شرح ألفية السيرة النبوية للحافظ زين الدين العراقي (3)

المقدمة

الحَمدُ للهِ الَّذِي أَرْشَدَ الخَلقَ إِلَى أكْمَلِ الآدَابِ، وَفَتَحَ لَهُم مِن خَزَائِنِ رَحمَتِهِ وَجُودِهِ كُلَّ بَابٍ، أنَارَ بَصَائِرَ المُؤمِنِينَ فَأَدرَكُوا الحَقَائِقَ وَطَلَبُوا الثَّوَابَ، وَأَعْمَى بَصَائِرَ المُعْرِضِينَ عَن طَاعَتِهِ فَصَارَ بَينَهُم وَبَينَ الحَقِّ حِجَابٌ، هَدَى أُولَئِكَ بِفَضلِهِ وَرَحمَتِهِ وَأَضَلَّ الآخَرِينَ بِعَدلِهِ وَحِكمَتِهِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِى الأَلبَابِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ الْعَزِيزُ الوَهَّابُ، الَّذِي أَنزَلَ القَطرَ مِنَ السَّمَاءِ فَفَاضَتِ الأَودِيَةُ وَالهِضَابُ، تَنَزَّهَ عَنِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ وَمَا يَقُولُهُ أَهلُ الشَّكِّ وَالِارتِيَابِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ المَبعُوثُ بِأَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَكمَلِ الآدَابِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى الآلِ وَالأصْحَابِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ مُقَدَّمِ الأَصحَابِ، وَعَلَى الْفَارُوقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلَى عُثْمَانَ شَهِيدِ الدَّارِ وَقَتِيلِ الْمِحْرَابِ، وَعَلَى عَلِيٍّ الْمَهِيبِ وَمَا سَلَّ سَيْفًا بَعْدُ مِنْ قِرَابٍ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَومَ المَآبِ، وَسَلَّم تَسلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعدُ:

أَسمَاؤُه الشَّرِيفةُ ﷺ
وَفِي سِيَاقِ شَرحِنَا لِأَلفِيَّةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ للحافظِ العراقِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى وَصَلنَا إلى قولِهِ:

(مَعَ الرَّسُولِ): ذَكَر أيضًا بعضُ أهلِ السِّيَرِ أنَّ الرسولَ من أسمائِهِ ﷺ ومعنَاهُ رسولُ الرَّحمَةِ. (كَذَاكَ عَبْدُ اللهِ فِي التَّنْزِيلِ) وعُدَّ مِن أسمائِهِ ﷺ عبدُ اللهِ.

ووصفُ العبودِيَّةِ أشرفُ الأوصافِ، وعبدُ اللهِ أحب الاسماء، وقَد جاءَ وصفُهُ بهِ في القُرءانِ الكرِيمِ.

وَالْمُـتَـوَكِّـلُ النَّـبِـيُّ الأُمِّـيْ *** وَالـرَّؤُفُ الرَّحِـيـمُ أَيُّ رُحْـمِ
(وَالْمُتَوَكّلُ): وسَمَّاهُ بهِ اللهُ في التورَاةِ، ومعناهُ الَّذِي يَكِلُ أمُورَهُ إلى اللهِ تعالَى، فقد رَزَقَ اللهُ تعالَى نَبِيَّهُ ﷺ من قُوَّةِ اليَقِينِ والتوكُّلِ الشيءَ العَظِيمَ.

كيفَ لا وهو أثبَتُ الناسِ قلبًا وأشدُّهُم توكُّلًا على خالِقِه عز وجل، والتوكُّلُ من صِفتِهِ الراسخَةِ رسوخَ الجبالِ في قلبِهِ الشريفِ ﷺ، فهو الَّذِي علَّمَ أصحابَه التوكُّلَ فكانُوا مِثَالًا يُحتَذَى بِهِ، ومما يدل على شدة توكله على الله، ما روي عنْ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللِّهِ ﷺ بذاتِ الرِّقاعِ، فإذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجرةٍ ظَلِيلَةٍ تركْنَاهَا لرسول اللَّه ﷺ، فَجاء رجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِين، وَسَيفُ رَسُول اللَّه ﷺ مُعَلَّقٌ بالشَّجرةِ، فاخْترطهُ فَقَالَ: تَخَافُنِي؟ قَالَ: “لا” قَالَ: فمَنْ يمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: “اللَّه”. قَالَ: فسقَطَ السَّيْفُ مِنْ يدِهِ، فَأخَذَ رسَول اللَّه ﷺ السَّيْفَ فَقال: “منْ يمنعُكَ مِنِّي؟ “فَقال: كُن خَيْرَ آخِذٍ، فَقَالَ: “تَشهدُ أنْ لا إلَه إلَّا اللَّهُ، وأنِّي رسولُ اللَّه؟ ” قَالَ: لَا، ولكِنِّي أعاهِدُك أنْ لا أقَاتِلَكَ، وَلَا أكُونَ مَعَ قَومٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخلَّى سبِيلهُ، فَأتى أصحابَه فقَالَ: جِئتكُمْ مِنْ عِندِ خيرِ النَّاسِ.

وروَى ابنُ أبي الدنيا عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: ‌‌لَمَّا أُلْقِيَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ قَالَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَكَانَ الْمَاءُ آجِنًا: أي تغيَّر طعمُه ولونُه ورائحتُه. فَصَفَا، وَكَانَ مَالِحًا فَعَذُبَ.

(النَّبِيُّ الأُمِّيُّ): أيِ الَّذِي لَا يَكتُب ولَا يَقْرأُ أيِ المكتُوبَ، وذَلِك في حَقِّه مُعْجِزةٌ وفي حَقِّ غَيرِه مَعْجَزةٌ أي عَجْزٌ.

ومِمَّا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالأمِّيِّ حقيقةُ اللفظِ وهو الذِي لا يقرَأُ ولا يكتُبُ ما جاءَ في خبَرِ صُلحِ الحُدَيبيِةِ أنّه ﷺ قَالَ لِعَلِيٍّ: “اكْتُبِ الشَّرْطَ بَيْنَنَا، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ“، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحوَهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللهِ لَا أَمْحوهَا (سيدُنَا عليٌّ رضي اللهُ عنه لم يفعَل ما أمرَهُ به رسولُ اللهِ ﷺ لأنّه ما فَهِمَ أنَّ الأمرَ للوجوبِ هنا وإنَّمَا تأدُّبًا وتعظِيمًا لاسمِ النبيِّ ﷺ)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:”أَرِنِي مَكَانَهَا“، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا، وَأمرَ بأنْ يُكتَبَ: (ابْنُ عَبْدِ اللهِ)، فلَو كانَ ﷺ يقرأُ المكتوبَ أو يكتُبُ بيَدِهِ لَم يسأَلْ علِيًّا عَن مَكانِهَا.

بل قال الله تعالى وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48}العنكبوت

(وَالرَّؤُفُ): أي الرؤوفُ ومعناهُ شَدِيدُ الرَّحْمةِ للمؤمِنينِ، فالرأفةُ شِدَّة الرَّحمَةِ (الرَّحِيمُ أَيُّ رُحْمِ): أيِ الرَّحِيمُ رَحمَةً عظيمَةً.

وَمِنْ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ ﷺ تَخْفِيفُهُ وَتَسْهِيلُهُ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ“، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْوِصَالِ في الصومِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِهِ شَفَقَةً عَلَى أُمِّهِ، وَمِنْ شَفَقَتِهِ ﷺ أَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ أَمَرَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَمَا كَانَ مِنهُ إِلَّا أَنْ قَالَ ﷺ: “بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا“،

وَرَوَى ابْنُ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ أنْ تُطِيعَكَ، فَقَالَ ﷺ: “أُؤَخِّرُ عَنْ أُمَّتِي لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمُ“.

كَـذَا بِـهِ الْمُـزَّمِّـلُ الْمُـدَّثِّــرُ *** وَدَاعِـيًـا للهِ وَالْـمُـذَكِّــرُ
(كَذَا بِهِ الْمُزَّمِّلُ): من أسمائه ﷺ المزمل أي الَّذِي تَزَمَّل في ثِيابه أي تَلَفَّفَ بِها.

فقد كانَ رسولُ اللهِ ﷺ في أوائلِ نُزولِ الوَحْيِ عليهِ يَتَزَمَّلُ مِن شِدَّةِ أثَرِ نُزولِ الوَحْيِ، فَالوَحيُ لهُ ثِقَلٌ، وكانَ النبيُّ يَتَأَثَّرُ بذَلِكَ في بدءِ الأمرِ فطَلَبَ مِن خَدِيجةَ زَوجِهِ أنْ تُزَمِّلَهُ فأنزلَ اللهُ تعالَى سُورةَ المزَمِّلِ.

أما ما جاء في شدة الوحي وثقله: قال اللَّه سبحانه وتعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل 5]، وقال زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه: أُنزل على رسول اللَّه ﷺ وفخذه على فخذي فكادت فخذه ترض فخذي (ترضّ فخذي: تدقه وتكسره).اهـ رواه الشيخان.

وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: إن كان ليوحى إلى رسول اللَّه ﷺ وهو على راحلته فتضرب بجرانها (الجران- بجيم مكسورة أي صدرها ومعناه: أنها تفعل ذلك لشدة الوحي وثقله) فما تستطيع أن تتحرك حتى يُسَرَّى عنه (أي يكشف ذلك عنه ويزول). وتلت الآية. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا. اهـ

وقال أبو أروى الدوسي رضي اللَّه عنه: رأيت الوحي ينزل على رسول اللَّه ﷺ وإنه على راحلته فترغو (أي: تصيح) وتفتل (تفتل يديها: تديرهما من ثقل ما عليها) يديها حتى أظن أن ذراعها تنقصم (أي: تنكسر وتندق)، حتى يُسَرَّى عنه من ثقل الوحي، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان (الجُمان: اللؤلؤ، شبّهت قطرات عرقه بالجمان لتشابهها في الصّفاء والحسن).

وقال ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: أنزلت على رسول اللَّه ﷺ سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.

وقالت عائشة رضي اللَّه عنها: لقد رأيته تعني النبي ﷺ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيَفْصِمُ عنه (أي يقلع وينجلي). وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا. رواه البخاري. (يتفصّد عرقا: أي يجري منه كما يجري الدم من الفصاد).

(الْمُدَّثِّرُ) أي المتَلَفِّفُ بِثيابِهِ أيضًا.

(وَدَاعِيًا للهِ): أيِ الدَّاعِي إلى اللهِ بإِذْنِه. (وَالْمُذَكِّرُ): أيِ الْمُبَلِّغُ الواعِظُ.

لا بد أن يكون الداعية موصوفا بمحاسن الأخلاق وكريم الصفات، لأن الدعاة هم القدوة الحسنة للناس فالتربية بالقدوة الحسنة لها أثر كبير على العوام، فمن صفات الداعية الصبر والمصابرة فلا ييأس من النجاح في مهمة مهما تعاظمت الصعاب وتجمعت الأحزاب، فالداعية مجاهد بالكلمة والكلمة في بعض الأحيان أشدُّ من السيف،

وأيضا من صفات الداعية البعد عن فحش الكلام وقول الزور وبذاءة الحديث، والتمسك بالقول الحسن والكلمة الطيبة، ولا بد أن يلتزم بالحلم، والحلم من أفضل الأخلاق وكذلك أن يلتزم بالوقار فيترفع عن سفاسف الأمور وعن صغائرها وقد قيل إن الوقار جذاب،

وقد روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الله تَعَالَى كريمٌ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأخلاقِ، ويَكْرَهُ سَفْسَافَهَا».

قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سورة النحل وهو أفضل وأكرم من دعا إلى الله عز وجل: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))، وقال تعالى في سورة آل عمران: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ))، وإن الناظر إلى هذه الآيات الكريمة والتوجيهات العظيمة يعرف أهمية أن نراعي الأصلح في دعوتنا للناس ويكون هذا بالحكمة والموعظة الحسنة وحسن الاستعداد والترتيب والإعداد وأن يَجمَعَ الداعية في قلبه ما يريد من عمله هذا الذي يَقدَمُ عليه مع إخلاص النية لله عز وجل.

إنَّ مِنْ رحمةِ اللهِ بالناسِ أنْ أرسلَ لهم أنبياءَ ورسلًا وجمَّلَ الأنبياءَ بصفاتٍ جليلةٍ حسنةٍ تميلُ إليهَا النفوسُ السليمةُ فهُمْ قدوةٌ للناسِ وبِهِمْ يهتدونَ إلَى توحيدِ ربِّهِمْ عزَّ وجلَّ، فهمُ الموصوفونَ بالأمانةِ والفطانةِ والصدقِ والعفةِ منزهونَ عنْ كلِّ مَا ينفرُ عن قَبولِ الدعوةِ منهُمْ كالكذبِ والخيانةِ والسفاهةِ والرذالةِ والبلادةِ والكفرِ والكبائرِ وصغائرِ الخسةِ قبلَ النبوةِ وبعدَهَا لأنَّهُمْ قدوةٌ لقومِهِمْ يدعونَ الناسَ إلى مَا ينفَعُهُمْ فِي أمرِ دينِهِمْ ودنياهُمْ، لذلكَ جَمَّلَهُمُ اللهُ تعالَى بالصفاتِ الحميدةِ وعصَمَهُمْ مِنَ الصفاتِ الذميمةِ، وَأَمَرَ سبحانَهُ وتعالَى بالاقتداءِ بِهِمْ فقالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ ولَمَّا اشتدَّ بهِ البلاءُ أمرَهُ اللهُ بالصبرِ كإخوانِهِ الأنبياءِ فقالَ تعالَى فِي سورةِ الأحقافِ: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو العَزْمِ مِنَ الرُسُلِ﴾،

لذلكَ فإنَّ حاجةَ المسلمينَ كبيرةٌ إلَى القُدْوةِ التِي يرَى الناسُ فيهِ كلَّ معانِي الخيرِ والصلاحِ قولًا وفعلًا فينجذِبُونَ إليهِ ويتأثَّرُوْنَ بهِ لأنَّ التأثُّرَ بالأفعالِ أبلغُ بكثيرٍ مِنَ التأثيرِ بالكلامِ وحدَهُ عادةً.

وإذَا قَلَّبْنَا مراحلَ التاريخِ فَلَنْ نجدَ مثلًا وقدوةً حسنةً كمحمدٍ ﷺ فقدْ كانَ لهُ تأثيرٌ علَى البشريةِ، حيثُ كانتْ حياتُهُ مَثَارَ إعجابِ الجميعِ مِمَّا جعلَهُمْ يتأثَّرُونَ بهِ ﷺ.

ولقدْ كانَ رسولُ اللهِ ﷺ الأسوةَ الحسنةَ فيِ جميعِ جوانبِ الحياةِ فإذَا بحثَ الناسُ فِي ميادينِ التربيةِ وجدُوا رسولَ اللهِ ﷺ المربيَ الكريمَ والقائدَ والمعلمَ الذي ربَّى أصحابَهُ الكرامَ علَى الفضيلةِ والقيمِ العليا النبيلةِ فقدْ كانتْ أفعالُهُ مطابقةً لِمَا فِي القرآنِ فقدْ سُئلتِ السيدةُ عائشةُ رضيَ اللهُ عنهَا عنْ أخلاقِهِ فأجابَتْ: (كَاْنَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) معناهُ إذَا أردتَ أنْ تعرفَ خُلُقَ رسولِ اللهِ ﷺ فاقرأ القرءانَ فكلُّ خَصلةِ خيرٍ فيهِ هيَ مِنْ خُلُقِ رسولِ اللهِ ﷺ. لهذَا أَمَرَ اللهُ المؤمنينَ باتِّبَاعِ الرسولِ وطاعَتِهِ وجعلَ هذَا مِنْ مؤشراتِ الحبِّ فِي اللهِ فقالَ تعالَى : [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ] {آل عمران:31}.

فينبغِي للمسلمِ الذِي يريدُ أنْ يكونَ قدوةً حسنةً فيقتديَ بهِ الناسُ فيِ الخيراتِ والمبراتِ أنْ يكونَ حسنَ الخُلقِ، تأسيًا بالنبيِّ ﷺ، فقدْ كانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ هيّنًا ليّنًا رفيقًا لطيفًا طيبَ السريرةِ حسنَ المعاشرةِ للناسِ سهلًا عليهِم، راجيًا لهمُ الخيرَ والهدايةَ، بشوشًا في وجوهِهم عندَ لقائِهم، كريمَ الخُلقِ حلوَ الكلامِ لطيفَ المعاشرةِ، يلقاهُم والابتسامةُ مشرقةٌ علَى وجهِهِ، ذا عفوٍ وصبرٍ وحِلمٍ وأناةٍ ورفقٍ ولينٍ، يعامِلُهُم بالتواضعِ والأدبِ وحسنِ الخلقِ، يتحملُ المتاعبَ والمشاقَّ.

ولا بدَّ أنْ يوافقَ قولُ المُقتَدَى بهِ عمَلَهُ وأنْ يطبقَ مَا تعلمَ فإنَّ مِنْ ثمارِ العلمِ العملَ بهِ: فقدْ ذمَّ اللهُ اليهودَ حيثُ كانوا يقولونَ مَا لَا يفعلونَ، قالَ تعالَى في سورةِ البقرةِ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾. ولقدْ قيلَ:

يَا وَاعِظَ النَّاسِ قَدْ أَصْبَحْتَ مُتَّهَمًـا إِذْ عِبْتَ مِنْهُمْ أُمُوْرًا أَنْتَ تَأْتِيْهَا

أَصْبَحْتَ تَنْصَحُهُمْ بِالوَعْظِ مُجْتَهِـدًا فَالْمُوْبِقَاتُ لَعَمْرِيْ أَنْتَ جَانِـيْهَا

تَعِيْبُ دُنْيَـــا وَنَاسًــا رَاغِبِيْنَ لَهـَا وَأَنْتَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ رَغْبَــةً فِيْهَـا

وقدْ كانَ ﷺ حريصًا علَى حثِّ الناسِ أنْ يقتدُوا بهِ فهوَ القائلُ لهمْ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، لَعَلِّي لا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِيَ هَذَا)، رواهُ البيهقيُّ.

وَرَحْـمَـةٌ وَنِـعْـمَـةٌ وَهَـادِيْ *** وَغَـيْـرُهَا تَـجِـلُّ عَنْ تَـعْـدَادِ
(وَنِعْمَةٌ): أي نعمةٌ في الدَّارَينِ علَى مَن ءامَنَ بِهِ.

بل إِنَّ النِّعَمَ الَّتِي أنعمَ اللهُ بها علَينَا سببُهَا محمدٌ ﷺ، وهذَا يدلُّ على عظيمِ فضلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على أصحابِهِ خاصةً وعلَى أُمَّتِهِ عامَّةً، كيفَ لا وهُوَ سببٌ في كلِّ نعمةٍ أنعمَ اللهُ بها علينَا، واللهُ سبحانَهُ قد جعلَهُ واسِطَةً بينَهُ وبينَ خلقِهِ على معنَى أنَّهُ سببٌ لِإِجابَةِ الدعاءِ وهدَايَةِ الناسِ وغيرِ ذلكَ، فما مِن نعمَةٍ تنالُهَا العبيدُ إلَّا هوَ أصلُهَا وسبَبُهَا ومادَّتُهَا، قال بعضُ المالكيةِ:

مَا أَرْسَلَ الرَّحْمَنُ أَوْ يُرْسِلُ *** مِنْ رَحْمَةٍ تَصْعَدُ أَوْ تَنْزِلُ

فِي مَلَكُوْتِ اللهِ أَوْ مِلْكِهِ *** مِنْ كُلِّ مَا يَخْتَصُّ أَوْ يَشْمَلُ

إِلَّا وَطَهَ الْمُصْطَفَى عَبْدُهُ *** نَبِيُّهُ مُخْتَارُهُ الْمُرْسَلُ

وَاسِطَةٌ فِيْهَا وَأَصْلٌ لَهَا *** يَعْلَمُ هَذَا كُلُّ مَنْ يَعْقِلُ

(وَهَادِي): أيِ الَّذِي يَهْدِي بإِذْنِ اللهِ إلى الصِّراطِ المستَقِيمِ بواضِحِ الحُجَجِ وساطِعِ البَيانِ.

وَالْهِدَايَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِبَانَةُ الْحَقِّ وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ وَنَصْبُ الأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ إِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى الرُّسُلِ وَإِلَى كُلِّ دَاعٍ لِلَّهِ، فَالأَنْبِيَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى هُدَاةٌ لِأَنَّهُمْ دَلُّوا النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ وَبَيَّنُوا لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَحَذَّرُوا النَّاسَ مِمَّا لا يُحِبُّهُ اللَّهُ، فَالأَنْبِيَاءُ وَظِيفَتُهُمُ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوهَا الْبَيَانُ وَالدِّلالَةُ وَالإِرْشَادُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ اللَّهُ شَاءَ لَهُ الِاهْتَدَاءَ يَهْتَدِي بِقَوْلِ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ بِالأَخْذِ بِدَعْوَتِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ أَنْ يَهْتَدِيَ لا يَهْتَدِي مَهْمَا رَأَوْا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، هَذَا أَبُو جَهْلٍ رَأَى انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَغَيْرُهُ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَهْتَدِ مِنْهُمْ إِلَّا الَّذِي شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ

فَالدُّعَاءُ إِلَى الْحَقِّ يُقَالُ لَهُ هِدَايَةٌ، وَكَذَلِكَ نَصْبُ الأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، ومِنَ الهدايةِ المنسُوبةِ للأنبياءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، أَيْ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ تَدُلُّ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَتُبَيِّنُ لِلْخَلْقِ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ طَرِيقَ الْهُدَى، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْتَ تَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، فَالرَّسُولُ لا يَمْلِكُ الْقُلُوبَ فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَذَا يُقَالُ لَهُ هِدَايَةٌ. :

وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، أَيْ خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ فِي قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/125] وَالإِضْلالُ خَلْقُ الضَّلالِ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الضَّلالِ. فَالْعِبَادُ مَشِيئَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الإِنْسَان/30].

(وَغَيْرُهَا تَجِلُّ عَنْ تَعْدَادِ): أي وذُكِر فِي بَعضِ السِّيَر للنَّبِيِّ ﷺ أسماءٌ أخرى غيرُ هذِهِ التي ذكرنَاهَا تجلُّ أي تَعْظُمُ عَن العَدِّ لِكَثرَتِها.

أوصلَهَا بعضُهُم لسبعَةٍ وستِّينَ وبعضُهُم لثلاثِمِائَةٍ وبعضُهُم لما يزيدُ عَنِ الألفَينِ، وهذِهِ الكثرةُ في الأسماءِ تدلُّ على تعظِيمِ رسولِ اللهِ ﷺ لأنَّ الشيءَ إذَا كانَ لهُ أسماءٌ كثيرةٌ فهذَا يدلُّ على الِاهتمامِ بهِ وعُلُوِّ شأنِهِ، وكانَ النبيُّ ﷺ يُكَنَّى بأبي القاسِمِ وأبي إبراهِيمَ وأبِي المؤمنِينَ وأبي الأَرَامِلِ.

ذِكرُ نَسَبِه الزّكيِّ الطَّيِّبِ الطّاهِرِ ﷺ
وَهْوَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبْ *** أَبُوهُ وَهْوَ شَيْبَةَ الْـحَمْدِ نُسِـبْ
(وَهْوَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ) إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَزكَى العَرَب نَسَبًا وَصِهْرًا وَحَسَبًا، لَيْسَ فِي آبَائِهِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ سِفَاحٌ بَل كُلُّهَا نِكَاحٌ، وأَزكَى النَّسَبِ مَا يَصِلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَمِمَّا يُذكَرُ مِن أمرِ وَالِدِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ جدَّ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَذَرَ يومًا لَئِنْ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ نَفَرٍ ثُمَّ بَلَغُوا مَعَهُ حَتَّى يُسَانِدُوهُ لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ علَى زعمِهِ لِلَّهِ عِنْدِ الْكَعْبَةِ، وَهَذَا النَّذرُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ فِي الإسلَامِ، وكانَ عبدُ المطلِبِ في ذلكَ الوقتِ لهُ ولدٌ واحِدٌ وهُوَ الحارِثُ، فَلَمَّا تَكَامَلَ بَنُوهُ عَشَرَةً وصَارُوا سنَدًا لَهُ، جَمَعَهُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِنَذْرِهِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ بِذَلِكَ فَأَطَاعُوهُ، وَقَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ؟ فقَالَ: لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قِدْحًا، ثُمَّ يَكْتُبُ فِيهِ اسْمَهُ، ثُمَّ ائْتُونِي، فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَتَوْهُ فَدَخَلَ بِهِمْ عَلَى هُبَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ هُبَلُ عَلَى بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ عِنْدَ هُبَلَ قِدَاحٌ سَبْعَةٌ، وَهِيَ الْأَزْلَامُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا، كانُوا إِذَا صَعُبَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ جَاؤُوهُ فَاسْتَقْسَمُوا بِهَا فَمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ أَوْ نَهَتْهُمْ عَنْهُ بزعمِهِم امْتَثَلُوهُ.

وَلَمَّا جَاءَ عبدُ المطلِبِ ليَسْتَقْسِمَ بِالْقِدَاحِ عِنْدَ هُبَلَ خَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِيَدِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَخَذَ الشَّفْرَةَ لِيَذْبَحَهُ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ أَنْدِيَتِهَا فَقَالُوا: مَا تُرِيدُ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ: أَذْبَحُه، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا تَذْبَحُهُ أَبَدًا حَتَّى تُعْذِرَ فِيهِ، لَئِنْ فَعَلْتَ هَذَا لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِابْنِهِ حَتَّى يَذْبَحَهُ، فَمَا بَقَاءُ النَّاسِ عَلَى هَذَا؟، وقِيلَ إنَّ الْعَبَّاسَ هُوَ الَّذِي اجْتَذَبَ عَبْدَ اللَّهِ مِنْ تَحْتِ رِجْلِ أَبِيهِ حِينَ وَضَعَهَا عَلَيْهِ لِيَذْبَحَهُ، فَشَجَّ وَجْهَهُ شَجًّا لَمْ يَزَلْ فِي وَجْهِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، ثُمَّ أَشَارَتْ قُرَيْشٌ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْحِجَازِ فَإِنَّ بِهَا عَرَّافَةً لَهَا تَابِعٌ فَيَسْأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فجاؤُوا العرَّافَةَ وَقَصَّ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَبَرَهُ وَخَبَرَ ابْنِهِ، فَقَالَتْ لَهُمُ: كَمِ الدِّيَةُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، قَالَتْ: فَارْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ، ثُمَّ قَرِّبُوا صَاحِبَكُمْ وَقَرِّبُوا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ اضْرِبُوا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ أعِيدُوا مَا صنَعتُم، وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْإِبِلِ فَانْحَرُوهَا عَنْهُ وَنَجَا صَاحِبُكُمْ، فَخَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ وقَرَّبُوا عَبْدَ اللَّهِ وَعَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا، فَلَمْ يَزَالُوا يَزِيدُونَ عَشْرًا عَشْرًا وَيَخْرُجُ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَتِ الْإِبِلُ مِائَةً، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ فَنُحِرَتْ ثُمَّ تُرِكَتْ لَا يُمْنَعُ عَنْهَا إِنْسَانٌ ولا سَبُعٌ، مَن أَرَادَ أَن يأكُلَ منهَا أَكَلَ.

وقد روَى الحاكِمُ في المستدرَكِ عَنِ النبيِّ ﷺ أنَّه أَتاهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ ﷺ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ.اهـ

والمُرَادُ إسماعِيلُ عليهِ السَّلَامُ وعبدُ اللهِ بنُ عبدِ المطَّلِبِ والدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

(عَبْدُ الْمُطَّلِب، أَبُوهُ وَهْوَ شَيْبَةَ الْـحَمْدِ نُسِبَ): أي أبُو عبدِ اللهِ هوَ عبدُ المطَّلِب، وهذَا لقَبُهُ ولُقِّبَ بِهِ لأنَّهُم ظَنُّوهُ عبدَ عَمِّهِ المُطَّلِبِ، أمَّا اسمُهُ فهُوَ شيبَةُ الحمدِ وقِيلَ عَامِرٌ.

وسُمِّيَ عبدُ المطلبِ بشَيبَةِ الحمدِ لأنّه وُلِدَ وفي رأسِهِ شَيْبةٌ أي شَعَرةٌ بَيضاءُ، وكانت تُرَى في خَصلَةٍ من شعرِهِ، وأمّا كُنيَتُه فأبُو الحارِثِ، وقيلَ أبو البَطْحاءِ. اهـ

كانَ هَاشِمُ بنُ عبدِ منافٍ سيِّدَ قومِهِ ووالِيَ السقايَةِ والرِّفادَةِ في مكةَ، وهو الذِي عَمِلَ لقومِهِ الإيلافَ الذِي هو رحلِتَا الصيفِ والشتَاءِ للتِّجارَةِ، فَمَرَّ يومًا ببنِي النجارِ في يَثرِبَ فزوَّجوهُ منهم لأنَّهُ سيدُ قومِهِ، وولدَت لهُ هذِهِ الزوجةُ، واسمُهَا سلمَى، ولدًا هو شيبَةُ الحمدِ عبدُ المطلبِ، فتركَهُ عندَ أمِّهِ فِي يثرِبَ. ولَمَّا ماتَ هَاشِمٌ في غَزَّةَ في بِلَادِ الشامِ توَلَّى السيادَةَ بعدَهُ أخُوهُ المطلِبُ، وَقَدِمَ ثَابِتُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ إلى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، وَهُوَ أَبُو حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الصحابِيِّ الشَّاعِرِ رضي اللهُ عنه، فَلَقِيَ الْمُطَّلِبَ، وَكَانَ صاحِبَهُ، فَقَالَ لَهُ: لَوْ رَأَيْتَ ابْنَ أَخِيكَ شَيْبَةَ فِينَا لَرَأَيْتُ جَمَالًا وَهَيْبَةً وَشَرَفًا، فَقَالَ الْمُطَّلِبُ: لَا أُمْسِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِ فَأَقْدَمَ بِهِ (أَي سَأَذهَبُ اليومَ إِلَى يثرِبَ وآخُذُهُ إلى قَومِهِ وبلَدِهِ مكةَ) فَقَالَ ثَابِتٌ: مَا أَرَى سَلْمَى تَدْفَعُهُ إِلَيْكَ وَلا أَخْوَالَهُ، وأشارَ عليهِ أَنْ يَدَعَهُ فَيَكُونَ فِي أَخْوَالِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَأتِي إلى مكةَ عندَمَا يكبُرُ، فلَم يرضَ المطلبُ بذلِكَ وَقَالَ: يَا أَبَا أَوْسٍ، مَا كُنْتُ لأَدَعَهُ هُنَاكَ وَيَتْرُكُ مَآثِرَ قَوْمِهِ وَنَسَبَهُ وَشَرَفَهُ.

وَخَرَجَ الْمُطَّلِبُ إلى الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ فِي نَاحِيَةٍ، وَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى وَجَدَهُ، فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَ شِبْهَ أَبِيهِ فِيهِ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَكَسَاهُ حُلَّةً يَمَانِيَةً، فَلمَّا عرَفَت أمُّهُ أَرْسَلَتْ إِلَى الْمُطَّلِبِ وَدَعَتْهُ إِلَيْهَا، وقالَت لهُ أَن يَبِيتَ عندَهُم ثلاثَةَ أيَّامٍ، فَقَالَ: شَأْنِي أَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ، مَا أُرِيدُ أَنْ أَحُلَّ عُقْدَةً حَتَّى ءَاخُذَ ابْنَ أَخِي وَأُلْحِقَهُ بِبَلَدِهِ وَقَوْمِهِ (أَي لَا أريدُ أن أَمكُثَ هُنَا، إنَّما أريدُ أن ءاخُذَ ابنَ أخِي وأعُودَ به إلى مَكَّةَ) فَقَالَتْ: لَسْتُ بِمُرْسِلَتِهِ مَعَكَ، وَغَلَّظَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْمُطَّلِبُ: لا تَفْعَلِي، فَإِنِّي غَيْرُ مُنْصَرِفٍ حَتَّى أَخْرُجَ بِهِ مَعِي، ابْنُ أَخِي قَدْ بَلَغَ وَهُوَ غَرِيبٌ فِي غَيْرِ قَوْمِهِ، وَالْمُقَامُ بِبَلَدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمُقَامِ هَهُنَا، وَهُوَ ابْنُكِ حَيْثُ كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ اسْتَمهَلَتْهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَقَامَ ثَلاثًا ثُمَّ احْتَمَلَهُ وَانْطَلَقَا جَمِيعًا.

وَلما أخذَهُ إلى مكةَ دَخَلَ بِهِ مَكَّةَ ظُهْرًا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! إِنَّمَا هُوَ ابْنُ أَخِي شَيْبَةُ بْنُ عَمْرٍو (أي هَاشِمٍ)، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مُقِيمًا بِمَكَّةَ حَتَّى كَبُرَ.

ولمَّا ماتَ المطلِبُ فِي أَرْضِ الْيَمَنِ، وَلِيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ بَعْدَهُ الرِّفَادَةَ وَالسِّقَايَةَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ بِيَدِهِ يُطْعِمُ الْحَاجَّ وَيَسْقِيهِمْ فِي حِيَاضٍ مِنْ أَدَمٍ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا حَفَرَ زَمْزَمَ تَرَكَ السَّقْيَ فِي الْحِيَاضِ بِمَكَّةَ وَسَقَاهُمْ مِنْ زَمْزَمَ حِينَ حَفَرَهَا، وَكَانَ يَحْمِلُ الْمَاءَ مِنْ زَمْزَمَ إِلَى عَرَفَةَ فَيَسْقِيهِمْ.

وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي زمانِهِ أَحْسَنَ قُرَيْشٍ وَجْهًا، وَأَحْلَمَهُم حِلْمًا، وَأَجْوَدَهُم كَفًّا، وَأَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ كُلِّ مُوبِقَةٍ تُفْسِدُ الرِّجَالَ، وَلَمْ يَرَهُ مَلِكٌ قَطُّ إِلا أَكْرَمَهُ وَشَفَّعَهُ، وَكَانَ سَيِّدَ قُرَيْشٍ حَتَّى ماتَ.

أَبُـوهُ عَـمْـرٌو هَاشِـمٌ وَالْـجَـدُّ *** عَبْدُ مَـنَـافِ بْـنُ قُصَـيٍّ زَيْـدُ
(أَبُوهُ عَمْرٌو هَاشِمٌ) أي والِدُ عَبْدِ المطَّلِبِ هُوَ عمرٌو ولقَبُهُ هَاشِمٌ.

وروِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنه أنّه قَالَ: كَانَ اسْمُ هَاشِمٍ عَمْرًا، وَكَانَ صَاحِبَ إِيلافِ قُرَيْشٍ، فهو أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الرِّحْلَتَيْنِ لِقُرَيْشٍ، يَرْحَلُ في إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى الْحَبَشَةِ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَيُكْرِمُهُ وَيَحْبُوهُ، وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ إِلَى غَزَّةَ، وَرُبَّمَا بَلَغَ أَنْقَرَةَ، فَيَدْخُلُ عَلَى قَيْصَرَ فَيُكْرِمُهُ وَيَحْبُوهُ.

وَمرةً أَصَابَتْ قُرَيْشًا سَنَوَاتُ قحطٍ ذَهَبْنَ بِالأَمْوَالِ، وجَاعَ أهلُ مكةَ ولم يَجِدُوا ما يأكلونَهُ، فَخَرَجَ هَاشِمٌ إِلَى الشَّامِ فَأَمَرَ بِخُبْزٍ كَثِيرٍ فَخُبِزَ لَهُ لمكانَتِهِ عندَهُم، فَحَمَلَهُ عَلَى الإِبِلِ حَتَّى وَافَى مَكَّةَ، فَهَشَمَ ذَلِكَ الْخُبْزَ يَعْنِي كَسَرَهُ وَثَرَدَهُ يَعنِي وَضَعَهُ فِي المَرَقِ، وَنَحَرَ تِلْكَ الإِبِلَ، ثُمَّ أَمَرَ الطُّهَاةَ فَطَبَخُوها، فَأَشْبَعَ أَهْلَ مَكَّةَ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ هَاشِمًا.

وَخَرَجَ هَاشِمٌ فِي أَصْحَابِهِ إِلَى الشَّامِ حَتَّى بَلَغَ غَزَّةَ فمرض وَأَقَامُوا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ وَدَفَنُوهُ بِغَزَّةَ، وأَوْصَى هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ أن تذهبَ السِّيَادَةُ بعدَهُ إِلَى أَخِيهِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ يَدٌ وَاحِدَةٌ.

(وَالْجَدُّ عَبْدُ مَنَافِ): أي جَدُّ عَبدِ المطَّلِبِ هُوَ عبدُ منافٍ، سُمِّيَ به لِطُولِه، وذَلِك مِن قَولِهم: مائةٌ ونَيِّفٌ، وَقِيلَ لِمُلَازَمَتِهِ الأُمُورَ الصِّعَابَ، لِأَنَّ مَن يُلَازِمُ شَيئًا يُقَالُ لَهُ عَبدُهُ، وَاسمُهُ الْمُغِيرَةُ. (ابْنُ قُصَيٍّ زَيْدُ) أَبُو عبدِ منَافٍ هوَ قُصَيٌّ واسمُهُ زيدٌ وقِيلَ اسمُه مَجْمَعٌ.

وَكَانَ قُصَيٌّ فِي قَوْمِهِ سَيِّدًا رَئِيسًا مُطَاعًا مُعَظَّمًا، وَهوَ الَّذِي جَمَعَ قُرَيْشًا مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ مَوَاضِعِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَوَلِيَ قُصَيٌّ الْبَيْتَ وَأَمْرَ مَكَّةَ وَتَمَلَّكَ عَلَى قَوْمِهِ، فَكَانَتْ إِلَيْهِ الْحِجَابَةُ وَالسِّقَايَةُ وَالرِّفَادَةُ وَالنَّدْوَةُ وَاللِّوَاءُ، فَحَازَ شَرَفَ مَكَّةَ كُلَّهُ، وَبَنَى دَارًا لِإِزَاحَةِ الظُّلم وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ سَمَّاهَا دَارَ النَّدْوَةِ، وهِيَ مِثلُ المحكَمَةِ، إِذَا صَعُبَتْ علَيهِم قَضِيَّةٌ اجْتَمَعَ الرُّؤَسَاءُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتشاوَرُوا فِيهَا وَفَصَلُوهَا، وَلَا يُعْقَدُ عَقْدُ لِوَاءٍ وَلَا عَقْدُ نِكَاحٍ إِلَّا بِهَا، وَكَانَ بَابُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِيمَا بَعْدُ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَبَاعَهَا فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بنَ أبِي سفيَانَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَامَهُ عَلَى بَيْعِهَا مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: بِعْتَ مَكْرُمَةَ قَوْمِكَ وَشَرَفَهُمْ بِمِائَةِ أَلْفٍ؟، فَقَالَ: إِنَّمَا الشَّرَفُ الْيَوْمَ بِالتَّقْوَى، وَاللَّهِ لَقَدِ ابْتَعْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بشَيءٍ قلِيلٍ، وَهَا أَنَا قَدْ بِعْتُهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ ثَمَنَهَا صَدَقَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَيُّنَا الْمَغْبُونُ؟،

وَكَانَتْ إِلَى قُصَيٍّ سِقَايَةُ الْحَجِيجِ فَلَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مِنْ مَاءِ حِيَاضِهِ، وَكَانَتْ زَمْزَمُ إِذْ ذَاكَ مَطْمُوسَةً مِنْ زَمَنِ جُرْهُمٍ، قَدْ تَنَاسَوْا أَمْرَهَا مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَوْضِعِهَا، وَكَانَ قُصَيٌّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ إشعالَ النَّارِ بِالْمُزْدَلِفَةِ لِيَهْتَدِيَ إِلَيْهَا مَنْ يَأْتِي مِنْ عَرَفَاتٍ، وَأَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الرِّفَادَةَ، وَهِيَ إِطْعَامُ الْحَجِيجِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ.

ومِن نسلِ قُصَيٍّ عبدُ اللهِ بنُ عبدِ المطلبِ وَالِدُ رسولِ اللهِ ﷺ، فَوَلَدَ عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ ﷺ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، وَأُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف، فَهُوَ أَشْرَفُ وَلَدِ آدَمَ حَسَبًا، وَأَفْضَلُهُمْ نَسَبًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

ابْنُ كِـلَابٍ أَيْ حَكِـيـمٍ يَا أُخَيْ *** وَهْوَ ابْنُ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيْ
(ابْنُ كِلَابٍ أَيْ حَكِيمٌ يَا أُخَيْ): أَي أَبُو عبدِ منَافٍ هُوَ كِلَابٌ واسمُهُ حَكِيمٌ وقِيلَ حُكَيمَةُ وقيلَ عُرْوَةُ.

ولُقِّبَ كِلابًا لِأَنَّهُ كانَ يجمَعُ الكلَابَ التِي يَصِيدُ بِهَا، ومِن عَادَةِ العربِ التسميةُ بمِثلِ هذهِ الأسمَاءِ، وَلَا يُذَمُّ مثلُ ذلكَ.

(وَهوَ ابْنُ مُرَّةَ): أي أبُو كلابٍ هو مُرَّةُ، والمُرَّةُ الحَنْظَلَةُ والعَلْقَمةُ، وقيلَ هو مِن وَصفِ الرَّجُلِ بالمَرارةِ، (ابْن كَعْبِ): أي أبُو مُرَّةَ هو كَعبٌ، سُمِّيَ بهِ تَفاؤُلًا برُسوخِهِ في الأمرِ، وكانَ عظيمَ القَدْرِ عِندَ العَرَب.

وَكَانَ كَعْبٌ يَجْمَعُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، (وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْعَرُوبَةَ، إِلَى أنْ جَمَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا أصحَابَهُ وخطَبَهُم بعدَ الهجرَةِ بأَربَعِ أيَّامٍ فصارَت تُسَمَّى يومَ الجُمُعَةِ)

فَيَخْطُبُهُمْ فَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ فَاسْمَعُوا وَتَعَلَّمُوا وَافْهَمُوا، صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَصْهَارَكُمْ، حَرَمُكُمْ زَيِّنُوهُ وَعَظِّمُوهُ وَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَسَيَأْتِي لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَسَيَخْرُجُ مِنْهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ، يَأْتِي النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ فَيُخْبِرُ أَخْبَارًا صَدُوقًا، ثُمَّ يَقُولُ:

يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ نَجْوَاءَ دَعْوَتِهِ *** حِينَ الْعَشِيرةُ تَبْغِي الْحَقَّ خِذْلَانًا

وَكَانَ بَيْنَ مَوْتِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَسِتُّونَ سَنَةً.

(ابْن لُؤَيْ): أي أبو كعبٍ هوَ لؤيٌّ، وَسُمِّيَ لُؤَيًّا تَفاؤُلًا بكَونِه شَديدًا.

وَهْوَ ابْنُ غَالِـبٍ أَيِ ابْـنِ فِهْرِ *** وَهْوَ ابْنُ مَالِكٍ أَيِ ابْنِ النَّضْــرِ
(وَهوَ ابْنُ غَالِبٍ أَيِ ابْنِ فِهْر): أي أبو لُؤَيٍّ هوَ غَالِبٌ وأبُو غَالِبٍ هو فِهرُ، واسمُ فِهرٍ قُرَيشٌ وإلَيهِ نُسِبَت القَبِيلةُ على الأصَحِّ.

فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ، بل يُقالُ له كِنَانِيٌّ نسبَةً إلى أبِي قُرَيشٍ كنَانَةَ.

روَى البَيهَقِيُّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا؟ فَقَالَ: لِدَابَّةٍ تَكُونُ فِي الْبَحْرِ، تَكُونُ أَعْظَمَ دَوَابِّهِ فَيُقَالَ لَهَا: الْقِرْشُ، لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ إِلَّا أَكَلَتْهُ، قَالَ: فَأَنْشِدْنِي فِي ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَنْشَدَهُ شِعْرَ الْجُمَحِيِّ إِذْ يَقُولُ:

وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَا *** بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا *** تَتْرُكُ لِذِي الْجَنَاحَيْنِ رِيشَا

هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ *** يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا

(أي أَكلًا شَدِيدًا)

(وَهوَ ابْنُ مَالِكٍ أَي ابْنِ النَّضْرِ): أي أبو فِهرٍ هو مَالِكٌ، وأبو مَالِكٍ هوَ النَّضرُ، واسمُ النَّضْرِ قَيْسٌ، وقد لُقِّبَ بهِ لِنَضارَةِ وَجْهِهِ وحُسْنِهِ.

وَأَبُــهُ كِـنَـانَـةٌ مَـا أَبْـرَكَـهْ *** وَالِـدُهُ خُـزَيْمَةُ بْـنُ مُـدْرِكَـةْ
(وَأَبُهُ كِنَانَةٌ): أي أَبُو النَّضرِ هو كِنَانَةُ، وسُمِّيَ بذَلِكَ لأنّهُ كان سِتْرًا على قَوْمِهِ كالكِنانَةِ أيِ الجَعْبَةِ (بفَتحِ الجِيمِ) السَّاتِرَةِ للسِّهَامِ.

وكان كِنانةُ بالنِّسبة لِقومِهِ عَظِيمِ البَرَكةِ يَتَبَرَّكُونَ بِه، وهو معنَى قولِ النّاظِمِ: (مَا أَبْرَكَهْ) أي فِي أعيُنِهِم.

(وَالِدُهُ خُزَيْمَةُ ابْنُ مُدْرِكَة): أي وَالِدُ كنَانَةَ هو خُزَيمَةُ، وأبو خُزَيمَةَ هو مُدرِكَةُ، واسمُ مُدرِكةَ عامِرٌ.

ولُقِّبَ بذلكَ لِكَونِه أَدرَكَ الإبِلَ الَّتِي كانَتْ قد ضَلَّتْ أي لَحِقَ بِهَا.

وَهْوَ ابْنُ إِلْيَاسَ أَيِ ابْنِ مُـضَـرَا *** اِبْـنِ نِـزَارِ بْـنِ مَـعَـدٍّ لَا مِـرَا
(وَهْوَ بْنُ إِلْيَاسَ): أي أبُو مُدرِكَةَ هو إِليَاسُ وقِيلَ أَلْيَاسُ، (أَيِ ابْنِ مُضَرَا): أي أبُو إِليَاسَ هُوَ مُضَرُ، واسمُ مُضَرَ عَمرٌو.

قيل إنّه سُمِّيَ بذلك لِمَحَبَّتِهِ اللَّبَنَ الماضِرَ أيِ الحامِضَ.

(ابْن نِزَارِ): أي أبُو مُضَرَ هوَ نِزَارٌ.

وذَكَرَ السُّهَيلِيُّ أنّ مَعَدًّا والِدَ نِزارٍ فرِحَ فرَحًا شَدِيدًا بِه حِينَ وُلِدَ ونَحَر وأطعَمَ وقال: إنَّ هذا كلَّهُ نَزْرٌ أي قليلٌ لِحَقِّ هذا المولودِ، فسُمِّيَ نِزارًا.

(ابْنِ مَعَدٍّ) أي أبو نزارٍ هو مَعَدٌّ، وسُمِّيَ بذلِكَ نِسبَةً إلى العَدِّ أو المَعْدِ وهو القُوّةُ.

وعلى هذا الأخيرِ يُنَزَّلُ قولُ الدِّيارِ بَكرِيٍّ: (كانَ صاحِبَ حُروبٍ وغاراتٍ على بَنِي إسرائِيلَ، ولم يُحارِبْ أحَدًا إلّا رَجَعَ بالنَّصرِ والظَّفَرِ).

ومَعَدٌّ هذا هُوَ الذي كان يقصِدُهُ سيدُنَا عُمَرُ بنُ الخطابِ في قولِهِ: تمَعدَدُوا، أي كونُوا مِثلَ مَعَدِّ بنِ عَدنَانَ، فإنَّه كانَ مُخشَوشِنًا، ومَمَدُوحٌ في الشرعِ أن يَخشَوشِنَ الرجلُ وأن لَا يكونَ مُرَفَّهًا.

(لَا مِرَا): أي لَا مِرَاءَ ولَا جِدَالَ ولَا اختِلَافَ بَينَ أهلِ النَّسَبِ في كَونِ نِزارٍ هذَا ابنَ مَعَدٍّ.

وَهْوَ ابْنُ عَدْنَانَ وَأَهْلُ النَّسَبِ *** قَدْ أَجْمَعُوا إِلَى هُنَا فِي الكُتُبِ
(وَهْوَ ابْنُ عَدْنَانَ): أي أبُو مَعَدٍّ هو عَدنَانُ، مِن عَدَنَ إذا أقامَ، (وَأَهْلُ النَّسَبِ، قَدْ أَجْمَعُوا إِلَى هُنَا فِي الكُتُبِ): أي قد أجمَعَ علماءُ الأنسَابِ في كُتبِهِم عَلَى صِحَّةِ وثُبوتِ المذكورِينَ في هذَا النَّسَبِ أي إلى عَدنانَ وأنّ مَا يُجاوِزُ في نَسَبِه ﷺ عَدنانَ فلَا ثُبوتَ لِكَثِيرٍ مِن المسَمَّيْنَ فيهِ.

لكنَّ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهِمَا السَّلامُ قد ثَبَتَ اتّصالُ نَسَبِ النَّبِيِّ ﷺ إليهِمَا، كمَا جاءَ في الحديث،

وَيَرحَمُ اللهُ تعالَى القَائِلَ:

حَفِظَ الإِلَهُ كَرَامَةً لِمُحَمَّدٍ *** آبَاءَهُ الأَمجَادَ صَونًا لِاسمِهِ

تَرَكُوا السِّفَاحَ فَلَم يُصِبهُم عَارُهُ *** مِن آدَمٍ وَإِلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ

وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

اللهم إنا نسألُكَ الثباتَ في الأمرِ والعزيمةَ على الرُشدِ، ونسألُكَ شكرَ نعمتِك، وحسنَ عبادتِك، ونسألكَ قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، ونسألكَ مِنْ خيرِ مَا تعلَمُ، ونعوذُ بكَ مِنْ شرِّ مَا تعلمُ، إنكَ علَّامُ الغيوبِ. اللهم ربَّ النّبيِّ محمدٍ عليهِ الصلاةُ والسلامُ اغفرْ لنا ذنوبَنا، وأذهِبْ غيظَ قلوبِنا، وأعِذْنا مِنْ مُضِلَّاتِ الفتنِ مَا أبقَيْتَنَا. اللَّهُمَّ لا تَرْفَعْ لليَهودِ في القدسِ رَايَةً وَلا تُحَقِّقْ لَهُم في فِلَسْطينَ غَايَةً يا رَبَّ العَالمينَ يا اللهُ، اللَّهُمَّ عَليكَ باليهودِ المعْتَدِينَ. اللَّهُمَّ أَحْصِهِم عَدَدًا واقْتُلْهُم بَدَدًا وَلا تُغادِرْ مِنْهُم أَحَدًا. اللَّهُمَّ أَغِثْ أهلَ القُدْسِ وأهلَ فِلَسْطِينَ. اللَّهُمَّ أَغِثْ أهلَ القُدْسِ وأهلَ فِلَسْطِينَ. اللَّهُمَّ عَليكَ باليهودِ المعْتَدِينَ وَمَنْ وَالاهُم وسَاعَدَهُم. اللَّهُمَّ شَتِّتْ شَمْلَهُم وبَدِّدْ قُوَّتَهُم وفَرِّقْ جَمْعَهُم. اللَّهُمَّ مَزِّقْهُم شَرَّ مُمَزَّقٍ يا رَبَّ العَالمينَ. اللَّهُمَّ عليك بكُلِّ مَنْ يحاولُ أنْ يَسْلُبَ عُرُوبَةَ القدسِ يا اللهُ، اللَّهُمَّ عليكَ بكُلِّ مَنْ يسعى لتشتيتِ الأمةِ الإسلاميةِ.

اللهم اجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم ومن المقبولين يا رب العالمين، الله اجعل القرآن الكريم ضياءً لقلوبنا وذهابًا لهمومنا وجلاءً لأحزاننا، ومؤنسا لنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا رب العالمين، اللهم وفِّقنا للعمل بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ووفقنا للعمل بما افترضت علينا وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأعنا على الصيام والقيام يا أكرم الأكرمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين وَصَلَّى اللهُ على سيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحبِهِ وَسَلَّم، وَءَاخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

 

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …