المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله اللطيفِ الرؤوفِ المَنَّانِ، الْغَنِيِّ القويِّ السّلْطَان، الحَلِيمِ الكَرِيم الرحيم الرحمن، المحيطِ عِلْمًا بما يكونُ وما كان، يُعِزُّ وَيُذِلُّ، ويُفْقِرُ ويُغْنِي، كلَّ يَوْم هُو في شان.
أحْمَدُه على العطايا الكاملةِ الحِسَان، وأشكرُه على نِعَمِهِ وبَالشَّكرِ يزيد العطاء والامْتِنَان، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحْدَه لا شريكَ له المَلِكُ الدَّيَّان، وأشهد أنَّ محمدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ إلى الإِنس والجان، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعينَ لهم بإحسان ما توالت الأزمان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعد:
الحديث
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: ((أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
الشرح
مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هو مُعَاذُ بنُ جَبَلِ بنِ عَمْرِو بنِ أَوْسٍ الأَنْصَارِيُّ.
السَّيِّدُ، الإِمَامُ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيُّ، الخَزْرَجِيُّ، المَدَنِيُّ، البَدْرِيُّ، شَهِدَ العَقَبَةَ شَابًّا أَمْرَدَ. وَلَهُ عِدَّةُ أَحَادِيْثَ. رَوَى عَنْهُ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَأَنَسٌ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَأَبُو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ، وَأَبُو مُسلمٍ الخَوْلاَنِيُّ، وَأَبُو الأَسْوَدِ الدُّئليُّ، وغيرهم.
أُمُّهُ: هِيَ هِنْدُ بِنْتُ سَهْلٍ، مِنْ بَنِي رِفَاعَةَ.
روي أَنَّ مُعَاذاً شَهِدَ بَدْرًا وَلَهُ عِشْرُوْنَ سَنَةً، أَوْ إِحْدَى وَعِشْرُوْنَ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: شَهِدَ العَقَبَةَ فِي رِوَايَتِهِمْ جَمِيْعًا مَعَ السَّبْعِيْنَ.
وَكَانَ طَوِيْلًا، حَسَنًا، جَمِيْلًا. طُوَالٌ، حَسَنُ الثَّغْرِ، عَظِيْمُ العَيْنَيْنِ، أَبْيَضُ، جَعْدٌ، قَطَطٌ؛ أي شعره ليس مسترسلا ولا متكسرا والقطط أي شديد الجعودة وشعره كثير.
قَالَ عَطَاءٌ: أَسْلَمَ مُعَاذٌ وَلَهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً.
وروى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ)).
وروى أحمد في مسنده عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا: ((أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ)).
وروى أبو نعيم في الحلية عن أبي سعيد الخدري، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَلَالِ اللهِ وَحَرَامِهِ)).
قَالَ عُمَرُ: لَوْ أَدْرَكْتُ مُعَاذًا، ثُمَّ وَلَّيْتُهُ، ثُمَّ لَقِيْتُ رَبِّي، فَقَالَ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ؟ لَقُلْتُ: سَمِعْتُ نَبِيَّكَ وَعَبْدَكَ يَقُوْلُ: يَأْتِي مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ بَيْنَ يَدَي العُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ – أي برمية سهم -.
وعند ابن سعد عن مجاهد قال: لَمَّا فَتَحَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَتَّابَ بنَ أَسِيْدٍ يُصَلِّي بِهِم، وَخَلَّفَ مُعَاذًا يُقْرِئُهُم وَيُفَقِّهُهُم.
وروى أبو داوود في السنن والبيهقي في معرفة السنن والآثار عن معاذ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اليَمَنِ، قَالَ لِي: ((كَيْفَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ قَضَاءٌ؟)). قَالَ، قُلْتُ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَبِمَا قَضَى بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْمَا قَضَى بِهِ الرَّسُوْلُ؟)). قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُوْ. فَضَرَبَ صَدْرِي، وَقَالَ: ((الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُوْلَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يُرْضِي رَسُوْلَ اللهِ)).
وروى أحمد في مسنده عَنْ عَاصِمِ بنِ حُمَيْدٍ السَّكُوْنِيِّ: أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اليَمَنِ، خَرَجَ يُوْصِيْهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ، وَرَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: ((يَا مُعَاذُ! إِنَّكَ عَسَى أَنْ لاَ تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي)). فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُوْلِ اللهِ. قَالَ: ((لاَ تَبْكِ يَا مُعَاذُ)).
روي في تاريخ دمشق لابن عساكر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ وَدَّعَهُ مُعَاذٌ قَالَ له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((حَفِظَكَ اللهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، وَدَرَأَ عَنْكَ شَرَّ الإِنْسِ وَالجِنِّ)). فَسَارَ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُبْعَثُ لَهُ رَتْوَةٌ فَوْقَ العُلَمَاءِ)). أي خطوة
وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوْسَى الأشعري رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، قَالَ لَهُمَا: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)).
وَرَوَى الترمذي في سننه: سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ)) الحديث.
وفي سنن أبي داود عن معاذ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ))، فَقَالَ: ((أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)).
وَعَنْ مُحَمَّدِ بنِ سَهْلِ بنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: كَانَ الَّذِيْنَ يُفْتُوْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةٌ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ: عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ. وَثَلاَثَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذٌ، وَزَيْدٌ.
وَعَنْ نِيَارٍ الأَسْلَمِيِّ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَسْتَشِيْرُ هَؤُلاَءِ، فَذَكَرَ مِنْهُم مُعَاذًا. وخَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ بِالجَابِيَةِ، فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ الفِقْهَ، فَلْيَأْتِ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ. لَوْلاَ مُعَاذٌ لَهَلَكَ عُمَرُ.
كَانَ عُمَرُ يَقُوْلُ حِيْنَ خَرَجَ مُعَاذٌ إِلَى الشَّامِ: لَقَدْ أَخَلَّ خُرُوْجُهُ بِالمَدِيْنَةِ وَأَهْلِهَا فِي الفِقْهِ، وَفِيْمَا وكَانَ يُفْتِيْهِم بِهِ، وَلَقَدْ كُنْتُ كَلَّمْتُ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَحْبِسَهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَأَبَى عَلَيَّ، وَقَالَ: رَجُلٌ أَرَادَ وَجْهًا – يَعْنِي الشَّهَادَةَ – فَلاَ أَحْبِسُهُ.
وروي عَنْ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَحَدَّثُوا وَفِيْهِم مُعَاذٌ، نَظَرُوا إِلَيْهِ هَيْبَةً لَهُ.
وروي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الخَوْلاَنِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ حِمْصَ، فَإِذَا فِيْهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِيْنَ كَهْلًا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا فِيْهِم شَابٌّ أَكْحَلُ العَيْنَيْنِ، بَرَّاقُ الثَّنَايَا، سَاكِتٌ، فَإِذَا امْتَرَى القَوْمُ، أَقْبَلُوا عَلَيْهِ، فَسَألُوْهُ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قِيْلَ: مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ. فَوَقَعَتْ مَحَبَّتُهُ فِي قَلْبِي.
وروي عن أبي قِلابة أَنَّ فُلاَنًا مَرَّ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَوْصُوْنِي. فَجَعَلُوا يُوْصُوْنَهُ، وَكَانَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ فِي آخِرِ القَوْمِ، فَقَالَ: أَوْصِنِي يَرْحَمْكَ اللهُ. قَالَ: قَدْ أَوْصَوْكَ فَلَمْ يَأْلُوا، وَإِنِّي سَأَجْمَعُ لَكَ أَمْرَكَ: اعْلَمْ أَنَّهُ لاَ غِنَى بِكَ عَنْ نَصِيْبِكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَنْتَ إِلَى نَصِيْبِكَ إِلَى الآخِرَةِ أَفْقَرُ، فَابْدَأْ بِنَصِيْبِكَ مِنَ الآخِرَةِ، فَإِنَّهُ سَيَمُرُّ بِكَ عَلَى نَصِيْبِكَ مِنَ الدُّنْيَا، فَيَنْتَظِمَهُ، ثُمَّ يَزُوْلُ مَعَكَ أَيْنَمَا زِلْتَ.
روي عَنْ مَالِكِ الدَّارِ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخَذَ أَرْبَعَ مَائَةِ دِيْنَارٍ، فَقَالَ لِغُلاَمٍ: اذْهَبْ بِهَا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، ثُمَّ تَلَهَّ سَاعَةً فِي البَيْتِ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ. قَالَ: فَذَهَبَ بِهَا الغُلاَمُ، فَقَالَ، يَقُوْلُ لَكَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ: خُذْ هَذِهِ. فَقَالَ: وَصَلَهُ اللهُ وَرَحِمَهُ. ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْ يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي بِهَذِهِ السَّبْعَةِ إِلَى فُلاَنٍ، وَبِهَذِهِ الخَمْسَةِ إِلَى فُلاَنٍ، حَتَّى أَنْفَذَهَا. فَرَجَعَ الغُلاَمُ إِلَى عُمَرَ، وَأَخْبَرَهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ أَعَدَّ مِثْلَهَا لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، فَأَرْسَلَهُ بِهَا إِلَيْهِ. فَقَالَ مُعَاذٌ: وَصَلَهُ اللهُ، يَا جَارِيَةُ! اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلاَنٍ بِكَذَا، وَلِبَيْتِ فُلاَنٍ بِكَذَا. فَاطَّلَعَتْ امْرَأَةُ مُعَاذٍ، فَقَالَتْ: وَنَحْنُ – وَالله – مَسَاكِيْنُ، فَأَعْطِنَا. وَلَمْ يَبْقَ فِي الخِرْقَةِ إِلاَّ دِيْنَارَانِ، فَدَحَا بِهِمَا إِلَيْهَا. وَرَجَعَ الغُلاَمُ، فَأَخْبَرَ عُمَرَ، فَسُرَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّهُم إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
وكان معاذ بن جبل يقول قبل وفاته: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا لَكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَلَا لِغَرْسِ الْأَشْجَارِ وَلَكِنْ كُنْتُ أُحِبُّ الْبَقَاءَ لِمُكَابَدَةِ اللَّيْلِ الطَّوِيلِ وَلِظَمَأِ الْهَوَاجِرِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ، وَلِمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ فِي حِلَقِ الذِّكْرِ.
وروى أحمد في مسنده عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلْيُكْم بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ)).
وروى الطبراني في المعجم الكبير أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا أُصِيْبَ، اسْتَخْلَفَ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ، يَعْنِي فِي طَاعُوْنِ عَمَوَاس، اشْتَدَّ الوَجَعُ، فَصَرَخَ النَّاسُ إِلَى مُعَاذٍ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنَّا هَذَا الرِّجْزَ. قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِرِجْزٍ، وَلَكِنْ دَعْوَةُ نَبِيِّكُم، وَمَوْتُ الصَّالِحِيْنَ قَبْلَكُم، وَشَهَادَةٌ يَخُصُّ اللهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْكُم.
وقَالَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ فيما رواه أحمد في مسنده: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: ((سَتُهَاجِرُونَ إِلَى الشَّامِ، فَيُفْتَحُ لَكُمْ، وَيَكُونُ فِيكُمْ دَاءٌ كَالدُّمَّلِ أَوْ كَالْحَرَّةِ، يَأْخُذُ بِمَرَاقِّ الرَّجُل،ِ يَسْتَشْهِدُ اللهُ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيُزَكِّي بِهِ أَعْمَالَهُمْ)). اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاذًا سَمِعَهُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطِهِ هُوَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ الحَظَّ الأَوْفَرَ مِنْهُ. فَأَصَابَهُمُ الطَّاعُوْنُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُم أَحَدٌ، فَطُعِنَ فِي أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، فَكَانَ يَقُوْلُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا حُمُرَ النَّعَمِ.
قيل إنه توفي وهو ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ. وَقِيْلَ: ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ. وقيل: قُبِضَ مُعَاذٌ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً. قَالَ ضَمْرَةُ بنُ رَبِيْعَةَ: تُوُفِّيَ مُعَاذٌ بِقُصَيْرِ خَالِدٍ مِنَ الأُرْدُنِّ. قَالَ يَزِيْدُ بنُ عُبَيْدَةَ: تُوُفِّيَ مُعَاذٌ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ المَدَائِنِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: سَنَةَ سَبْعٍ، أَوْ ثَمَانِ عَشْرَةَ.
قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ أي من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، فأحب الأعمال على الإطلاق إلى الله تعالى هو الإيمان بالله ورسوله أي توحيده عز وجل، هذا أحب الأعمال.
فقد روى البخاري عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلّم لمَّا بَعثَ مُعاذًا رضيَ اللهُ عنهُ على اليمنِ قال: ((إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ، فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ)). هذا الحديث يدل على أمور كثيرة، وهي: أن الشخص مهما كان يعبد غير الله فهو ليس موحدا، فهم يدَّعون أنهم أهل توحيد وأنهم يعبدون الله ولكن النبي نفى عنهم ذلك.
وقوله: أول ما تدعوهم إليه عبادة الله أي إلى توحيد الله فإذا هم عبدوا الله وتركوا الكفر ودخلوا الإيمان صاروا عابدين لله بالنطق بالشهادتين مع اعتقاد معناهما. والنبي لم يقل له هؤلاء يعبدون الله لا، لم يقل له هؤلاء أهل كتاب فعلمهم الصلاة لا، بل قال: فإن هم أجابوا لذلك أي إن أسلموا فعلمهم الصلاة.
فالأصل الأول هو عبادة الله وحده،
فالأمور على حسب أولوياتها في الشرع ليس على ما يظنه الجاهل، بعض المجسمة يظن نفسه من عباد الله المخلصين وهم في الحقيقة لم يعبدوا الله بل عبدوا جسما توهموه.
ومن هذا الحديث نعلم أن الأولويات على حسب ما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم ليس على ما يظنه هؤلاء الجاهلون،
بعض الناس يقول لك أهم شيء أن أعرف تلاوة القرآن أو أن أحفظ القرآن أو أن أشتغل بقيام الليل أو بالذكر اللساني ونحو ذلك،
وهذا الحديث يبين الأولويات ويرد على كل هؤلاء، ممن لم يعرفوا الأولويات في دين الله فالذي يقرر الأولويات هو النبي صلى الله عليه وسلم لا الهوى والتشهي وماذا يريد فلان وماذا يريد فلان.
فمعرفة الله والرسول هي الأساس، ومن الأساس بل أعظم ما يجب التحذير منه هو الكفر بالله، بعض الناس يقول نحذر من الاختلاط المحرم بزعمهم، وبعضهم يقول نحذر من الغش في البيع والشراء، نقول لهم هذه كلها منكرات يجب التحذير منها لكن الأولى في التحذير منه هو الكفر بالله والعياذ بالله تعالى وهذا هو نهج محمد صلى الله عليه وسلم.
فالرسول عندما بعث في مكة كم كان هناك من عادات خبيثة فاسدة التي انتشرت بين الناس مثل وأد البنات والزنا والربا وغيرها، أول ما بدأهم الرسول عليه السلام التوحيد لم يقل لهم تعلموا الاستنجاء أو فرائض الغسل، بل بدأهم بالعقيدة وبعد ذلك صارت الأحكام تنزل تباعا وغالب الأحكام نزلت في المدينة، وفي مكة كان التركيز على توحيد الله، والنبي كان يمر بهم وهم مجتمعون بالموسم فيقول لهم: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
وهذا الذي ركز عليه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم لو بقوا على الكفر وعملوا صور هذه العبادات ظاهرا لا تنفعهم عند الله ولا تصح منهم ولا تقبل منهم.
وَالإِيمَانُ بِاللهِ وَمَعْرِفَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ هُوَ أَوَّلُ الوَاجِبَاتِ وَأَصْلُهَا وَأَهَمُّهَا وَأَفْضَلُهَا،
فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)) فَأَفْضَلُ الأَعْمَالِ عَلَى الإِطْلاَقِ هُوَ الإِيمَانُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ الأَصْلُ الَّذِي لاَ تَصِحُّ الأَعْمَالُ بِدُونِهِ.
وَمَعْنَى الإِيمَانُ بِاللهِ أَنْ يَعْتَقِدَ الإِنْسَانُ اعْتِقَادًا جَازِمًا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ لاَ شَكَّ فِي وُجُودِهِ، مَوْجُودٌ لاَ يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الـمَوْجُودَاتِ، لَيْسَ جِسْمًا وَلاَ يُشْبِهُ الأَجْسَامَ، وَلَيْسَ حَجْمًا وَلاَ يُشْبِهُ الأَحْجَامَ، لَيْسَ جِسْمًا كَثِيفًا كَالإِنْسَانِ وَالحَجَرِ وَالشَّجَرِ، وَلاَ جِسْمًا لَطِيفًا كَالهَوَاءِ وَالجِنِّ وَالـمَلاَئِكَةِ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ لاَ يُشْبِهُ الإِنْسَانَ وَلاَ النَّبَاتَ وَلاَ الجَمَادَاتِ، وَلاَ يُشْبِهُ الهَوَاءَ وَلاَ الرُّوحَ وَلاَ الضَّوْءَ وَلاَ الـمَلاَئِكَةَ وَلاَ الجِنَّ فَهُوَ تَعَالَى مَوْجُودٌ لاَ يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا العَالَمِ بَلْ هُوَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[سورة الشورى / 11] وَمَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِخِلاَفِ ذَلِكَ أَيْ لاَ يُشْبِهُ ذَلِكَ، لاَ يُتَصَوَّرُ فِي الوَهْمِ وَلاَ يَتَمَثَّلُ فِى النَّفْسِ، غَايَةُ الـمَعْرِفَةِ بِاللهِ الإِيقَانُ بِوُجُودِهِ تَعَالَى بِلاَ كَيْفٍ وَلاَ مَكَانٍ أَىْ أَقْصَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ مَعْرِفَةُ الإِنْسَانِ بِاللهِ تَعَالَى هُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ لاَ كَالـمَوْجُودَاتِ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الكَمَالِ الَّتِى تَلِيقُ بِهِ وَالَّتِى لاَ تُشْبِهُ صِفَاتِ المـَخْلُوقِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِى جِهَةٍ مِنَ الجِهَاتِ السِّتِّ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِى مَكَانٍ مِنَ الأَمَاكِنِ. هَذَا مَعْنَى الإِيمَانُ بِاللهِ.
أَمَّا الإِيمَانُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَعْتَقِدَ الإِنْسَانُ اعْتِقَادًا جَازِمًا لَا يُخَالِطُهُ شَكٌّ بِأَنَّ مُحَمّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللهِ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ أَمْ مِنْ أَخْبَارِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ أَمْ مِنْ أُمُورِ البَرْزَخِ وَالآخِرَةِ لاَ يُخْطِئُ فِي شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَيَّدَهُ اللهُ بِالمُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ الدَّالَّةِ دِلاَلَةً قَطْعِيَةً عَلَى صِدْقِهِ وَحَلَّاهُ رَبُّهُ بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالحِفْظِ وَالعِصْمَةِ وَالصِّيَانَةِ كَسَائِرِ إِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالـمُرْسَلِينَ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ كُفْرٌ لاَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلاَ بَعْدَهَا وَلاَ يَحْصُلُ مِنْهُ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ وَلاَ فِعْلٌ خَسِيسٌ يَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةٍ وَخِسَّةِ نَفْسٍ، دَعَا النَّاسَ لِدِينِ الإِسْلاَمِ دِينِ كُلِّ الأَنْبِيَّاءِ، الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ، الدِّينُ الَّذِي مَنْ مَاتَ عَلَيْهِ لاَ بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَإِنْ سَبَقَ لَهُ دُخُولُ النَّارِ بِسَبَبِ مَعَاصِيهِ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللهُ عَنْهُ، الدِّينُ الَّذِي مَنِ ابْتَغَى دِينًا غَيْرَهُ يَدِينُ بِهِ لَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ بَلْ هُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ الهَالِكِينَ، فَلاَ سَبِيلَ لِلنَّجَاةِ مِنَ الخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي النَّارِ إِلاَّ بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 116].
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُثَبّتَنَا عَلَى الإِيمَانِ وَيُكْرِمَنَا بِالوَفَاةِ عَلَى كَامِلِ الإِيمَانِ وَيَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ سَابِقِ عَذَابٍ إِنَّهُ كَرِيمٌ وَهَّابٌ.
وهنا ننبه لأمر آخر وهو عندما نقول في الحديث أو في القرآن أن هذا العمل يحبه الله، مَحَبَّةُ اللهِ لِعَبْدِهِ ليْسَت تَأَثُّرًا وَانْفِعالًا!! ليْسَت رِقَّةَ قَلْب كَما يَحْصُلُ بَيْنَ الْمُتَحابِّينَ مِنْ خَلْقِ الله! لأَنَّ اللهَ تعالى لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الانْفِعال وَلا التَّأَثُّر فِى ذاتِهِ ولا فِى صِفاتِهِ سُبحانَه.
قَالَ: ((أَنْ تَمُوتَ ينبغي لمن عرف أنه سيموت أن يستعد للموت ولا يغفل عن تذكره طرفة عين، ومن كان هذا حالَه يكون أقربُ إلى طاعة الله وعبادته ويكون بعيدا عن معصية الله،
فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت من القبر وما بعده، صالح العمل المؤنس له في الوحدة والوحشة، وما أحسن ما قيل في ذلك قول الشاعر:
بالله يا نفس اسمعي واعقلــي مقالة قد قالــــــــها ناصح
لا ينفع الإنسان في قبـــــــره إلا التقى والعمل الصـالح
وفي هذا تذكير بالموت ووقت الخروج من هذه الدنيا الفانية، يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 185]، فإن هذه الحياةَ مِمَّا يَنْقَضِي وَلَا يَدُومُ، وَإِنَّ أَمَدَ الدُّنْيَا قَرِيبٌ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْجَزَاءِ آتٍ لا شك فيه.
وقوله تعالى: ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ مِنَ الذَّوْقِ، وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيصَ عَنْهُ لِلْإِنْسَانٍ، وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ لِحَيَوَانٍ. وَقَدْ قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً – أي شابا صحيحا – يَمُتْ هَرَمًا … للموت كأس والمرء ذَائِقُهَا
وَقَالَ آخَرُ:
الْمَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ فَلَيْتَ شَعْرِيَ بَعْدَ الْبَابِ مَا الــدَّارُ
وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَــذَى وَدَارُ الْفَنَـــــاءِ وَدَارُ الْغِــــيَرْ
فَلَوْ نِلْتَــــــهَا بِحَذَافِيـــــــــرِهَا لَمُــتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرْ
أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُــــــولَ الْخُلُودْ وَطُــــولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ
إِذَا أَنْــــتَ شِبْتَ وَبَانَ الشَّبَابْ فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ
وقد قال بعض الوعاظ: ويحك يا نفس لا ينبغي أن تغرّك الحياة الدنيا ولا يغرّنك بالله الغَرور،
فانظري لنفسك فما أمرُك بمهم لغيرك ولا تضيعي أوقاتك فالأنفاس معدودة؛ فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك، فاغتنمي الصحة قبل السقم والفراغ قبل الشغل والغنى قبل الفقر والشباب قبل الهرم والحياة قبل الموت، واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها.
يا نفس أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته؛ فتجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب، ولا تتكلين في ذلك على فضل الله وكرمه حتى يدفع عنك البرد من غير جبة ولبد وحطب وغير ذلك فإنه قادر على ذلك،
أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخفُ بردًا وأقصر مدّة من زمهرير الشتاء؟ كلا أن يكون هذا كذلك أو أن يكون بـينهما مناسبة في الشدّة والبرودة؟
أفتظنين أن العبد ينجو منها بغير سعي هيهات كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالجبة والنار وسائر الأسباب فلا يندفع حرّ النار وبردها إلا بحصن التوحيد وخندق الطاعات،
وإنّما كرمُ الله تعالى في أن عرَّفك طريق التحصن ويسر لك أسبابه لا في أن يندفع عنك العذاب دون حصنه، كما أن كرم الله تعالى في دفع برد الشتاء أن خلق النار وهداك لطريق استخراجها من بـين حديدة وحجر حتى تدفعي بها برد الشتاء عن نفسك، وكما أن شراء الحطب والجبة مما يستغني عنه خالقك ومولاك وإنما تشترينه لنفسك إذ خلقه سببًا لاستراحتك فطاعاتك ومجاهداتك أيضًا هو مستغن عنها وإنما هي طريقك إلى نجاتك، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها والله غني عن العالمين.
ويحك يا نفس انزعي عن جهلك وقيسي آخرتك بدنياك فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وكما بدأنا أول خلق نعيده وكما بدأكم تعودون وسنة الله تعالى لا تجدين لها تبديلا ولا تحويلا ويحك يا نفس ما أراك إلا ألفت الدنيا وأنست بها فعسر عليك مفارقتها وأنت مقبلة على مقاربتها.اهـ
وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد عَن عمار بن يَاسر قَالَ: كفى بِالْمَوْتِ واعظًا وَكفى بِالْيَقِينِ غنى وَكفى بِالْعبَادَة شغلا.
وقَالَ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ: قَرَأْتُ كِتَابَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِلَى أَبِي عُمَرَ: “كُلُّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ غَنِيمَةٌ”.
وَكَانَ الْحَسَنُ البصري يَقُولُ فِي مَوْعِظَتِهِ: “الْمُبَادَرَةُ إلى الطاعات عِبَادَةٌ، فَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْفَاسُ، لَوْ قَدْ حُبِسَتِ انْقَطَعَتْ عَنْكُمْ أَعْمَالُكُمُ الَّتِي تُقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَظَرَ لِنَفْسِهِ، وَبَكَى عَلَى ذُنُوبِهِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ [سورة مريم/ الآية 84]، ثُمَّ يَبْكِي وَيَقُولُ: آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ فِرَاقُ أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ دُخُولُكَ فِي قَبْرِكَ”.
وروى صَالِحُ بْنُ مُوسَى الطَّلْحِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اجْتَهَدَ الْأَشْعَرِيُّ قَبْلَ مَوْتِهِ اجْتِهَادًا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَمْسَكَتَ أَوْ رَفَقْتَ بِنَفْسِكَ بَعْضَ الرِّفْقِ؟ فَقَالَ: “إِنَّ الْخَيْلَ إِذَا أُرْسِلَتْ فَقَارَبَتْ رَأْسَ مُجْرَاهَا، أَخْرَجَتْ جَمِيعَ مَا عِنْدَهَا، وَالَّذِي بَقِيَ مِنْ أَجْلِي أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ”. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ.
نسأل الله العظيم أن يبصرنا بعيوبنا ويعيننا على إصلاحها، ويجعلنا من المتبصرين العارفين.
وَلِسَانُكَ رَطْبٌ أَيْ: قَرِيبُ الْعَهْدِ أَوْ مُتَحَرِّكٌ طَرِيٌّ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قال ملا علي القاري: وَالذِّكْرُ يَشْمَلُ الْجَلِيَّ وَالْخَفِيَّ، وَاللِّسَانُ يَحْتَمِلُ الْقَلْبِيَّ وَالْقَالَبِيَّ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، بَلْ هُوَ أَدْعَى إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ مَا يُخْتَمُ بِهِ الْأَحْوَالُ،
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: رُطُوبَةُ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ سُهُولَةِ جَرَيَانِهِ، كَمَا أَنَّ يُبْسَهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَسُهُولَةُ الْجَرَيَانِ بِالْمُدَاوَمَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مُدَاوَمَةُ الذِّكْرِ، فَإِنَّ الذِّكْرَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ وَسَائِلُ إِلَيْهِ.
وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ في رواية هذا الحديث في المعجم الكبير عن معاذ قال، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي. قَالَ: ((عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَا عَمِلْتَ مِنْ سُوءٍ فَأَحْدِثْ لِلَّهِ فِيهِ تَوْبَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ)).
قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَ هَذَا حِينَ أَرْسَلَهُ صلى الله عليه وسلم حَاكِمًا إِلَى الْيَمَنِ فِي آخِرِ وَدَاعِهِ.
فائدة: فِى صُحُفِ سيِّدِنا إِبْراهِيم عَلَيْهِ السّلام، وَهذا الحَدِيث رَواهُ ابْنُ حِبّان فِى صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سيِّدِنا أَبِي ذَرٍّ الغِفارِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أَنَّهُ كانَ يُوجَدُ فِى صُحُفِ نَبِيِّ اللهِ إِبْراهِيم – أَنْزَلَ اللهُ عَلَى سيِّدِنا إِبْراهِيم عَشرَ صُحُف – فِى هذه الصُّحُف كَلام فِيهِ: “مَنْ عَدَّ كَلامَهُ نُطْقَهُ مِنْ عَمَلِه، يعْنِى مِنْ جُمْلَةِ أَعْمالِهِ التي سَيُسْأَلُ عَنْها وَيُحاسَبُ عَلَيْها فِى الآخِرَة، قَلَّ كَلامُهُ إِلَا فِيما يَعْنِيه“.
“مَنْ عَدَّ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِه“، أَيْ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ سيُجازَى، سيُحاسَب، سيُسأَل عَنْ كَلامِهِ، واعْتَبَرَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمالِهِ التي يُباشِرُها بِجَوارِحِهِ كَيَدِهِ وَرِجْلِهِ، “قَلَّ كَلامُهُ إِلّافِيما يَعْنِيه“. مَعناهُ صارَ يَتَفَكَّرَ فِى الكَلام قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ. فَإِنْ كانَ هذا الكلامُ الذي يُريدُ النُّطْقَ بِهِ خَيْر، يَكْتَسِبُ بِهِ الحَسَنات، فَلْيُبادِر إِلَى النُّطْقِ بِهِ وَإِنْ كانَ هٰذا الكلامُ شَرَّ أَوْ لا يُقْرِّبُ إِلَى اللهِ تعالى بَلْ هُوَ كَلامٌ مُباح، لا يَكْسِبُ بِسَبَبِهِ حَسنات وَلا يُكْتَبُ عَلَيْهِ ذُنُوب أَوْ مَعاصِي إِنْ قالَه، فَالأَوْلَى لَهُ أَنْ يَكُفَّ لِسانَهُ عَنْ هٰذا الكلامِ المباح، إِلّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَقْصِدٌ حَسَن بِالنُّطْقِ بِهذا الكَلام مُباح. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَقْصِدٌ حَسَن، فَالأَوْلَى عِنْدئِذٍ الصَّمْت!!
لِذلِكَ نَبِيُّنا ﷺ أَرْشَدَنا إِلَى طُولِ الصَّمْت إِلّا مِنْ خَير. مِنَ الخَير، فَقُل وَأَكْثِر! مِنَ الخَير، بادِر وَأَسْرِع! أَمّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الكَلامُ الذي تُرِيدُ النُّطْقَ بِهِ يُقَرِّبُكَ إِلَى الله، كَأَنْ يَكُونَ كَلامًا مُباحًا، فَأَحْجِب عَنْهُ وَأَمْسِك لِسانَك لأَنَّ الإِنْسانَ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ عَلَى إِطْلاقِ لسانِهِ بِكَثْرَة فِى الكَلام الذي هُوَ المباح. لِماذا؟؟
لأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ الأَنْفاس! لأَنَّ أَقَلَّ ما فِى صَرْفِ أَنْفاسِهِ فِى المباح، ذَهابُ هٰذه الأَنْفاس بِلا نَفْع! لذلِكَ سيِّدُنا ابراهِيمُ عَلَيْهِ السلام قالَ: “مَنْ عَدَّ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِه، قَلَّ كَلامُهُ إِلّا فِيما يَعْنِيه” مَعْناهُ صارَ يُفَكِّر قَبْلَ أَنْ يَنْطِق، هَلْ هذا الكلامُ الذي أُرِيدُ النُّطْقَ بِهِ يَعْنِينِي، يَعْنِي يَنْفَعُنِي لآخِرَتِي أَمْ لا؟ إِنْ كانَ يَعْنِينِي وَيَنْفَعُنِي لأَمْرِ آخِرَتِي أُبادِرُ إِلَى قَوْلِهِ وَإِلّا يَنْبَغِي أَنْ أُحْجِمَ، أَنْ أَكُفَّ عَنِ النُّطْقِ بِهِ.
والله تعالى أعلم وأحكم