهُوَ يَومَئذٍ كَبِيْرُ السِّنِّ. قَالَ ابنُ سَعْدٍ: إنَّه بلغَ تسعينَ سنةً، وكانَ مِنْ شجعانِ المشركينَ وأبطالِهِم المسمَّينَ، فلمَّا كانَ يومُ الخندقِ خرجَ ثائرَ الرأسِ مُعَلَّمًا لِيُرَى مَكَانُه، فَلَمَّا وَقَفَ هوَ وخَيْلُهُ دَعَا إِلَى البِرَازِ، فَقَامَ عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ، فَاسْتَأذَنَ رسولَ اللهِ ﷺ فَأَذِنَ لهُ رسولُ اللهِ ﷺ وأَعْطَاهُ سَيْفَهُ وَعَمَّمَهُ وقَالَ: ((اللهم أَعِنْهُ عَلَيْهِ)) فَمَشَى إليهِ وهوَ يقولُ:
لَا تَعْجَلَنّ فَقَدْ أَتَــــــــــاكَ مُجِيْبُ صَوْتِكَ غَيْرُ عَاجِـــزْ
ذَوْ نِيَّـــةٍ وَبَصِيــــــــــرَةٍ وَالصّدْقُ مُنْجِي كُــــــلَّ فَائِزْ
إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِيـــــــــمَ عَلَيْـــــــــــــك نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْقـــى ذِكْرُهَــا عِنــــــــــْدَ الْهَزَاهِزْ

الهزاهز أي: الفتنِ التي يهتزُّ فيها الناسُ

ثم قالَ لهُ: يا عمروُ إنَّكَ كنتَ تقولُ فِي الجاهليةِ: لا يدعُوني أحدٌ إلَى واحدةٍ مِنْ ثلاثٍ إلَّا قَبِلْتُهَا، قالَ: أَجَلْ، فقالَ عليٌّ: فإنِّي أدعوكَ إلى أنْ تشهدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ وتسلِمَ لربِّ العالمينَ، قالَ: يَا ابنَ أَخِي أَخِّرْ عَنِّي هَذِهِ، قالَ: وَأُخْرَى تَرْجِعُ إِلَى بِلَادِكَ، قالَ: هذَا مَا لَا تُحَدِّثُ بهِ نساءُ قريشٍ أبدًا، وَقَدْ نَذَرْتُ مَا نَذَرْتُ، وَحَرَّمْتُ الدُّهْنَ، قالَ: فَالثَّالثَة؟ قالَ:البِرَاز. فَضَحِكَ عمرٌو وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ لَخَصْلَةٌ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنَ العَرَبِ يَرُوْمُنِي عَلَيْهَا، فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ. قَالَ: يَا ابنَ أَخِي مِنْ أَعْمَامِكَ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيْقَ دَمَكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَكِنِّي وَاللهِ لَا أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيْقَ دَمَكَ. فَغَضِبَ عَمْرٌو، فَنَزَلَ عنْ فَرَسِهِ وَعَقَرَهَا، وَسَلَّ سَيْفَهُ كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيٍّ مُغْضَبًا، وَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيٌّ بِدَرَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ عمرٌو في الدَّرَقَةِ فَقَدَّهَا وأَثْبَتَ فِيْهَا السيفَ وأصابَ رَأْسَهُ فَشَجَّهُ، وضَرَبَهُ عليٌّ رضي الله عنه على حَبْلِ العاتِقِ فَسَقَطَ، وثارَ العَجَاجُ، وسمعَ رسولُ الله ﷺ التكبيرَ، فَعَرَفَ أَنَّ عليًّا رضي الله عنه قَدْ قَتَلَهُ.

ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ النّبِيّ ﷺ وَهُوَ مُتَهَلّلٌ، ويقول:
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِــهِ وَنَصَرْتُ رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَـوَابِ
فَصَدَدْتُ حِينَ تَرَكْتُهُ مُتَجَــــــدِّلًا كَالْجِـــذْعِ بَيْنَ دَكَادِكٍ وَرَوَابِي
وَعَفَفْتُ عَنْ أَثْوَابِــــــهِ وَلَوَ أنَّنِي كُنْتُ الْمُقَطَّــــــرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي
لَا تَحْسَبُنَّ اللَّهَ خَـــــــــــاذِلَ دِينِهِ وَنَبِيِّهِ يَــــــــا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ

ثمَّ أقبلَ عليٌّ رضيَ الله عنه نحوَ رسولِ اللهِ ﷺ، ووجهُه يتهلَّلُ، ولم يكنْ للعربِ درعٌ خيرٌ مِنْ درعِه، ولم يستَلِبْه لأنَّه اتّقاهُ بسوءتِه، فاستحياه، فَقَدْ قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هَلَّا سَلَبْته دِرْعَهُ، فَإِنّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ دِرْعٌ خَيْرٌ مِنْهَا، فَقَالَ: إنِّي حِينَ ضَرَبْته اسْتَقْبَلَنِي بِسَوْأَتِهِ، فَاسْتَحْيَيْت ابْنَ عَمّي أَنْ أَسْتَلِبَهُ، وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً حَتّى اقْتَحَمَتْ الْخَنْدَقَ هَارِبَةً،

قالَ ابنُ هشامٍ: وَأَلْقَى عِكْرِمَةُ بنُ أبي جَهْلٍ رُمْحَهُ يَومئذٍ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ عَنْ عمرٍو.

ورَوَى الحاكمُ: عَنْ يحيى بنِ آدَمَ يقولُ: مَا شَبَّهْتُ قَتْلَ عَلِيٍّ عَمْرًا إِلَّا بِقَوْلِهِ تعالَى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ [سورة البقرة/ الآية 251].

وَفي مسند أحمد لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُخَلِّفَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ: ((أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي)). وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَمِيرًا وَحَاكِمًا عَلَى الْيَمَنِ وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثُمَّ وَافَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَكَّةَ وَسَاقَ مَعَهُ هَدْيًا.

وَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي مَنِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يُوصِ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ بِالْخِلَافَةِ، بَلْ لَوَّحَ بِذِكْرِ الصِّدِّيقِ، وَأَشَارَ إِشَارَةً مُفْهِمَةً ظَاهِرَةً جِدًّا إِلَيْهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ عَلِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ غَسَّلَهُ وَكَفَّنَهُ وَوَلِيَ دَفْنَهُ.اهـ

وَلَمَّا بُويِعَ الصِّدِّيقُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ كَانَ عَلِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَ بِالْمَسْجِدِ وَكَانَ بَيْنَ يَدَيِ الصِّدِّيقِ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمَرَاءِ الصَّحَابَةِ يَرَى طَاعَتَهُ فَرْضًا عَلَيْهِ، وَأَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ جَدَّدَ عَلِيٌّ الْبَيْعَةَ مَعَ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَامَ عُمَرُ فِي الْخِلَافَةِ بِوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، كَانَ عَلِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَهُ، وَكَانَ مَعَهُ يُشَاوِرُهُ فِي الْأُمُورِ،

وفضائلُه رضيَ الله عنه كثيرةٌ أشهرُ مِنْ أنْ تَسْتَتِرَ وأكثرُ مِنْ أنْ نجمعَها هنَا، فهو أَقْرَبُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ نَسَبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:

فهو ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَبُوهُ أَخُو أَبِيهِ وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وَلَدَتْ هَاشِمِيًّا. وَقَدْ أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ، تزوّجَ فاطمةَ بنتَ محمّدٍ ﷺ ورضيَ اللهُ عنهما وَذَلِكَ فِي سَنَة ثِنْتَيْنِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ.

قال علي رضي الله عنه: قَالَتْ مَوْلَاةٌ لِي: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَيُزَوِّجَكَ؟ فَقُلْتُ: وَعِنْدِي شَيْءٌ أَتَزَوَّجُ بِهِ؟ فَقَالَتْ: إِنَّكَ إِنْ جِئْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ زَوَّجَكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ تُرَجِّينِي حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا أَنْ قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أُفْحِمْتُ، فَوَاللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ جَلَالَةً وَهَيْبَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا جَاءَ بِكَ، أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَسَكَتُّ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ جِئْتَ تَخْطُبُ فَاطِمَةَ. فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تَسْتَحِلُّهَا بِهِ. فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: مَا فَعَلَتْ دِرْعٌ سَلَّحْتُكَهَا؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَحُطَمِيَّةٌ مَا قِيمَتُهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. فَقُلْتُ: عِنْدِي. فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَابْعَثْ إِلَيْهَا بِهَا فَاسْتَحِلَّهَا بِهَا. فَإِنْ كَانَتْ لَصَدَاقَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

وفي رواية عند سفيانَ الثوريِّ وابنِ عساكرَ قال علي: فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةً دَخَلْتُ عَلَيْهَا قَالَ: “لَا تُحَدِّثَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَكُمَا”. قَالَ: فَأَتَانَا وَعَلَيْنَا قَطِيفَةٌ أَوْ كِسَاءٌ فَتَحَشْحَشْنَا أي أردنا النهوض، فَقَالَ: “مَكَانَكُمَا”. ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَدَعَا فِيهِ، ثُمَّ رَشَّهُ عَلَيَّ وَعَلَيْهَا،

وَأَنَّهُ دَعَا لَهُمَا بَعْدَ مَا صَبَّ عَلَيْهِمَا الْمَاءَ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِمَا، وَبَارِكْ عَلَيْهِمَا، وَبَارِكْ لَهُمَا فِي شَمْلِهِمَا)) يَعْنِي الْجِمَاعَ.

وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ: عَنْ عامر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَمَرَ معاويةُ بنُ أبي سفيانَ سعدًا فقال: ما مَنعكَ أن تَسُبَّ أبا ترابٍ؟ فقال: أَمَّا ما ذَكَرْتُ ثلاثًا قالهنَّ له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فلن أَسُبَّهُ، لَأَن تكونَ لي واحدةٌ منهن أَحَبَّ إليَّ من حُمْرِ النَّعَمِ، سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقول لعليٍّ وخَلَّفَه في بعضِ مَغَازِيهِ، فقال له عليٌّ: يا رسولَ اللهِ تُخَلِّفُنِي مع النساءِ والصِّبيانِ؟ فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((أَمَا تَرْضَى أن تكونَ مِنِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى إلا أنّه لا نُبُوَّةَ بعدي))، وسَمِعتُه يقول يومَ خَيْبَرَ: ((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايةَ رَجلًا يُحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه)) قال: فتَطَاوَلْنا لها، فقال: ((ادْعُوا لي عليًّا)) قال فأتاه وبه رَمَدٌ فبَصَق في عينِهِ فدفع الرايةَ إليه، ففتح اللهُ عليه، وأُنْزِلَت هذه الآيةُ: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 61] دعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عليًّا وفاطمةَ وحَسَنًا وحُسَيْنًا فقال: ((اللهم هؤلاء أهلي)).

تولى الخلافة بعد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن عثمان، وكانت خلافته أربع سنوات كلها مليئة بالفتن، فتصدّى لها رضي الله عنه جميعها وكان أهلا لذلك،

مَقْتَلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ:

كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: مَاذَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا – أَيْ مَا يَنْتَظِرُ – مَا لَهُ لَا يَقْتُلُ؟ ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ – وَيُشِيرُ إِلَى لِحْيَتِهِ – مِنْ هَذِهِ. وَيُشِيرُ إِلَى هَامَتِهِ.

كَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ – لِلِحْيَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ – فَمَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبُعٍ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ رَجُلَا فَعَلَ ذَلِكَ لَأَبَرْنَا عِتْرَتَهُ. فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِي غَيْرُ قَاتِلِي.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي “مُسْنَدِهِ”: عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: جَاءَ رَأْسُ الْخَوَارِجِ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ. فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، وَلَكِنْ مَقْتُولٌ مِنْ ضَرْبَةٍ عَلَى هَذِهِ تُخَضِّبُ هَذِهِ – وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَتِهِ – عَهْدٌ مَعْهُودٌ، وَقَضَاءٌ مَقْضِيٌّ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى. وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى. قَالَ: وَعَاتَبَهُ فِي لِبَاسِهِ، فقال: ما لكم ولباسي، هو أبعد من الكبر، وأجدر أن يقتدي بي الْمُسْلِمُ.

وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ))؟ قُلْتُ: عَاقِرُ النَّاقَةِ. قَالَ: ((صَدَقْتَ، فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ))؟ قُلْتُ: لَا عِلْمَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ((الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذِهِ)). وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى يَافُوخِهِ. قَالَ: فَكَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ انْبَعَثَ أَشْقَاكُمْ فَيُخَضِّبُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ. يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ دَمِ رَأْسِهِ.

صِفَةُ مَقْتَلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَنَّ ثَلَاثَةً مِنِ الْخَوَارِجِ وَهُمْ:

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُلْجَمٍ الْحِمْيَرِيُّ ثُمَّ الْكِنْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي جَبَلَةَ مِنْ كِنْدَةَ، الْمِصْرِيُّ، وَكَانَ أَسْمَرَ حَسَنَ الْوَجْهِ أَبْلَجَ، شَعْرُهُ مَعَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، وَفِي جَبْهَتِهِ أَثَرُ السُّجُودِ. وَالْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ أَيْضًا، اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا قَتْلَ عَلِيٍّ إِخْوَانَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: مَاذَا نَصْنَعُ بِالْبَقَاءِ بَعْدَهُمْ؟! كَانُوا مِنْ خَيْرِ النَّاسِ وَأَكْثَرَهُمْ صَلَاةً، وَكَانُوا دُعَاةَ النَّاسِ إِلَى رَبِّهِمْ، لَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَلَوْ شَرَيْنَا أَنْفُسَنَا فَأَتَيْنَا أَئِمَّةَ الضَّلَالَةِ فَقَتَلْنَاهُمْ فَأَرَحْنَا مِنْهُمُ الْبِلَادَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ثَأْرَ إِخْوَانِنَا.

فَقَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ الْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَتَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا أَنْ لَا يَنْكِصَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ أَوْ يَمُوتَ دُونَهُ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ فَسَمُّوهَا، وَاتَّعَدُوا لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ أَنْ يُبَيِّتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي بَلَدِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.

فَأَمَّا ابْنُ مُلْجَمٍ فَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا، وَكَتَمَ أَمْرَهُ حَتَّى عَنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ هُمْ بِهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ الرَّبَابِ وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ قَتْلَاهُمْ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا: قَطَامِ بِنْتُ الشِّجْنَةِ. قَدْ قَتَلَ عَلِيٌّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ أَبَاهَا وَأَخَاهَا، وَكَانَتْ فَائِقَةَ الْجَمَالِ مَشْهُورَةً بِهِ، وَكَانَتْ قَدِ انْقَطَعَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ تَتَعَبَّدُ فِيهِ، فَلَمَّا رَآهَا ابْنُ مُلْجَمٍ سَلَبَتْ عَقْلَهُ، وَنَسِيَ حَاجَتَهُ الَّتِي جَاءَ لَهَا، وَخَطَبَهَا إِلَى نَفْسِهَا، فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَخَادِمًا وَقَيْنَةً، وَأَنْ يَقْتُلَ لَهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: فَهُوَ لَكِ، وَوَاللَّهِ مَا جَاءَ بِي إِلَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ إِلَّا قَتْلُ عَلِيٍّ. فَتَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ شَرَعَتْ تُحَرِّضُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَنَدَبَتْ لَهُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهَا مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ يُقَالُ لَهُ: وَرْدَانُ، لِيَكُونَ مَعَهُ رِدْءًا، وَاسْتَمَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ رَجُلًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: شَبِيبُ بْنُ بَجَرَةَ الْأَشْجَعِيُّ الْحَرُورِيُّ. قَالَ لَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ هَلْ لَكَ فِي شَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَتْلُ عَلِيٍّ. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِدًّا، كَيْفَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَكْمُنُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا خَرَجَ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ شَدَدْنَا عَلَيْهِ فَقَتَلْنَاهُ، فَإِنْ نَجَوْنَا شَفَيْنَا أَنْفُسَنَا وَأَدْرَكْنَا ثَأْرَنَا، وَإِنْ قُتِلْنَا فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا. فَقَالَ: وَيْحَكَ لَوْ غَيْرَ عَلِيٍّ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ، قَدْ عَرَفْتُ سَابِقَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَقَرَابَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَمَا أَجِدُنِي أَنْشَرِحُ صَدْرًا لِقَتْلِهِ. فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ قَتَلَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ؟ فَقَالَ: بَلَى. قَالَ: فَنَقْتُلُهُ بِمَنْ قَتَلَ مِنْ إِخْوَانِنَا. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ لَأْيٍ.

وَدَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَوَاعَدَهُمُ ابْنُ مُلْجَمٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ، وَقَالَ: هَذِهِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدْتُ أَصْحَابِي يَقْتُلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا فِيهَا صَاحِبَهُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ. ثُمَّ جَاءُوا إِلَى قَطَامِ، وَهِيَ امْرَأَةُ ابْنِ مُلْجَمٍ، فَدَعَتْ لَهُمْ بِعِصَبِ الْحَرِيرِ فَعَصَبَتْهُمْ بِهَا، وَكَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ؛ وَهُمُ ابْنُ مُلْجَمٍ وَوَرْدَانُ وَشَبِيبٌ، وَهُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَى سُيُوفِهِمْ، فَجَلَسُوا مُقَابِلَ السُّدَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا عَلِيٌّ، فَلَمَّا خَرَجَ جَعَلَ يُنْهِضُ النَّاسَ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ. فَثَارَ إِلَيْهِ شَبِيبٌ بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ فَوَقَعَ فِي الطَّاقِ، فَضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ بِالسَّيْفِ عَلَى قَرْنِهِ، فَسَالَ دَمُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمَّا ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ قَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، لَيْسَ لَكَ يَا عَلِيُّ وَلَا لِأَصْحَابِكَ. وَجَعَلَ يَتْلُو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [سورة البقرة/ الآية 207]

وَنَادَى عَلِيٌّ: عَلَيْكُمْ بِهِ. وَهَرَبَ وَرْدَانُ، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ فَقَتَلَهُ، وَذَهَبَ شَبِيبٌ فَنَجَا بِنَفْسِهِ وَفَاتَ النَّاسَ، وَمُسِكَ ابْنُ مُلْجَمٍ، وَقَدَّمَ عَلِيٌّ جَعْدَةَ بْنَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، وَحُمِلَ عَلِيٌّ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ ابْنُ مُلْجَمٍ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ مَكْتُوفٌ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: شَحَذْتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ شَرَّ خَلْقِهِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ: لَا أُرَاكَ إِلَّا مَقْتُولًا بِهِ، وَلَا أُرَاكَ إِلَّا مِنْ شَرِّ خَلْقِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ مِتُّ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا أَعْلَمُ كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ.

قال ابن ملجم: وَاللَّهِ لَقَدْ ضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً لَوْ أَصَابَتْ أَهْلَ الْمِصْرِ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمَمْتُ هَذَا السَّيْفَ شَهْرًا، وَلَقَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ وَسَمَمْتُهُ بِأَلْفٍ.

وَلَمَّا احْتُضِرَ عَلِيٌّ جَعْلَ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَنْطِقُ بِغَيْرِهَا – وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [سورة الزلزلة/ الآية 7-8] وَقَدْ أَوْصَى وَلَدَيْهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَغَفْرِ الذَّنْبَ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْحِلْمِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الْأَمْرِ، وَالتَّعَاهُدِ لِلْقُرْآنِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ، وَوَصَّاهُمَا بِأَخِيهِمَا مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَصَّاهُ بِمَا وَصَّاهُمَا بِهِ، وَأَنْ يُعَظِّمَهُمَا وَلَا يَقْطَعَ أَمْرًا دُونَهُمَا، وَكَتَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ وَصِيَّتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.

وَقَدِ امْتَدَحَ ابْنَ مُلْجَمٍ بَعْضُ الْخَوَارِجِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ وَكَانَ أَحَدَ الْعُبَّادِ مِمَّنْ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ ويقال له خطيب الخوارج فَقَالَ فِيهِ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانًا
إِنِّـــي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَـــــبُهُ أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيـــــــــزَانًا

وَجَزَى اللَّهُ خَيْرًا الشَّاعِرَ وهوَ بكرُ بنُ حمَّاد التاهرتي الَّذِي يَقُولُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ:
قُلْ لِابْنِ مُلْجِمٍ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَـــــةٌ هَدَمْـتَ وَيْلَكَ لِلْإِسْلَامِ أَرْكَـــــــــــانَا
قَتَلْتَ أَفْضَلَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَـدَمٍ وَأَوَّلَ النَّـاسِ إِسْلَامًا وَإِيمَــــــــــــانَا
وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِالْقُــــرْآنِ ثُمَّ بِمَــــا سَنَّ الرَّسُـولُ لَنَـــــا شَرْعًا وَتِبْيَانَــــا
صِهْرُ النَّبِيِّ وَمَوْلَاهُ وَنَاصِـــــرُهُ أَضْحَـتْ مَنَاقِبُهُ نُورًا وَبُرْهَــــــــــانَا
وَكَانَ مِنْهُ عَلَى رَغْمِ الْحَسُودِ لَـهُ مَكَانُ هَارُونَ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَا
ذَكَرْتُ قَاتِلَـــهُ وَالدَّمْـــــعُ مُنْحَدِرٌ فَقَلْتُ سُبْحَـــانَ رَبِّ الْعَـرْشِ سُبْحَانَا
إِنِّي لَأَحْسَبُـــــهُ مَا كَانَ مِنْ بَشَرٍ يَخْشَى الْمَعَــــادَ وَلَكِــنْ كَانَ شَيْطَانَا
أَشْقَـــــى مُرَادٍ إِذَا عُــدَّتْ قَبَائِلُهَا وَأَخْسَرُ النَّــــاسِ عِنْـــدَ اللَّهِ مِيـــزَانَا
كَعَاقِرِ النَّاقَةِ الْأُولَى الَّتِي جَلَــبَتْ عَلَى ثَمُودَ بِأَرْضِ الْحِجْرِ خُسْــــرَانَا
قَدْ كَانَ يُخْبِرُهُمْ أَنْ سَوْفَ يُخَضِّبُهَــا قَبْلَ الْمَنِيَّةِ أَزْمَـــــــانًا فَأَزْمَــــــــــانَا
فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْــــهُ مَــــا تَحَمَّــلَهُ وَلَا سَقَى قَبْرَ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّـــــــانَا
لِقَوْلِهِ فِي شَقِيٍّ ظَـــــــلَّ مُجْتَرِمًا وَنَالَ مَا نَــــالَهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانَــــــــــا
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَــــا أَرَادَ بِهَا إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَــــا
بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ غَوِيٍّ أَوْرَدَتْهُ لَظًى فَسَوْفَ يَلْقَى بِهَا الرَّحْمَــــنَ غَضْبَانَا
كَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَصْدًا بِضَـــــــرْبَتِهِ إِلَّا لِيَصْلَى عَذَابَ الْخُلْـــــــــدِ نِيرَانَا

وقد روى ابن المعلم القرشي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنّه قال: “سيرجعُ قومٌ من هذهِ الأمّةِ عندَ اقتراب السّاعةِ كفّارًا”، قال رجلٌ: يا أميرَ المؤمنينَ، كفرهم بماذا أبِالإحداثِ أم بالإنكارِ؟ قال: “بل بالإنكارِ، يُنكرونَ خالِقَهُم فيَصِفونهُ بالجِسمِ والأعضاءِ”.

يقولُ الإمام عليٌ رضي الله عنه: “كَانَ اللَّهُ وَلاَ مَكَانَ وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ”. ويقول أيضًا في تنـزيه الله عن الجلوس: “إنَّ الله خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذهُ مَكَاناً لِذَاتِهِ”. رواه أبو منصور البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق.

قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي أَيْ ثَبِّتْنِي عَلَى الْهُدَى أَوْ دُلَّنِي عَلَى الْكَمَالَاتِ الزَّائِدَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [سورة العنكبوت/ الآية 69]، وقال ابن علان: “أي إلى مصالح أمري أو ثبتني على الهداية إلى الصراط المستقيم إلى نهاية الخاتمة”. وهذا دليل لأهل السنة أن الهداية والضلال بيد الله عز وجل، فلو لم تكن من عند الله لماذا يسألها العبد ويدعو بها ربَّه عز وجل، وهذا فيه هدم لمذهب المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق.

وَسَدِّدْنِي أَيِ اجْعَلْنِي مُسْتَقِيمًا، قِيلَ السَّدَادُ إِصَابَةُ الْقَصْدِ فِي الْأَمْرِ وَالْعَدْلُ فِيهِ، يَعْنِي أَسْأَلُ غَايَةَ الْهُدَى وَنِهَايَةَ السَّدَادِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [سورة هود/ الآية 112] وَ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [سورة الفاتحة/ الآية 6] أَيِ اهْدِنِي هِدَايَةً لَا أَمِيلُ بِهَا إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.

وفي تتمة هذه الرواية في مسلم: قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَبِالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ))، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ وَأَنْ يَكُونَ فِي ذِكْرِهِ مُخْطِرًا بِبَالِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ فِي سُؤَالِهِ طَالِبًا غَايَةَ الْعَدْلِ وَنِهَايَةَ السَّدَادِ إِذِ الْمَطْلُوبُ هِدَايَةٌ كَهِدَايَةِ مَنْ رَكِبَ مَتْنَ الطَّرِيقِ، وَسَدَادًا يُشْبِهُ سَدَادَ السَّهْمِ نَحْوَ الْغَرَضِ.

قال النووي في شرحه لمسلم: أَمَّا السَّدَادُ هُنَا بِفَتْحِ السِّينِ وَسَدَادُ السَّهْمِ تَقْوِيمُهُ، وَمَعْنَى سَدِّدْنِي وَفِّقْنِي وَاجْعَلْنِي مُنْتَصِبًا فِي جَمِيعِ أُمُورِي مُسْتَقِيمًا، وَأَصْلُ السَّدَادِ الِاسْتِقَامَةُ وَالْقَصْدُ فِي الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْهُدَى هُنَا فَهُوَ الرَّشَادُ وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَمَعْنَى اذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقِ والسداد سداد السهم؛ أي تذكر ذلك فِي حَالِ دُعَائِكَ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ؛ لِأَنَّ هَادِيَ الطريق لا يزيغ عَنْهُ وَمُسَدَّدَ السَّهْمِ يَحْرِصُ عَلَى تَقْوِيمِهِ وَلَا يَسْتَقِيمُ رَمْيُهُ حَتَّى يُقَوِّمُهُ وَكَذَا الدَّاعِي يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَسْدِيدِ عِلْمِهِ وَتَقْوِيمِهِ وَلُزُومِهِ السُّنَّةَ. وَقِيلَ: لِيَتَذَكَّرَ بِهَذَا لَفْظِ السَّدَادَ وَالْهُدَى لئلا ينساه.

ولهذا جاء في حديث معاذِ بنِ جبلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّكُمْ لَوْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ لَمَشَيْتُمْ عَلَى الْبُحُورِ، وَلَزَالَ ‌بِدُعَائِكُمُ ‌الْجِبَالُ)) رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان لمّا يدعو يُستجابُ له، وأكثرُ أدعية النبي صلى الله عليه وسلم مُستجابة.

وفي رواية لهذا الحديث عند أحمد: عن أَبي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي مُوسَى، فَأَتَانَا عَلِيٌّ فَقَامَ عَلَى أَبِي مُوسَى فَأَمَرَهُ بِأَمْرٍ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، قَالَ، قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((قُلِ: اللَّهُمَّ ‌اهْدِنِي، ‌وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَاذْكُرْ بِالسَّدَادِ تَسْدِيدَ السَّهْمِ)).

وَفِى رِوَايَةٍ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ)) قال بعضهم: السداد هو الاستقامة؛ وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد كما فسر أبو بكر الصديق وغيره قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [سورة فصلت/ الآية 30] بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره. فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته وإجلاله، ومهابته ومحبته وإِرادته، ورجائه ودعائه، والتوكل عليه، والإعراض عما سواه: استقامت الجوارح كلُّها على طاعته؛ فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإِذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه. وكذلك فسر قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ [سورة الروم/ الآية 30] بإخلاص القصد لله وإرادته وحده لا شريك له.

وأعظم ما يُراعَى استقامَتُهُ بعد القلب من الجوارح: اللسان؛ فإِنه تَرْجُمَان القلب، والمعَبِّرُ عنه ولهذا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم سفيان بن عبد الله الثقفي بالاستقامة وصّاه بعد ذلك بحفظ لسانه؛ وفي مسند الإمام أحمد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((‌لَا ‌يَسْتَقِيمُ ‌إِيمَانُ ‌عَبْدٍ ‌حَتَّى ‌يَسْتَقِيمَ ‌قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ))، وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد الخُدْريّ مرفوعًا وموقوفًا: ((إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ ‌الأَعْضَاءَ ‌كُلَّهَا تَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)).

والله تعالى أعلم وأحكم

شاهد أيضاً

شرح حديث “الدعاء هو العبادة” ومسائل التوسل والقضاء والقدر

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لم يزل عظيما عليّا، يخذل عدوّا وينصر …