المقدمة
الحَمدُ للهِ الَّذِي شَرَعَ الشَّرَائِعَ رَحمَةً وَحِكْمَةً طَرِيقًا وَسَنَنًا، وَأَمَرَنَا بِطَاعَتِهِ لَا لِحَاجَتِهِ بل لَنَا، يَغفِرُ الذُّنُوبَ لَكِلِّ مَنْ تَابَ إِلَى رَبِّهِ وَمِن طَاعَتِهِ دَنَا، وَيُجزِلُ العَطَايَا لِمَنْ كَانَ مُحسِنًا، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، أَحْمَدُهُ عَلَى فَضَائِلِهِ سِرًّا وَعَلَنًا، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً أَرْجُو بِهَا الفَوزَ بِدَارِ النَّعِيمِ وَالهَنَا، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ الَّذِي جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا وَهَنَا، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ الْقَائِمِ بِالعِبَادَةِ رَاضِيًا بِالعَنَا، وَعَلَى عُمَرَ المُجِدِّ فِي ظُهُورِ الإِسلَامِ فَمَا ضَعُفَ وَلَا وَنَى، وَعَلَى عُثمَانَ الَّذِي رَضِيَ بَالْقَدَرِ وَقَد حَلَّ الفَنَا، وَعَلَى عَلِيٍّ الْقَرِيبِ فِي النَّسَبِ وَقَد نَالَ المُنَى، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ الكِرَامِ الأُمَنَا، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعدُ:
كنَّا فِي سِياقِ شرحِنَا لألفِيَّةِ السيرَةِ النبويَّةِ للحافِظِ العراقِيِّ تكلمنا عن إسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما: وهنا لنا عبرة عظيمة وهي أن عمر بن الخطاب وهو أفضل هذه الأمة بعد نبيها ﷺ وبعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أسلم بعد سبع سنين من دعوة رسول الله، عمر الذي يفر منه الشيطان عمر الفاروق عمر الذي أزال دولة كسرى وقيصر ودوَّخَ ملوك الأرض وأذلَّ الأكاسرة والقياصرة، أسلم بعد سبع سنين من دعوة رسول الله، سبع سنين وهو يسمع رسول الله يدعو الناس إلى الإسلام، سبع سنين وهو يرى المعجزات، سبع سنين وهو يعادي رسول الله ودعوته وبعد ذلك صار الفاروقَ عمر بن الخطاب، نصر الله به دينه وأعز به المسلمين، وحمزة كذلك قبله بثلاثة أيام، هؤلاء الاثنان نصروا دين الله، حمزة أسد الله وأسد رسوله، وعمر بن الخطاب، آمنوا بعد سبع سنين، هذا فيه عبرة أن المهدي من هداه الله وأن العبرة بما عند الله وأن العبرة بمن صدق وليس بمن سبق، عمر أسلم بعد خديجة وبعد علي وبعد سعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم أربعين رجلا وامرأة ولكنه كان أفضلهم إلا أبا بكر فهو أفضل منه رضي الله عن الجميع).
ذِكرُ تأيِيدِهِ ﷺ بمُعجِزَةِ القُرءَانِ
وَأُسْـمِـعُوا التَّوبِيخَ وَالتَّـقْـرِيعَا *** لَـدَى الْمَـلَا مُفْـتَـرِقًا مَجْمُوعَـا
(وَأُسْمِعُوا التَّوبِيخَ وَالتَّقْرِيعَا): أي أَسْمَعَ اللهُ تعالى المُشرِكِينَ التَّوبِيخَ الباِلغَ وَالتَّقْرِيعَ الشَّدِيدَ في القرءَانِ الكريمِ، (لَدَى الْمَلَا مُفْتَرِقًا مَجْمُوعَا): أي وقد حَصلَ لهُم ذلِكَ أمَامَ الجَمِعِ الغَفِيرِ مِنَ النّاسِ، حالَ افتِراقِهِم وحالَ اجتِماعِهِم في الْمَحافِلِ كذلِكَ، أي سَمِعُوا التَّقرِيعَ والتوبِيخَ في كُلِّ حالٍ من أحوالِهِم. فَلَمْ يَنْطِقْ مِنْهُمْ فَصِيحٌ واحدٌ بِكَلِمةٍ واحِدةٍ مُعَارِضًا بِهَا للقُرءانِ، ولَم يَكُن فِيهِم أحَدٌ قادِرٌ على أنْ يأتِيَ بمِثلِهِ.
وهذا الذِي حصَلَ لهُم إذَا تَفَكَّرَ فيهِ الشخصُ يجِدُ أنَّهُ ضعفٌ شدِيدٌ شَدِيدٌ، حيثُ إِنَّهُم عجَزُوا بِشَيءٍ هُم أكثَرُ الناسِ بَرَاعَةً فيهِ، وأُلجِمُوا وَهُم أسيَادُ قومِهِم، بل وكانُوا أسيَادَ العرَبِ، يهَابُهُم العرَبُ جمِيعًا، وكانَ الذِي أعجَزَهُم أيضًا رجُلٌ ترَبَّى يتِيمًا فِي حُضنِ عمِّهِ وجدِّهِ، فتخَيَّل أنْ يُعجِزَ السَّيِّدَ والحَاكِمَ فِي البَلَدِ شخصٌ تربَّى يتِيمًا لا مَالَ عندَهُ ولا مَنصِبَ، أيُّ شُعُورٍ بالضَّعفِ والعَجزِ سَيَلحَقُ هذَا السَّيِّدَ أَوِ الحَاكِمَ، لذَلِكَ تكَبَّرَ كثِيرٌ منهُم وعَانَدَ وَلَم يَرضَ أَن يَدخُلَ فِي دِينِ الإِسلَامِ ويَتبَعَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا ﷺ، ولذَلِكَ لَجَأُوا إِلَى استِعمَالِ القُوَّةِ والقِتَالِ والإِرهَابِ وَالتَّخوِيفِ للضُّعَفَاءِ، فَكَانَ مِن أَمرِ إِيذَائِهِم مَا كَانَ.
ومِمَّا يُذكَرُ فِي هَذَا، أَنَّ أَبا سفيانَ بنَ حَربٍ، وأَبَا جَهلٍ، والأَخنَسَ بنَ شُرَيقٍ، خَرَجُوا لَيلَةً لِيَستَمِعُوا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهُوَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ فِي بَيتِهِ، فأخَذَ كُلُّ رَجُلٍ منهُم مَجلِسًا يَسمَعُهُ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعلَمُ بمَكَانِ صَاحِبِهِ، فبَاتُوا يَستَمِعُونَ لَهُ، حتَّى إذَا طَلَعَ الفجَرُ تفرَّقُوا، فجمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فتَلَاوَمُوا وقَالَ بعضُهُم لبعضٍ: لَا تَعُودُوا، فَلَو رآكُم بَعضُ سفَهَائِكُم لأَوقَعتُم فِي قَلبِهِ شَيئًا، ثُمَّ انصَرَفُوا، حَتَّى إذَا كَانَتِ اللَّيلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم إِلَى مَجلِسِهِ، فبَاتُوا يَستَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الفَجرُ تَفَرَّقُوا، فجمَعَهُمُ الطريقُ، فقالَ بعضُهُم لبعضٍ مِثلَ مَا قَالُوا أَوَلَّ مَرَّةٍ، ثُمَّ انصَرَفُوا، حَتَّى إذَا كَانَتِ اللَّيلَةُ الثَّالِثَةُ، أخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ منهُم مجلِسَهُ، فبَاتُوا يستَمِعُونَ لهُ، حتَّى إذَا طلعَ الفجرُ تفرَّقُوا، فجمَعَهُمُ الطريقُ، فقالَ بعضُهُم لبعضٍ: لا نَبرَحُ حتَّى نتعَاهَدَ أن لَا نَعُودَ، فتَعَاهَدُوا علَى ذلكَ ثُمَّ تفَرَّقُوا، فلمَّا أصبَحَ الأَخنَسُ بنُ شُرَيقٍ، أخذَ عصَاهُ ثمَّ خرجَ حتَّى أتَى أبَا سُفيانَ في بيتِهِ، فقالَ: أخبِرنِي يا أبَا حَنظَلَةَ عَن رَأيِكَ فِيمَا سَمِعتَ مِن مُحَمَّدٍ، قالَ: فمَا تَقُولُ أنتَ؟ قالَ: أرَاهُ الحَقَّ، قالَ أبو سفيانَ: وَاللَّهِ يا أبَا ثَعلَبَةَ، لقَد سَمِعتُ أشيَاءَ أعرِفُهَا وأَعرِفُ ما يُرَادُ بِهَا، وسَمِعتُ أشيَاءَ مَا عرَفتُ معنَاهَا ولَا مَا يُرَادُ بهَا، قالَ الأخنَسُ: وَأَنَا واللَّهِ كذَلِكَ، ثُمَّ خرَجَ مِن عندِهِ حتَّى أتَى أبَا جَهلٍ، فدَخَلَ علَيهِ بيتَهُ فقالَ: يا أبَا الحَكَمِ، ما رَأيُكَ فيمَا سَمِعتَ مِن مُحَمَّدٍ؟، قالَ: مَا سَمِعتُ؟، تَنَازَعنَا وبَنُو عبدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، فَأَطعَمُوا فَأَطعَمنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلنَا، وَأَعطَوا فَأَعطَينَا، حَتَّى إذَا تَجَاثَينَا عَلَى الرُّكَبِ وكُنَّا كَفَرَسَي رِهَانٍ قالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأتِيهُ الوحيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدرِكُ مِثلَ هذِهِ؟!، واللهِ لَا نُؤمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أنَّهُ قالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَكِنِّي لَأُكَذِّبَنَّهُ وَلَأُنَاصِبَنَّهُ العَدَاءَ.
ذِكر مَشيِ قُرَيشٍ في أَمرِه ﷺ إِلَى أبِي طالِبٍ
ثُمَّ مَشَتْ قُرَيْـشٌ الأَعْدَاءُ *** إِلَى أَبِي طَالِبٍ انْ يُسَاؤُوا
وَسَبِّ دِينِهِمْ وَذِكْرِ عَيْبِهِمْ *** وَسَبِّ دِينِهِمْ وَذِكْرِ عَيْبِهِمْ
فِـي مَـرَّةٍ وَمَـرَّةٍ وَمَـرَّةْ *** وَهْـوَ يَـذُبُّ وَيُـقَـوِّيْ أَمْـرَهْ
فِي ءَاخِرِ الْمَرَّاتِ قَالُوا أَعْطِنَا *** مُحَمَّدًا وَخُذْ عُمَارَةَ ابْنَنَا
بَدَلَهُ قَالَ أَرَدتُّم أَكْفُلُ *** إِبْنَكُمُ وَأُسْلِمُ ابْنِيْ يُقْتَلُ
لَمَّا وَاجَهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَومَهُ بالإسلامِ وَصَدَعَ بهِ كمَا أمرَهُ اللَّهُ، ناكَرُوهُ وأجمَعُوا لِخِلَافِهِ وعدَاوَتِهِ، إلَّا مَن عصَمَ اللَّهُ تعالَى منهُم بالإِسلَامِ وهُم قليلٌ مُستَخفُون، وحدَبَ (أي عطَفَ) على رسولِ اللَّهِ ﷺ أبُو طالِبٍ، وحمَاهُ وقامَ دونَهُ، ومضَى رسولُ اللَّهِ ﷺ علَى أمرِ اللَّهِ مظهَرًا لأمرِهِ لا يَرُدُّهُ عنهُ شيءٌ.
(ثُمَّ مَشَتْ قُرَيْشٌ الأَعْدَاءُ، إِلَى أَبِي طَالِبٍ انْ يُسَاؤُوا): أي فلَمَّا رأَت قُرَيشٌ أنَّ عمَّهُ أبَا طَالِبٍ قَد حدَبَ عليهِ وقامَ دونَهُ ولَم يسلِمهُ لَهُم، مَشَى رِجَالٌ مِن أشرَافِهِم، وهُم الأَعْدَاءُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، سائِرِينَ إِلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، اعتِراضًا على أنّهُ ينالُهمُ السُّوءُ مِنِ ابنِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، (وَسَبِّ دِينِهِمْ وَذِكْرِ عَيْبِهِمْ): أي فشَكَوهُ إليهِ فِي سَبِّهِ لهمْ وَلدِينِهِم وَذِكْرِه لعَيْبِهِم، فقالُوا: يا أبَا طالِبٍ، إنَّ ابنَ أخِيكَ قد سَبَّ ءالِهتَنا، وعابَ دِينَنا، وسَفَّهَ أحلَامَنا، وضَلَّلَ ءاباءَنا، فإِمَّا أنْ تَكُفَّه عَنّا، وإمَّا أنْ تُخَلِّيَ بَينَنا وبَينَه، فإِنَّك علَى مِثلِ ما نَحنُ علَيهِ مِن خِلافِه، فقالَ لهم أبُو طالِبٍ قولًا رفِيقًا، وردَّهُم ردًّا جمِيلًا، فانصَرَفُوا عنهُ، ومضَى رسولُ اللَّهِ ﷺ علَى ما هو علَيهِ يُظهِرُ دينَ اللَّهِ ويَدعُو إلَيهِ، ثمَّ شَرِيَ الأمرُ بينهُ وبينَهُم (أي كَثُرَ وتزايَدَ)، حتَّى تباعَدَ الرجَالُ وتضاغَنُوا، وأكثَرَت قريشٌ مِن ذِكرِ رسُولِ اللَّهِ ﷺ بينَهَا، فتذامَرُوا فيهِ، وحضَّ بعضُهُم بعضًا علَى حربِهِ وعدَاوَتِهِ.
(فِي مَرَّةٍ وَمَرَّةٍ وَمَرَّةْ، وَهْوَ يَذُبُّ وَيُقوِّيْ أَمْرَهْ): أي وتَكَرَّرتْ شَكْوَى المشرِكِينَ عِندَ أبِي طالِبٍ فِي شَأْنِ محمَّدٍ ﷺ، فِي مَرَّةٍ أُولَى، وَمَرَّةٍ ثانِيةٍ، وَمَرَّةٍ ثَالثةٍ، وأبُو طالِبٍ يَرُدُّهم في كلِّ مرّةٍ ردًّا جَمِيلًا، ويَقُولُ لهم قَوْلًا رَفِيقًا، وَيَذِبُّ ويدافِعُ عَنِ النبيِّ ﷺ، وَيُقَوِّيْ أَمْرَه ويَشُدُّ أَزْرَه ويَعْضُدُه ويُسَدِّدُه.
لكِنَّهُم تَنَكَّرُوا فِي ءَاخِرِ الْمَرَّاتِ، وحَضَّ بعضُهُم بَعضًا على عَداوَةِ أبِي طالِبٍ، فَمَشَوا إليهِ وقَالُوا: إنَّ لكَ سِنًّا وشَرَفًا فِينَا، وإِنّا اسْتَنْهَيْناكَ مِن ابنِ أَخِيكَ فلَمْ تَنْهَه، وإِنّا لا نَصْبِرُ علَى شَتْمِ ءابائِنَا وتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا وعَيْبِ ءَالِهَتِنَا، فإِمّا أن تَكُفَّه، أو نُنَازِلَه وإِيّاك حتى يَهْلِكَ أَحَدُ الفَرِيقَينِ، ثم انصَرَفُوا عنهُ، فعَظُمَ علَى أبِي طَالِبٍ عَدَاوَةُ قَوْمِه وفِرَاقُهُم ومُحارَبَتُهُم، ولَم تَطِبْ نَفْسُهُ بتَسْلِيمِ النبيِّ ﷺ إلَيهِم، فَقَالَ أبُو طالِبٍ: يَا عَقِيلُ، انْطَلِقْ فَأْتِنِي بِمُحَمَّدٍ، فَانْطَلَق إِلَيْهِ فَجَاءَ بِهِ فِي الظَّهِيرَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ قَدْ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ، فَحَلَّقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: “أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟“، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: “فَمَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً“، (معنَاهُ: كمَا أنَّكُم لَا تقدِرُونَ أن تستَشعِلُوا مِنَ الشَّمسِ شُعلَةً أنَا لَن أدَعَ هذَا الأَمرَ)، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللهِ مَا كَذَّبْتُ ابْنَ أَخِي قَطُّ، فَارْجِعُوا.
وفي روَايَةٍ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جاءُونِي فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ أَنَا وَلَا أَنْتَ، فَاكْفُفْ عَنْ قَوْمِكِ مَا يَكْرَهُوَنَ مِنْ قَوْلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “يَا عَمِّ لَوْ وُضِعَتِ الشَّمْسُ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرُ فِي يَسَارِي، مَا تَرَكْتُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ تَعَالَى، أَوْ أَهْلِكَ فِي طَلَبِهِ“، ثم بكى.
قال السهيلي في شرحه للسيرة: خَصّ الشّمْسَ بِالْيَمِينِ لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمُبْصِرَةُ وَخَصّ الْقَمَرَ بِالشّمَالِ لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمَمْحُوّةُ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رحمه الله لِرَجُلِ قَالَ لَهُ إنّي رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنّ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ يَقْتَتِلَانِ وَمَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُجُومٌ فَقَالَ عُمَرُ مَعَ أَيّهِمَا كُنْت؟ فَقَالَ مَعَ الْقَمَرِ قَالَ كُنْت مَعَ الْآيَةِ الْمَمْحُوّةِ اذْهَبْ فَلَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا، وَكَانَ عَامِلًا لَهُ فَعَزَلَهُ فَقُتِلَ الرّجُلُ فِي صِفّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَاسْمُهُ حَابِسُ بْنُ سَعْدٍ.
وَخَصّ رَسُولُ اللهِ ﷺ النّيّرَيْنِ حِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا; لِأَنّ نُورَهُمَا مَحْسُوسٌ وَالنّورُ الّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ – وَهُوَ الّذِي أَرَادُوهُ عَلَى تَرْكِهِ – هُوَ لَا مَحَالَةَ أَشْرَفُ مِنْ هذاالنّورِ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلّا أَنْ يُتِمّ نُورَهُ} [التّوْبَةِ: 33]. فَاقْتَضَتْ بَلَاغَةُ النّبُوّةِ – لِمَا أَرَادُوهُ عَلَى تَرْكِ النّورِ الْأَعْلَى – أَنْ يُقَابِلَهُ بِالنّورِ الْأَدْنَى، وَأَنْ يَخُصّ أَعْلَى النّيّرَيْنِ وَهِيَ الْآيَةُ الْمُبْصِرَةُ بِأَشْرَفِ الْيَدَيْنِ وَهِيَ الْيُمْنَى بَلَاغَةٌ لَا مِثْلُهَا، وَحِكْمَةٌ لَا يَجْهَلُ اللّبِيبُ فَضْلَهَا.
فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ أبُو طالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي، امْضِ عَلَى أَمْرِكَ، وَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَلا أُسْلِمُكَ أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ:
وَاللهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ *** حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَامْضِ لِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ *** أَبْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيونَا
وَدَعَوتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِي *** فَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قَبْلُ أَمِينَا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ *** مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارِي سُبَّةً *** لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
وَفِي كُلِّ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَصَمَهُ بِعَمِّهِ مَعَ خِلَافِهِ إِيَّاهُ فِي دِينِهِ، يقولُ اللهُ تعالَى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾، لكِنْ معَ ذلكَ لا تُخَلِّصُهُ أعمَالُهُ الحسنَةُ مِنَ النارِ، ولو كانَ مُدَافِعًا عنِ النبيِّ ﷺ محِبًّا لَهُ، لكنَّهُ لم يُسلِمْ، وإِنَّمَا يدخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ معَ النُّطقِ بِالشَّهَادَتَينِ، فأبُو طالِبٍ عرَفَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ على الحَقِّ، لكنَّهُ لم ينطِق بالشَّهَادَتَينِ فلَا يكُونُ ناجِيًا، لأَنَّ مِن شَرْطِ أنْ يكونَ الشخصُ مسلمًا الاعتقَادُ معَ النطقِ للشهادتَينِ، فإنَّ اللهَ تعالَى سمَّى اليهودَ كفَّارًا، معَ أنَّهُ قالَ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾، ولَو كانَ مجرَّدُ المعرفَةِ بالحقِّ منجِيَةً لنجَا هؤلَاءِ اليهودُ، لكِنَّ أبَا طالِبٍ ما نطَقَ خشيَةَ أَنْ تُعَيِّرَهُ قرَيشٌ بالإسلَامِ، فبَقِيَ على الكُفرِ والعِيَاذُ باللهِ تعالَى، ولَو كانَ مُجَرَّدُ الإحسَانِ إلى نَبِيٍّ يجعَلُ الشخصَ ناجِيًا يومَ القيامَةِ لنجَا فرعَونُ والعياذُ باللهِ منهُ فهُوَ الذِي ربَّى موسَى عليهِ السلَامُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِيْ صَحِيْحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قال النَّبِيُّ ﷺ: أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ».
(فِي ءَاخِرِ الْمَرَّاتِ قَالُوا أَعْطِنَا، مُحَمَّدًا وَخُذْ عُمَارَةَ ابْنَنَا، بَدَلَهُ): أي ولَمَّا رأَتْ قُريشٌ أنَّ أبَا طالِبٍ أبَى خِذلَانَ محمَّدٍ ﷺ وَتسليمَهُ لهُم، وَعزَمَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِمْ، مَشَوْا إلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، الّذِي أَرْسَلَتْهُ قُرَيْشٌ بعدَ ذلِكَ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَسُحِرَ هُنَاكَ وَجُنَّ، وقالُوا: هذَا عُمارَةُ بنُ الوَلِيدِ بنِ الْمُغِيرَةِ أقوَى فتًى في قُرَيشٍ وأجمَلُهُ، فأَعْطِنَا ابنَ أَخِيكَ مُحَمَّدًا الذِي خالَفَ دِينَك ودِينَ ءابائِكَ، وفَرَّق جَماعةَ قَوْمِك، وسَفَّهَ أَحلامَهُم، وعابَ ءالهَتَهُم، فنَقْتُلَه، وَخُذْ عُمَارَةَ ابْنَنَا بَدَلَهُ فاتَّخِذْهُ وَلَدًا، فلكَ عَقْلُه ونَصْرُه، فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلِ.
فقَالَ لَهُم أبُو طالِبٍ: واللهِ لَبِئسَما تَسُومُونَنِي، أَرَدتُّم أَن أَكْفُلَ لَكُم ابْنَكُم عُمارةَ، وَأُعطِيَكُم ابْنِي محمَّدًا يُقْتَلُ على أيدِيكُم، هذا واللهِ مَا لا يَكُونُ أبدًا، فَقَالَ مُطْعِمُ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، وقد مَاتَ كافِرًا قبلَ غَزوَةِ بدرٍ: وَاللهِ يَا أَبَا طَالِبٍ، لَقَدْ أَنْصَفَك قَوْمُك، وَجَهَدُوا عَلَى التّخَلُّصِ مِمّا تَكْرَهُهُ، فَمَا أَرَاك تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيَّ (أي معاوَنَتَهُم)، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لكَ، قَالَ: فَزادَ الأَمرُ واشتَدَّ، وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ، وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ، وعادَى بعضُهُم بعضًا.
وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ، فَدَعَاهُمْ إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ حِمَايَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وَأَجَابُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عدوِّ اللهِ الملعُونِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ مِنْ قَوْمِهِ مَا سَرَّهُ فِي حمايَةِ النبيِّ ﷺ مَعَهُ وَعطفِهِمْ عَلَيْهِ، جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ وَيَذْكُرُ قَدِيمَهُمْ، وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِيهِم وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ، لِيَشُدَّ لَهُمْ رَأْيَهُمْ، وَلِيَثبُتُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ، فَقَالَ:
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرِ *** فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّهَا وَصَمِيمُهَا
فَإِنْ حَصَلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا *** فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا
وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا *** هُوَ الْمُصْطَفَى مَنْ سِرِّهَا وَكَرِيمِهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثُّهَا وَسَمِينُهَا *** عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا
ثمَّ مَضَى يَجْهَرُ بالتَّوحِيدِ *** وَلَا يَخَافُ سَطْوَةَ العَبِيدِ
أي ثُمَّ مَضَى رسولُ اللهِ ﷺ مُستمِرًّا على حالِهِ الّذِي كانَ علَيهِ مِنَ الدّعوَةِ، وكانَ يَجْهَرُ في المَواسِمِ والمَحافِلِ بِكَلِمةِ التَّوحِيدِ، داعِيًا إلى الإِسلَامِ الخاصَّ والعامَّ، وَلَا يَخَافُ سَطْوَةَ وقَهْرَ وبَطْشَ العَبِيدِ الأشرَارِ بسَبَبِ حِمَايَةِ عمِّهِ وبَنِي عبدِ المطلِبِ لَهُ.
فجعَلَ ﷺ يَطُوفُ على النّاسِ في مَنازِلِهم وأماكِنِ تجمُّعِهِم وهوَ يقولُ: “إِنَّ اللهَ يأمُرُكُم أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا، قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ“.
وكانَ نهجُ سيِّدِنَا محَمَّدٍ ﷺ تعلَّمَ التوحِيدَ أوَّلًا، فقَد مَكَثَ في قَومِهِ والمسلِمِينَ يَدعُو إلى التوحِيدِ ويُعَلِّمُ أصحَابَهُ العقِيدَةَ مدَّةً منَ الزَّمَنِ طويلَةً، فيُستَفَادُ مِن هذَا أنَّ عِلمَ التَّوحِيدِ مقدَّمٌ عَلَى غيرِهِ مِنَ العُلُومِ، وَلَهُ شَرَفٌ علَى غيرِهِ مِنَ العلُومِ، لأَنَّهُ فِيهِ معرِفَةُ اللهِ ومَعرِفَةُ الرسولِ ﷺ، ولأَنَّ مِن خلَالِهِ يُعرَفُ أفضَلُ الواجِبَاتِ عَلَى الإطلَاقِ وهُوَ الإيمَانُ باللهِ عزَّ وجَلَّ وبِرَسُولِهِ ﷺ، وفِي هذَا النَّجَاةُ مِنَ النارِ.
روَى البُخَارِيُّ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهُمَا أنَّ رسُولَ اللهِ ﷺ لمَّا بَعثَ مُعاذًا رضيَ اللهُ عنهُ علَى اليَمَنِ قالَ: “إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَومٍ أَهلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدَعُوهُم إِلَيهِ عِبَادَةُ اللهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ فَأَخبِرْهُم أَنَّ اللهَ قَد فَرَضَ عَلَيهِم خَمسَ صَلَوَاتٍ فِي يَومِهِم وَلَيلَتِهِم، فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخبِرهُم أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيهِم زَكَاةً مِن أَموَالِهِم وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنهُم، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَموَالِ النَّاسِ“، هذَا الحدِيثُ يعلِّمُنَا مِن أينَ نبدَأُ في تَعَلُّمِ علمِ الدينِ بتوجيهٍ مِنَ النبيِّ ﷺ، فإِنَّ النبيَّ ﷺ في هذَا الحدِيثِ أرشَدَ سيِّدَنا معاذَ بنَ جبَلٍ إلى الأُمُورِ الَّتِي ينبَغِي أن يبدَأَ فيهَا مَعَ أُنَاسٍ كانُوا أهلَ جهلٍ يعبدُونَ غيرَ اللهِ تعالَى.
فالخُطوَةُ الأُولَى: معرِفَةُ اللهِ ومعرِفَةُ رسولِهِ، وتعلُّمُ العقيدَةِ، فقولُهُ ﷺ: “فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدَعُوهُم إِلَيهِ عِبَادَةُ اللهِ“، أي إلى توحيدِ اللهِ تعالى، وهذا يكون بتعليمِهم معنَى الشهادَتَينِ وأَنَّ اللهَ واحِدٌ لا شريكَ لهُ ولا زوجَةَ ولا ولَدَ ولا شبِيهَ ولا مِثلَ لهُ وبتعليمِهِم صفَاتِ الخالِقِ سبحَانَهُ وتعَالَى بمعرِفَةِ ما يَجِبُ للهِ تعالى ومَا يستحِيلُ في حقِّهِ وما يجوزُ عليهِ فبِهَذَا يعرفُونَ خالِقَهُم لِيُؤمِنُوا به علَى ما يلِيقُ به سبحانَهُ، وبتَعلِيمِهِم صفَاتِ الأنبياءِ كذلكَ لِيُؤمِنُوا بهِم على الوجهِ المطلُوبِ، فإذا هم عبَدُوا اللهَ وتَرَكُوا الكفرَ وَدَخَلُوا في الإيمانِ صَارُوا عَابدِين للهِ بالنطقِ بالشهادتينِ معَ اعتقادِ معناهُمَا.
فهذا مِنَ النبيِّ ﷺ توجِيهٌ وتعلِيمٌ لنَا أنَّ أوَّلَ واجِبٍ على الإنسَانِ عبادَةُ اللهِ تعالَى وحدَهُ، كمَا قالَ ﷺ فِي حديثِ البخارِيِّ: “أَفضَلُ الأَعمَالِ إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ“، وعبادَةُ اللهِ لا تصِحُّ معَ الجهلِ بهِ سبحَانَهُ كمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: (لا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ) أي مَعرِفَةِ مَا يَجِبُ لَهُ منَ الصفَاتِ وما يَستَحِيلُ عليهِ ومَا يَجُوزُ في حقِّهِ، حتَّى لا ينفِيَ عنه صفَةً هي واجبَةٌ له وحتَّى لا يَنسُبَ لهُ مَا لا يلِيقُ به سبحانَهُ.
فالأصلُ الأوَّلُ هُوَ عبَادَةُ اللهِ وحدَه، فالأمورُ على حسبِ أولوياتِها في الشرعِ، ليسَ على ما يَظُنُّهُ بعضُ الناسِ، يقولُونَ لا تتكَلَّم في عِلمِ التوحِيدِ، أو لِمَ تُكَلِّمُ العوامَّ بأُمُورِ علمِ التَّوحِيدِ وعلمِ العقِيدَةِ؟، هؤلَاءِ ليسُوا مُتَخَصِّصِينَ فلَا تُكَلِّمهُم، فالرَّسُولُ ﷺ في هذَا الحدِيثِ أمرَ سيِّدَنَا معاذًا بِأَن يَبدَأَ مَعَهُم بمَعرِفَةِ اللهِ ورسُولِهِ وقَد كَانُوا جُهَّالًا غَيرَ متخَصِّصِينَ. بل قالَ جندُبُ بنُ عبدِ اللهِ فيمَا روَاهُ البيهَقِيُّ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ فِتيَانًا حزَاوِرَةً فتعَلَّمنَا الإِيمَانَ قبلَ أن نتَعَلَّمَ القُرءَانَ ثُمَّ تعَلَّمنَا القرءَانَ فازدَدنَا بِهِ إيمَانًا)، والفِتيَانُ الحزَاوِرَةُ أيِ الَّذِينَ فِي مُقتَبَلِ العُمُرِ، فأخبَرَ هذَا الصّحَابِيُّ الجليلُ أن النبيَّ ﷺ كانَ يعلِّمُهُمُ الإيمانَ أيِ التوحِيدَ وكانُوا صغارًا، ثم علمَهُمُ القرءَانَ أيِ الأحكامَ، قال الحافِظُ البُوصِيرِيُّ في الزوائِدِ هذَا الحدِيثُ إسنَادُهُ صحِيحٌ ورجالُهُ ثقاتٌ ورواهُ ابنُ ماجَه في سُنَنِهِ.
فمِن هنَا نعلمُ أنَّ الأولوياتِ على حسَبِ ما قرَّرَهُ الرسولُ ﷺ ليسَ على ما يَظُنُّهُ هؤلاءِ، بعضُ الناسِ يقولُ لكَ أهمُّ شيءٍ أن أَعرِفَ تلاوةَ القرآنِ أو أن أحفَظَ القرآنَ أو أن أشتَغِلَ بقيامِ الليلِ أو بالذكرِ اللِّسَانيِّ ونحوِ ذلك، هذا الحديثُ يُبَيِّنُ الأولوياتِ ويردُّ على كلِّ هؤلاءِ، ممَّن لم يَعرِفُوا الأولوياتِ في دينِ اللهِ، فالذي يقرِّرُ الأولَوِيَّاتِ هو النَّبيُّ ﷺ، لا الهَوَى والتَّشَهِّي وماذا يريدُ فلانٌ وماذا يُريدُ فلانٌ.
فمعرفةُ اللهِ والرسولِ ﷺ هيَ الأساسُ، ومِنَ الأساسِ، بَل أعظمُ ما يجبُ التحذيرُ منهُ هوَ الكفرُ باللهِ، بعضُ الناسِ يقولُ نُحذِّرُ مِن كشفِ العوراتِ، وبعضُهم يقولُ نُحذِّرُ من الغَشِّ في البيعِ والشراءِ، نقولُ لهُم هذه كلُّها منكَرَاتٌ يَجِبُ التحذيرُ منها، لكنَّ الأَولَى في التحذيرِ منه هو الكفرُ باللهِ والعياذُ باللهِ تعالَى، لأنَّهُ سببٌ للخُلُودِ في النارِ وعدمِ الخروجِ منهَا، وهذا هو نَهجُ محمدٍ ﷺ.
والرَّسُولُ ﷺ عندمَا بُعِثَ في مكةَ كم كانَ هناكَ من عاداتٍ خبيثةٍ فاسدةٍ انتَشَرَت بينَ الناسِ، مثلِ وَأْدِ البناتِ والزِّنَا والرِّبَا وغيرِها، أولُ ما بَدَأَهُم الرسولُ ﷺ بالتوحيدِ، لم يقُل لهم تعلَّمُوا الاستنجاءَ أو فرائضَ الغسلِ أو الحجابَ، بل بدأهم بالعقيدةِ، بل الأحكامُ لَم تَكُن نزَلَت علَيهِ ﷺ بعدُ، فماذَا كانَ يعلِّمُهُمُ الرسولُ ﷺ غيرَ التوحِيدِ، ثم بعدَ ذلك صارَتِ الأحكامُ تَنزِلُ تِباعًا، وغالبُ الأحكامِ نَزَلَت في المدينةِ.
الخطوةُ الثانِيَةُ: تعلُّمُ أحكامِ الطهارَةِ والصلاةِ، وقد بَيَّنَ رسُولُ اللهِ ﷺ ما هِيَ الخطوةُ الثانِيَةُ في تَعَلُّمِ أمورِ الدِّينِ بقولِهِ: “فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ فَأَخبِرْهُم أَنَّ اللهَ قَد فَرَضَ عَلَيهِم خَمسَ صَلَوَاتٍ فِي يَومِهِم وَلَيلَتِهِم“، ولَا تَقُل أخِي المسلِمَ إِنَّنِي أعرِفُ الطَّهَارَةَ والصلاةَ، ومَن لَا يعرِفُ الوضُوءَ أوِ الغُسلَ أوِ الصَّلَاةَ أَو نَحوَ ذلكَ، فَإِنَّ الصلاةَ والوضُوءَ والغُسلَ كلُّ هذَا له أركانٌ وشرُوطٌ ومُبطِلَاتٌ وتفَاصِيلُ كثِيرَةٌ قد تَكُونُ علِمتَ بعضَهَا لكن ينبَغِي مِنكَ أن تَزدَادَ في تَعَلُّمِهَا، وأيُّ شيءٍ أهَمُّ مِنَ الصَّلَاةِ؟ أفلَا ينبَغِي أن تُولِيَهَا اهتِمَامًا وتَتَعَلَّمَ أحكَامَهَا، وَقَد قالَ رسُولُ اللهِ ﷺ: “لَا يَشبَعُ مُؤمِنٌ مِن خَيرٍ يَسمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنتَهَاهُ الجَنَّة“.
الخُطوَةُ الثالثَةُ: تعلُّمُ باقِي أحكَامِ العبَادَاتِ الَّتِي يحتَاجُهَا المُسلِمُ، لأنَّهُ يحتَاجُهَا للنَّجَاةِ فِي الآخِرَةِ وَلَا يستَغنِي عنهَا، كالصِّيَامِ فيَتَعَلَّمُ ما يَجِبُ فيهِ مِنَ الأركانِ ومَا هِيَ المُفطِرَاتُ ومَا الَّذِي لَا يَجُوزُ فِعلُهُ فيهِ، والزَّكَاةُ فيتَعَلَّمُ متَى تجِبُ عليهِ الزكاةُ وفي أيِّ الأَموَالِ تَجِبُ وكم مِقدَارُهَا ولِمَن يعطِيهَا، والحَجِّ فيتَعَلَّمُ أركَانَهُ وواجبَاتِهِ وشرُوطَهُ ومحرمَاتِهِ وغيرَ ذلكَ، كلُّ هذَا لا سبِيلَ لمعرفَتِهِ إلا بالتعَلُّمِ مِن أهلِ العِلمِ الثِّقَاتِ الشَّفُوقِينَ عليهِ وعَلَى دِينِهِ.
قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “طَلَبُ العِلمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ“، رواهُ البيهقيُّ وحسَّنَهُ الحافِظُ المِزِّيُّ، ففَرَضَ رسولُنَا الكريمُ ﷺ في هذَا الحديثِ على كلِّ مسلِمٍ تعلُّمَ قدرٍ من علِمِ الدينِ، وهُوَ القدرُ الذِي لا يستَغنِي عنهُ المسلِمُ لأداءِ عبادَاتِهِ ويحتَاجُهُ للنجَاةِ يومَ القيَامَةِ، ولكِن، مطالَعَةُ الكُتُبِ بدُونِ تَعَلُّمٍ لَا تَكفِي، فهَذِهِ الأُمُورُ لا تُؤخَذُ بالمُطَالَعَةِ مِنَ الكُتُبِ، لأَنَّهُ قَد يَكُونُ فِي هَذِهِ الكُتُبِ الَّتِي يُطَالِعُهَا الشَّخصُ دَسٌّ وافتِرَاءٌ على الدِّينِ.
فليسَتِ المطالَعَةُ سبيلَ التَعَلُّمِ الذي نهَجَهُ السلَفُ والخلَفُ، قال الحافِظُ أبو بكرٍ الخطِيبُ البغدَادِيُّ أحدُ كبارِ المُحَدِّثِينَ: (لا يُؤخَذُ العِلمُ إلا مِن أفوَاهِ العُلَمَاءِ)، وقَالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ، إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالفِقهُ بِالتَّفَقُّهِ“، أي بالتَّعَلُّمِ من أفواهِ العلمَاءِ، رواهُ البخاريُّ.
وَأَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ انْ يَقُولُوا *** سَاحِرٌ احْذَرُوا وَعَنْهُ مِيلُوا
(وَأَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ انْ يَقُولُوا، سَاحِرٌ احْذَرُوا وَعَنْهُ مِيلُوا): أي ولَمّا اشتَدَّ الأمرُ على قُرَيشٍ اجتَمَعُوا واتفقُوا أن يقولُوا عنهُ ﷺ بزعمِهِم إنَّهُ ساحِرٌ وينشُرُوا هذَا بينَ العرَبِ.
يروَى في ذلك أنَّهُ اجتَمَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ الوليدُ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، ، فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيَرُدَّ قَوْلَ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، فَقَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ، وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُومُ بِهِ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ، فَقُولُوا أَسْمَعْ، فَقَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِكلام الْكُهَّانِ، فَقَالُوا: نَقُولُ مَجْنُونٌ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ، وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ، قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ بِرَجَزِهِ، وَهَزَجِهِ، وَقَرِيضِهِ، وَمَقْبُوضِهِ، وَمَبْسُوطِهِ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ، قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ: فَمَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قَدْ رَأَيْنَا السُّحَارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عُقَدِهِ، فَقَالُوا: مَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟، قَالَ: وَاللهِ، إِنَّ لِقَوْلِهِ لحَلَاوَةً، وإنَّ عليهِ لطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسفَلَهُ لَمغدِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنًا، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، ثم فَكَّرَ قلِيلًا وقَالَ: وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ، فَقُولُوا هُوَ سَاحِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ وأجمَعُوا علَيهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾.
ولم يسلم، بل قال مستنكرًا عدمَ نزول الدعوة عليه هو، وهو كبير قريش: «أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف، فنحن عظيما القريتين»، فأنزل الله فيه: ((وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)) (الزخرف 31)، ولذا ناصب رسول الله العداء الشديد، وقاوم دعوته أشد مقاومة.
ثم قالُوا: لَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلًا عَالِمًا بِالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ، فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ أَتَانَا بِبَيَانٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لَقَدْ سَمِعْتُ بِقَوْلِ السَّحَرَةِ وَالْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا، وَمَا يَخْفَى عَلَيَّ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَأَتَاهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ عُتْبَةُ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا، فَإِنْ كُنْتَ أَرَدتَ الرِّئَاسَةَ، عَقَدْنَا أَلْوِيَتَنَا لَكَ فَكُنْتَ رَأْسَنَا مَا بَقِيتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الحاجَةُ إِلَى النِّسَاءِ ونِكَاحِهِنَّ، زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ، تَخْتَارُ مِنْ أَيِّ أَبْيَاتِ قُرَيْشٍ شِئْتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْمَالُ، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا تَسْتَغْنِي بِهَا أَنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “اسمَع مِنِّي يَا أَبَا الوَلِيدِ“، فَقَالَ: نَعَم، اسمَعُ، فقرأ ﷺ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
((حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)) إلى أنْ وَصَلَ إلى قولِهِ تعالَى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾، فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَمِ سيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَهْلِهِ وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَأَتَوْهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ يَا عُتْبَةُ، مَا حَسِبْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ كَانَتْ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ، فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ بِاللهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا، قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ، فَقَصَّ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ، فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللهِ مَا هُوَ بِسِحْرٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ، قَرَأَ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، حَتَّى بَلَغَ : ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾، فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ، وَنَاشَدْتُهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ.
وَفِي رِوَايَةٍ قالَ أَبُو الوَلِيدِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، فَقَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ.
وَقَعَدُوا فِي زَمَنِ الْمَوَاسِمِ *** يُحَذِّرُونَ مِنْهُ كُلَّ قَادِمِ
(وَقَعَدُوا فِي زَمَنِ الْمَوَاسِمِ يُحَذِّرُونَ مِنْهُ كُلَّ قَادِمِ): أي جَعَلَ كُفّارُ قُرَيشٍ يَقعُدونَ في الطُّرقاتِ، فِي زَمَنِ الْمَوَاسِمِ الّتي يأتِي فيها النّاسُ إلى مكّةَ، وهُم يُحَذِّرُونَ مِنْهُ ﷺ كُلَّ وافِدٍ قَادِمٍ إلى مكّةَ، فكانَ لا يَمُرُّ بِهِم أحَدٌ إلّا وَصَفُوهُ لَهُ وذكَرُوا لَه أمرَهُ وحَذَّرُوهُ مِنهُ.
قالَ بعضُ الأُدَبَاءِ: وَرُبَّمَا كَانَ الْحَسَدُ مُنَبِّهًا عَلَى فَضْلِ الْمَحْسُودِ وَنَقْصِ الْحَسُودِ، وقال الشاعرُ أبُو تَمَّامٍ:
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ نَشرَ فَضِيلَةٍ *** طُوِيَت أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
لَولَا اشتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَت *** مَا كَانَ يُعرَفُ طِيبُ عُرفِ العُودِ
وَافْتَرَقَ النَّاسُ فَشاعَ أَمْرُهُ *** بَيْنَ القَبَائِلِ وَسَارَ ذِكْرُهُ
أي وبَعدَ اجتماعِ الناسِ في المَوسِمِ في مكةَ لِحَجِّ البيتِ، وتحذيرِ الكفارِ مِن نَبِيِّ اللهِ محمَّدٍ ﷺ، افْتَرَقَ النَّاسُ الّذين وفَدُوا إلى مكّةَ، راجعِينَ مِن ذلكَ الموسِمِ إلى أقوامِهِم بِخَبَرِ النّبِيِّ ﷺ.
وصارُوا يَتَحَدَّثُونَ عنهُ فِي بِلادِهم، فَشَاعَ أمرُهُ ﷺ وذاعَ بَيْنَ شَتَّى القَبَائِلِ في مُختَلَفِ البِقاعِ، وَسَارَ وانْتَشَرَ في الآفاقِ ذِكْرُهُ ﷺ، وفَشَا خَبَرُهُ، فكانَ كمَا قَالَ اللهُ تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾، فسُبحَانَ اللهِ القادِرِ علَى كُلِّ شَيءٍ، فمَهمَا حاولَ أهلُ الزيغِ والضلَالِ إيقَافَ الدَّعوَةِ إلى دِينِ اللهِ لن يستَطِيعُوا، مهمَا حاوَلَ اليهُودُ أو غَيرُهُم أن يَهدِمُوا الإِسلَامَ لَن يَستَطِيعُوا، معَ كُلِّ الحربِ عَلَى المسلِمِينَ اليومَ، ومَعَ كلِّ هذَا الدمَارِ وكلِّ هذَا القتلِ، ومعَ تَكَالُبِ اليهودِ وغيرِهِم مِن أعداءِ الدينِ على الإِسلَامِ لإيقافِ دعوَتِهِ وهدمِهِ، ما زِلنَا نرَى الكثِيرَ مِن الناسِ يدخلُونَ فِي الإسلامِ ويُحِبُّونَ أن يسمَعُوا عنهُ، صارَ الناسُ يعرِفُونَ قضِيَّةَ الإسلامِ وقضيَّةَ الأقصَى أكثَرَ، فُضِحُوا فِي البلَادِ وانكَشَفَت حقِيقَتُهُم، نسألُ اللهَ تعالَى أن يَنصُرَ هذَا الدِّينَ، وأَن يجعَلَ لنَا يَدًا فِي نَصرِهِ، بإذنِ اللهِ تعالَى
ذِكرُ قُدُومِ ضِمَادِ بنِ ثَعْلَبةَ
ثُمَّ أَتَى ضِمَادُ وَهْوَ الأَزْدِيْ *** لِيَسْتَبينَ أَمْرَهُ بِالنَّقْدِ
مَا هُوَ إِلَّا أَنْ مُحَمَّدُ اخْتَطَبْ *** أَسْلَمَ لِلْوَقْتِ بِصِدْقٍ وَذَهَبْ
(ثُمَّ أَتى ضِمَادُ وَهْوَ الأَزْدِيْ، لِيَسْتَبينَ أَمْرَهُ بِالنَّقْدِ): أي ثُمَّ أَتَى إلى رسولِ اللهِ ﷺ وافِدًا ضِمَادُ بنُ ثَعْلَبةَ الأَزْدِيُّ، وهو رَجُلٌ مِن أَزْدِ شَنُوءَةَ قَبِيلةٍ مَعرُوفةٍ باليَمَنِ، وكان ضِمادُ صاحِبًا للنّبيِّ ﷺ في الجاهلِيّةِ يُطَبِّبُ ويَرقِي، فَقَدِم مَكَّةَ ليَطَّلِعَ على أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ.
ليَفحَصَ مَا انتُقِدَ بهِ النَّبِيُّ ﷺ مِن قِبَلِ المشرِكِينَ، وذلِكَ أنَّهُ سَمِعَ مِن سُفهاءِ مَكَّةَ أنَّهُم يَقُولُونَ مُحَمَّدٌ مَجنُونٌ، فقالَ: ءَاتِي هذا الرَّجُلَ لعَلَّ اللهَ أنْ يَشْفِيَه على يَدِيَّ، فلَمَّا جاءَهُ قال: إِنِّي أَرْقِي مِن هذِه الرِّياحِ، وإِنَّ اللهَ يَشْفِي علَى يَدِيَّ مَن شاءَ، فَهَلُمَّ أي تَعَالَ لِأَرقِيَكَ.
(مَا هُوَ إِلَّا أَنْ مُحَمَّدُ اخْتَطَبْ، أَسْلَمَ لِلْوَقْتِ بِصِدْقٍ وَذَهَبْ): أي فَلَم يلبَث إِلَّا أَنْ خطَبَ رسولُ اللهِ مُحَمَّدٌ ﷺ عَقِبَ قولِ ضِمادٍ فأسلَمَ ضِمادٌ هذَا وشهِدَ بالتَّوحِيدِ والرِّسَالَةِ لرَسُولِ اللهِ ﷺ.
فقَد قالَ علَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ“، فقَالَ: أعِد عَلَيَّ هؤُلَاءِ الكلِمَاتِ، فأعَادَهَا ثَانِيًا، فقَالَ أعِد عَلَيَّ هؤلَاءِ الكلمَاتِ، فأعادَهَا ثالِثًا، فقالَ ضِمادٌ: واللهِ لقَد سَمِعتُ قولَ الكَهَنةِ وقولَ السَّحَرةِ وقولَ الشُّعَراءِ، فما سَمِعتُ مِثلَ هؤلاءِ الكَلِماتِ، فأَسْلَمَ ضِمادٌ في الحالِ بِصِدْقٍ وإِخلاصٍ مُبايِعًا النَّبِيَّ ﷺ، فبايعَهُ رسولُ اللهِ ﷺ وقالَ له: “وَعَلَى قَومِكَ؟“، فقال: وعلَى قَومِي، وَأَقَامَ بعدَ ذلكَ ضِمادٌ معَ رسولِ اللهِ ﷺ، وتعَلَّمَ سُوَرًا كثيرةً مِن القُرءانِ، ثُمّ ذَهَبَ بعدَ ذلكَ إلى قَومِه ليبلِّغَهُم بَلاغَ رسولِ اللهِ ﷺ.
فائدة
فِي كتابِ «ذيلِ تاريخِ بغدادَ» عن عبيدِ اللهِ بنِ مُحمدِ بنِ حفصٍ العيشيِّ يقولُ: سَمِعتُ أَبِي يقولُ: لَما قَبَضَ ولدُ العباسِ خزائِنَ بنِي أُميةَ وجدُوا سَفْطًا مَختومًا ففتحُوهُ فإذا فيهِ وَرَقٌ مكتوبٌ عليهِ شفاءٌ بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ فَفَتَحَ فإذَا هُوَ «بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اسْكُنْ أَيُّهَا الْوَجَعُ سَكَنْتَ بِالَّذِي لَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اسْكُنْ أَيُّهَا الْوَجَعُ بِالَّذِي يُمسِكُ السماءَ أَنْ تَقَعَ على الأرضِ إلَّا بإذنِهِ إنَّ اللَّهَ بالنَّاسِ لرؤوفٌ رحيمٌ، بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اسْكُنْ أَيُّهَا الْوَجَعُ بِالَّذِي إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اسْكُنْ أَيُّهَا الْوَجَعُ سَكَنْتَ بِالَّذِي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا».
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ لِي: فمَا احتَجْتُ بعدَهُ إلى علاجٍ ولا دواءٍ.
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
دعاء
اللهم إنَّا نَسأَلُكَ العَفوَ وَالعَافِيَةَ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، اللهم إنَّا نَسأَلُكَ العَفوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِنَا وَدُنيَانَا وَأَهلِنَا وَمَالِنَا، اللهم استُر عَورَاتِنَا وَآمِن رَوعَاتِنَا، وَاحفَظنَا مِن بَينِ أَيدِينَا وَمِن خَلفِنَا وَعَن يَمِينِنَا وَعَن شِمَالِنَا، وَمِن فَوقِنَا وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَن نُغتَالَ مِن تَحتِنَا. اللهم اغفِر لَنَا خَطَايَانَا وَجَهلَنَا، وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا، وَمَا أنتَ أَعلَمُ بهِ مِنَّا، اللهم اغفِر لَنَا جِدَّنَا وهَزلَنَا، وخَطَأَنَا وعَمدَنَا، وَكُلَّ ذَلِكَ عندَنَا، اللهم اغفِر لَنَا مَا قَدَّمنَا ومَا أَخَّرنَا، وَمَا أَسرَرنَا وَمَا أَعلَنَّا، وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا، أَنتَ المُقَدِّمُ وَأَنتَ المُؤَخِّرُ وأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قديرٌ.
اللهم ربَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ عليهِ الصلاةُ والسلامُ اغفِر لَنَا ذنُوبِنَا، وأَذهِب غَيظَ قُلُوبِنَا، وأَعِذنَا مِن مُضِلَّاتِ الفِتَنِ مَا أَبقَيتَنَا. اللهم رَبَّ السمَاوَاتِ وَرَبَّ الأرضِ وَرَبَّ العَرشِ العَظِيمِ، ربَّنَا وربَّ كلِّ شىءٍ، فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى، مُنزِلَ التَّورَاةِ والإِنجِيلِ والقُرآنِ، نَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ كُلِّ شىءٍ أنتَ آخِذٌ بنَاصِيَتِهِ، أنتَ الأَوَّلُ فلَيسَ قبلَكَ شىءٌ، وأَنتَ الآخِرُ فلَيسَ بَعدَكَ شَىءٌ، وأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيسَ فَوقَكَ شَىءٌ، وَأَنتَ البَاطِنُ فلَيسَ دُونَكَ شَىءٌ، اقضِ عَنَّا الدَّينَ وَأَغنِنَا مِنَ الفَقرِ. اللهم أَعطِ نُفُوسَنَا تَقوَاهَا، وزَكِّهَا أَنتَ خَيرُ مَن زَكَّاهَا، أَنتَ وَلِيُّهَا وَمَولَاهَا، اللهم إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجزِ وَالكَسَلِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبنِ وَالهَرَمِ والبُخلِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِن عَذَابِ القَبرِ.
اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا، اللهم إنا نسألُكَ أن ترفعَ البلاءَ عن إخواننا وأهلنا في فلسطين، اللهم ثَبِّتْ أقدامَهُمْ وانصُرْهُم على أعدائِك الصهاينةِ الغاصبين، اللهم زَلزِلِ الأرضَ تحت أقدامِ أعدائك، اللهم رُدَّ مكرَهُمْ وكيدَهُمْ إلى نحورهِم، اللهم أخزِهِمْ وافضحْهُم وبدِّدْ جموعَهم، وفرِّقْ صفوفَهم، وحطِّمْ جيوشَهم، وانصرنا عليهم يا أرحمَ الراحمين، يا أرحمَ الراحمينَ يا ربَّ العالمين. اللهم اجعل لأهل غزة وفلسطين النصرة والعزة والغلبة والقوة والهيبة.
اللهم أعِنَّا علَى الصيامِ والقِيامِ وتقبَّل منَّا يا رَبَّ العالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عتقَاءِ هذَا الشهرِ الكريمِ ومِنَ المقبُولِينَ يا أكرَمَ الأكرَمِينَ، اللهم أعتِقنَا فِيهِ مِنَ النيرَانِ يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ، اللهم أرِنَا ليلَةَ القدرِ المبارَكَةِ يا رَبَّ العالمينَ وارزُقنَا فيهَا دعوَةً مجَابَةً بجَاهِ سَيِّدِ الأولِينَ وَالآخِرِينَ يا اللهُ، اللهم ارفَعِ البَلَاءَ وَالوَبَاءَ والأَمرَاضَ عَنِ المسلِمِينَ في مشَارِقِ الأرضِ ومغَارِبِهَا إكرامًا لوِجهِ محمَّدٍ ﷺ يا ربَّ العالمِينَ، اللهم توفَّنَا عَلَى كامِلِ الإيمَانِ وارزُقنَا شهَادَةً في سبيلِكَ ومَوْتًا في بلَدِ نبيِّكَ ﷺ، واحشرنا على نُوقٍ رحَائِلُهَا مِن ذهَبٍ آمنِينَ مطمَئِنِّينَ يا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم ارزقنَا حُسنَ الخِتَامِ والمَوتَ على دِينِكَ دينِ الإسلامِ ورؤيَةَ سيدِ الأنَامِ سيدنَا مُحَمَّدٍ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، احشُرنَا فِي زُمرَتِهِ وأَورِدنَا حوضَهُ الشريفَ يا ربَّ العالمين.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على سيدِ الأنبياءِ والمرسلِينَ وسلَامٌ علَى المُرسَلِينَ والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ.