“شرح ألفية السيرة النبوية” للحافظ زين الدين العراقي (27)

مقدمة

الْحَمْدُ للَّهِ عالم السِّرَّ وَالْجَهْرَ، وَقَاصَمَ الْجَبَابِرَةَ بِالْعِزِّ وَالْقَهْرِ، مُحْصِي قَطَرَاتِ الْمَاءِ وَهُوَ يَجْرِي فِي النَّهْرِ، فَضَّلَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى أَوْقَاتَ الدَّهْرِ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر}، فَهوَ الْمُتَفَرِّدُ بِإِيجَادِ خَلْقِهِ الْمُتَوَحِّدُ بِإِدْرَارِ رِزْقِهِ، عَالِمٌ بِسِرِّ الْعَبْدِ وَسَامِعٌ نُطْقَهُ، وَمُقَدِّرٌ عِلْمَهُ وَعَمَلَهُ وَعُمْرَهُ وَفِعْلَهُ وَخَلْقَهُ، وَمُجَازِيهِ عَلَى عَيْبِهِ وَذَنْبِهِ وَكَذِبِهِ وَصِدْقِهِ، الْمَالِكُ الْقَهَّارُ فَالْكُلُّ فِي أَسْرِ رِقِّهِ، الْحَلِيمُ السَّتَّارُ فَالْخَلْقُ فِي ظِلِّ رِفْقِهِ، أَرْسَلَ السَّحَابَ تُخَافُ صَوَاعِقُهُ وَيُطْمَعُ فِي وَدْقِهِ، جَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَالْقَمَرَ نُورًا بَيْنَ غَرْبِهِ وَشَرْقِهِ أَحْمَدُهُ عَلَى الْهُدَى وَتَسْهِيلِ طُرُقِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي رَتْقِهِ وَفَتْقِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَالضَّلالُ عَامٌّ فَمَحَاهُ بِمَحْقِهِ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ السَّابِقِ بِصِدْقِهِ، وَعَلَى عُمَرَ كَاسِرِ كِسْرَى بِتَدْبِيرِهِ وَحِذْقِهِ، وَعَلَى عُثْمَانَ جَامِعِ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَبْدِيدِهِ فِي رِقِّهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ مَنْ سَعِدَتْ قُلُوبُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِعِشْقِهِ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ مُشَارِكِهِ فِي أَصْلِهِ وَعِرِقْه، وعلى من سار على دربه وفي طُرُقِه، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:

قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾،ْ ذمَّ الشرعُ الركضَ وراءَ الدنيا علَى الوجهِ المذمومِ المخالفِ للشرعِ واتِّبَاعَ الشهواتِ فيهَا ونسيانَ الموتِ، ورغَّبَ فِي الآخرةِ والعملِ لَهَا فقالَ تعالَى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾، وما ذلكَ إلَّا لأنَّها دارُ عبورٍ وفتورٍ والآخرةُ دارُ القرارِ وهيَ المستقرُّ، وقد قال سيدُنَا عيسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ للحوارينَ عنِ الدنيا: ((الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوْهَا وَلَا تَعْمُرُوْهَا))، إنَّه وصفٌ بليغٌ للدنيا وهوَ أنَّها قنطرةٌ أي هيَ كالجسرِ فإنَّ الواحدَ منَّا إذا أرادَ أنْ يُعَمِّرَ بيتًا فإنَّه لا يختارُ الجسرَ ليبنيَ عليهِ البيتَ بلْ يجعلُ الجسرَ محلًّا يعبرُ عليهِ ولا يستقرُّ عليهِ.

وقالَ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ: (اعمَلْ لدُنْيَاكَ كأنَّكَ تَعِيشُ أبدًا، واعمَلْ لآخِرَتِكَ كأنَّكَ تَمُوتُ غَدًا)، ويَنْبَغِي للْعَبدِ الْمُؤمنِ بربِّهِ إذا نظرَ إلى زهرَةِ الدُّنْيَا فَدَعَتْهُ إلَى نَفسِهَا برونَقِهَا البهيجِ أنْ يَقُولَ لَهَا بِلِسَانِ الْحَالِ إليكِ عنِّي يَا سريعةَ الزَّوَالِ إنَّما أنا مقبلٌ إلَى دَارٍ لَيْسَ لسَاكِنِها عَنْهَا انْتِقَالٌ، أنتِ زخرفٌ فَانٍ وَتلكَ جَوْهَرٌ بَاقٍ فَلْتُمَيِّزْ بَينَ الدَّاريْنِ عقولُ الرِّجَالِ، اتركْ منزلَ الزَّوَالِ والفناءِ ويمِّمْ نَحْوَ الجنةِ العاليةِ إنَّها واللهِ منزلُ الْكَرَامَةِ والأنسِ والبرِّ ونيلِ المنَى ونيلِ النوالِ تِلْكَ وَاللهِ دَارُ قومٍ شَرَوْهَا بِنَفِيْسِ النُّفُوسِ والأموالِ ثُمَّ ساقُوا لَهَا الْمُهورَ الغَوالِي، وقدْ جاءَ فِي حديثِ رسولِ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)) رواهُ مسلمٌ، فَكُلُّ إِنْسانٍ يَبِيعُ نَفْسَهُ، يَخْرُجُ فِى الصّباحِ يَسْعَى، إِمَّا أَنْ يُعْتِقَها مِنَ العَذابِ، مِنَ السُّوءِ، مِنْ سُوءِ الخاتِمَة وَإِمّا أَنْ يُزْلِقَها فِى المعصِيَةِ فِى العَذابِ.

وإن العمر ولحظاتِه نعمة أنعم الله بها علينا معاشر بني آدم، ومن الناس من اغتنم هذه النعمة واستثمر ما فيها من أوقات ومن الناس من ضيع، وكل يفضي إلى ما قدَّم، فمن عمل فلنفسه ومن أساء فعليها، ولا يلومن مقصر أحدا غير نفسه، وقد قال الله تعالى: ((فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)).

قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي: يَا ‌عَجَبًا ‌كَيْفَ ‌أَنِسَ ‌بِالدُّنْيَا مُفَارِقُهَا، وَأَمِنَ النَّارَ وَارِدُهَا، كَيْفَ يَغْفَلُ مَنْ لا يُغْفَلُ عَنْهُ، كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ، كَيْفَ يَلْهُو مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجَلِهِ وَحَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ.

قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ بَيْتَانِ: بَيْتٌ شَاهِدٌ وَبَيْتٌ غَائِبٌ، فَلا يُلْهِيَنَّكَ بَيْتُكَ الْحَاضِرُ الَّذِي فِيهِ عُمْرُكَ قَلِيلٌ عَنْ بَيْتِكَ الْغَائِبِ الَّذِي عُمْرُكَ فِيهِ طَوِيلٌ.

إِخْوَانِي: أَنْفَاسُ الْحَيِّ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِ، لَيَحُلَّنَّ بِكُمْ مِنَ الْمَوْتِ يَوْمٌ يُنْسِيكُمْ مُعَاشَرَةَ اللَّذَّاتِ وَالنِّعَمِ، وَلا يُبْقِي فِي الأَفْوَاهِ إِلا طَعْمَ النَّدَمِ. أَيْنَ الَّذِينَ مَلَكُوا الدُّنْيَا وَنَالُوا.اهـ وقد قيل:

‌مَضَى ‌أَمْسُكَ ‌الْمَاضِي شَهِيدًا مُعَدَّلًا
وَأَعْقَبَهُ يَوْمٌ عَلَيْكَ جَدِيدُ

فَإِنْ كُنْتَ بِالْأَمْسِ اقْتَرَفْتَ إِسَاءَةً
فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيْدُ

فَيَوْمُكَ إِنْ أَغْنَيْتَهُ عَادَ نَفْعُهُ
عَلَيْكَ وَمَاضِي الْأَمْسِ لَيْسَ يَعُودُ

وَلَا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ يَوْمًا إِلَى غَدٍ
لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ

فمن عرف قيمة العمر لم يفرط فيه، ومن عرف قدر رمضان لم يكسل فيه. فإن لياليكم هذه ليست كأي الليالي، وشهرَكم هذا ليس ككل الشهور، فقد قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} الهاء في {أَنْزَلْنَاهُ} كِنَايَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُنْزِلَ جُمْلَةً فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ وَهُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَهَا وَالتَّشْوِيقِ إلى خبرها.

رُوي عن عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَمَلَ السِّلاحَ عَلَى عَاتِقِهِ أَلْفَ شَهْرٍ فَعَجِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِذَلِكَ وَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أُمَّتِهِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَقَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ الَّتِي حَمَلَ فِيهَا الإِسْرَائِيلِيُّ السِّلاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوْحُ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْمَلائِكَةُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى، وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ.

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي كَبْكَبَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ يُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ قَائِمٍ أَوْ قاعد يذكر اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوْحُ فِيْهَا} أَيْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ((بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)) أَيْ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ وَالْمَعْنَى: مَا أَمَرَ بِهِ وقضاه. {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} قيلَ: أَيْ بِكُلِّ أَمْرٍ.

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَنْزِلُونَ بِكُلِّ أَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِل، وليس أن الله يغير مشيئته في ليلة القدر أو كما يقول بعضهم إن الأقدار تتغير في ليلة القدر والعياذ بالله تعالى، فمشيئة الله لا تتغير وصفاته لا تتغير.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ هِيَ} أَيْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ سَلامٌ.

وَفِي مَعْنَى السَّلامِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لا يَحْدُثُ فِيهَا دَاءٌ وَلا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى السَّلامِ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. والْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالأَفْرَادِ وَاخْتَلَفُوا فِي الأَخَصِّ بِهَا، فقال عدد منهم إنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، وهذا مذهب عليٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّبْعَةَ تَتَكَرَّرُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فالأرض سبع والسماوات سبع. والثاني: أن قوله ” هي ” هِيَ الْكَلْمَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ.

وَقَالَ عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ: ذُقْتُ مَاءَ الْبَحْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَوَجَدْتُهُ عَذْبًا.

وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَكَرَّرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَهِيَ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ، وَالتِّسْعَةُ إِذَا كُرِّرَتْ ثَلاثًا كَانَتْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ.

وروي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ».

وروى أَحْمَدُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَهِيَ لَيْلَةٌ وَتْرٌ تِسْعٌ أَوْ سَبْعٌ أَوْ خَامِسَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ أَوْ آخِرُ لَيْلَةٍ. وقد روي: “إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ صَاحِيَةٌ لا بَرْدَ فِيهَا وَلا حَرَّ، وَإِنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشمس صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ”. وروى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِنَّهَا لَيْلَةُ سَابِعَةٍ أَوْ تَاسِعَةٍ وَعِشْرِينَ إِنَّ الْمَلائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى.

وَالْحِكْمَةُ فِي إِخْفَائِهَا أَنْ يَتَحَقَّقَ اجْتِهَادُ الطَّالِبِ كَمَا أُخْفِيَتْ سَاعَةُ اللَّيْلِ وَسَاعَةُ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ كَانَ يَسْهَرُ لَيْلَهُ فَيَشُدُّ مِئْزَرَهُ وَيَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ.

وقد صح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: “مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ”.

وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ وَيُوقِظُ أَهْلَهُ وَيَشُدُّ الْمِئْزَرَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَمَا أَدْعُو؟ فَقَالَ: ” قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي “. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَتَأَهَّبُونَ لَهَا. فَكَانَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ حُلَّةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَلْبَسُهَا فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرْجَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَكَانَ ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ يَغْتَسِلانِ وَيَتَطَيَّبَانِ وَيَلْبَسَانِ أَحْسَنَ ثِيَابِهِمَا وَيُطَيِّبَانِ مَسَاجِدَهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.

إِخْوَانِي: اجْتَهِدُوا فِي الطَّلَبِ فَرُبَّ مُجْتَهِدٍ أَصَابَ.

وثبت عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلا كُلُّ مَحْرُومٍ“.

إِخْوَانِي: رَاعُوا حَقَّ هَذِهِ الأَيَّامِ مَهْمَا أَمْكَنَكُمْ، وَاشْكُرُوا الَّذِي وَهَبَ لَكُمُ السَّلامَ وَمَكَّنَكُمْ، فَكَمْ مُؤَمِّلٍ لَمْ يَبْلُغْ مَا أَمَّلَ، وَإِنْ شَكَكْتَ فَتَلَمَّحْ جِيرَانَكَ وَتَأَمَّلْ، كَمْ مِنْ أُنَاسٍ صَلَّوْا مَعَكُمْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ التَّرَاوِيحَ، وَأَوْقَدُوا فِي المساجد طلبا للأجر المصابيح، أتاهم قَبْلَ تَمَامِهِ الصَّائِدُ فَقُهِرُوا، وَأَسَرَتْهُمُ الْمَصَايِدُ فَأُسِرُوا، أَدَارَتْ عَلَيْهِمُ الْمَنُونُ رَحَاهَا وَحَكَّ وُجُوهَهُمُ الثَّرَى فَمَحَاهَا، فَأَعْدَمَتْهُمْ صَوْمًا وَفِطْرًا، وَزَوَّدَتْهُمْ مِنَ الْحَنُوطِ عِطْرًا، وَأَصْبَحَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي اللَّحْدِ سَطْرًا، هَذَا حَالُكَ يَا مَنْ لا يَعْقِلُ أَمْرًا، كَمْ تُحَرَّضُ وَمَا يَنْفَعُ التَّحْرِيضُ، وَنُعَرِّضُ لَكَ بِاللَّوْمِ وَمَا يُجْدِي التَّعْرِيضُ، يَا مَنْ لا يَنْتَبِهُ بِالتَّصْرِيحِ وَلا بِالتَّعْرِيضِ، يَا مُتَعَوِّضًا مَا يَفْنَى عَمَّا يَبْقَى بئس التعويض، يا مُسَوِّدًا صَحَائِفَهُ مَتَى يَكُونُ التَّبْيِيضُ، قَدْ أَمْهَلْنَاكَ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ الْعَرِيضِ، كَمْ يُقَالُ لَكَ ولا تقبل، والحر تَكْفِيهِ الْمَلامَةُ، أَمَارَةُ الْخَيْرِ مَا تَخْفَى زَاحِمِ التَّائِبِينَ وَادْخُلْ فِي حِزْبِ الْبَكَّائِينَ، وَكُلُّ غَرِيبٍ للغريب نسيب.

إخواني وأخواتي: ها نحن في هذه الأيام التي كثرت فيها البلايا العامة والخاصة على أمة الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وكنا نتدارس من بداية شهر رمضان سيرةَ الحبيب المصطفى ﷺ، ووصلنا إلى ذكر غزوة العسرة غزوة تبوك التي كانت آخرَ غزوة غزاها النبي ﷺ بنفسه وكانت في أيام شدة وضنك عيش وبلاء كما نحن في هذه الأيام في أيام عصيبة شديدة، والمسلمون يُذَبَّخون في أرض فلسطين على يد أعداء الله وأعداء الرسول وأعداء المسلمين، نتكلم عن الشدة التي كان فيها رسول الله ﷺ وأصحابه ومع ذلك فقد نصرهم الله ورفع عنهم البلاء ببركة التزامهم بهذا الشرع الحنيف وببركة تطبيقهم لأوامر نبيهم الكريم عليه الصلاة والسلام، ولْيُعلَم أنه سينتصر الدين وسترتفع رايته فوق الرؤوس بالتمسك بنهج رسول الله وبالتمسك بسيرة رسول الله ﷺ، والمشي على منهاج رسول الله بتعليم الناس أمر دينهم وأمر التوحيد وأمر العقيدة التي علمها رسول الله وقاتل كل هذه المعارك لأجل رفعها عالية فوق رؤوس العباد ولأجل غرسها في قلوب الناس، هذه العقيدة التي عندما استقرت في قلوب هؤلاء الصحابة نقلتهم من أخس الدركات إلى أعالي الدرجات والمنازل، فصرنا لا نقول: بلال بن رباح إلا ونقول بعد ذلك: رضي الله عنه، ولا نقول: سلمان الفارسي، إلا ونقول بعد ذلك: رضي الله عنه، ولا نقول: صهيب الرومي، إلا ونقول بعد ذلك: رضي الله عنه، هي عقيدة الأنبياء والمرسلين والملائكة في السماوات والأرضين، وعقيدة الملايين من المسلمين، وعقيدة الناجين يوم الدين، هي عقيدة نقول فيها نعتقدها:

أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ فِي مُلْكِهِ خَلَقَ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ الْعُلْوِىَّ وَالسُّفْلِىَّ وَالْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَالسَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا. جَمِيعُ الْخَلائِقِ مَقْهُورُونَ بِقُدْرَتِهِ لا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ لَيْسَ مَعَهُ مُدَبِّرٌ فِي الْخَلْقِ وَلا شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ حَيٌّ قَيُّومٌ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْغِنَى وَلَهُ الْعِزُّ وَالْبَقَاءُ وَلَهُ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ وَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى لا دَافِعَ لِمَا قَضَى وَلا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ وَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ لا يَرْجُو ثَوَابًا وَلا يَخَافُ عِقَابًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَقٌّ يَلْزَمُهُ وَلا عَلَيْهِ حُكْمٌ وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. مَوْجُودٌ قَبْلَ الْخَلْقِ لَيْسَ لَهُ قَبْلٌ وَلا بَعْدٌ وَلا فَوْقٌ وَلا تَحْتٌ وَلا يَمِينٌ وَلا شِمَالٌ وَلا أَمَامٌ وَلا خَلْفٌ وَلا كُلٌّ وَلا بَعْضٌ وَلا يُقَالُ مَتَى كَانَ وَلا أَيْنَ كَانَ وَلا كَيْفَ، كَانَ وَلا مَكَانَ كَوَّنَ الأَكْوَانَ وَدَبَّرَ الزَّمَانَ لا يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ وَلا يَتَخَصَّصُ بِالْمَكَانِ وَلا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَلا يَلْحَقُهُ وَهْمٌ وَلا يَكْتَنِفُهُ عَقْلٌ وَلا يَتَخَصَّصُ بِالذِّهْنِ وَلا يَتَمَثَّلُ فِي النَّفْسِ وَلا يُتَصَوَّرُ فِي الْوَهْمِ وَلا يَتَكَيَّفُ فِي الْعَقْلِ لا تَلْحَقُهُ الأَوْهَامُ وَالأَفْكَارُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.اهـ مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك.

ما أجمله من اعتقاد وما أرسخه من إيمان وما أنصع بياضه من توحيد، وهنيئا لمن مات عليه، وتمسك به، ونشره بين الناس صغيرِهم وكبيرِهم.

أحبابي: في هذه الليلة المباركة نكمل أيضا في السيرة النبوية حبًّا بحبيب الله وتعلقا بذكر سيرته الشريفة ولو بشيء قليل، لعلَّ أيَ واحد منا يُرزق رؤيته عليه الصلاة والسلام، إذًا وصلنا إلى السنة التاسعة من الهجرة قبل وفاة حبيب الحق وسيد الخلق بنحو السنتين، فكانت غزوة تبوك:

ذكر أحداث السنة التاسعة للهجرة
فِي التِّسـعِ غَزوَةُ تَـبُـوكَ بَعدَ أَن *** صَلَّـى عَلَى أَصـحَمَ غَائِبًا فَسَـنّ
وفِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنَ الهِجرَةِ المُبَارَكَةِ حَصَلَت غَزوَةُ تَبُوكَ، وَيُقَالُ لَهَا غَزوَةُ العُسَيرَةِ وغَزوَةُ العُسرَةِ لِمَا كانَ فيهِ المُسلِمُونَ مِن عُسرَةٍ فِي المَاءِ وَالمَركُوبِ وَالنَّفقَةِ وَشِدّةٍ مِنَ الحَرِّ وجَدبٍ مِنَ البِلَادِ.

وتُعرَف أيضًا بالفاضِحةِ لافتِضاحِ المُنافقِينَ فيها، وهي ءاخِرُ مَغازِيهِ ﷺ، وقَد غَزَاهَا ﷺ في حَرٍّ شَدِيدٍ وجَدبٍ كَثِيرٍ، فلَم يُوَرِّ عَنهَا كعادَتِهِ في سائِرِ الغَزَواتِ، بل بَيَّنَها ﷺ للنّاسِ لِبُعدِ المَسافَةِ ونَفقَةِ المالِ وقُوَّةِ العَدُوِّ المقصودِ إليهِ، وأمرَهُم لِيَتَأَهّبُوا لغَزوَتِهِم، وَأَخبَرَهُم بالوُجهَةِ الّتِي يُرِيدُ وهيَ تجمُّعُ الرُّومِ معَ جَيشِ هِرَقلَ بالشَّامِ، وكانَ معَ النَّبِيِّ ﷺ ثلَاثُونَ ألفًا مِنَ الصّحابةِ.

واختُلِفَ فِي سَبَبِهَا، فَقِيلَ إِنَّ جمَاعَةً مِنَ الأَنبَاطِ الَّذِينَ يَقدَمُونَ بِالزَّيتِ مِنَ الشَّامِ إِلَى المَدِينَةِ ذَكَرُوا لِلمُسلِمِينَ أَنَّ الرُّومَ جَمَعُوا جُمُوعًا كَثِيرَةً بِالشَّامِ، وَجَاءَت مُقَدِّمَتُهُم إِلَى البَلقَاءِ وَلَم يَكُن لِذَلِكَ حَقِيقَةٌ، وَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ ﷺ ذَلِكَ نَدَبَ النَّاسَ إِلَى الخُرُوجِ-، وَقِيلَ: إِنَّ اليَهُودَ قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ يَا أَبَا القَاسِمِ إِن كُنتَ صَادِقًا فالحَق بِالشَّامِ فَإِنَّهَا أَرضُ الأَنبِيَاءِ، فَغَزَا تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ.

فلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنزَلَ اللهُ تَعَالَى الآياتِ مِن سُورَةِ بَنِي إِسرَائِيلَ (أي سورةِ الإسراء وهذا هو اسم آخر لها كما في البخاري): ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.

وفِيهَا حصَلَ مَا روَاهُ أحمَدُ وغيرُهُ أَنَّ رَسُولَ الله عَامَ غَزوَةِ تَبُوكَ قَامَ مِنَ اللَّيلِ يُصَلِّي فَاجتَمَعَ رِجَالٌ مِن أَصحَابِهِ يَحرُسُونَهُ حَتَّى إِذَا صَلَّى وَانصَرَفَ إِلَيهِم فَقَالَ لَهُم: “لَقَد أُعطِيتُ اللَّيلَةَ خَمسًا مَا أُعطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبلِي، أَمَّا أَنَا فَأُرسِلتُ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِم عَامَّةً، وَكَانَ مَن قَبلِي إِنَّمَا يُرسَلُ إِلَى قَومِهِ، وَنُصِرتُ عَلَى العَدُوِّ بِالرُّعبِ، وَلَو كَانَ بَينِي وَبَينَهُ مَسِيرَةُ شَهرٍ لَمُلِىءَ مِنهُ، وَأُحِلَّت لِيَ الغَنَائِمُ أَكلُهَا، وَكَانَ مَن قَبلِي يُعَظِّمُونَ أَكلَهَا، وَكَانُوا يَحرِقُونَهَا، وَجُعِلَت لِي الأَرضُ مَسَاجِدَ وَطَهُورًا، أَينَمَا أَدرَكَتنِي الصَّلاَةُ تَمَسَّحتُ وَصَلَّيت، وَكَانَ مَن قَبلِي يُعَظِّمُونَ ذلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ في بِيَعِهِم، وَالخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ؟، قِيلَ لِي: سَل، فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَد سَأَلَ، فَأَخَّرتُ مَسأَلَتِي إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُم وَلَمِن شَهِدَ أَن لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ“.

ثُمَّ إنَّ رسولَ الله ﷺ جَدَّ في سفَرِه وأمرَ النّاسَ بالجَهازِ، وحَضَّ أهلَ الغِنَى على النَّفَقةِ والحِملَانِ في سَبِيلِ اللهِ، فحَمَلَ رِجالٌ مِن أهلِ الغِنَى مُحتسِبِينَ الأجرَ، وأنفَقَ عُثمانُ رضي الله عنه في ذلكَ نفَقةً عَظِيمةً لم يُنفِق يومَها أحَدٌ مِثلَها، فتَصَدَّقَ بثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ البَعِيرِ ومَا عَلَيهَا، فقالَ رسُولُ اللهِ ﷺ: “مَا ضَرَّ عُثمَانَ مَا فَعَلَ بَعدَ اليَومِ“.

وَيُروَى فِي صَدَقَةِ عُثمَانَ فِي تَبُوكَ مَا روِيَ عَن حُذَيفَةَ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ بَعَثَ إِلَى عُثمَانَ يَستَعِينُهُ فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا، فَبَعَثَ إِلَيهِ عُثمَانُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَوَضَعَهَا بَينَ يَدَيهِ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُهَا بَينَ يَدَيهِ وَيَدعُو لَهُ: “غَفَرَ الله لَكَ يَا عُثمَانُ مَا أَسرَرتَ وَمَا أَعلَنتَ وَمَا أَخفَيتَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، مَا يُبَالِي عُثمَانُ مَا فَعَلَ بَعدَ هَذَا“، وبِسَبَبِ كثرَةِ صدَقَتِهِ كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ لَهُ، فقَد رُوِيَ عَن عَائِشَةَ قَالَت: مَا رَأَيتُ رَسُولَ الله ﷺ رَافِعًا يَدَيهِ حَتَّى يَبدُوَ ضَبعَيهِ (الضَّبع بِسُكُونِ البَاءِ: وسَطُ العَضُد. وَقِيلَ هُوَ مَا تَحت الإبطِ) إِلَّا لِعُثمَانَ بنِ عَفَّانَ إِذَا دَعَا لَهُ،

وجاء عَن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: رَأَيتُ رَسُولَ الله ﷺ مِن أَوَّلِ اللَّيلِ إِلَى أَن طَلَعَ الفَجرُ رَافِعًا يَدَيهِ يَدعُو لِعُثمَانَ بنِ عَفَّانَ يَقُولُ: “اللهم عُثمَانُ رَضِيتُ عَنهُ فَارضَ عَنهُ“.

وجاءَ البَكَّاؤُونَ السَّبعةُ مِن الصّحابَةِ يَستَحمِلُون رسُولَ اللهِ، أَي يَطلُبُونَ مِنهُ شيئًا يركَبُونَهُ لِيَذهَبُوا مَعَهُ لأَنَّهُم لَا يَجِدُونَ شَيئًا مِن شِدَّةِ فَقرِهِم، فقَالَ ﷺ: “لَا أَجِدُ مَا أَحمِلُكُم عَلَيهِ“، فتَولَّوا وأعيُنُهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَنًا ألَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ، وفِيهِم نزَلَ قوله تعالى في سُورةِ التّوبةِ.

((وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)).

وروُي أنّ جمَاعَةً مِنَ المُنَافِقِينَ خرَجُوا مَعَ رسُولِ الله ﷺ في غَزوَةِ تَبُوكَ فقَالُوا: تَحسَبُونَ قِتالَ بَنِي الأَصفَرِ كقِتالِ غَيرِهم، والله لكَأنَّا بِكُم غدًا مُقرَّنِينَ في الحِبالِ، قالُوا ذلكَ إرجَافًا بالنّبيِّ ﷺ وترهِيبًا للمُؤمِنِينَ، فقَالَ الجُلَاسُ بنُ سُوَيدٍ: لَئِن كانَ هذَا الرّجُل صادِقًا لنَحنُ شَرٌّ مِن الحَمِير، فسَمِعه عُمَيرُ بنُ سَعدٍ فقالَ له: فأَنتَ شَرٌّ مِنَ الحِمَارِ، ورَسولُ الله الصّادِقُ وأنتَ الكاذِبُ، ثُمّ رفَعَ عُمَيرٌ مقالةَ الجُلَاسِ إلَى رسُولِ اللهِ ﷺ، فأَتَى الجُلَاسُ يَحلِفُ باللهِ ويقُولُ: لقَد كذَبَ علَيَّ وما قُلتُ، فَدعَا عُمَيرٌ قائِلًا: اللهم لَا تُفَرِّق بَينَنَا حَتَّى تُبَيِّنَ ‌صِدقَ ‌الصَّادِقِ مِن كَذِبِ الكَاذِبِ، فنَزَلت: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾، الآياتِ، قالَ الحافِظُ الدّارَقُطنِيُّ: زعَمُوا أنّ الجُلَاسَ تَابَ وحَسُنَت تَوبَتُه حتَّى عُرِفَ مِنهُ الإسلامُ والخَيرُ، واللهُ أعلَمُ.

ولمَّا قَدِمَ رسُولُ اللهِ ﷺ تَبُوكَ بعَثَ دحيَةَ الكَلبِيَّ إلى هِرَقلَ، فلَمَّا أن جَاءَهُ كِتَابُ رسُولِ الله ﷺ دَعَا قِسِّيسِي الرُّومِ وبَطَارِقَتَهَا، ثم أَغلَقَ علَيهِ وعلَيهِمُ الدَّارَ، فقَالَ: قَد نَزَلَ هذَا الرَّجُلُ حيثُ رَأَيتُم، وقَد أرسَلَ إِلَيَّ يدعُونِي إِلَى ثلاثِ خِصَالٍ، يدعُونِي إلَى أَن أَتبَعَهُ على دِينِهِ، أو عَلَى أَن نُعطِيَهُ مَالَنَا عَلَى أَرضِنَا والأَرضُ أرضُنَا، أو نُلقِيَ إليهِ الحربَ، واللهِ لقَد عرَفتُم فيمَا تقرَؤُونَ مِنَ الكُتُبِ ليَأخُذَنَّ ما تحتَ قَدَمَيَّ، فهَلُمَّ فلنَتبَعهُ علَى دينِهِ أو نُعطِهِ مالَنَا على أرضِنَا، فنَخَرُوا نَخرَةَ رجُلٍ واحِدٍ حتَّى خرجُوا مِن بَرَانِسِهِم، وقالُوا: تَدعُونَا إلَى أَن نَذَرَ النَّصرَانِيَّةَ أو نَكُونَ عبِيدًا لأَعرَابِيٍّ جاءَ مِنَ الحِجَازِ؟، فلَمَّا ظنَّ أنَّهم إِن خرَجُوا مِن عندِهِ أفسَدُوا علَيهِ الرُّومَ قالَ لهم: إِنَّمَا قُلتُ ذَلِكَ لكُم لأَعلَمَ صَلَابَتَكُم عَلَى أَمرِكُم، ثُمَّ قالَ: ادعُ لِي رَجُلًا حافِظًا للحَدِيثِ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ أبعَثُهُ إلى هذَا الرَّجُلِ بجَوَابِ كتَابِهِ، فجَاءَ الرَّجُلُ فدَفَع إِلَيهِ هِرَقلُ كتَابًا، فقَالَ: اذهَب بكتَابِي إلَى هَذَا الرَّجُلِ، فمَا سَمِعتَ مِن حَدِيثِهِ فاحفَظ لِي مِنهُ ثلَاثَ خِصَالٍ، انظُر هَل يَذكُرُ صحِيفَتَهُ الَّتِي كتَبَ إِلَيَّ بشَيءٍ، وانظُر إذَا قَرَأَ كتَابِي فهَل يَذكُرُ اللَّيلَ، وانظُر فِي ظَهرِهِ هل بِهِ شَيءٌ يَرِيبُكَ، قَالَ: فانطَلَقتُ بكتَابِهِ حتَّى جئتُ تَبُوكَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ بَينَ ظَهرَانِي أَصحَابِهِ فَقُلتُ: أينَ صَاحِبُكُم؟ قِيلَ: هَا هُوَ ذَا، فأَقبَلتُ أَمشِي حَتَّى جَلَستُ بَينَ يَدَيهِ فنَاوَلتُهُ كِتَابِي، فَوَضَعتُهُ فِي حِجرِهِ، ثُمَّ قَالَ: “مِمَّن أَنتَ؟“، فَقُلتُ: أَنَا أَخُو تَنُوخَ، قَالَ: “هَل لَكَ إِلَى الإِسلَامِ الحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ أَبِيكَ إِبرَاهِيمَ؟“، قُلتُ: إِنِّي رَسُولُ قَومٍ وَعَلَى دِينِ قَومٍ، لَا أَرجِعُ عَنهُ حَتَّى أَرجِعَ إلَيهِم، فقَالَ: “﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ (أَي أَحبَبتَ لَهُ الهِدَايَةَ) ﴿وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾، يَا أَخَا تَنُوخَ، إِنِّي كَتَبتُ بِكِتَابٍ إِلَى كِسرَى فَمَزَّقَهُ، وَاللهُ مُمَزِّقُهُ وَمُمَزِّقُ مُلكَهُ، وَكَتَبتُ إِلَى صَاحِبِكَ بِصَحِيفَةٍ فَأَمسَكَهَا، فَلَن يَزَالَ النَّاسُ يَجِدُونَ مِنهُ بَأسًا مَا دَامَ فِي العَيشِ خَيرٌ“، قلتُ: هذِهِ إحدَى الثَّلَاثِ الَّتِي أَوصَانِي بِهَا صاحِبِي، فكتَبتُهَا، ثُمَّ إِنَّهُ نَاوَلَ الصَّحِيفَةَ رَجُلًا عَن يَسَارِهِ، قُلتُ: “مَن صَاحِبُ كِتَابِكُمُ الَّذِي يَقرَأُ لَكُم؟“، قالُوا: مُعَاوِيَةُ، فإِذَا فِي كتَابِ صَاحِبِي: تَدعُونِي إِلَى جَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ، فَأَينَ النَّارُ؟، فَقَالَ رسول اللهِ ﷺ: “سُبحَانَ اللهِ! أَينَ اللَّيلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ؟!“، قالَ: فَكَتَبتُهَا، وقُمتُ حَتَّى إذَا خَرَجتُ مِن طَائِفَةِ المَجلِسِ نَادَانِي رَسُولُ اللهِ فقَالَ: “تَعَالَ يَا أَخَا تَنُوخَ“، فأقبَلتُ أهوِي إِلَيهِ حَتَّى كنتُ قَائِمًا فِي مَجلِسِي الَّذِي كُنتُ بَينَ يَدَيهِ، فَحَلَّ حَبوَتَهُ عَن ظَهرِهِ، وقَالَ: “هَاهُنَا، امضِ لِمَا أُمِرتَ بِهِ“، فَجلتُ فِي ظَهرِهِ، فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي مَوِضِعِ غُضُونِ الكَتِفِ مِثلَ الحَجمَةِ وفي نسخة العجمة أي ما ينعقد من الرمل الضَّخمَةِ.

وبَعدَ أَن غَزَا النّبِيُّ ﷺ تَبُوكَ جاءَهُ جِبرِيلُ وَأَخبَرَهُ بِمَوتِ أَصحَمَةَ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشَةِ، فَأَخبَرَ أَصحَابَهُ بمَوتِهِ وقَالَ ﷺ: “مَاتَ اليَومَ رَجُلٌ صَالِحٌ، قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُم أَصحَمَةَ“، فشَهِدَ لهُ رسُولُ اللهِ ﷺ بالصَّلَاحِ، وأكرِم وأنعِم بهَا مِن شهَادَةٍ، وصَلَّى رسولُ اللهِ ﷺ عَلَيه صلاةَ الجِنازةِ غَائِبًا، واستَدَلَّ الشافِعِيَّةُ بذلِكَ علَى مَشرُوعِيَّةِ صلَاةِ الغَائِبِ عَلَى المَيِّتِ مِنَ المُسلمِينَ.

بَعدَ غَزوَةِ تَبُوكَ الفَاضِحَةِ للمُنَافِقِينَ هَدَمَ النَّبِيُّ ﷺ مَسجِدًا لَهُم كَانُوا قَدِ اتَّخَذُوهُ لِيَجتَمِعُوا فِيهِ لِنِفَاقِهِم، وَكَانُوا قَد بَرَّرُوا للنَّبِيِّ ﷺ بناءَهُ بأَنَّهُم بَعِيدُونَ عَن مَسجِدِ النَّبِيِّ وفيهِمُ الضعفَاءُ عنِ المَشيِ، فأَذِنَ لهُم رسُولُ الله ﷺ ببِنَائِهِ، وهذَا كانَ أوَّلَ الهِجرَةِ، ثمَّ بعدَ غزوَةِ تبُوكَ وافتِضَاحِهِم، أنزَلَ الله تعالَى قولَهُ: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، فَرَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ إلَى المدِينَةِ ونَفَّذَ أمرَ الله تعَالَى فِيهِ وهَدَمَهُ.

وَمِمَّا جاءَ في قِصَّتِهِ أنَّ أبَا عَامِرٍ الرَّاهِبَ، خرَجَ إِلَى قيصَرَ وتَنَصَّرَ، ووعَدَهُم قيصَرُ أنَّه سيَأتِيهِم، فبَنَوا مسجِدَ الضِّرَارِ يرصُدُونَ مجيئَهُ فيهِ، وقالَ أهلُ التَّفسِيرِ: إنَّ بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ اتَّخَذُوا مسجِدَ قُبَاءٍ وبَعَثُوا للنَّبِيِّ ﷺ أن يَأتِيَهُم فأَتَاهُم فصَلَّى فيهِ، فحَسَدَهُم بنُو غَنْمِ بنُ عوفٍ وقَالُوا: نَبنِي مسجِدًا ونَبعَثُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَأتِينَا فيُصَلِّي لَنَا كَمَا صَلَّى في مسجِدِ بني عمرٍو، ويُصَلِّي فيهِ أبُو عامِرٍ إذَا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ، فأَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، فقَالُوا: يَا رسُولَ الله، قد بَنَينَا مسجِدًا لِذِي الحاجَةِ والعِلَّةِ واللَّيلَةِ المَطِيرَةِ، ونُحِبُّ أن تُصَلِّيَ لنَا فِيهِ وَتَدعُوَ بِالبَرَكَةِ، فقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “إِنِّي عَلَى سَفَرٍ، فَلَو قَدِمنَا لَأَتَينَاكُم وَصَلَّينَا لَكُم فِيهِ“، فلَمَّا انصَرَفَ النَّبِيُّ ﷺ مِن تَبُوكَ أَتَوهُ وَقَد فَرَغُوا مِنهُ وَصَلَّوا فِيهِ الجُمُعَةَ وَالسَّبتَ والأَحدَ، فدَعَا النَّبِيُّ ﷺ بقَمِيصِهِ ليَلبَسَهُ ويَأتِيَهُم، فنَزَلَ علَيهِ القُرآنُ بخَبَرِ مسجِدِ الضِّرَارِ، فدَعَا النبيُّ ﷺ مَالِكَ بنَ الدَّخشَمِ ومَعنَ بنَ عَدِيٍّ وعَامِرَ بنَ السَّكَنِ ووَحشِيًّا قاتِلَ حمزَةَ، وكانَ قَد أسلَمَ، فقَالَ ﷺ: “انطَلِقُوا إِلَى هَذَا المَسجِدِ الظَّالِمِ أَهلُهُ فَاهدِمُوهُ وَأَحرِقُوهُ“، فَخَرَجُوا مُسرِعِينَ، وأَخرَجَ مَالِكُ بنُ الدَّخشَمِ مِن مَنزِلِهِ شُعلَةَ نَارٍ، وَنَهَضُوا فَأَحرَقُوا المَسجِدَ وَهَدَمُوهُ.

وَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَجُلًا مِمَّن بنَى مَسجِدَ الضِّرَارِ بِمَاذَا أَعَنتَ فِي هَذَا المَسجِدِ؟ فَقَالَ: أَعَنتُ فِيهِ بِسَارِيَةٍ، فقال: أَبشِر بِهَا! سَارِيَةٌ فِي عُنُقِكَ مِن نَارِ جَهَنَّمَ، وقولُهُ تعالَى: ﴿وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يعنِي فيهِ أبَا عَامِرٍ الرَّاهِبَ فإِنَّهُ كانَ قَالَ للنَّبِيِّ ﷺ: لَا أَجِدُ قَومًا يُقَاتِلُونَكَ إِلَّا قَاتَلتُكَ مَعَهُم، فَلَم يَزَل يُقَاتِلُهُ إِلَى يَومِ حُنَينٍ، فَلَمَّا انهزَمَت هوَازِنُ خَرَجَ إِلَّى الرُّومِ يَستَنصِرُ، وَأَرسَلَ إِلَى المُنَافِقِينَ وَقَالَ: استَعِدُّوا بِمَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وسِلَاحٍ، وابنُوا مسجِدًا فإِنِّي ذاهِبٌ إِلَى قَيصَرَ لِأُخرِجَ مُحَمَّدًا مِنَ المَدِينَةِ، فَبَنُوا مَسجِدَ الضِّرَارِ، وَأَبُو عَامِرٍ هذَا هُوَ وَالِدُ حَنظَلَةَ غَسِيلِ المَلَائِكَةِ.

وقَد رُوِيَ أنَّ رسُولَ الله ﷺ لَمَّا نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ كَانَ لَا يَمُرُّ بِالطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا المَسجِدُ، وَأَمَرَ بِمَوضِعِهِ أَن يُتَّخَذَ كُنَاسَةً تُلقَى فِيهَا الجِيَفُ وَالأَقذَارُ وَالقُمَامَاتُ.

خاتمة
أحبابي: إِنَّ شَهرَ رَمَضَانَ قَدِ انصَرَمَ ، وَتَشَتَّتَ نِظَامُهُ بَعدَ أَن كَانَ اتَّسَقَ، فَكَأَنَّكُم بِهِ قَد رَحَلَ وَانطَلَقَ، يَشهَدُ لِمَن أَطَاعَ وَعَلَى مَن فَسَقَ، فَأَينَ الحُزنُ لِفِرَاقِهِ وَأَينَ القَلَقُ.

مَا أَشرَفَ زَمَانَهُ بَينَ صَومٍ وَسَهَرٍ، وَمَا أَصفَى أَحوَالَهُ مِن ءَافَاتِ الكَدَرِ، وَمَا أَطيَبَ المُنَاجَاةَ فِيهِ بَينَ وَسَطِ اللَّيلِ وَالسَّحَرِ، وَمَا أَرَقَّ القُلُوبَ عِندَ اشتِغَالِهَا بِالآيَاتِ وَالسُّوَرِ، وَمَا أَضوَأَ لَآلِئَهُ فِي لَيَالِيهِ جَوفِ الغَسَقِ.

فَيَا لَيتَ شِعرِي مَنِ الَّذِي قَامَ بِوَاجِبَاتِهِ وَسُنَنِهِ، وَمَنِ الَّذِي اجتَهَدَ فِي عِمَارَةِ زَمَنِهِ، وَمَنِ الَّذِي أَخلَصَ فِي سِرِّهِ وَعَلَنِهِ، وَمَنِ الَّذِي قَرَعَ فِيهِ بَابَ التَّوبَةِ وَطَرَقَ.

فَيَا أَيُّهَا المَقبُولُ هَنِيئًا لَكَ بِثَوَابِهِ تَثوِي بِهِ، وَبُشرَاكَ إِذ أَمَّنَكَ الرَّبُّ مِن عِقَابِهِ، وَطُوبَى لَكَ حَيثُ استَخلَصَكَ لِبَابِهِ، وَفَخرًا لَكَ حَيثُ شَغَلَكَ بِكِتَابِهِ، فَاجتَهَد فِي بَقِيَّةِ شَهرِكَ هَذَا قَبلَ ذَهَابِهِ، فَرُبَّ مُؤَمِّلٍ لِقَاءَ مِثلِهِ مَا قُدِّرَ لَه وَلَا اتَّفَق.

وَيَا أَيُّهَا المَطرُودُ في شَهرِ السَّعَادَة، خَيبَةً لَكَ إِذَا سَبَقَكَ السَّادَةُ، وَنَجَا المُجتَهِدُونَ وَأَنتَ أَسِيرُ الشَّهَوَاتِ والوِسَادَةِ، وَانسَلَخَ هَذَا الشَّهرُ عَنكَ وَمَا انسَلَختَ عَن قَبِيحِ العَادَةِ، فَأَينَ تلَهُّفُكَ عَلَى الفَوَاتِ وَأَينَ الحُرَقُ.

فَيَا إِخوَانِي، قَد دَنَا رَحِيلُ هَذَا الشَّهرِ وَحَانَ، فَرُبَّ مُؤَمِّلٍ لِقَاءَ مِثلِه خَانَهُ الإِمكَانُ، فَوَدِّعُوهُ بِالأَسَفِ وَالأَحزَانِ، وَاندُبُوا عَلَيهِ بِأَلسُنِ الأَسَى وَالأَشجَانِ، السَّلَامُ عَلَيكَ یَا شَهرَ رَمَضَانَ، سَلَامَ مُحَبٍّ أَودَى بِهِ القَلَقُ.

السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ ضِيَاءِ المَسَاجِدِ، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ الذِّكرِ وَالمَحَامِدِ، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ زَرعِ الحَاصِدِ، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ المُتَعَبِّدِ الزَّاهِدِ، السَّلَامُ عَلَيكَ مِن قَلبٍ لِفِرَاقِكَ فَاقِدٌ، السَّلَامُ عَلَيكَ مِن عَينٍ لِفِرَاقِكَ فِي أَرَقٍ.

السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ المَصَابِيحِ، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ التَّرَاوِيحِ، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ المَتجَرِ الرَّبِيحِ، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ الغُفرَانِ الصَّرِيحِ، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ التَبَرِّي مِن كُلِّ فِعلٍ قَبِيحٍ، وَيَا أَسَفًا عَلَى مَا اجتَمَعَ فِيكَ مِنَ الخَيرَاتِ وَاتَّسَقَ.

فَيَا لَيتَ شِعرِي هَل تَعُودُ أيَّامُكَ عَلَينَا أَم لَا تَعُودُ، وَيَا لَيتَنَا عَلِمنَا مَنِ المَقبُولُ مِنَّا وَمَنِ المَطرُودُ، وَيَا لَيتَنَا تَحقَّقنَا مَا تَشهَدُ بِهِ عَلَينَا يَومَ الوُرُودِ، وَيَا أَسَفًا لِتَصَرُّمِكَ يَا شَهرَ السُّعُودِ، وَيَا حُزنَنَا عَلَى صَفَاءِ القُلُوبِ وَإِخلَاصِ السُّجُودِ، السَّلَامُ عَلَيكَ مِن مُوَدِّعٍ بِتَودِيعِكَ نَطَقَ.

فَرَحِمَ اللهُ امرَأً بَادَرَ خَلَاصَهُ فِي بَاقِي سَاعَاتِهِ، وَالتَفَتَ إِلَى وَقتِهِ وَاجتَهَدَ فِي مُرَاعَاتِهِ، وَاستَعَدَّ لِسَفَرِه بِإِخلَاصِ طَاعَاتِهِ، وَاعتَذَرَ فِي بَقِيَّةِ شَهرِهِ مِن سَالِفِ إِضَاعَاتِهِ، وَاعتَبَرَ بِمَن أَمَّلَ أَن يَرَى مِثلَ شَهرِهِ هَذَا قَبلَ وَفَاتِهِ، فَتَضَرَّمَت نَارُ أَجَلِهِ فِي عُودِ أَمَلِهِ فَاحتَرَقَ.

أَينَ مَن كَانَ مَعَكُم فِي العَامِ المَاضِي، أَمَا قَصَدَتهُ سِهَامُ المَنُونِ القَوَاضِي، فَخَلَا فِي لَحدِهِ بِأَعمَالِهِ المَوَاضِي، وَكَانَ زَادُهُ مِن جَمِيعِ مَالِهِ الحَنُوطَ وَالخِرَقَ.

رَحَلَ وَاللهِ عَن أَوطَانِهِ وَظَعَنَ، وَأُزعِجَ عَن أَهلِهِ وَالوَطَنِ، وَبَقِيَ فِي لَحدِهِ أَسِيرَ الحَزَنِ، وَمَا نَفَعَهُ مَا جَمَعَ وَمَا خَزَنَ، وَتَمَنَّى أَن يُعَادَ لِيَزدَادَ مِنَ الزَّادِ وَلَن، وَلَقَد هَتَفَ بِه هَاتِفُ الإِنذَارِ فَمَا فَطِنَ، وَأَصَمَّهُ الهَوَى عَن نَاصِحٍ قَد نَطَقَ.

فَتَيَقَّظ أَيُّهَا الغَافِلُ وَانظُر بَينَ يَدَيكَ، وَاحذَر أَن يَشهَدَ شَهرُ رَمَضَانَ بِالمَعَاصِي عَلَيكَ، وَتَزَوَّد لِرَحِيلِكَ وَانصُبِ الأُخرَى بَينَ عَينَيكَ، وَاستَعِدَّ لِلمَنَايَا قَبلَ أَن تَمُدَّ أَيدِيَهَا إِلَيكَ، قَبلَ أَن يُوثَقَ الأَسِيرُ وَيَشتَدَّ الزَّفِيرُ وَيَجرِيَ العَرَقُ.

من فهم هذه المعاني التي أكدتها، ومن عرف كل هذه الفضائل فإنه يسعى للخيرات، وللمبرات وإنك لن تجد أعظم من علم الدين تشغل وقتك به، وإن جمعيتنا ولله الحمد قائمة على حراسة هذا العلم علمِ أهل السنة والجماعة وعلى حراسة هذا الدين دين محمد ﷺ، فإياكم أن تقصروا في حضور مجالس العلم إلى آخر ليلة من رمضان، وإلى ما بعد رمضان، من لم يكن فتح في بيته مجلس علم فليبادر فورا ليتعلم ويعلم أهله وأولاده وأصحابه الطهارة والصلاة والعبادات العديدة وأولها تعلمًا علم التوحيد والعقيدة، اقتداء بحبيب القلوب محمد ﷺ

دعاء
اللهم صَلِّ وَسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَاجبُر كَسرَنَا عَلَى فِرَاقِ شَهرِنَا هَذَا بِغُفرَانِكَ، وَجُد عَلَينَا بِأَوفَى الحُظُوظِ مِن رِضوَانِكَ، وَارزُقنَا مِن خَشيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَينَنَا وَبَينَ عِصيَانِكَ، وَاجعَل لَنَا نَصِيبًا مِن جُودِكَ وَامتِنَانِكَ، وَلَا تَقطَعنَا مَا عَوَّدتَنَا مِن جَزِيلِ إِحسَانِكَ.

اللهم صَلِّ وَسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَوَفِّقنَا اللهم لِلصَّالِحَاتِ قَبلَ المَمَاتِ، وَأَرشِدنَا إِلَى استِدرَاكِ الهَفَوَاتِ قَبلَ الفَوَاتِ، وَأَلهِمنَا أَخذَ العُدَّةِ لِلوَفَاةِ قَبلَ المُوَافَاةِ، وَنَجِّنَا يَومَ العُبُورِ عَلَى الصِّرَاطِ حِينَ تَنسَكِبُ العَبَرَاتُ، وَارحَمنَا إِذَا رَحَلنَا عَن أَهلِ الحَياةِ إِلَى أَهلِ المَمَاتِ، وَنَازَلَتنَا فِي أَلحَادِنَا طوَارِقُ المُلِمَّاتِ، وَاعتَوَرَتنَا عَجَائِبُ الصِّفَاتِ فِي الكِفَاتِ، وَأَجزِل لَنَا جَزِيلَ الصِّلَاتِ عَلَى مَرفُوعِ الصَّلَوَاتِ، وَأَثِبنَا بِقَبُولِ صَومِنَا عَنِ اللَّذَّاتِ، وَلَا تَخذُلنَا يَومَ انتِقَاصِ الذَّوَاتِ، إِذَا نَادَى بَينَ الأَعضَاءِ مُنادِي الشَّتَاتِ، وَاستَجِب مِنَّا صَالِحَ الدَّعَوَاتِ، وَامحُ عَنَّا خَطَأَ الخَطَوَاتِ إِلَى الخَطِيئَاتِ، وَهَب لَنَا فِي الدُّنيَا لَذَّةَ المُنَاجَاةِ، وَفِي الآخِرَةِ سُرُورَ النَّجَاةِ، وَبَلِّغنَا مَا لَم تَبلُغهُ آمَالُنَا مِنَ الخَيرَاتِ، إِذَا نَادَى المُنَادِي فِي الفَرِيقَينِ فقَطَعَ طَمَعَ أَهلِ الزَّلَّاتِ، ﴿أَم حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.

اللهم اجعَل مُعتَمَدَنَا عَلَيكَ، وَحَوَائِجَنَا إِلَيكَ، وَتَضَرُّعَنَا لَدَيكَ، وَشَكوَانَا إِلَيكَ.

اللهم طَهِّر قُلُوبَنَا مِنَ الأَدنَاسِ، وَأَعِذنَا مِن شَرِّ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وَأَلهِمنَا عِمَارَةَ الأَرمَاسِ (وهو الترابُ الذي يُحثَى على القبرِ)، وَارحَمنَا إذَا أَذَقتَنَا مَرَارَةَ الكَاسِ.

اللهم أَصلِحنَا وَادفَع عَنَّا شَيَاطِينَنَا، وَاغفِر بِرَحمَتِك ذُنُوبَنَا، ونَوِّر بِفَضلِكَ قُلُوبَنَا، وَاصرِف عَنَّا شِرَارَنَا، وَاقضِ بفَضلِكَ دُيُونَنَا، وَاجمَع عَلَى الهُدَى شُؤُونَنَا، وَارحَم أَموَاتَنَا، وَوَسِّع أَرزَاقَنَا، وَطَهِّر أَخلَاقَنَا.

اللهم لَا تَدَع لَنَا ذَنبًا إِلَّا غَفَرتَهُ، وَلَا دَينًا إِلَّا قَضَيتَه، وَلَا مَيِّتًا مِنَ المُسلِمِينَ إِلَّا رَحِمتَهُ، وَلَا هَمًّا إلَّا فَرَّجتَهُ، وَلَا بَلَاءً إِلَّا كَشَفتَهُ، وَلَا عَيبًا إِلَّا سَتَرتَهُ، وَلَا سَائِلًا إِلَّا أَعطَيتَهُ، وَلَا طَالِبًا لِلخَيرِ إِلَّا أَفَدتَهُ، وَلَا عَالِمًا إِلَّا عَصَمتَهُ، وَلَا حَاسِدًا إِلَّا دَحَرتَهُ، وَلَا غَائِبًا إِلَّا رَدَدتَهُ، وَلَا مَرِيضًا إِلَّا شَفَيتَهُ، وَلَا مُحتَاجًا إِلَّا كَفَيتَهُ، وَلَا دَاعِيًا إِلَّا أَجَبتَهُ، وَلَا جَاهِلًا إلَّا هَدَيتَهُ، وَلَا عَدُوًّا إِلَّا حَصَرتَهُ، وَلَا طَرِيقًا إِلَّا أَمَّنتَهُ، وَلَا مُجتَهِدًا فِي الخَيرِ إلَّا أَعَنتَهُ، وَلَا ظَالِمًا إِلَّا رَدَّيتَهُ، وَلَا عَاصِيًا إِلَّا أَصلَحتَهُ، وَلَا طَائِعًا إِلَّا ثَبَّتَهُ، وَلَا غَافِلًا إِلَّا نَبَّهتَهُ.

اللهم وَاخصُص بِبَرَكَةِ دُعَائِنَا الوَالِدِينَ وَالمَولُودِينَ، وَالحَاضِرِينَ وَالغَائِبِينَ، وَمَا سَأَلنَاكَ مِن خَيرٍ فَأَعطِنَا، وَمَا قَصُرَت عَنهُ أَعمَالُنَا وَآمَالُنَا مِنَ الخَيرَاتِ فَبَلِّغنَا بِرَحمَتِكَ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللهم فرج عن إخواننا في فلسطين وأمدهم بمدد من عندك وأفرغ عليهم صبرا واكسُ عاريهم وأطعم جائعهم، يا رب في هذه الليلة المباركة نسألك أن تفرج عن إخواننا في رفح وفلسطين، وفرج عنهم وعليك بعدوهم عدو الدين، اللهم أرنا الأقصى محررا وارزقنا فيه صلاة فاتحين.

﴿سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرسَلِينَ * وَالحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …